عمائم بألوان الطيف السبعة!

د. شاكر النابلسي في الخميس ١٢ - مارس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

-1-مثقفٌ، عميقُ الثقافة الغربية والإسلامية. تخرَّج من السوربون، معهد الحداثة الأول في الغرب. يتقن أربع لغات. وكتب عدة كُتب منها: ("قضايا الوحدة والحرية"، 1980)، و ("تجديد الفكر الإسلامي"، 1982)، و ("تجديد الدين"، 1984) وغيرها من الكتب الفكرية والدينية المهمة، التي تتحدث عن مشكلات عصرنا الجذرية. ويعدُّ هذا المفكر الإسلامي من أكثر الإسلاميين عُمقاً ثقافياً، ووعياً بالإسلام، ودوره في الحياة المعاصرة. كما تُعتبر آراؤه في أحكام الإسلام، من أكثر الآراء جرأةةً وإثارةً وجديّة.
ولم يقتصر دور هذا المثقف على الدعوة الدينية والدعوة الفكرية كذلك، ولكنه تخطَّاها إلى الدعوة السياسية. وأصبح في فترة وجيزة، من أكثر الزعماء السياسيين تأثيراً ولعباً في الحياة السياسية السودانية. والغريب، أنه لم يتمكَّن حتى الآن من بلوغ كرسي الرئاسة السودانية، رغم أنه جدير به جداً، وأحقُّ من عصابة الدكتاتوريين العسكريين، الذين تعاقبوا على حكم السودان بالقوة العسكرية، منذ استقلاله عن بريطانيا، وعن مصر عام 1956.
 
-2-أشعرُ بخجل كبير وحرج عظيم، وأنا أُطلق لقب "حرباء" على المفكر السياسي الإسلامي المتلوّن حسن الترابي. ولكن، عندما انتويت كتابة مقال عن إطلاق سراح الترابي من السجن بالأمس، وموقف الترابي من حادثة استدعاء الرئيس البشير من قبل محكمة الجنايات الدولية، وتأييده لهذا الاستدعاء، وطلبه السابق واللاحق من البشير تسليم نفسه للمحكمة، تذكرتُ دور الترابي في عهد الدكتاتور جعفر النميري، وكيف كان الترابي سبباً في شنق زعيم "الجمهوريين" السودانيين، والمفكر السوداني محمود محمد طه (1909-1985) عام 1985، لأنه قال باستحالة قيام دولة إسلامية، وعارض "قوانين سبتمبر" 1983، التي أُطلقَ عليها "قوانين الشريعة الإسلامية".
 وكانت من سخريات القدر ومفارقاته العجيبة، أن يشنُق عبد الناصر سيّد قطب، لأنه قال بوجوب قيام دولة إسلامية، ويشنُق النميري والترابي محمود طه، لأنه قال باستحالة قيام دولة إسلامية!
وتذكرتُ دور الترابي في عهد الدكتاتور النميري (1969-1985) الذي حكم السودان بالحديد والنار، وقبض مئات الملايين من الدولارات لسماحه بتهريب الفلاشا إلى إسرائيل عبر السودان. وسرق المليارات من الخزينة السودانية. وترك الخزينة السودانية فارغة تعبث فيها الفئران.. تذكرتُ دور الترابي، الذي كان يطمع بإقامة دولة الخلافة الإسلامية، فأطلق على الدكتاتور النميري لقب "أمير المؤمنين".
والترابي نفسه، كان أحد أعضاء "جبهة الميثاق الإسلامية"، وهي فرع "جماعة الإخوان المسلمين" في السودان. وفي 1964 أصبح الترابي الأمين العام لهذه الجبهة. وعندما قام النميري بانقلابه العسكري 1969، وضعَ الترابي في السجن، مدة سبع سنوات، ثم أخرجه، وضمَّه إلى حاشيته عام 1977. وأصبح الترابي العقل السياسي المدبِّر للدكتاتور الجلاد النميري. وأصبح الترابي مثالاً واضحاً وفاضحاً لأزمة المثقفين العرب، ومدى شهوتهم للحكم، وشبقهم الكبير بالسياسة، وكراسيها.
-3-والترابي، كان أحد مُعلمي أسامة بن لادن السبعة الرئيسيين (ابن تيمية، محمد عبد الوهاب، سيّد قطب، المودودي، عبد الله عزام، أيمن الظواهري، الترابي). والترابي هو الذي جاء بأسامة بن لادن إلى السودان عام 1992(بعض المؤرخين يقول بأنه جاء 1990 أو 1991) وفتح له أبواب المشاريع الاستثمارية في السودان، وزوَّجه ابنة أخته، وأتاح له إقامة معسكرات تدريب عناصره، خلال سنوات إقامة ابن لادن في السودان (1992-1996). وفي 1995 عُقد "المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي" في الخرطوم، برئاسة الترابي، وكان ابن لادن يجلس إلى جانبه.
 وكانت المرحلة السودانية لابن لادن – بفضل جهود الترابي وتبنّيه لابن لادن – من أهم مراحل حياة ابن لادن الشقيّة. ففي هذه المرحلة، انتقل ابن لادن من "المسألة الأفغانية" إلى "المسألة الإسلامية العالمية"، ووجوب عدم إلقاء السلاح، بانتهاء الاحتلال الروسي لأفغانستان 1989.
 فكانت المرحلة السودانية تلك، في حياة ابن لادن، هي التي حوّلت عناقيد الذهب إلى عناقيد الغضب.
فتخلّى ابن لادن عن مشاريعه الاستثمارية في السودان، وغادر السودان 1996 إلى قندهار، حيث بدأ مسيرة عناقيد الغضب الشيطانية.
 
-4-وتقلّب الترابي ذات اليمين وذات الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، ومن النميري إلى ابن لادن، إلى البشير. ومن وزير للخارجية 1988 إلى السجن، ومن رئيس للبرلمان 1996 إلى السجن. ومن مفكر سياسي إلى انقلابي، يسعى إلى الحكم. وهو الذي عيّن البشير رئيساً للدولة، فانقلب عليه البشير، وحبسه. وهو اليوم يدعو البشير إلى تسليم نفسه لمحكمة الجنايات الكبرى، كما سبق ودعاه من قبل.
هذا التقلّب والتلوّن السياسي المستمر للترابي، لم يأتِ من فراغ. فالترابي – كما هو معروف - واحد من زعماء "الإخوان المسلمين" في المشرق. وأكبر زعيم للإخوان المسلمين في السودان. ومن يقرأ تاريخ "الإخوان المسلمين"، يعلم جيداً كيف يتقلَّبون، ويتلوَّنون، وكيف يتحوّلون كالحرباوات (جمع حرباء) من اليمين إلى اليسار وبالعكس، ومن الأخضر إلى الأحمر، ومن الأبيض إلى الأسود.
-5-فنكاية بالأحزاب العَلْمانية والقومية، كانت "جماعة الإخوان المسلمين" في القرن الماضي، على استعداد لتأييد الأنظمة الملكية ومساندتها، رغم اعترافهم بأن هذه الأنظمـة لا تمثلهم، وأنهم غير راضين عنها دينياً. وقد شاهدنا هذا الوقوف وهذه المساندة، في المغرب العربي، وفي الأردن، وفي مصر الملكية، وفي الخليج العربي.
و"الإخوان المسلمون"، هم الذين تظاهروا في مصر ضد "حزب الوفد"، ورفعوا شعار: "الله مع الملك". وكان وقوف الإخوان إلى جانب الملكية في مصر، ودعوتهم إلى تنصيب ملك مصر، خليفة للمسلمين، مثار غضب واحتجاج كثير من المفكرين الإسلاميين خارج مصر، وعلى رأسهم عبد الحميد بن باديس (1889-1940) مؤسس "جمعية العلمـاء المسلمين الجزائريين".
وكان "الإخوان المسلمون" كما قال المفكر المصري فؤاد زكريا "أداة فعالة لمحاربة الوفد، وهو غاية ما كان يتمنّاه الملك فاروق" ("مستقبل الأصولية الإسلامية"، ص 24). وهم الذين قالوا للملك فاروق: "إن 300 مليون مسلم في العالم، تهفو أرواحهم إلى الملك الفاضل.. فعلى بركة الله يا جلالة الملك، ومن ورائك أخلص جنودك" (جريدة الإخوان المسلمين، 9/9/1939). وهم الذين أطلقوا على "الديوان الملكي" الذي كان فاروق يستقبل فيه الحسناوات الإيطاليات: "الديوان الملكي الإسلامي" (جريدة الإخوان المسلمين، 9/9/1939).
 
-6-ومن أجل نيل بعض المكاسب السياسية، قبل "الإخوان المسلمون" بالحياة النيابية على الطريقة الغربية. ووافقوا على الدساتير العربية، مع مطالباتهم ببعض التعديلات الطفيفـة. ولم يمانعوا في انتخاب "الخليفة" لزمن محدود. كما لم يمانعوا في تشكيل الأحزاب السياسية، والعمل السياسي الحزبي.
وفي مراحل مختلفة، وفي بلدان عربية مختلفة، أيَّد "الإخوان المسلمون" الاتحادات العمالية اليسارية، وأعلنوا تبنِّيهم للتراث النقابي العمالي، وهو تراث يساري في مجمله. وأيدوا منظمات حقوق الإنسان، رغم معارضة هذه المنظمات للعقوبات، وتطبيق الحدود الشرعية الإسلامية.
وأدبيات الإخـوان المسلمين ملأى بمثل هذه الآراء. وكان الحديث والمتجدد منها، ما جاء على لسان الشيخ الراحل محمد الغزالي، أحد فقهاء "جماعة الإخوان المسلمين" الكبار الذي يقول، إن الإسلام لا يُحرِّم الأحزاب ولا يُوجبها. وما كثرة المذاهب واختلاف وجهات النظر، إلا الأثر الطبيعي للحرية الفكريـة، التي وفَّرها الإسلام لأتباعه.
 
-7-فلماذا علينا أن نحذر الترابي، هذه العمامة التي تتلوَّن بألوان الطيف السبعة، للأسف الشديد؟
كثيرون من المفكرين والمثقفين في العالم وفي العالم العربي – ومنهم أنا شخصياً - غيَّروا بعض قناعاتهم السابقة. وهذه دلالة صحة، وليست دلالة مرض.
فالحجر هو الذي لا يتغيَّر. وحتى الحجر يتغيَّر، نتيجة لعوامل وتقلبات الطبيعة. ولكن المرض المرفوض، هو أن يتغيَّر المثقف من أجل منصب سياسي، أو إغراء سياسي.
وهو ما درج عليه الإخوان المسلمون، نتيجة لشبقهم السياسي الشديد، وشبق زعمائهم في العالم العربي للكراسي، ومنهم الترابي في السودان.
السلام عليكم.
اجمالي القراءات 10834