Individualism in Islam))
الفردية فى الاسلام :

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٨ - يناير - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :
في مقال سابق تحدثنا عن ثقافة القطيع السائدة بين العرب والمسلمين والتي تناقض ثقافة الغرب وأمريكا وإسرائيل القائمة على أساس الفردية وحقوق الفرد، (Individualism) وفي إطار التفرقة بين الثقافتين فسَّرنا مأساة غزة بين حماس وإسرائيل، واعتبرنا حماس المسئولة عن تدمير غزة وفقا لثقافة القطيع التي يتبعها زعماء حماس . وجاءت تعقيبات تحتاج إلى توضيح علاقة الإسلام بالفردية ومسئولية الفرد . ونجيب بهذا المقال .

أولا : ـ ضياع ( الفردية) بين القومية و الأديان الأرضية
1 ـ الحجة الأساس لدى أصحاب ثقافة القطيع إيمانهم بالأمة الإسلامية ، بنفس القدر الذي يقول به القوميون العرب بالقومية العربية .
والقومية العربية سقطت بسقوط زعمائها من عبد الناصر وصدام والقذافي وغيرهم ، كما سقطت من قبل مزاعم القوميات في أوربا بعد أن ألهبت حروبا استمرت قرونا داخل أوربا وخارجها ، ثم انتهت بحربين عالميتين تعلم منها الغرب ألا يسمح بتلك الثقافة العنصرية المدمرة ، وأن يختار بدلا منها ثقافة حقوق الانسان وحقوق المواطنة ، وتم فى الغرب تصنيف الدعوات القومية ضمن دعوات الاستبداد التى يتخفى تحتها الطغاة ليدمروا شعوبهم والآخرين ، كما فعل هتلر وموسوليني.
وحين أطلّ قرن القومية فى البلقان على يد الصرب بعد سقوط يوغوسلافيا وقف الغرب كله ضدها. ولا يزال هناك يهود وغربيون كثيرون ينتقدون الصهيونية ، يتهمونها بأنها حركة عنصرية قومية ، مع تسليم الغرب المسيحى بحقوقها الدينية وفقا لما جاء فى العهد القديم. وبدلا من أن نستفيد من تجارب السابقين فاننا جربنا كل أخطاء الغرب ، من القومية الى الماركسية ، ثم جاءت الوهابية بالسلفية وجهادها الارهابى فعظمت المحنة وتأصلت النقمة.
2 ـ أما أسطورة الأمة الإسلامية التي يعتقدون أنها تضم كل المسلمين من اندونيسيا إلى المغرب فهي ساقطة واقعياً باختلاف المسلمين في أديانهم الأرضية المتصارعة من شيعة وسنة وصوفية . و في الدول المقامة على دين أرضي معين نجدها تضطهد أصحاب الدين الأرضي المخالف، فالشيعة مضطهدون داخل السعودية، والسنة مضطهدون داخل إيران ، وكل من إيران والسعودية أقيمت على أساس دين أرضي ، والشيعة والسنة يتقاتلون في العراق حيث تحولت المساجد لدى الخصمين إلى مراكز حربية وأهداف حربية ، وهم متنافرون وأعداء متشاكسون فى سوريا و لبنان ومصر والخليج.
ومنذ الفتنة الكبرى أنقسم المسلمون ولا يزالون ، والإنقسام يتشعب خلال الدين الأرضي الواحد ، فالسنة أربعة مذاهب رئيسية ، وفي داخل كل منها اختلافات . والشيعة مذاهب كبرى قديماً وحديثاً وتفرعت ولا تزال، فكيف تتوحد أمة تختلف فى عقائدها وتتحارب وفقا لهذا الاختلاف منذ الفتنة الكبرى حتى الآن ؟.
وأسطورة الأمة الإسلامية ـ التي يزعمونها ـ ساقطة قرآنياً فمع أن مصطلح ( أمة ) جاء في القرآن الكريم يتحدث عن مسلمين ، إلا أنه يتحدث عنهم كأفراد ينتمون إلى دين واحد يمتد فوق الزمان والمكان يتبعون كل الرسل والأنبياء.إبراهيم عليه السلام وصفه الله تعالى بأنه كان أمة من الأخلاق والقيم الإسلامية:(النحل 120) ، ولقد كان إبراهيم مسلماً وأوصى بنيه بالإسلام { البقرة 130: 132). وأرسل الله جل وعلا خاتم الأنبياء محمدا عليه السلام ليجدد ملة ابراهيم ، وليس مرسلا بدين جديد ( الأنعام 161 ـ النحل 123 ، آل عمران 68 ، 95 البقرة 130 )
3 ـ وقد أوضحنا في مقالات سبقت أن الإسلام هو دين الله تعالى الذي نزلت به كل الرسالات السماوية لكل الأنبياء ، ونطق به كل نبي بلسان قومه إلى أن نطق الإسلام بالقرآن العربي للعالمين رسالة خاتمة إلى يوم القيامة، وهو يناقض تلك الأديان الأرضية التى نبتت لدى المسلمين خلال مللهم ونحلهم ومذاهبهم وطوائفهم ، أشهر تلك الأديان الأرضية للمسلمين ـ وهو دين السّنة ـ هو الذى شوّه اسم الاسلام ، وأعطاه تلك الصورة الممقوتة من التطرف و الجمود والتخلف والارهاب والاستعلاء.
ودين السّنة نبت ونشأ وازدهر مع الفتوحات العربية ومع سيطرة الامبراطوريات العربية التى حملت اسم الاسلام و حكمت به شعوبا وبلادا وأوطانا. وترتب على هذا التاريخ الطويل من الاحتلال العربى والطغيان السياسى والدينى وجود نوعين متناقضين من الولاء ، فالذين دخلوا فى الاسلام إسما واعتنقوا فى الحقيقة دين السّنة تبعا للعرب الغزاة أصبحوا بالثقافة موالين للغزاة العرب ودينهم السنى ، ولا يدركون تناقضه مع حقائق الاسلام لأنه أصبح عندهم هو الاسلام. أما من نجا من اعتناق تلك الثقافة متمسكا بدينه أو بقوميته الأصلية قبل الغزو فقد أصبح كارها للفظ الاسلام ولمجرد إسمه ، وهو أيضا غير مدرك للتناقض بين حقائق الاسلام وثقافات المسلمين وأديانهم الأرضية.
وليس مهما الأسماء و المسميات ، فتحت اسم الاسلام قام العرب بتشويه اسم الاسلام ،
وقبل أن تظهر اللغة العربية وقبل نزول القرآن الكريم كان الأنبياء السابقون يدعون لنفس الاسلام بلغاتهم التى لا نعرفها دون نطق لفظ (اسلام )، فاللغة مجرد وسيط ، والأهم هو التطبيق. وحاليا فإن فى الحضارة الغربية الراهنة وفى المواثيق الدولية لحقوق الانسان نفس القيم والشرائع الى جاءت فى القرآن الكريم، وإتباع تلك القيم والشرائع هو تطبيق لجوهر الاسلام حتى لو كان الشخص كارها لاسم الاسلام .
ومن السهل أن نتعرف علي حقائق الاسلام إذا قرأنا القرآن الكريم قراءة موضوعية وفق مفاهيمه هو ومصطلحاته هو ، وليس تبعا لمصطلحات ومفاهيم التراث الذى أنتجته أديان المسلمين الأرضية، وهذا هو جهادنا الفكرى منذ ثلاثين عاما .
4 ـ وبقراءة القرآن قراءة موضوعية بمفاهيمه ومصطلحاته فإنه من آدم إلى أن تقوم الساعة فكل من أتبع الرسل والأنبياء فهو مسلم معهم(أى يؤمن بالسلام مع الناس وبالاستسلام والحضوع للاله الواحد جل وعلا فلا يقدس معه بشرا ولا حجرا ) ، وكل من يحمل هذه العقيدة فى قلبه ويطبقها فى سلوكه ايمانا وعملا صالحا فهو فرد ضمن هذه الأمة مهما اختلف الزمان والمكان واللسان.
وهذا هو معنى أمة الإسلام في اصطلاح القرآن ، ليس دولة أو مجتمعا محدداً بالزمان والمكان ، بل مجموعة من القيم والمعتقدات التي جاءت في كل الرسالات السماوية ، وكل فرد يتبعها من البشر جميعاً في كل زمان ومكان فهو مع الآخرين يكوّنون في الدنيا أمة واحدة منفردة ، وبهذا جاء الخطاب القرآنى لكل الرسل:( المؤمنون 51: 52 )(الأنبياء92) . أما في الآخرة فهم مع كل الرسل جميعاً في الجنة أمة واحدة ( النساء 69 ) .
وهذه القيم العليا التى تمثل ( الأمة الإسلامية) مطلوب من كل فرد من البشر أن يتحلى بها ، وهذه القيم تدور في اطار حقوق الله جل وعلا وحقوق البشر. الجزء الأول هو حق الله الخالق جل وعلا فى أن نؤمن به وحده الاها لا شريك له ، فهو جل وعلا الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، والذى ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولكن ليس لبشر أن يفرض هذا المعتقد على أحد آخر ، فلا إكراه فى الدين ، وكل انسان هو المسئول عن اختياره الدينى، ولكن للمجتمع حق التدخل لحماية حقوق الأفراد أو حقوق الانسان ، وهى الجزء الآخر من الحقوق . فحقوق البشر هى فى العدل والمساواة وحرية المعتقد من ايمان أوكفر ومسئوليتهم على اختيارهم امام الله جل وعلا وحده يوم القيامة .
5 ـ تطبيق هذه القيم من عبادات ومعاملات وأخلاق تكون مسئولية الأفراد ، ومن هنا يقوم الإسلام على ( الفردية )( Individualism) أي المسئولية الفردية في الدنيا وفي والآخرة. وهذا ما تتجاهله ثقافة القطيع لدى العرب و المسلمين ، حين يتحكم الطاغية ( أو الاحتلال المحلى ) فى الأفراد وفى الشعب كله ، يتكلم باسمه ويفرض عليه رأيه ويصادر حقه فى العدل و القسط وفى الحرية وحقوقه فى الثروة والسلطة والحياة الكريمة.

ثانيا : منهج القرآن الكريم فى تقعيد الفردية :
للقرآن الكريم أسلوبه فى التعبير عن الفردية ، كما أن له طريقته فى التوازن بين الفردية والخطاب الموجه للمجموع والمجتمع . ونعطى لمحة سريعة :
1 ـ أسلوب تعبير القرآن الكريم عن الفردية يأتى باستعمال كلمتى (الفرد وفرادى) ، وكلمة (إنسان) و(النفس) و(المرء) واستعمال كلمة ( من ) الموصولة .
2 ـ وقد ينتقل الخطاب فى القرآن من المجموع إلى خطاب الفرد والعكس ، ونعطى أمثلة فى الحث على القيم العليا ، وأعلاها ( التقوى):
* ففى سورة الحجرات آية 13 ، يكون البدء بالفرد بحقيقة أن الله تعالى خلق الانسان فردا من ذكر (هو آدم) وانثى (هى حواء)، وبالتالى فكل الأفراد ينتمون لأب واحد وأم واحدة وأصل واحد على قدم المساواة :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ) ثم ينتقل من الخطاب الفردى الى الخطاب الجماعى : (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) أى إن الاختلاف فى العرق واللون هو للتعارف السلمى ، لكى نتعارف لا لكى نتحارب ، ثم العودة من هذا الخطاب الجمعى الى الخطاب الفردى بأن أكرم فرد عند الله جل وعلا ليس الأجمل أو الأغنى أو الأقوى بل الأتقى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وحتى لا يزعم أحد الأفراد إنه الأتقى يأتى التحديد الالهى بأن الله جل وعلا هو الذى سيحدد بعلمه من هو المتقى يوم القيامة : (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ).
* وفى آية أخرى يأتى الخطاب للمجموع يأمر بالتقوى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) ثم يليه مباشرة الأمر لكل فرد( وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ثم يعود الحديث للمجموع بالأمر بالتقوى :(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )(الحشر18 ).
* ونظير ذلك فى قوله تعالى : (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ) هنا خطاب للمجموع ، ثم يليه الخطاب بالحساب لكل فرد يوم القيامة:(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) (البقرة 281).
** ونفس الشىء فى تفصيلات التشريع ، ونعطى منها مثلا :
*في الهجرة يأتى الحديث عن من يرفض الهجرة مع القدرة عليها (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً) ويأتى الاستثناء للأفراد ذوى الأعذار:(إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) ويستمر مع الأفراد:{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}(النساء 97 : 100).
وفى الجهاد بالقتال الدفاعى يأتى الأمر للنبى محمد عليه السلام فرديا بالقتال وأن يقوم بتحريض المؤمنين على القتال الدفاعى ليوقف اعتداء الكافرين (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ }(النساء 84 )، فهنا انتقل الأمر من النبى الى المؤمنين بهدف رد الاعتداء، ثم هناك تشريع يرفع الحرج عن الفرد المعاق( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجًٌ}(الفتح 17).
وفى الحديث عن يوم العرض أمام الله جل وعلا يوم الحساب يقول تعالى فى خطاب جماعى : (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ً)( الكهف 48) ، الخطاب هنا لجميع البشر وهم فى صف واحد يوم العرض ، وفى آية أخرى يأتى الانتقال من يوم العرض الجماعى الى يوم الحساب الفردى:(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) هنا كلام عن الجميع ، يليه الكلام عن كل فرد :( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ)(الحاقة 18 : 27 ).

ثالثاً : ونتتبع ملامح (الفردية ) فى الاسلام وفقا للقرآن الكريم
1- الفردية في الخلق :
الخلق من نفس واحدة هى آدم (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) ومنهما جاءت الذرية :( وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء)(النساء :1) وأيضا :(الأعراف 189) و(الزمر6 ) ولكن لكل فرد تميزه فى ملامحه التى يريدها له جل وعلا (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ) (آل عمران 6 )
2 ـ : - دعوة الفرد للتفكير وأن يحتكم الى ضميره :
هنا تكمن قيمة الفرد والفردية بأروع ما تكون . ونعطى أمثلة سريعة :
* ففى مواجهة الاتهامات الظالمة من مشركى قريش للنبى محمد عليه السلام بالكذب والافتراء فإن الله جل وعلا دعاهم لأن يقوم كل واحد منهم بنفسه أو مع رفيق له ، ويراجع الأمر بضميره بطريقة موضوعية محتكما الى الله تعالى ، ويسأل نفسه : هل محمد الذى عايشوه من قبل صادقا أمينا هل يمكن أن يكذب الآن ويزعم بهتانا أن الله تعالى بعثه رسولا ،أى هى دعوة لكل فرد أن يبحث الأمر بضميره مع نفسه أو مع رفيق له بموضوعية وحيادية:( سبأ 46).
* وقرر رب العزة أن لكل انسان ضميرا يستطيع أن يحتكم اليه إذا أراد ، فالانسان بصير بنفسه مهما تعلل وتمحّك بالأعذار والمبررات ، وعليه أن يسأل نفسه : هل خلقه الله جل وعلا هكذا بدون هدف ، وهل سيتركه سدى :(القيامة 14، 36) ولو عرف بفطرته أنه سيلقى ربه يوم الحساب فإن عليه أن يستعد لهذا اليوم بالايمان بالله الواحد ولا يشرك معها أحدا فى العبادة و التقديس ، وأن يعمل عملا صالحا نافعا للناس(الكهف 110 ).
هذا التوجه للانسان الفرد والاحتكام الى ضميره بموضوعية وإنصاف معناه أن الفرد الانسان لديه (أنا عليا) يمكنها أن تسمو بالانسان وتتزكى به وتطهره، وتنهاه عن الهوى ( النازعات 40 ـ ) كما أن لديه (أنا سفلى ) تحاول أن تنحدر به الى الحضيض ( النازعات 37 ـ ) ففى كل نفس الهام بالفجور وبالتقوى،ولكن قد تفلح الذات العليا فى السمو بالانسان ، وإن لم يفعل فقد تغلب فيه الفجور على التقوى(الشمس7 : 10).
وفى الغرب جرى الاحتكام الى هذه (الأنا العليا) داخل كل فرد فاهتدى مصلحو الغرب الى القيم العليا التى بشّر بها القرآن الكريم ، والتى نسيها أغلب المسلمين .
3 ـ : مسئولية الفرد في الهداية والضلال فى الدنيا :
يتكرر ويتأكد فى القرآن الكريم قاعدة أن الفرد الذى يختار الهدى فقد اهتدى فلنفسه ومن يختار الضلال فهو مسئول عن ضلاله،أى مسئولية الفرد على اختياره بين الضلال والهداية، ولا ينتفع فرد بهداية فرد آخر ولا يؤاخذ فرد بضلال فرد آخر:(الاسراء 15 )(يونس 108) (الزمر41 )(النمل92 )( الأنعام 104 ).
وأيضا فمن عمل صالحاً من الأفراد فلنفسه ومن أساء فعليها:( فصلت 46 )(الجاثية15 )
ومن جاهد فلمصلحة نفسه (العنكبوت 6 ) ومن شكر ربه لقى جزاء الشكر لنفسه:( لقمان 12)،(النمل 40) وكل من يتزكى ويتطهر فلنفسه ولا يحمل أحد وزر أحد(فاطر18 ).
ومن ناحية أخرى فمن يبخل فهو يتحمل عاقبة بخله:( محمد 38 )(الحشر9 )(التغابن 16)
ومن ينكث بالعهد فهو متحمل لنتيجة فعله ومساءل عنه (الفتح 10).
ولا فارق هنا بين ذكر وأنثى فى استحقاق الأجر والثواب على عمله الصالح أوعملها الصالح (آل عمران 195)(النساء 124)(النحل 97)(غافر 40).
وتأكدت قاعدة أنه لا تزر وازرة وزر أخرى:(الأنعام 164)(فاطر18 )(النجم 38 ـ )
والله جل وعلا هو العالم بما تكسب كل نفس من عمل صالح أو فاسد مسئولية كل نفس على ما كسبت :(الرعد 33 ،42) وستجزى كل نفس (بِمَا تَسْعَى ):(طه15 ) ، و(مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)(النساء 123) و كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(المدثر38) (الطور21)، وحتى فى التوسط فى امور الدنيا يقول جل وعلا:(مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا)( النساء 85 ).
وبناء على ما سبق فليس من مسئولية الدولة أو المجتمع هداية الأفراد أو القلق على مصيرهم يوم القيامة أو العمل على إدخالهم الجنة وإنقاذهم من النار،لأن ذلك كله مسئولية كل فرد وليس للمجتمع أو الدولة التدخل فيها ، بل على المجتمع والدولة التأكيد على حماية حق كل فرد فى اختياره الدينى والمذهبى والفكرىوالتعبير عنه بحرية دون إكراه للآخرين فى الدين:( البقرة 256 )( يونس 99 ).
4 ـ الفردية في الآخرة :
الفردية حكم عام فى الآخرة ، فالله جل وعلا قد أحصى الناس فردا فردا ، وكل فرد سيأتى للحساب فردا أمام الله جل وعلا :(لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً)( مريم 94 : 95 ) (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ )(الأنعام 94).
وفى القرآن الكريم قواعد للمساءلة تسرى على كل فرد : فالمذنب الذى يستغفر الله تعالى ويتوب يغفر له الله جل وعلا ، والذى لا يتوب يتحمل المسئولية على نفسه ، والذى يقع فى جريمة ثم لا يتوب بل يلفق جريمته لشخص برىء فإنه يكتسب الاثم والبهتان معا (النساء 110 : 112 )
وعند البعث فكل نفس ترى عملها (آل عمران 30 ) (النبأ 40 )وكل فرد سيتسلم كتاب أعماله بنفسه :(الانشقاق 6 : 12 ) (الإسراء 13 : 14)
الفردية تتضح في يوم الحشر (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ{34} وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ{35} وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ{36} لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ )(عبس 37 )
وفى يوم الحساب لا تجزي نفس عن نفس ولا تنفع نفس نفسا أى لا تشفع نفس فى نفس ولا تدافع نفس عن نفس:(البقرة 48 ، 123)( الانفطار19 ) وكل فرد سيدافع عن نفسه بنفسه يوم الحساب (النحل 111)
وكل نفس تتوفي عملها بالعدل المطلق ( آل عمران 25) (آل عمران 161) (إبراهيم 51) (الزمر70) (غافر17 ) (الجاثية22) .
وهكذا فالفردية أساس من أسس الاسلام على نحو يتناقض مع ثقافة القطيع لدى معظم المسلمين.
أخيرا
1 ـ لولا أن الانسان الفرد بهذه الأهمية عند الخالق جل وعلا ما كان هذا التركيز عليه ، ويبلغ هذا الاهتمام الى درجة ان الخالق جل وعلا لا يتدخل فى حرية الفرد فى الايمان أو الكفر ، والفرد يمارس هذه الحرية فيكفر بالله جل وعلا و يرفع صوته بالالحاد مسيئا استعمال الحرية التى منحها له الخالق جل وعلا .
هذا الملحد لو كان تحت سيطرة طاغية (فرد مثله يحكم مستبدا ) فان الأغلب أن يستكين للطاغية ، بل قد يرفع صوته بالتحميد و التقديس للطاغية . وهذا الطاغية قد منح نفسه سيطرة بدون وجه حق ، تفوق سيطرة الله جل وعلا على الناس ، فالله تعالى ترك للبشر حرية الايمان بعد الكفر وحرية الكفر بعد الايمان ، وحرية الطاعة وحرية المعصية ، ومنع الاكراه فى الدين ، وجعل للناس أجلا يوم القيامة ليسائلهم عن اختيارهم الدينى، ولكن هذا (الفرد ) الطاغية أعطى نفسه فى هذه الدنيا حق السيطرة على معتقدات شعبه، فالمواطن المصرى حسنى مبارك يعاقب أهل القرآن لتمسكهم بالقرآن وحده ، وليس مهما عنده أن أهل القرآن يطيعون فى ذلك أمر الله جل وعلا باتباع القرآن وحده ، ولكن المهم أن للمواطن المصرى حسنى مبارك رأيا آخر ، وهو يريد فرضه على أهل القرآن وإلا فالسجن والتعذيب والتشريد. لم يكتف باحتكاره السلطة والثروة ولكن يريد أيضا التحكم فيما رفض التحكم فيه الخالق جل وعلا وهو حرية الدين والمعتقد ، وإذا كان الله جل وعلا قد منع الاكراه فى الدين فان المواطن المصرى حسنى مبارك يعتمد الاكراه فى الدين والاكراه فى الدنيا معا مع أن المواطن المصرى حسنى مبارك فرد مخلوق و ليس الله الخالق جل وعلا. وقبل مجىء يوم الدين وقبل مجىء يوم الحساب فان المواطن حسنى مبارك يجعل زبانيته يقيمون (قيامة ) للقرآنيين ، لذلك كان المحقق يسأل المعتقلين من أهل القرآن ماذا يقولون فى صلاتهم ، ولماذا يقرأون التشهد القرآنى (آل عمران 18 ) فى الصلاة بدلا من (التحيات )، ولماذا يصلّون السنن ويقولون أنها ( نوافل ). ويدور هذا الاستجواب مع تعذيب هائل .!!
2 ـ نحن ندعو الى حقائق الاسلام فى الحرية والسماحة والعدل والسلام وندافع عن حق كل انسان فى حريته الدينية، فيحتج الملحدون علينا كراهية فى الاسلام والقرآن ، ونعانى الاضطهاد فى وقوفنا ضد الطغاة ولا نسمع للملحدين صوتا بالاحتجاج على الطاغية حسنى مبارك وهو يتسلى باضطهاد مسلمين مسالمين لا حول لهم ولا قوة .
الأفراد الذين يختارون الالحاد و إساءة الأدب مع الخالق جل وعلا الذى تفضل عليهم بالحرية ـ لا يجرءون على مواجهة الطاغية الفرد من البشر وهو يعطى نفسه سلطة عليهم ما أنزل الله جل وعلا بها من سلطان ، يستخدمون الحرية التى منحها لهم الله جل وعلا فى سبّ الله جل وعلا ، و يخشون استعمال هذه الحرية ضد الطاغية الذى يظلمهم ويستعبدهم ، مع أن هذا الطاغية هو مجرد فرد.
3 ـ ترى هذا الملحد المذعور من البشر والمتجرىء على الخالق جل وعلا يفرح لو كتبنا له ما يؤكد حريته فى الايمان والكفر ، ولكن يعلو صوته بالغضب لو قررنا مسئوليته على تلك الحرية بالثواب والعقاب والجنة والنار، مع أن المسئولية فى تشريع البشر أنفسهم هى الوجه الآخر المعادل للحرية .
4 ـ أولئك الأفراد أساءوا لأنفسهم ومكانتهم عند الخالق ، والله جل وعلا لا يرضى لهم الكفر وليس محتاجا لأن يؤمنوا به ، ولكن فى النهاية فهم وما ارتضوا لأنفسهم وموعدهم ومرجعهم الى الله جل وعلا يوم القيامة.
وقبل مجىء القيامة يقول لهم مقدما رب العزة جل وعلا : (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( الزمر7 ).
5 ـ ودائما ـ صدق الله العظيم .!!


اجمالي القراءات 21054