الانهيار العظيم

شريف هادي في الجمعة ٢٨ - نوفمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

تعلمنا أن أهم ما يجب أن تحافظ عليه الدولة (أي دولة) هو حرية أفراد شعبها وأمنهم والحفاظ لكل فرد على سلامة بدنه وماله وعرضه ، تعلمنا ذلك وآمنا به وعلمناه وصرنا سدنة في محراب العدالة ، نحترم هذه القواعد ، فلا يجوز إلقاء القبض على شخص وسلبه حريته إلا في حالات ثلاثة ، بناء على إذن من النيابة العامة يصدر بناء على تحريات سليمة ومحضر جمع إستدلالات ، ويرى وكيل النيابة المختص لزوم صدور الأمر بالقبض ، لوجود دلائل قوية ضد الصادر ضده الأمر ، ولاستكمال التحقيقات والتي يستلزم &A; إستكمالها القبض على الصادر ضده الإذن بالقبض عليه لعرضه على النيابة العامة ، أو في حالة من حالات التلبس الخمسة المذكورة حصرا في قانون الإجراءات الجنائية ، أو في حالة من حالات الاشتباه وفقا لقواعد قانونية صارمة للحفاظ على أمن المجتمع عند تعارض مصلحة المجتمع مع مصلحة شخص المقبوض عليه.
وفي جميع الحالات لا يجوز للشرطة إبقاء المتهم قيد الحجز أكثر من أربعة وعشرين ساعة (24) ساعة ، يتم عرضه خلالها على النيابة العامة أو الإفراج عنه فورا ، وإذا تبين للقاضي أثناء نظرا القضية أن المتهم مكث في الحجز أكثر من يوم واحد قبل عرضه على النيابة العامة ، يصدر حكمة ببراءة المتهم والافراج عنه فورا ، كما أنه حال عرضه على النيابة يجب أن تحيطة النيابة علما أنه يقف أمامها وتحيطة علما بالتهمة الموجهة إليه ومواد الاتهام ونوع العقوبة ومقدارها ، كما يجب أن يتعرف على حقوقه كاملة وأي تهاون في هذه الإجراءات يعيب القضية للحد الذي يجعلها تنهار على رأس المتهاون وبراءة المتهم ، كما أنه لا يجوز للضابط الذي قام بالضبط أن يحضر التحقيق مع المتهم ، ويجب على النيابة العامة التحقيق في أي شكوى من المتهم بإستعمال العنف ضده من قبل الشرطة حتى لو كان عنفا معنويا.
تعلمنا أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته ، ومعنى أنه بريء أنه يتمتع بكامل حقوقه في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة إلي أن يصدر الحكم النهائي ضده ، وفي جميع الأحوال يجب أن يعلم المتهم ومحامية المدة التي سيقضيها في الحبس الإحتياطي أو في تنفيذ العقوبة بشكل واضح لا لبس فيه ، فلا يجوز حبس شخصا لمدة لا يعرفها بدقة لأن ذلك مخالف للدستور ، وتعلمنا أن الحبس الاحتياطي يكون لأسباب ثلاثة ( الخوف من هروب المتهم لعدم وجود محل إقامة معلوم له ، أو أن يؤثر المتهم على القضية بإصطناع أدلة أو طمس أدلة ، أو إمكانية أن يؤثر المتهم على سير التحقيق) وفي حالة إنتفاء أسباب الحبس الإحتياطي تفرج عنه المحكمة فورا حتى لو ثبت بعد ذلك إدانته ، لأن الحبس الإحتياطي ليس عقوبة.
تعلمنا أن السلطة القضائية تفرض رقابة صارمة على السلطة التنفيذيه حال قيام الأخيرة بعملها في مواجهة المواطنين ، وأن هذه الرقابة يفرضها نظام الفصل بين السلطات والذي هو حجر الزاوية في أي نظام ديمقراطي ، وطبقنا ما تعلمناه مؤمنين به إلي أقصى حد ، معتنقين نظرية (سيادة الشعب) والتي مؤداها أن مصلحة الشعب تتكون من مجموع مصالح أفراده ، فلا توجد مصلحة مستقلة ومتباينة للأمة عن مصالح أفرادها ، ولا توجد شخصية إعتبارية (سياسية) للأمة مختلفة عن مجموع الشخصيات الطبيعية لأفرادها ، والقول بغير ذلك ديكتاتورية.
تعلمنا أن هناك نظريتان دستوريتان تتنازعان وضع القانون الأساسي (القانون الدستوري) لأي دولة ، أحدهما هي نظرية (سيادة الشعب) وهي النظرية التي آمنا بها وأعتنقناها والتي شرحتها سابقا بأن الشعب يتكون من مجموع أفراده فلا يوجد إختلاف بين الشعب كمجموع وبين كل فرد من أفراد الشعب ، ويكون عضو مجلس الشعب ممثلا لكل فرد من أبناء دائرته باحثا عن مصلحة كل فرد ممن أنتخبوه ، وتكون الشرطة طبقا لهذه النظرية في خدمة الشعب ، فضابط الشرطة يقبض مرتبة من الضرائب التي يسددها الشعب وبموافقته فهو أجير عند الشعب للحفاظ على أمنه وأمانه ، أما النظرية الثانية والتي إخترعها تجار الاستبداد وترزية القوانين لكي يسمحوا للحاكم (أي حاكم) أن يتعدى على أفراد الشعب ، هي نظرية (سيادة الأمة) وهي تقول بأن للأمة شخصية إعتبارية مستقلة عن مجموع الشخصيات الطبيعية لأفراد الشعب ومتباينة عنهم وقد تتعارض مصلحة الأمة مع مصلحة أفرادها ، وهنا وجب على ممثل الأمة البحث عن مصلحة الأمة وأن يضرب عرض الحائط بمصالح أبناء دائرته الذين أنتخبوه ، لأنه يمثل الأمة ككل وليس شعب الدائرة ، والشرطة في هذه الحالة في خدمة القانون وليست في خدمة الشعب وهي تعمل لمصلحة الأمة وتقبض راتبها من الأمة لا من أبناء دائرة القسم الذي تعمل فيه ، والمشكلة في هذه النظرية أنه إذا كانت للأمة شخصية إعتبارية مستقلة فإنه يجب أن يكون لها ممثل لمصالحها من الأشخاص الطبيعيين ، وقطعا سيكون ممثل الأمة والساهر على مصالحها هو شخص الحاكم (أي حاكم) وهنا يحدث تداخل بين الشخصية الطبيعية للحاكم والشخصية الاعتبارية للأمة بحيث يصعب بل يستحيل التفريق بينهما ، وهنا تنشأ الديكتاتورية ، وتخرج من رحم نظرية من المفروض أنها ديمقراطية دستورية ، كل أشكال الظلم والطغيان وأبشع أشكال الديكتاتورية البغيضة.
تعلمنا كل ذلك وآمنا بسيادة الشعب وبوجوب الرقابة الصارمة على أفعال السلطة التنفيذية ، وخلال عملنا بالنيابة العامة والقضاء ، شرفنا بالتفتيش مرارا وتكرارا على السجون ، وعلى غرف الحجز داخل أقسام الشرطة وكنا نقوم فورا بالإفراج عن أي محجوز بصفة غير قانونية ولم تطبق عليه القواعد السالفة ، ووصل بنا الأمر في تطبيق قواعد الحفاظ على الحرية الشخصية وسلامة بدن المقبوض عليهم والحجوزين على ذمة قضايا ، أن حكمنا ببراءة ثلاثة من الأشقياء دخلوا على رجل شقته وقيدوه وجردوه من ملابسة ثم هتكوا عرضه وسرقوا محتويات شقته وقد قبضت عليهم الشرطة متلبسين وهم معهم المسروقات ، ولكن ضابط الشرطة تجاوز حدوده ولم يعرضهم على النيابة العامة في خلال 24 ساعة وقد ثبت ذلك من الأوراق والمحاضر ، بل أبقاهم في القسن لمدة إسبوع يسومهم سوء العذاب من بشاعة جرمهم ، فلما تأكدنا من خطأ الضابط أصدرنا حكمنا بالبراءة والإفراج عنهم من سراي المحكمة ، لأن مصلحة المجتمع في إخترام الشرطة لقانونه ، وعدم منحهم سلطات إستثنائية أهم بكثير من مصلحة مجني عليه واحد ، لولا رفقاء السوء ما تم التعدي عليه.
والأن كل ما تعلمناه وإعتنقناه وطبقناه نراه ينهار أمام أعيننا ، إنهيارا مروعا ، هذا الانهيار ليس فقط لبعض القواعد القانونية والضمانات الإجرائية ، ولكنه وبحق إنهيار لدولة كاملة ، لأن الدولة ككيان هي (أرض ، شعب ، سيادة) ، أما الدولة كهيكل قانوني فهي (دستور ومجموعة قوانين تحكم العلاقات المختلفة بين الشعب وبعضه وبين الشعب والنظام) ، أما الدولة كنظام سياسي فهي (سلطة تشريعية ، سلطة تنفيذية ، سلطة قضائية) ، فعدم إحترام قوانين الدولة والتعدي عليها يفقد الدولة هيكلها القانوني ، وعدم إحترام مبدأ الفصل بين السلطات يفقد الدولة نظامها السياسي ، فإذا إنعدم الهيكل القانوني وتداخلت السلطات والمسؤليات في النظام السياسي للدولة ، إنهارت الدولة كلها.
القبض على المدونين بطريقة زوار الفجر ، يجعل الدولة تدار بنظام العصابة ، تلفيق التهم الجنائية للخصوم السياسيين يفقد الدولة إحترامها عند المجتمع الدولي ، وأصبحنا نترحم على زمن عدلي يكن وصدقي باشا ، عندما كان السجن السياسي شرفا للمسجون لا يفقده إعتباره وإحترامه لدى أقرانه ، فكان المسجون سياسيا يقبع يوما خلف القضبان ويجلس يوما آخر خلف المكاتب وعلى كراسي الوزارة ، فأصبحت التهم الجنائية تلفق للمسجون سياسيا فيفقد شرفه وإعتباره لدى أقرانه ويصبح محتقرا خلفا القضبان ومنبوذا خارجها محروما من كل حقوقه السياسية.
ولنأخذ قضية رضا عبد الرحمن كمثال للإنهيار الذي ذكرته ، فهو قد قبض عليه فجرا وبدون إذن وأودع سجنا لا يعرف أحدا مكانه ولمدة لا يعلمها إلا الله ، وتمت معه كل هذه الإجراءات بـ (لا قانون) أسمع همسكم تقولون قانون الطوارئ ، وأقول لا ، لأن التهمة المقترحة في حق رضا هي (إزدراء الأديان) وهذه التهمة منصوص عليها في قانون العقوبات ، فيجب أن يتبع بشأنها مواد قانون الإجراءات الجنائية ، ويصبح باطلا كل إجراء تم بقانون إستثنائي يعالج أوضاعا لا تعتبر جرائم في الحالات الطبيعية ، ولكن طالما أعدت للمقبوض عليه تهمة وفقا للقانون الطبيعي ، وجب أن تتعامل معه أيضا بالطرق الطبيعية ، والنيابة العامة وحدها هي صاحبة الحق في توجية الاتهام وليست الشرطة ، ثم أن النيابة تبني عقيدتها في توجية الاتهام بناء على النظر في أوراق القضية والتحقيقات التي تجريها مستقلة لتصل لتكوين رأي قانوني مع أو ضد المتهم دون أدنى تأثير عليها من الشرطة ، فهل حدث كل هذا مع رضا؟ أم إنهار نظام الدولة القانوني فتم القبض عليه بلا قانون لمدة لا يعلمها إلا الله في مكان غير معلوم من جهة مجهولة بتلفيق إتهام باطل ، فجمعت بذلك السلطة التنفيذية أو من قبض عليه في يده السلطات الثلاثة دون أدنى رقابة من سلطة على أخرى ، فانهار بذلك النظام السياسي ومبدأ الفصل بين السلطات فضلا عن النظام القانوني ، والذي قطعت الأوراق التي كتبت عليها موادة ووضعت في شراب وأحكم غلقه بالخيوط ليصبح كرة (شراب) يلعب بها أفراد السلطة التنفيذية وتوزع الأدوار عليهم في ملعب الحياة كل بحسب رتبته.
إنهيار حق الشعب في حريته مع سلب إرادة التغيير لديه يجعل كل شيء ينهار بدأ من الذوق العام إلي الأخلاق العامة مرورا بالأهداف العامة ، فالشعب بعد أن كانت تطربه (الست) أصبح يطرب بشعبولا ، والشوارع بعدما كانت نظيفة أصبحت مقالب للقمامة ، ومناظر العمارات بعدما كانت تنم عن ذوق ورقي ، أصبحت مرتفعات من الطوب الأحمر لا ذوق فيها ولا رقي ، والشباب بدلا من المدارس والأقلام أصبحت الغرز والشيش ، وبدلا من سندوتش الفول أو الكبدة أو قطعة الأيس كريم أصبحت لفة البانجو أو حباية أبو صليبة ، كل شيء إنهار في فرط نهار أسود من الليل البهيم
وأخيرا فيحق لي أن أتسائل ، متى نعود لنظرية سيادة الشعب والتي إشتق منها دستور 71 مواده بدلا من نظرية سيادة الأمة والتي تم العمل بها في زمن الثورة؟ متى نرى يافطة الشرطة في خدمة الشعب تعود لتزين واجهات الأقسام والنقط والمخافر بدلا من الشرطة في خدمة الحق ، أو اليافطة القميئة التي تقول الشرطة والشعب في خدمة القانون؟ متى تحترم الشرطة القانون؟ متى تحترم الشرطة أفراد الشعب؟ متى لا يكون القبض على الناس عشوائيا؟ متى يعود للشعب ذوقه الذي فقده فتطربه أغاني أم كلثوم بدلا من شعبولا؟ ويشبعه سندوتش الفول بدلا من لفة البانجو؟ متى يعود لبلدي التي أحبها وأتغزل في جمالها شبابها الذي فقدته؟
أرجوا الإجابة من كل من يعرف متى؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

اجمالي القراءات 14697