ستون عاماً على الإعلان العالمى من ميت أبو حريز إلى الرياض ودمشق وكوبن
ستون عاماً على الإعلان العالمى من ميت أبو حريز إلى الرياض ودمشق وكوبن

سعد الدين ابراهيم في السبت ٢٢ - نوفمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

يحتفل العالم هذه الأيام بمرور ستين عاماً على صدور «الإعلان العالمى لحقوق الإنسان» (١٠ ديسمبر ١٩٤٨)، وهو الوثيقة التى صاغتها لجنة من الشخصيات الدولية العامة، برئاسة قرينة الرئيس الأمريكى الأسبق والأشهر فى القرن العشرين، وهى اليانور روزفلت.

 والذى لا يعرفه كثيرون من قرائنا العرب، هو أن أهم شخصيتين فى تلك اللجنة مع السيدة اليانور كانا عربيين، وهما القانونى المصرى، مندوب مصر فى الأمم المتحدة وهو الدكتور محمود عزمى، وأستاذ الفلسفة &Ccede; اللبنانى ووزير خارجيتها فيما بعد د. شارل مالك.

تذكرت هذا التاريخ العربى المجيد فى مجال حقوق الإنسان، أثناء مداولات لجنة مشابهة، كوّنتها الأمم المتحدة، برئاسة السيدة مارى روبنسون، رئيسة جمهورية أيرلندا السابقة، وأول مُفوضة لحقوق الإنسان فى الأمم المتحدة (١٩٩٨-٢٠٠٣).

 وتشرفت حينما تم اختيارى عضواً ضمن أعضائها العشرة ـ ممثلاً غير حكومى عن العالم العربي. وأنا الوحيد من أعضاء اللجنة الذى لم يكن رئيساً سابقاً للجمهورية أو للوزراء، أو حتى وزيراً سابقاً فى بلاده ـ مثلما هو الحال مع بقية أعضاء «اللجنة السامية لحقوق الإنسان».

 كما تأثرت كثيراً لهذا الاختيار، الذى تزامن مع صدور حكم من محكمة جنح الخليفة بإدانتى وسجنى سنتين وتغريمى عشرة آلاف جنيه بتهمة الإساءة لسمعة مصر فى الخارج (٢/٨/٢٠٠٨)، أما دليل الإدانة، الذى استند إليه القاضى فهو مقال لى نُشر فى صحيفة «الواشنطن بوست»، يوم ٢١ أغسطس ٢٠٠٧، أى قبل صدورالحكم بسجنى بسنة. وكان عنوان المقال «قهر فى مصر بلا حدود». (Egypt,s unchecked Repression).

 وقد بدأ المقال بسرد أشهر حالات «الاختفاء القسرى»، حيث اختفى أشخاص من بيوتهم أو من الشارع لعدة أيام، تمتد لعدة أسابيع، ثم لعدة شهور، ثم لعدة سنوات. ولا يعلم ذووهم عنهم شيئاً، ولا إذا كانوا أحياءً أو أمواتاً. فإذا كانوا أحياء فلماذا لا تُفصح السلطات المسؤولة عن أماكنهم، وأسباب حبسهم، ومتى تقدمهم لسلطات التحقيق أو المحاكمة، إذا كانوا قد اقترفوا أفعالاً أو جرائم، يُعاقب عليها القانون.

وإذا لم يكن هناك ما يستوجب التحقيق أو المحاكمة، فلماذا لا تُفرج عنهم هذه السلطات. وذكرنا على سبيل المثال لا الحصر حالتى الصحفى المصرى، رضا هلال، نائب رئيس تحرير الأهرام، والمُعارض الليبى ووزير الخارجية الأسبق السيد منصور الكيخيا، الذى اختطف من أمام فندق سفير بالدقي.

ولم ترد السلطات المصرية على ما سردناه من وقائع موثقة بالأمكنة والأزمنة. ولكنها اختارت أن توجه لى اتهامات متعددة، رفع أعضاء فى الحزب الوطنى بالجيزة، ومن أعضائه فى مجلس الشورى، بشأنها ما وصل عدده إلى ٢١ قضية، منها تلك التى أشرنا إليها أعلاه.

لقد تذكرت هذا كله وأنا أشارك فى إحدى جلسات اللجنة السامية لإحياء ذكرى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، ولسان حالى ينعى تدهور الأحوال فى مصر خلال العقود الستة التالية لصدور الإعلان، والذى صدّقت عليه مصر رسمياً، وأصبح بذلك جزءاً لا يتجزأ من المنظومة القانونية الوطنية لمصر.

ولكن القاضى بمحكمة جنح الخليفة، ربما لم يسمع بالإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وربما لم يدرس، أو درس ونسى ما درسه فى مادة القانون الدولى بكلية الحقوق. وإلا لما أصدر ذلك الحكم، الذى يُعاقب إنساناً على «رأيه».

بعد اجتماعات اللجنة السامية لإحياء ذكرى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان بجنيف، توجهت إلى العاصمة القطرية الدوحة لإلقاء محاضرة عن حالة حقوق الإنسان فى الوطن العربى (٩/١١/٢٠٠٨) وللمشاركة فى احتفالات العيد الخامس لإنشاء اللجنة الوطنية القطرية لحقوق الإنسان.

 وما إن انتهيت من إلقاء المحاضرة، والرد على أسئلة المشاركين فى الاحتفالية، والتى نقلتها «قناة الجزيرة مباشرة»، حتى انهالت عليّ الرسائل والتقارير من بلدان عربية، تحكى كل منها شكاوى ووقائع عن انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان:

* من ذلك ما ورد من مواطنين سعوديين يحتجون على احتجاز عدد من نشطاء حقوق الإنسان، معظمهم أساتذة جامعيون ـ منهم د. محمد فهد القحطانى، ود. عبد الكريم يوسف الأخضر، وأيمن محمد الرشيد، ود. عبد الرحمن حامد الحامد، وعبد المحسن العايش، وعبد الله محمد الزهرانى، وآخرون.

ورغم مرور ما يقرب من سنة على اعتقالهم، لم توجه إليهم تهم، ولم يقدموا للمحاكمة، رغم إلحاحهم وإلحاح ذويهم، على ذلك. وقد بدأ خمسون مثقفاً سعودياً إضراباً عن الطعام يوم الخميس ٦/١١، تضامناً مع المطالب العادلة لزملائهم المعتقلين.

وسرعان ما انضم إليهم أكثر من مائة آخرين، وفى اليوم التالى وصل عدد المتضامنين السعوديين المُضربين أكثر من خمسمائة... اعتصموا فى بيوتهم، ولكنهم أعلنوا عن هذا التضامن بكل وسائل الإعلام الإلكترونية. وبدورها تجاوبت معهم المنظمات الحقوقية العالمية.

 وتقود الناشطة الحقوقية إيما بونينو، وكيلة مجلس الشيوخ الإيطالى، وعضو البرلمان الأوروبى حملة التضامن مع النشطاء السعوديين، والذين حرصوا بدورهم على تفادى أى مواجهات عنيفة مع قوات الشرطة أو الأمن السعودية. ويبدو أن النشطاء السعوديين قد وقفوا هذه الوقفة التضامنية مع زيارة العاهل السعودى، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، لنيويورك لحضور دورة خاصة عن «التسامح الدينى».

 وكتبت «النيويورك تايمز» (١٢/١١/٢٠٠٨) تنتقد العاهل السعودى والممارسات الوهابية، التى لا تتسامح مع المذاهب والطوائف الأخرى، حتى الإسلامية منها، فضلاً عن عدم تسامحها مع حرية الرأى والتعبير للمدنيين، مثل د. متروك الفالح وزملائه، من دعاة الإصلاح السياسى والاجتماعى فى المملكة. وبعد الدوحة وجنيف توجهت إلى كوبنهاجن، لحضور احتفالية منحى جائزة الدنمارك للحرية.

 وهى جائزة حديثة نسبياً، تحاول بها الدنمارك، أن تُحاكى شقيقتيها الإسكندنافيتين، السويد والنرويج، اللتين تشتركان معاً فى منح جوائز نوبل، منذ ما يقرب من مائة عام. وتُمنح جائزة الدنمارك للحرية لأحد الشخصيات أو المؤسسات التى عُرف عنها التفانى من أجل الدفاع عن الحريات الأساسية، فى مواجهة احتلال أجنبى غاشم أو مُستبد داخلى ظالم. ورغم أن هذه هى الجائزة الحادية والعشرون التى أحصل عليها فى حياتى العامة، إلا أنها كانت بالنسبة لى الأكثر حيرة وتردداً.

 فمنذ ثلاث سنوات انفجرت أزمة بين الدنمارك ومعظم بلداننا العربية والإسلامية بسبب رسوم كاريكاتيرية نشرتها صحيفة «يولاندز بوسطن»، مُسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ورفضت حكومة الدنمارك الاعتذار عنها، بحجة أن الحكومة نفسها لم تُسئ إلى الرسول، وأنها ليست مسؤولة عما تنشره الصحف، وأن على المتضرر أن يذهب للقضاء الدنماركى أو الدولى.

ولأن الجائزة كانت غير حكومية، ومن جهات أهلية استنكرت فى نفسها، ما كانت فعلته صحيفة يولاندز بوسطن، فقد قرّرت فى النهاية قبول الجائزة، وانتهزت الفرصة فى أربع مناسبات عامة تحدثت فيها من خلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة أن أشرح أسباب الغضب فى الشارع المسلم، وأهمية الموازنة بين قيمة الحرية التى يُقدسها الدنماركيون والقيم الدينية والروحية التى يعتزّ بها المسلمون.

وأثناء وجودى فى الدنمارك تواردت أخبار انتهاكات فادحة وفاضحة لحقوق الإنسان مجدداً فى كل من مصر وسوريا. وكان مسرح الانتهاك فى مصر هذه المرة، هو قرية، ربما لم يسمع بها أحد إلا أهلها وجيرانهم، وهى قرية ميت أبو حريز، مركز كفر صقر بمحافظة الشرقية.

 فقد اختطفت أجهزة أمن الدولة أحد أبنائها، وهو مُدرس أزهرى اسمه رضا عبد الرحمن، لأنه صاحب اجتهادات دينية يُفصح عنها كتابة، ويختلف معه فيها البعض من ذوى الصلة الوثيقة بالأجهزة الأمنية.

 ورغم أن واقعة الاختطاف أو القبض عليه تمت من بيته، وأمام أهله وأبناء قريته، إلا أن من فعلوا ذلك رفضوا الإفصاح عن مكان احتجازه، أو توجيه أى تهم له، أو إحالته إلى القضاء، رغم عدة بلاغات قدمها محامون بالنيابة عنه.

وقد تصدى المركز المصرى للدفاع عن الحريات الشخصية لقضية رضا عبد الرحمن من البداية. ولكن بعد ما يقرب من ثلاثة أسابيع دون جدوى، بدأ المركز فى نقل القضية إلى المحافل الدولية. وترددت أصداؤها فى الدنمارك، ولندن، وجنيف، وواشنطن.

وتضاعفت الاهتمامات الحقوقية بها حينما تعرضت عدة سيدات وبنات من أقرباء رضا عبد الرحمن للضرب والتنكيل على أيدى رجال الأمن، حال توجههن إلى دار القضاء العالى ليطلبن من النائب العام معرفة مصير رضا عبد الرحمن. وهو ما وثّقته الصحفية ماجدة سالم وزميلها المصور ياسر عبدالله. وسرت إشاعات عن احتمال وفاة رضا عبد الرحمن تحت التعذيب. وهو ما لم ينفه أو يؤكده أى مسؤول مصرى إلى تاريخه. أى أننا بصدد حالة مشابهة لحالتى الصحفى رضا هلال، والمُعارض الليبى منصور الكيخيا.

ولا يختلف الوضع كثيراً فى سوريا عنه فى شقيقتيها مصر والسعودية. فقد لاحقتنى فى العواصم الأوروبية أيضاً حالة المهندس السورى على مصطفى الدالاتى بالسجن ستة أشهر بواسطة القاضى العسكرى بتهمة «النيل من هيبة الدولة، والانتساب إلى تنظيم محظور، هو: لجنة الحوار الوطنى الديمقراطى»، فى الزبدانى، من أرياف دمشق.

 وهكذا فإن المشترك بين انتهاكات حقوق الإنسان فى البلدان الثلاثة هو قضايا الرأى والضمير.

 ولأننى الوجه العربى الوحيد فى اللجنة الدولية السامية للاحتفال بالذكرى الستينية للإعلان العالمى لحقوق الإنسان، فإننى أتوسل للحكومة العربية أن توقف التعذيب والسجن لأصحاب الرأى، وأن تُفرج عن المحبوس منهم، ولو لعدة شهور، ولو عملاً بالقول المأثور «إذا بُليتم فاستتروا».

اجمالي القراءات 12831