لقمة العيش

منيرة حسين في الجمعة ٠٩ - يناير - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

لقمة العيش
• ا لمصرى هو الإنسان ا لوحيد فى ا لعالم الذى إذا رأى كسرة خبز على الأرض أسرع ينحنى يلتقطها ثم يقبلها ويأخذها فى احترام بعيدا عن ا لتراب ..وذلك يعكس فى طياته تقديسا لكسرة الخبز يكمن فى القلب المصرى ،وينطق به اللسان المصرى حــــــين يصف كسرة الخبز بأنها " لقمة ا لعيش " .. واذا حللنا هذا الوصف تحليلا علميــــــــا وجدناه وصفا لأكسيرالحياة ، ووسيلة للعيش ثم يتسع المصرى فىاستعمال هذا الوصف ليصبح السعى على الرزق الوسيلة للحصول على " لقمة العيش " ، بل يصبح السكوت عن الحق والتغاضى عن الباطل والتهاون فى مواجهة الظالم حرصا على " لقمـــــــة
العيش " هذا مع أن المصرى يؤمن فى أعماقه بأن الله هو الرازق ولكن حرصه علـــى
لقمة العيش وحبه فى دوامها يجعله ينسى أحيانا أن الرزق من الله ويخشى على " لقمــة
العيش " حين يضطر لأخذ موقف يهدد عمله ووظيفته .. ويتسع مفهوم لقمة العيش الــى
العملات ا لنقدية والورقية فأول ما يدخل منها إلى الجيب يسارع المصرى بتقبيله
ووضعه على جبهته احتراما ويتفاء ل بأن ا لرزق سيأتى بعدها وفيرا خصوصا إذا كان ذ لك فى الصباح ويشعر بسعادة لأنه سيعود لبيته آخر ا لنهار ومعه " لقمة ا لعيش "
هنية وفيرة .. وبهذا تشمل لقمة العيش كل أنواع الطعام بل والوظيفة والمهنة
والنقود المعدنية والورقية .. وفى نفس الوقت تتجسد لقمة العيش فى كسرة خبــــــــز
يحرص المصرى على تقديسها واحترامها ،وهو فى ذلك يعبر عن حضارة امتــد ت
عشرات القرون كانت فيها مصر مخزنا للغلال يشبع منها الجائعون القادمون لمصر
من الشرق ومن الغرب بحثا عن " لقمة العيش .." .
• وذ لك التقد يس للقمة العيش لم يأتى من فراغ .. كا نت مصر فى عصورها القديمة والوسيطة تعانى من المجاعات الرهيبة حين يفيض النيل عن الحاجة ويغرق الدلتا و الصعيد ،وحين يتناقص وتعطش الأرض وتعجز عن الزرع ،أو حين ينهار الحكم
المركزى وتسود الفوضى فيتعطل الفلاح المصرى عن زرع الأرض ، وتأتـــــــــى المجاعة فيأكل الناس الأخضر واليا بس ويتطلعون إلى " لقمة عيش " تحفظ عليــهم الحياة .. ولذلك كانت أسعار الغلا ل مرتبطة بمقيا س النيل فإذا تناقص النيل أسرع الناس بتخزين القمح وأسرع التجار باخفائه وارتفعت أسعاره ففى رمضان سنة 827 فى سلطنة الأشرف برسباى تناقص مقياس النيل يقول المقريزى وكان يعيش فـــى ذلك الوقت" فأصبح الناس فى قلق وطلبوا القمح ليشتروه وبدأ بعضهم فى تخزينه خوف الغلاء إلا أن النيل زاد يوم الاحد 18 رمضان فى النيل ونودى يوم الاثنين 19 رمضان بتلك الزيادة فسر الناس .
وفى أوقات الغلاء و المجاعة كان الفقيـر المصرى يتطلع إلى كسرة الخبز على أنها " لقمة العيش " التى تنجيه من خطـر الموت جوعا ، وليست تلك عبارة أنشائية أو مبالغة لفظية بل هى حقيقة مفزعة شاهدها المقريزى بعينه وسمعها بأذنيه حين كان صغيرا فى غلاء حدث فــى منتصف جمادى الآخرة سنة 776 هجرية وقد سجل المقريزى تلك الحقيقة التاريخية المروعة فقا ل " كثر موت الفقراء والمساكين بالجوع فكنت أسمع الفقيريصرخ بأعلى صوته : لله لبابة أى كسرة خبز قدر شحمة أذنى أشمها وخذوها ،فلا يزال كذلك حتى يموت "!! وفى الشهور التالية خصوصا رجب وشعبان كثرموت الفقراء بالجوع يقول المقريزى " وشنع الموت فــــــــــى الفقراء من شدة البرد والجوع والعرى وهم يستغيثون فلا يغاثون وأكل النا س خبز الفول والنخالة عجزا عن خبز القمح وبلغ الخبز الأسود كل رطل ونصف بدرهم ، وكثر خطف الفقراء له ما قدروا عليه من أيدى الناس ، ورمى طـــــــــــين السجن لعمارة حائط له فأكله المسجونون من شدة جوعهم ، وعز وجود الدوا ب لمو تها جوعا .. "
وحدثت مجاعة أخرى فى ربيع الآخر سنة 798 هجرية فقام السلطا ن بعمل خبز وفرقه على الفقراء والمساجين ،يقول المقريزى " فكفى الله الناس بهذا الخبز هما عظيما بحيث لم يعرف أن أحدا مات من هذا الغلاء بالجوع .." وكانت المجاعا ت شيئا عاديا فى التاريخ المصرى ، يتكرر حدوثه مرات عديدة فى القرن الواحد وكانت كسرة الخبز هى الوصفة الطبية الناجحة للنجاة من ا لموت جوعا ، ومن هنا كان وصفها بلقمة العيش ، فلولاها ما كانت هناك حياة ، وما كان هناك عيش ..!!
ولهذا السبب عاش تقديس المصرى لكسرة الخبز واحترامه لها ورفضه أن يراها ملقاة على التراب تدوسها الأقدام..
• وكان عدد المصريين يتناقص بصورة مروعة فى أوقات الأوبئة والمجاعات التى تحصد الألوف المؤلفة من المصريين ،وحين تنتهى كان يبقى فى مصر نصـــــــــف السكان أو أ قل ، وفى أوقا ت الرخاء كان يزداد عدد السكان ليصل إلى العشرين مليونا كما حدث فى وقت الفتح الإسلامى حين بلغ عدد من دفـع الجزية مـــن المصريين نحو ثمانية ملايين نسمة كانوا من الذكور البالغين القادرين ماليا على دفع الجزية .. وفى ذلك الوقت كان المصريون يزرعون الساحل الشمالى من غزة إلى طبرق . وكانت للنيل فروع تصب ما بين العريش إلى ما بعد الاسكندرية . وقبلها كانت مصر مخزنا للقمح يطعم الامبراطورية الرومانية ،ثم أصبح يطعــــــــم الدولة الاسلامية .. وفيما عدا أوقات المجاعة وتنا قص النيل ظلت مصر طيلـــة العصور الوسطى هى مخزن " لقمة العيش " لمن حولها .. وجاء العصر الحديث فكبح جماح النيل وسيطر عليه منذ أن أنشأ محمد على القناطر إلى انشاء سد أسوان ثم انشاء السد العالى ، ولم يعد هناك خوف من انحسار الفيضان وحدوث المجاعات القديمة المروعة ..
• ومع ذلك فلا زلنا نعيش فى الغلاء .. وزالت لقمة العيش فى يد السيد الأمريكى .. كانت لقمة العيش للرومان فى يد المصريين ، ثم أصبح أحفاد الرومان يتحكمون فى لقمة العيش التى يحتاجها المصريون ..
• فى الماضى كنا نصدر القمح مع أنه لم يكن هناك السد العا لى أو وزارة الزراعة .. والآن أصبحنا نستورد القمح مع وجود السد العا لى ووزارة الزراعة .. لماذا أنشأنا وزارة الزراعة اذن ؟ .. وما هو الهدف من وجودها اذا كنا نستورد لقمة العيش من عدونا ؟




اجمالي القراءات 12704