تمحيص نظرية النظام القرءاني عند النيلي – تمهيد

محمود دويكات في الأحد ٢٣ - نوفمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

بسم الله سبحانه ؛ سنتكلم عن منهج ٍ ادعاه البحـّاثة عالم سبيط النيلي – الرحمة نسألها له من الله سبحانه - في فهم القرءان الكريم. ويقول أن هذا المنهج إنما هو حتمية لمبدأ أعم و أشمل يطلق عليه النيلي "مبدأ القصدية". و قد وضع النيلي أولا كتاب "اللغة الموحدة" و فيه حاول إنشاء و ترسيخ مبدأ القصدية في اللغة كمناقض لما يعتقد أنه "اعتباطية" في اللغة، و من ثم ذهب الى القول أن مبدأ القصدية هذا لهو أعم و أشمل من مجرد قصره على اللغة ، و إن أسسه موجودة في القرءان على شكل منهج ننظامي ، و قام – عليه رحمة من الله – يتدبر القرءان باحثا وراء أسس و قواعد هذا المنهج ، فجاءت ثمرة أبحاثه مرتبة ً و مقـنّـنة ً في كتاب "النظام القرءاني". و كتاب النظام القرءاني يحتوي الكثير من القواعد الصارمة و الاسس المنهجية و فيه يعتمد الكاتب كثيرا على نتائج أبحاثه في كتابه الأسبق "اللغة الموحدة".
و قد قرأت و ما زلت أقرأ و أعتقد أني سأظل أقرأ كتاب النظام القرءاني فوجدت فيه بعضا من القواعد المقاربة لما كنت أفكر انا به شخصيا – من هندسة القرءان - و إن كان على مستوى آخر أكثر التصاقا باللغة منه الى التجريد الهندسي. و هذا طبيعي لأن سبيط النيلي قد بدأ مشواره من اللغة فوحّدها (حسب ما يظن) ، فجمع زاده منها وانطلق على إثرها لفهم اللسان القرءاني بناءً على نظرياته السابقة في توحيد اللغة. و بالتالي جاءت القواعد التي تشكل في مجملها النظام القرءاني ، حسب ما يراه النيلي ، قائمة ً على أسس ٍ في معظمها لغوية . و بسبب هذا التقارب الذي شد انتباهي جدا في واقع الامر ، سأحاول أن أشرككم أخوتي في الله هنا في قراءتي لما يطرحه هذا الباحث (نطلب له من الله الرحمه) ، و أن نقوم متفكرين معاً لهذه القواعد وبالتحديد الاسس النظرية ورائها ـ لعل و عسى أن يهدينا ربنا الى أقرب مما هدى ذلك الباحث ، بأن نضيف المزيد فنتوسع بها ، أو نتخذ بعض اسسها النظرية مطيّة نتوجّه بها الى ميدان جديد من ميادين تدبر القرءان العظيم.

في محاضرة علنية له ، يذكر النيلي هذا المثال:" إذا حاولنا تتبع آراء السلف في معنى كلمة "سِجّين" ( في قوله تعالى: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) مطففين:7، فإن الاراء ستختلف كالاتي؛ قال مجاهد: سجين صخرة في الارض السابعة ، و أيّده الضحّاك. و قال أبو عبيدة: سجّين شديد متعب. قال الطوسي السجّين من السجن على التركيب من مثل شرّيب من الشرب. و قال غيرهم سجين هي جهنم ، و قال آخرون: سجين هي وادٍ أو جرف في جهنم. هنا نجد عدة آراء لكلمة واحدة. كل ما يريد أن يقوله الحل القصدي للغة أن النص عرّف سجين في نفس النسق ، بل و تساءل عنه عالماً بأن المتلقي لا يعلم ما هو فقال (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ) مطففين:8-9 " إ.هـ. في هذا المثال ، يطرح النيلي فكرته بمثال بسيط جدا لتبيان الفكرة (و لكن ليس تفاصيلها طبعا) . المثال يبين مدى الاختلافات التي منشأها الابتعاد عن النص نفسه أو عدم الرجوع الى النص بشكل سليم. و هذه الاختلافات (حسب ما يرى) هي نتيجة حتمية لعدم الاعتماد على قواعد منهجية مشتقة من ذات النص (أي من القرءان) و تكون ملزمة للأطراف جميعها ، فغياب تلك القواعد جعل الاراء تميل يمنة و يسرة تتجاذبها الافكار المسبقة و الخبرات الشخصية لمن ألقى الرأي. إن هذه التلاطمات في الاراء هي من أحد الاسباب التي دفعت النيلي الى تطبيق القصدية على كتاب الله للخروج منه بقواعد تضمن تقليل مثل تلك التضاربات في الاراء حيال تفسير جزء من القرءان ، و قد أطلق على هذه القواعد نظاما لأنه اعتقد أن هناك مايجمعها في اتجاه واحد يؤدي الغرض المنشود.
إن قواعد النظام القرءاني (كما وضعها النيلي) قائمة في مجملها على مبدأ القصدية ، و شرح مبدأ القصدية تنوء به كتبٌ و مجلداتٌ ، و هو (أي المبدأ بمختلف المسميات ) في الواقع يشكل فلسفة و دعامة عميقة في العلوم الطبيعية ، و إن كانت العلوم الإنسانية و الرياضية بعيدة بعض الشيء عنه. و بالرغم من ضخامة وأهمية المبدأ ، فلم أجد اهتماما يليق به (أي بالموضوع) في الاتجاهات البحثية بشكل عام، و لعل ذلك مرجعه الى المستوى التجريدي العميق للمبدأ و الذي يجعل الناس يعجزون عن فهمه فهماً حقيقيا ، بل تجدهم يفهمون القشور السطحية للمبدأ ببراءة أو لنقل بسذاجة في بعض الأحيان، مما يجعل محاولاتهم اللاحقة لتطبيقه محاولاتٍ تبوء إما بالفشل أو بالولادة المتعسرة لنتائج غير مقنعه لأصحابها ، فتجد الناس قد أحجموا عن الاخذ به (أي المبدأ). إن تناثر مبدأ القصدية تحت مسميات عديدة يجعل إحكام القبضة عليه من ضرب الخيال للكثيرين ، خاصة أن وضوح مبدأ القصدية (إن كان موجودا أصلا) في الرياضيات أقل بكثير مما هو الحال في العلوم الطبيعية. و السبب لذلك يطول شرحه و لكن يمكن اختصار ذلك بقولنا آن الرياضيات هي في أصلها أداة تجريدية يستخدمها الانسان لفهم حقائق و ظواهر الكون ، وأما العلوم الطبيعية فهي في أصلها تفسير يطرحه الانسان لفهم تلك الظواهر ، فتسد مسد تلك الظواهر بشكل أو بآخر. و بالتالي فإن مبدأ "القصدية" في الرياضيات يعود بطريقة أو بأخرى الى الانسان ذاته ، أما في العلوم الطبيعية فيمكن الجدل أن القصدية تعود الى الظواهر ذاتها التي هي في الأصل مستقلة عن الوجود الانساني (بغض النظر عن وجود أو عدم وجود إله). إذا فهمنا هذا فإننا ندرك أيضا لماذا لا يظهر مبدأ القصدية في العلوم الانسانية ، و ذلك لأنه يمكن الجدل أن العلوم الانسانية يتدخل فيها الانسان بشكل سافر مما يجعل فكرة القصدية غير ظاهرة بتاتا فيها ، و ليست ذات معنى مستساغ لدى الكثيرين.
في دراستنا هذه و التي ستمتد على مدار حلقات ، نحاول المضي قدماً في تحليل هل ينطبق مبدأ القصدية في كتاب الله أم لا ، و ما علاقة ذلك الذي أتي به الاستاذ الباحث النيلي مع المبدأ العام الذي يحكم الظواهر الطبيعية في هذا الكون، و ما علاقته بهندسة القرءان كما أتخيلها أنا. و من خلال هذه الدراسة سأتـّخذ من كتاب النظام القرءاني للنيلي معيناً لي على المضي قدما في بحث و تمحيص مبدأ القصدية كما طرحه هو و كما هو موجود تحت مسميات مختلفة في العلوم الأخرى. و لكن قبل كل هذا يستوجب علي هنا أن أبين ما هو المقصود بهذا المبدأ ،و هذا ما سأفعله إن شاء الله في الحلقة التالية. و أنا أعترف هنا أني أطرح ما فهمته شخصيا عن المبدأ و ما استطعت ربطه ما بين المبدأ و ما ألفته من علوم و معارف مختزنة في ذهني ، و هذا أمر طبيعي ، فكل إنسان عندما يطرح فكرة معينة (أو ينقلها عن أحد ما ) فإنه لا بدّ وأن يضيف إليها أو يغير فيها بقدرٍ ما يـُشرك فيها من خبراته السابقة، إلا إذا كان ذلك الانسانُ مجردَ ناسخ ٍ و ناقل ٍ لتلك الفكرة بمفرداتها فحسب ، و هذا ما لا أفعله هنا. أقول هذا الكلام لكي يعلم القاريء أن مسألة نقاء الفكرة أمر متعسر ، خاصة إن كانت فكرة فلسفية نوعا ما. و لهذا السبب أميل كل الميل نحو دفع مبدأ القصدية نحو منهج هندسي كمّي ، يمكن فيه قياس كميات معينة رقميا أو هندسيا و يتم الاتفاق عليها لتمثيل مقاييس معينة من الترابط ما بين المفاهيم المختلفة في القرءان ، و هذا الطرح يختلف في ظاهره عن طرح النيلي ، و لكنه في الجوهر لا أظن أنه يختلف إختلافا كثيرا مع ما يقوله هو عن القصدية.
سيكون (إن شاء الله تعالى ) عرضي للنظرية و تطبيقاتها موزعا على مدار حلقات، و في كل حلقة سأحرص على أن لا أرهق القاريء بتفاصيل كثيرة ، و السبب هو لضمان إيصال المنشود و ضمان فهمه (من قبلي و قبل القراء) ، و ستكون الخطة بأن أسير في كتاب النظام القرءاني للنيلي رحمه الله ، و من ثم التعليق على أفكاره أو توضيحها (إن استطعت الى ذلك سبيلا) و من ثم نحاول ان نرى هل ما يقوله فعلا يؤدي الغرض من توحيد الاراء و الافكار في اتجاه واحد هو أقرب الى المنطق و الحق. فنرجو من الله أن يكون لنا معينا في هذا الاتجاه ، و أن يوفر لنا و أخوتنا هنا وقتاً نتدارس فيه مثل هكذا أفكار لطيفة و دقيقة و خطرة في آن واحد.

اجمالي القراءات 10968