التخلف وثقافة التنمية
التخلف وثقافة التنمية

كمال غبريال في الأربعاء ٢٩ - أكتوبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

(1/2)

حالة التخلف الشامل الذي يصم جميع مناحي الحياة في منطقة الشرق، وفي القلب منها مصر، المنسوب لها أولى خطوات الإنسان على طريق الحضارة الإنسانية، والتي يُدرَّس تاريخها الحضاري للأجيال في كافة مراكز الحضارة العالمية المعاصرة.. هذه الحالة من الفشل المؤدي للتخلف، ليست صخرة صماء، سقطت على المنطقة من الفضاء الكوني، لتحكم على شعوب المنطقة بأن تكون حياتها عبئاً وبيلاً على أصحابها، وعقبة كأداء في طريق الحضارة الإن&Oacuting;نسانية وروادها، إنما ترجع لمجموعة عوامل، تضرب بجذورها في ثقافة شعوب المنطقة، لتثمر تركيبة سيكولوجية، وعادات وتقاليد، وقيماً تأخذ شكل مبادئ وثوابت، تشكل هوية هذه الشعوب، التي تتمسك بها تمسكها بالحياة ذاتها بل ويزيد، فتنتحر أو تدفع نفسها في طريق الانتحار، حفاظاً عليها، ومنافحة عنها، باعتبارها قوام وجودها ذاته، والذي صار الآن كما ترى تلك الشعوب، مستهدفاً في عصر العولمة، ومهدداً بالمحو والاستئصال.
الجميع داخل محيط التخلف هذا، ناقم على النتائج النهائية المتحققة في جميع مجالات الحياة، والشعوب تنسب الفشل إلى الحكام المستبدين والفاسدين، والحكام ينسبونه للشعوب، التي حاقت بها لعنة التخلف القدرية، والطرفان يشتركان معاً، في اتهام مؤامرات خارجية، تحيكها قوى هيمنة عالمية أسطورية القدرات، يلبسونها أزياء متنوعة، ويطلقون عليها مسميات شتى، فتارة هي قوى الإمبريالية، وتارة أخرى هي الصهيونية العالمية، أو الهيمنة الأمريكية، وقد يحلو للبعض توصيفها بالرأسمالية أو العولمة المتوحشة، حيث الوحوش بحاجة دائمة إلى فرائس، ومن يكون غيرنا فرائس طرية ولذيذة الطعم في أفواه تلك الكواسر العالمية النهمة؟!
تتعد التسميات وتتنوع الاتهامات، لتلك الشماعة الحاضرة دوماً، لنلقي عليها بفشلنا، ونتخفف عن طريقها من عبء مسئوليتنا تجاه أنفسنا، وتجاه مستقبل أولادنا وأحفادنا، بأن صنفنا أنفسنا، كدمية في أياد شريرة، تحركنا كيفما شاءت.
لا نزعم للثقافة والفكر عموماً دوراً مركزياً ووحيداً، في توجيه الممارسات العملية للإنسان، بل ربما كنا أقرب للاعتقاد بأن الفكر تال على الفعل، فليس من الصحيح أنه "في البدء كانت الكلمة" بمعنى الفكرة، وإنما الصحيح هو القول "في البدء كان الفعل"، ليأتي الفكر بعد ذلك كترجمة للفعل، ثم يلعب دور المطور له، وقد لا يتعدى دور المبرر له، فكثيراً ما احترف الفلاسفة والخطباء، تبرير تصرفات الحكام، سواء باختلاق نظريات جديدة، تؤيد ما ذهب إليه الأباطرة والحكام، أو استخدام نظرياتهم الأصيلة، ولو بلي عنقها، لتصبح في خدمة صاحب السيف، وليس بعيداً ما أعلنه هيجل من أن الدولة البروسية، هي المحققة لمثاله الكامل الذي يسعى إليه جدل المتناقضات، ثم تأييد الفليسوف الوجودي مارتن هيدجر للنازي، واعتباره تحقيقاً للوجود الأصيل.
مع ذلك يبقى للفكر دوره في توجيه الإنسان، بالتوازي مع سائر العوامل الأخرى، وعلى رأسها الخبرات العملية، وما تمليه الضرورات والاحتياجات الحياتية. . عندما يتواكب الفكر مع هذه العوامل، ويعمل في اتجاهها، فإنه بقدراته الإبداعية، يكون بمثابة قاطرة للإنسان، تدفعه نحو تحقيق المصلحة، التي فيما نحن بصدده، هي التنمية، لكن إذا ما كان الفكر، لأسباب عديدة، متخلفاً عن الواقع بدرجة كبيرة، كما هو حادث الآن في شرقنا، فإن الفكر يقوم بكبح جماح سعي الإنسان وفقاً لسائرالعوامل الأخرى، وفي مقدمتها الضرورة العملية، ولا ينجح الفكر المتخلف في أغلب الحالات على إجبار معتنقه على تغيير اتجاهه كاملاً، فيتجه مثلاً إلى الخلف، بدلاً من التقدم للأمام، قياساً على مسيرة الإنسان الحضارية، لكن ما يحدث على الأقل هو أن يصير الفكر عبئاً على سائرالعوامل الدافعة لتقدم الإنسان، ولنا أن نتخيل الفرق بين شخصين، كلاهما يتقدم للأمام، لكن أحدهما يدفعه فكره إلى الأمام، والآخر يعمل فكره على إعادته للخلف، لكنه للضرورات العملية، يجاهد ليبقى سائراً في طريقه واتجاهه، لكن ببطء وصعوبة بالغة. . يكاد يكون هذا هو حال شعوبنا، التي تعمل ثقافتها كمكابح لمحاولاتها اللحاق بالإنسانية وحضارتها، فتأتي خطواتها بطيئة ومتعثرة، حتى لتخال أنها واقفة مكانها، أو حتى تتقهقر للوراء!!
لا أحد يفكر أو يرغب أو يجرؤ، على الاقتراب من البنية التحتية للتخلف، والتي تفرز مضادات للحداثة والتنمية في مختلف المجالات، اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، وهي التقسيمات والتسميات المتعددة، لسلسلة واحدة مترابطة الحلقات، لابد أن تتحرك معاً صعوداً أو هبوطاً، ومن العبث إسناد دور القاطرة لأي منها منفردة، على أمل أن تقوم بسحب الباقين، أو التأثير على سائر المجالات، التي لابد أن تلعب في هذه الحالة دور المسحوب أو المجرور.
فلا يمكننا إسناد دور القاطرة للتنمية السياسية، بالقول بأسبقية الديموقراطية وتدوال السلطة والشفافية مثلاً، كشرط أولي يدفع للتنمية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فالحديث عن التنمية السياسية يكون بمثابة اللهو الفارغ، والتسلي بمقارعة طواحين الهواء، وسط حالة ترد اقتصادي واجتماعي وثقافي، لا يمكن بأي حال أن يكون حاضنة لحالة سياسية صحية، ونفس هذا يقال إذا ما أردنا أن نعطي الأسبقية وقيادة التنمية والتطوير للمجال الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، فلن يؤدي بنا البحث فوق سطح الأرض في هذا المجال أو ذاك إلى أي نتيجة حقيقية قادرة على الدوام والتطور، مادامت تلك الأوجه المختلفة، ما هي إلا مجرد ثمار للجذور الضاربة في أعماق بنية إنسان هذه المنطقة، والتي هي مجموعة ما نعرفه بالقيم والثوابت الأساسية، التي تشكل نظرة الإنسان لنفسه وللوجود بعامة، فيرى من خلالها مقومات وجوده، كذا وجود الآخرين، ويحدد بناء عليها موقفه منهم، كما تحدد تلك العوامل له الطريق الذي سيسلكه لتحقيق ذاته، وحفظ وجوده، كما تحدد له غاياته وأولوياته، ووسائل تحقيقها وإشباعها.
يحتاج البحث والتنقيب في العمق، عن ما اعتبرناه جذور التخلف، المطلوب اقتلاعها واستبدالها بأخرى، تثمر حداثة وتنمية، إلى دراسات علمية جادة ومتخصصة وشجاعة، لا تتردد في اختراق الطابوهات والمسلمات بمختلف أنواعها، سياسية ودينية وثقافية، ولا بأس هنا أن نغامر بطرح بعض ما نراه عوامل تخلف، ولو كمجرد بادرة لإثارة الجدل حول الموضوع، ولحين قيام العلماء والمتخصصين في مختلف المجالات، بتناول الأمر برصانة علمية، هذا بالطبع إذا ما توفرت الإرادة والشجاعة، والرغبة الصادقة في اقتحام المسكوت عنه، والمتغلغل في وعينا ولا وعينا، سعياً لإحداث تغيير حقيقي في حياتنا الراكدة والفاشلة.
في معرض الفكر الديني السائد بالشرق، نجد مفهوم "الرزق"، والذي هو قاسم مشترك بين أتباع الديانات الشرقية الإبراهيمية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، والذي يطغى في عقلية الإنسان الشرقي، على مفاهيم أخرى تتضمنها مقولات تلك الديانات ذاتها، وتجعل كسب عيش الإنسان مرهوناً بسعيه وكده في الأرض، بعكس مفهوم "الرزق"، الذي يجعل منه هبة محددة ومقررة سلفاً، تهبط على الإنسان من السماء، كما لو مقررات تموينية حكومية، تصرفها له السماء وفقاً لسجلاتها. . يزيح مفهوم "الرزق" بهذه الكيفية ما عداه من مفاهيم إلى الخلفية، فتأخذ مفاهيم السعي والكد في الحياة، شكل وصايا تكميلية ثانوية، قد يلتزم بها المرء، وقد لا يلتزم، دون أن يؤثر ذلك على النتيجة النهائية، التي هي حصوله اليقيني على ما هو مقرر له. . ونجد تجسيداً لتلك الفلسفة في العقلية الجمعية للشعوب، مثلاً شعبياً يقول: "اجري يا بني آدم جري الوحوش، غير رزقك لم تحوش"، وهي الحكمة التي تقول صراحة بعدم جدوى السعي والاجتهاد في الأرض، بل وتضع هذا السعي في تصنيف محاولة تحدي الإرادة العلوية، التي حددت الرزق بمقدار، غير قابل للزيادة أو النقصان.
ورغم تناقض هذا المفهوم "للرزق" مع وصايا أخرى يتضمنها الخطاب الديني والنصوص المقدسة للأديان الكبرى بالمنطقة، ومع الخبرات العملية الحياتية للإنسان، والتي تشير دائماً إلى أن من لا يسعى ويجتهد، ليس أمامه إلا التسول أو الموت جوعاً، إلا أن بقاء مفهوم "الرزق" بالصورة الشائعة له في المقدمة من مخيلة الإنسان، وإزاحته لما عداه للخلفية، يجعل قيمة "العمل" غائبة أو غائمة في ذهن الفرد، وتغيب معها أهمية اكتساب الإنسان لمهارات ومعارف، تعينه على تدعيم قدراته على بذل الجهد المثمر، في سعيه لكسب عيشه، لنرى ثمار تلك الحالة مجسدة، في عدم الإخلاص في الدرس وتحصيل العلم لدى الشباب، الذين حين يخرجون بعدها إلى مجال العمل، يمارسونه كضريبة أو جباية ثقيلة الوطء على نفوسهم، يحاولون الخلاص منها بأي وسيلة، أو التظاهر بأدائها كيفما اتفق، وتتشكل سيكلوجيتهم على عدم احترام قيمة "العمل"، والافتقاد من الأساس إلى معرفة قيم مثل "الكفاءة الشخصية" و"الجودة في الأداء"، والحرص على "جودة الإنتاج"، وهي المفاهيم التي من المفترض أن يحرص الأفراد على التحلي والتفاخر بها، واعتبار امتلاكها من قبيل مجالات "إثبات الذات"، الذي هو المحور الذي يدور حوله سعي كل إنسان، بعد مسألة توفير مقومات حياته الأساسية. . لكن الحادث في حالتنا الراهنة، أن "إثبات الذات" يتم باعتناق قيم عكسية، هي "الفهلوة" و"الأونطة" و"اللعب بالبيضة والحجر" وما شابه!!
نلتقي لتكملة هذا الاستعراض العام والسريع لمقومات التخلف في مقال تال

اجمالي القراءات 13879