مع حازم الببلاوى فى عمق الأزمة المالية
مع حازم الببلاوى فى عمق الأزمة المالية

سعد الدين ابراهيم في الإثنين ٢٧ - أكتوبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

قضيت عدة أيام فى منتصف شهر أكتوبر ٢٠٠٨ بدولة الإمارات العربية المتحدة، بمناسبة مشاركتى فى «منتدى المستقبل»، الذى استحدثته مجموعة الدول الثمانى الصناعية الكبرى عام ٢٠٠٤، على أمل مساعدة بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فى إنجاز تحول ديمقراطى وتنمية اقتصادية، تجنبها الوقوع فى براثن التطرف ومستنقع الإرهاب.

 والفريد فى هذا المنتدى أنه يضم ممثلى الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدنى. وكنت مُكلفاً فى هذه الدورة الخامسة للم&auilde;نتدى أن أقدم تقييماً عاماً لمسيرته - إنجازاً، وإخفاقاً وإحباطاً.

 وهو ما قمت به مع زملاء آخرين من الإمارات (ابتسام الكتبى)، والكويت (رولا دشتى)، واليمن (عز الدين الأصبحى)، وتونس (محسن مرزوقى)، ومصر (حافظ أبو سعدة).

 وهؤلاء جميعاً يمثلون منظمات للمجتمع المدنى العربى. وكانت فحوى تقييماتهم أن ثمة إنجازات متواضعة، وخيبات أمل عديدة، وإحباطات عميقة. فرغم الاستبشار بربيع للحرية فى العامين (٢٠٠٤-٢٠٠٥)، إلا أن الأعوام الثلاثة التالية (٢٠٠٦-٢٠٠٨) شهدت تراجعاً سريعاً، بعد أن أتت صناديق الانتخابات بحماس فى فلسطين وبثمانين عضواً من الإخوان المسلمين إلى مجلس الشعب فى مصر.

 وقد رد ممثلو الحكومات على هذه التقييمات (نائب وزيرة الخارجية الأمريكى نجرو بونتى والسفير المصرى رؤوف سعد)، وكالعادة فى مثل هذه المؤتمرات، فإن ما يحدث خارج القاعة الرسمية للمؤتمر، من أحاديث ومناقشات، يكون فى الغالب أهم وأعمق بكثير مما يحدث داخل القاعة.

ومن ذلك أننى التقيت على هامش المؤتمر، الاقتصادى المصرى النابه حازم الببلاوى، الذى تعود معرفتى به إلى ثلاثين عاماً ماضية، أيام كان يعمل فى الصناديق العربية بعد الطفرة النفطية الأولى، فى أعقاب حرب أكتوبر. وقد شاركنا معاً فى عدة مشروعات بحثية حول النظام العربى الجديد والاقتصاد السياسى المصاحب للأزمات العربية، والحروب الشرق أوسطية.

 وهو إلى جانب غزارة إنتاجه كمؤلف اقتصادي، فقد شغل عدة مواقع مؤسسية هامة. منها رئاسته لبنك تنمية الصادرات، وأمانته للجنة الاقتصادية الاجتماعية لغرب آسيا، فى بيروت. وهو يعمل حالياً كبير المستشارين لصندوق النقد العربى، فى أبوظبى.

ولا يقل تميز حازم الببلاوى فى شؤون الثقافة والسياسة والمجتمع عنه فى شؤون المال والاقتصاد، فهو فى هذه النواحى جميعاً ينطبق عليه بحق وصف «المثقف الموسوعى»، الأشبه بمفكرى عصر النهضة فى أوروبا.

 لذلك رحبت بدعوته الكريمة على الغداء فى مطعم هادئ، بعيداً عن قاعة المؤتمر. ولم تكن قد أتيحت لنا فرصة للتواصل المستفيض، منذ انتهت عضويته لمجلس أمناء ابن خلدون، مع انتقاله لبيروت (كأمين عام مساعد للأمم المتحدة) ثم لأبوظبى.

وكالعادة، بدأ حديثنا عن الشأن المصرى، ولماذا يستهدفنى النظام طوال عقد من الزمان، وما هو الثمن الذى أدفعه أنا من صحتى، ويدفعه النظام من سمعته، وتدفعه مصر من تعطيل وتشويه تطورها العام. وقد لاحظ هو من موقعه الإقليمى والدولى كيف «تتقزم« مصر شيئاً فشيئاً لا عالمياً فقط ولكن حتى عربياً وإفريقياً. وطبعاً كان أداء الوفد الرسمى فى المؤتمر الخامس لمنتدى المستقبل مصداقاً لملاحظة الاقتصادى النابه.

وانتهزت بدورى الفرصة لكى أتعلم من الدكتور حازم الببلاوى عن الجوانب التى يصعب على غير المتخصص الإلمام بها فى الأزمة المالية الحالية، والتى تهدد العالم كله بكساد مخيف، ربما لن يقل عن «الكساد الأعظم»، الذى بدأ بانهيار أسعار الأسهم والسندات فى بورصة نيويورك عام ١٩٢٩، والتى استمرت تداعياته إلى عام ١٩٣٦. وحيث تأثر العالم كله بتلك الأزمة.

واشتق الاقتصاديون مقولة إنه حينما تصاب أمريكا بالسُعال، يُصاب بقية العام كله بالبرد والأنفلونزا.

وسر هذا القول المأثور هو حجم وقوة الاقتصاد الأمريكي، حيث كان وحده فى ذلك الحين (ثلاثينيات القرن الماضى)، يعادل نصف مجمل الاقتصاد العالمى كله.

أما الآن فرغم أن الاقتصاد الأمريكى قد تناقص نسبياً إلى حوالى ربع الاقتصاد العالمى، إلا أنه «الربع« الأكثر حيوية وتأثيراً، حيث إنه يحتوى الجهاز العصبى المُحرك لهذا الاقتصاد، وهو مؤسسات الادخار والاستثمار واتخاذ القرار. فحتى إذا كانت اقتصاديات أخرى صاعدة، مثل الاقتصاد الأوروبى والصينى والروسى والهندى والبرازيلى فإنها جميعاً تضع فوائضها فى النظام المصرفى الأمريكى، للادخار والاستثمار المضمون.

على الأقل كان هذا هو الحال إلى الآن. وقد يُدهش الكثيرون إذا علموا أن الصين هى الأكثر حرصاً على إنقاذ المؤسسات المالية الأمريكية من الانهيار، حيث إن أرصدتها فى تلك المؤسسات تصل إلى مئات المليارات من الدولارات. بل لنفس السبب هى حريصة على أن تظل قيمة الدولار مرتفعة، حتى لا تتأثر هذه الأرصدة سلباً.

وطبقاً لهذه القراءة، فإن الدول الصناعية، منفردة ومجتمعة، قد هبّت لإنقاذ بنوكها من الإفلاس أو الإغلاق، وذلك بإيداع مليارات من الأموال الحكومية أو أموال التأمينات الاجتماعية فى هذه البنوك.

كما لجأت إلى طمأنة مواطنيها على مدخراتهم وحساباتهم فى البنوك، حتى لا يحدث مثلما حدث عام ١٩٢٩، حينما اندفع الناس إلى سحب أموالهم من البنوك عند أول علامة لتناقص أسعار الأسهم فى بورصتى نيويورك وشيكاغو، فتفاقمت الأزمة، وأعلنت عشرات البنوك إفلاسها وأقفلت مئات المصانع أبوابها.

إن تداخل وتشابك الاقتصاديات الوطنية فى نظام اقتصادى عالمى واحد ليس بالأمر الجديد، حيث إنه بدأ منذ ثلاثة قرون على الأقل. ولكن الجديد هو حجم البشر المشاركين فيه، كمدّخرين ومستهلكين ومسثمرين. وهذا ما يُطلق عليه المراقبون بظاهرة «العولمة».

 وقد ضاعف من حدتها ما صاحبها من ثورة الاتصالات والمعلومات. فأى فلاح مصرى فى أى قرية نائية يسمع أو يرى أو يقرأ ما يحدث فى أسواق المال، حتى وإن لم يفهم كل دقائقه. وهو نفسه أو أحد ذويه قد تعامل بالدولار، أو اليورو، أو الاسترليني، ولو مرة واحدة فى السنوات الأخيرة!

ولكن ما السبب المباشر لتلك الأزمة الطارئة؟

يقول د. حازم الببلاوى إنها بدأت من قطاع العقارات فى الولايات المتحدة، حيث إن جزءاً من «الحلم الأمريكى» أن يملك كل مواطن سكنه الخاص. وكانت الممارسة هى أن الراغبين فى ذلك يسددون ربع ثمن المنزل المرغوب على الأقل، ويقترض بقية الثمن من أحد البنوك، بضمان المنزل نفسه أو أى ممتلكات أخرى.

ثم يُسدد هذا القرض مع الفوائد على أقساط يتم الاتفاق عليها مع البنك، وقد تصل إلى عشرين عاماً. ولكن الذى حدث فى السنوات الخمس الأخيرة، هو أن بعض البنوك تغاضى عن شرط سداد ربع الثمن مقدماً، أو خفضه إلى ٪١٠. وهو ما أغرى الملايين بالاقتراض دون ضمانات فعلية. ثم حانت مواعيد الأقساط فعجزوا عن السداد. ولأنهم كانوا بالملايين، فإن ذلك أربك الجهاز المصرفى بشكل غير مسبوق.

ولكن إلى جانب العجز عن تسديد أقساط القروض، بسبب عدم التدقيق المسبق فى قدرات المقترضين على الوفاء بديونهم، كانت هناك ظاهرة أخرى غير مسبوقة فى سوق العقارات، وهى «المزايدة» على «الرهونات». فمثلاً يرهن شخص عقاراً يملكه بالفعل، ويقترض عليه ألف دولار.

 فيأتى من يشترى هذا العقار المرهون فى المرة الأولى، ويعيد رهنه ويقترض عليه ألف دولار أخرى، ثم يأتى مشتر ثالث لنفس العقار، ويقترض ألفاً ثالثة. وهذه الممارسة المستحدثة فى تكاثر الرهونات على نفس العقار، على افتراض أن قيمته تتزايد فى السوق من سنة لأخرى، بل من شهر لآخر، هى ما يطلق عليه خبراء المال والاقتصاد الآن «بالمشتقات» (Derivatives).

 وقد بسّطها د. حازم الببلاوى بظاهرة المقاول الذى يظل يبنى طوابق إضافية على نفس الأساسات، طالما هناك استمرار، لا فى قوة احتمال الأساس، ولكن فى الطلب على هذه الطوابق الإضافية. وهو ما سيؤدى إن عاجلاً او آجلاً إلى انهيار المبنى. وهو ما حدث بالفعل بداية من سبتمبر ٢٠٠٨.

أما التبسيط الآخر فهو تشبيه نفس المضاربات فى سوق المال بالبالونة، التى يظل من يلعبون بها ينفخون فيها، طالما هى قابلة للانتفاخ. إلى أن تنفجر إن آجلاً أو عاجلاً. وهو ما حدث بالفعل فى الشهرين الأخيرين.

فإذا كان «الاقتراض» هو لإشباع حلم أن يمتلك الإنسان منزله، فإن «المضاربات» هى لإشباع جشع الاستعجال أن يصبح الإنسان ثرياً.

 ونزعة التملك ونزعة الثراء ابنتان شرعيتان للنظام الرأسمالي، الذى يرتضى اقتصاديات السوق صنماً يعبده أصحابه من دون الله، وقانوناً أوحد لتنظيم المعاملات بين البشر، ولا يطيقون تدخل الدولة فى هذا التنظيم.

 ولكن حينما أخفقت اقتصاديات هذه السوق، سارعت الدول سواء فى الولايات المتحدة أو أوروبا للتدخل لإنقاذ هذا الاقتصاد الرأسمالى من الانهيار. ولا بد أن «الاشتراكيين» من أنصار إدارة الدولة للاقتصاد، يبتسمون الآن ابتسامة «النكاية» أو الرضا.

اجمالي القراءات 18592