حوار مع تلميذ سابق

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٨ - فبراير - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

منذ عدة سنوات كنت سكرتيرا عاما لإحدى الجمعيات الدينية التي ترفع لافتة تخليص عقائد المسلمين من الخرافات والأباطيل ، وكنت أخطب الجمعة في مساجدها في القاهرة والدلتا ، ثم ما لبثت أن تدخلت عناصر معينة نجحت في إحداث الفرقة والاختلاف بيننا ، فآثرت الاعتكاف عن الجمعية احتفاظا بود قديم ومودة سابقة .
ومنذ أسابيع قابلني في الطريق شخص تبدو عليه سيماء التدين ، قدم نفسه لي على أنه تلميذ قديم كان يحرص على حضور محاضراتي وخطبي في مسجد لتلك الجمعية ، وأظهر لي كيف كان حزنه شديدا بانفصالي عن تلك الجمعية ، وكيف أنه وأقرانه كانوا يستعدون قبل موعد محاضرتي لتلقي مفاجأة جديدة هي عبارة عن رأي قرآني جديد يدحض خرافة مستحكمة أو اعتقادا مدسوسا ، وقرر بحزن شديد أن الركود العقلي عاد وأن حمية الشباب للمعرفة الدينية قد توجهت إلى ناحية أخري .. وأنه بعد أن صدمه الاختلاف الذي حدث قد أنس إلى الانخراط في سلك جماعة دينية سياسية مشهورة تؤمن بتجميع كافة الفصائل المسلمة وتربيتهم وإعدادهم للوصول إلى هدف واحد هو الحكم الإسلامي .
وامتد بيننا الحديث استجابة مني لرجاء التلميذ " السابق " في أن يعرف هل هو على صواب أم على خطأ في تغييره لمسار حياته وفكره ، وأنست منه الصدق في طلب المشورة فأعطيته من وقتي ما يستحقه ، ودار بيننا حوار طويل اعتقد أن أهميته تمتد إلى حاضر هذا البلد ومستقبله .. ولا يتسع المقال لسرد هذا الحوار بأكمله لذا اجتزيء أهم مافيه ..
* * *
قال : إنهم يحرصون على تربيتنا ثقافيا وإعدادنا فكريا ودينيا .. ما الخطأ في ذلك ؟
قلت : إن أصحاب أي مذهب سياسي يحرصون على تنشئة أتباعهم على النظرية التي يدعون إليها .. يفعل ذلك الشيوعيون والعلمانيون والدينيون، كل منهم يلقن كوادره الأيدلوجية المذهبية الخاصة به ، وهل نسيت منظمات الشباب في عهد عبدالناصر ؟ لابد من إجراء غسيل مخ للأتباع حتي يظلوا جندا مخلصين للرءوس الكبيرة التي تخطط للاستفادة بهم . إنهم ينتظرون منك أن تبذل دمك وأن تضحي بحياتك ليصلوا هم إلي الحكم على جثتك وجثث الشباب من أمثالك . ولا يمكن أن تقدم لهم حياتك عن طيب خاطر إلا إذا كنت مقتنعا أن ذلك هو الحق الذي ينبغي الاستشهاد في سبيله ، وهذا الاقتناع لا يأتي إلا من خلال " غسيل المخ " ، أي بالدورات الثقافية والتدريب الفكري والتربية الدينية والإعداد الديني والتمسك بشعائر الدين إلى آخر العناوين البراقة واللافتات الخداعة .
إن لكل طائفة سياسية – تسعي للوصول للحكم أو تسعى للاحتفاظ به – عطاءها الفكري الذي تخدع به الشباب ليكونوا وقود أطماعها .. البعض يستخدم معاناة الفقراء والطبقات الكادحة ويجعلها أساسا في دعوته للوصول للحكم ، ثم إذا وصل للحكم ازداد الفقراء به فقرا ومعاناة .
وبعضهم يتلاعب بالدين وشعاراته وتأثيره الشديد في القلوب ليجعل الشباب المخلص لدينه يستشهد تحت لافتات براقة مثل تطبيق الشريعة والحكم الإسلامي .وفي النهاية فالقادة المرفهون هم المستفيدون والشباب المطحون هم رواد المعتقلات والسجون !
* * *
قال إنهم ينادون بتجميع كل الفصائل الإسلامية ويحاربون التفرق والتشتت . وبالتفرق خسرت الجمعية مفكرا إسلاميا مثلك .. وحين تفرقت الجمعية انضممت أنا لهذا التيار الذي ينادي بتجميع المسلمين .. هل في ذلك خطأ ؟.
قلت : دعك من مشكلتي الشخصية ، ومن موضوع تلك الجمعية ، ولنحصر حديثنا حول ذلك التيار السياسي الذي ينادي بتجميع المسلمين ، فليس مستغربا أن ينادي ذلك التيار بحشد كل التيارات الدينية خلفه ، فكيف يحقق أمله في الوصول للحكم إذا لم يكن اكبر قوة وأكثر عددا ؟
إن هذا التيار منذ إنشائه وهو ينادي بتجميع كل التيارات الدينية خلفه من صوفية إلى أعداء الصوفية ، من مجددين مفكرين إلى محافظين متزمتين .. المهم أن يتفق الجميع ويتوحدوا حول الهدف السياسي وهو الوصول للحكم ..
ولكن قل لي .. هل تستسيغ جلوسك – وأنت سلفي – إلي جانب رفيق لك ممن يقدس الأضرحة ويتوسل بها ؟ إنك تعتقد في قرارة نفسك إنه من أصحاب النار وهو يحتفظ لك بنفس الشعور !!
في الفصائل الأيدلوجية العلمانية يتهمون بعضهم بعضا بالخيانة والخروج على الخط الفكري إذا اختلفوا .. وفي التيار الديني السياسي سيتهمون بعضهم إن عاجلا أو آجلا بالكفر والردة والخروج عن الملة !!
إن مظاهر الشقاق بين فصائل التيار الديني متشعبة تبدأ بالخلاف حول حديث منسوب للنبي عليه الصلاة والسلام في أحد الكتب أو بالفتوى حول حفنة طعام أو قطعة ثياب ، ولا يتورع المتناقشون عن اتهام بعضهم بالكفر والردة وما يتبعه من استحلال الدم . فهل يكون تجميع أولئك حول هدف واحد تجميعا حقيقيا ؟
لقد فشلت دعوى التجميع هذه منذ أن رفع لواءها المرشد الأول لذلك التيار فانقسم التيار على نفسه وسيظل في انقسام ، وما يبدو من وئام على السطح إنما مرجعه الوحيد هو عداؤهم للسلطة ووقوف السلطة لهم بالمرصاد .
* * *
قال : ولماذا لا نؤجل خلافاتنا مؤقتا حتي نحقق الهدف الأسمى وهو إقامة الدولة الإسلامية ؟
قلت : وبعدها نقتل بعضنا بعضا ! أي نصل للحكم ومعنا أدوات القتل والتدمير ثم نستخدمها في تصفية خلافاتنا . والخاسر طبعا هو الذي سيلقى حتفه متهما بالكفر والردة !
قال : ألا تعتبر الدولة الإسلامية هدفا أسمي يستحق كل هذا العناء ؟
قلت : عبارة " الدولة الإسلامية " مدلول فضفاضي عانى منه المسلمون وسفكوا بسببه دماءهم منذ القرن الأول الهجري وحتى الآن ، ولم يبرع المسلمون في شيء براعتهم في التمسح بالإسلام واستغلاله سياسيا في سبيل حطام الدنيا ..
الدولة الأموية قتلت الحسين وآل البيت تحت شعار المحافظة على الدولة الإسلامية، بينما ثار الحسين وآل البيت في سبيل إقامة الدولة الإسلامية .
فما هي بالتحديد مواصفات الدولة الإسلامية التي تصارع حولها بنو أمية وبنو هاشم ؟ لو استرحنا إلى أن هدف الجميع هو التحكم السياسي لوصلنا للغرض المنشود . إن المسلم الحقيقي يعتبر أن سفك دم مؤمن واحد أعظم عند الله وأخطر من كل دعاوى السياسة التي تتمسح بالدين . يكفي أن تقرأ قوله تعالى " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما . النساء 93" .
هذا عن المسلمين في القرن الأول الهجري فما بالك بمسلمي اليوم ؟
* * *
قال : ألا يحتاج مسلمو اليوم إلى حكم إسلامي يعيد صفاء الإسلام ؟
قلت : مسلمو اليوم ورثوا نوعية من التدين كتبها ومارسها أسلافهم في العصر العباسي وهم يتمسكون بها على أنها الحق ، مع أنها تخالف كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . والأولى والأهم عند الله تعالى أن يتعرف المسلمون على الحق بالاحتكام للقرآن ، وذلك يستغرق سنوات من الزمان على الأقل – من الحوار والنقاش والحرية الفكرية الدينية . وبذلك تكون الصحوة الدينية صحوة إسلامية حقيقية ..
أما ما نشهده الآن فهو التوظيف السيئ لبداية الصحوة الدينية لكي تكون حركة سياسية يجني ثمرتها بعض المحترفين ، وليس مهما بعد ذلك كم من أنهار الدماء تسيل ، وكم من الشباب المتدين المخدوع يفقد حياته ، وكم من نفس مؤمنة تقتل عمدا . وليس مهما بعدها كيف سنعطي الإسلام بأعمالنا صفات الإرهاب والعنف .
صدقني ياأخي ، ليس مثل الإسلام دين ظلمه أصحابه والمنتسبون إليه ، حمل الإسلام عنهم أوزارهم وخطاياهم وأطماعهم ، وعلى نفس الطريق يسير أولئك الذين يريدون تحقيق أطماعهم السياسية بالتمسح بالإسلام .
إن الإسلام يحتاج من هذا الجيل إلى أن يفهمه حق الفهم وإلى من يخلصه من الأوهام والخرافات والأباطيل التي أضافها إليه أسلافنا ومارسوها على أساس أنها داخلة في صميم الإسلام وهي تناقض القرآن تماما .
قال : ربما لو جاء حاكم مسلم يفهم دينه حق الفهم لتعلم الناس علي يديه الحق من الباطل .. وهذا يؤكد أهمية الحكم الإسلامي هدفا أول كما يقولون ؟
قلت : تخيل أن الخليفة عمر بن الخطاب بعثه الله حاكما لنا لا .. بل تخيل أن النبي عليه الصلاة والسلام نفسه بعثه الله حاكما وجاءنا في هيئته البشرية التي كان عليها في عصره ، رجلا عاديا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق كما جاء في سورة الفرقان ، وتخيل أنه ذهب للأضرحة المشهورة ورأي حولها المسلمين يطوفون ويتبركون ، ما الذي سيفعله ؟ سيقرأ عليهم قوله تعالى " إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها ؟ أم لهم أيد يبطشون بها ؟ أم لهم أعين يبصرون بها ؟ أم لهم آذان يسمعون بها ؟ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون " " الأعراف 194: 195 " وآيات كثيرة في نفس المعنى . وتخيل ماذا سيحدث له من المريدين ومن كبار الأشياخ.
وهب أنه كان حاكما ذا سطوة تحميه من الاتهامات ومحاولات الاغتيال فماذا سيفعل ؟ سيقضي وقته متفرغا للدعوة إلى تنقية عقائد المسلمين بالحكمة والموعظة الحسنة وفي النهاية يترك الحكم عليهم لله يوم القيامة فبهذا قال القرآن " ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون " " الزمر 3"
أي أنه باختصار سيتنازل عن الحكم السياسي لكي يتفرغ للدعوة أولا ، وبعد أن يقتنع الناس تأتي المرحلة الثانية وهي الحكم الإسلامي وفقا للقرآن ، وشريعة القرآن تختلف كثيرا عن الشريعة التي كتبها الفقهاء في العصر العباسي ، عصر الفتن والحكم المطلق واستغلال الدين لإرضاء نزوات الخلفاء وجرائمهم .. وتذكر يا أخي أن المشركين في مكة عرضوا علي النبي عليه السلام أن يجعلوه ملكا في مكة في مقابل أن يتنازل قليلا عن دعوته ، أي حاولوا إغراءه بالحكم والسياسة ، ولو كان النبي يفكر بنفس المنطق الذي تقوله لرأى أنه ربما لو وصل للحكم لأصبح قادرا على خدمة دعوته أكثر ، ولكن النبي رفض ، فالدعوة هي الأساس وهي الأهم وما عداها تابع لها .
إن للسياسة دروبها وتوازناتها وأساليبها التي لا تتفق مع الدين ، ولها هدفها الثابت في الاحتفاظ بالحكم أو بالوصول إليه مهما كانت الوسيلة . ومعناه أن السياسة لا يمكن أن تخضع للدين الحق إلا إذا تغلغل الدين الحق في النفوس وسيطر عليها ليكون السلوك تقوى خالصة لله تعالى في نفس الحاكم والمحكوم كما كان يحدث في عصر النبي في المدينة. وبدون ذلك يكون الدين في خدمة السياسة ومن ضمن أساليبها ، وهذا ما عرفه المسلمون بعد الفتنة الكبرى وفي عصر الخلفاء – غير الراشدين – الذي يطمع بعض الناس في أن يحكمونا على طريقتهم ، وبذلك يتحتم علينا نحن الرعية إما أن نطيع الأمير المعصوم مهما خالف دين الله وإما فالسيف والنطع والاتهام بالكفر ..صدقني يا أخي أن الأفضل لنا أن نجعل الإسلام بعيدا عن أطماعنا وصراعاتنا السياسية إذا كنا نخشى الله حقا .
وسكت تلميذي السابق قليلا .. وقال : كم أتمنى أن تعود محاضراتك السابقة في المساجد.
قلت – ذلك زمن مضي ولن يعود ..
ولمحت نظرة حزينة في عينيه ...
أخر السطر :
1 ـ نشرت جريدة الأخبار المصرية هذا المقال بتاريخ 23/10/1989 ضمن سلسلة مقالات كنت أنشرها تحت عنوان ( القرآن هو الحل ) . المقالات السياسية بطبيعتها بنت لحظتها وتعبر عن وقتها ، وبعد حين من الزمن تتحول المقالات السياسية الى مقالات تاريخية تعبر عن ظروف مضت وانتهت . ولكن مضى الآن حوالى عشرين عاما على نشر هذا المقال ولم نتقدم فيها إلا الى الخلف .. لذا لا يزال هذا المقال السياسى أكثر صلاحية لليوم منه الى الأمس ، ونعيد نشره حجة على هذا العصر الذى لا يروج فيه إلا الغث والفاسد .
2 ـ متى ينتهى هذا الركود وذاك الخمول والخضوع و الخنوع ؟؟
حاجة تكسف ..!!!





اجمالي القراءات 15065