مهند ونور، وهشام وسوزان

نضال نعيسة في الأربعاء ١٠ - سبتمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

من القصص المثيرة التي طغت، مؤخراً وعنوة، على سطح حياتنا الثقافية، والاجتماعية، وحظيت بمتابعة وشغف واهتمام، قصتان بالغتا الدلالة والرمزية والعبرة معاً، وتعكسان، بآن، طبيعة العلاقات الإنسانية والقيم المجتمعية السائدة بشكل متناقض وحاد كل في محيطه على حدة. قصتان اقتحمتا، ومن غير إحم ولا دستور، حيزاً واسعاً من المساحات المنبسطة والمفـّرغة في ساحة الوعي، والعقل، وعلى تواضعه، لإنسان هذه الجغرافيات البائسة المفككة القفراء.


القصة الأولى، هي من "قصصهم" وليست من "قصصنا". قصص الآخر المختلف عنا تفكيراً وسلوكاً وثقافة وحياة يجسدها على شكل واقع معاش. قصص الثقافات المغايرة والعلاقات الإنسانية المثلى غير المعهودة وهذا، ربما، ما يقف وراء الشغف في متابعتها. قصص المشاعر والغرائز المنضبطة والسلوكيات واللغة والعواطف التي لا يمكن لنا أن نفهمها أو ندركها بما يتوفر لدينا من معايير ومعطيات جد متواضعة وعرجاء.


القصة الأولى هي قصة نور ومهند المدبلجة عن التركية بلهجة سورية محببة وخفيفة، صارت مألوفة وقريبة على القلب والروح بفعل ازدهار وانتشار الدراما السورية وتفوقها على سواها من مصرية أو خليجية وسبقتهما بأشواط. وتروي السلسلة المؤلفة من حوالي 154 حلقة، على ما أعتقد والتي سمرت المشاهدين والمشاهدات والمراهقين والمراهقات والعاشقين والعاشقات والحالمين والحالمات بفضاء إنساني وروحي سام أمام التلفاز، قصة الحب الرائعة والناجحة بين مهند ونور، وما يحيط بهما من علائق اجتماعية، وبيئات سلوكية وفكرية عبر تطور درامي أنيق وشيق يترك انطباعاً أقل ما يمكن أن يقال عنه بأنه مريح في أوساط المتابعين على اختلاف أهوائهم وأعمارهم. (يروى بأن مهند مثلي جنسياً فهل من مفارقات الحياة المؤلمة وأقدارنا التعسة أن يحطم ثقافتنا الذكورية والفحولية الهشة مجرد مثلي؟ سؤال على الهامش). إنها قصة إنسانية رائعة وفذة تعكس تطور العلاقات البشرية بشكلها القويم والصحي السليم، وتسير وفق قنواتها الشرعية والإنسانية المثلى أي عبر مؤسسة الزواج، وتلتزم بمساراتها الطبيعية، وتنتهي بنهاياتها السعيدة، حب وإعجاب، واحترام متبادل ووفاء أسطوري وأحاسيس رقيقة وزواج وأطفال وأسرة وأبوبة وأمومة وتضحية وإيثار ونبل وشهامة وتضحيات وابتسامات وضحكات وقبلات ونجاحات وآمال عراض ومستقبل باسم زاه وزاهر لا يعرف أفقه ومداه وكلام معسول ومناخات إنسانية وعلاقات صافية لا تشوبها شائبة من الاكتفاء بشريك جنسي ووفاء زوجي لا يساوم أحد عليه، وكلام رقيق ناعم كنسمات الصباح وككلام المتيمين والشعراء، قصص الطبقات المخملية الأصيلة التي تقدس الروح والحب والحياة وتشغف بالجمال. طبعا ولكي نكون واقعيين وألا نسبح في فضاءات التجريد والخيال، ففي القصة الكثير من الرومانس ربما المبالغ به، وهذا ما تقتضيه، ربما أيضاً، طبيعة القصة والرسالة التي تريد توصيلها ووجهة النظر التي تحملها عبر الحبكة والحدث الدرامي الجميل.


وعلى الجانب الآخر، هناك قصة عشق وغرام وولع ولكن من نوع آخر. قصة شغف بالموت وتعطش للقتل والثأر والدماء وكسب المال الحرام وخيانة وفرح ورقص لأنين وصرخات الموتى التي تعكس ثقافة متأصلة في بنية هذه المجتمعات. ولقد أصيبت المجتمعات الناطقة بالعربية قاطبة على أثر هذه الحبكة الواقعية بحالة من الرعب والذهول الشديدين، وبنوبات من الذعر والاستنكار، للجريمة المروعة والنكراء وهي تتابعها والتي ارتكبها على ما أفادت التحقيقات حتى الآن ضابط أمن الدولة السابق محسن السكري، ولا بد، اعتراضياً، هنا، من إثبات أن كل متهم بريء حتى تتم إدانته قضائياً، بحق النجمة والمطربة اللبنانية الفاتنة سوزان عبد الستار تميم، التي أسرت ألباب "كبار القوم" في غير مكان. قصة عولمية بامتياز تدور أحداثها الدموية المؤسفة في ثلاث قارات فقط، حيث عاشت سوزان حياة، وعلى قصرها، بدت صاخبة، مثيرة، متعددة الزيجات والعلاقات، والمغامرات العاطفية، وكله حسب ما حملت إلينا التقارير والأنباء التي رافقت تغطية تلك الفعلة الشنعاء التي لا تبعث في النفس سوى مشاعر التقزز والقرف والسخط والغضب والاشمئزاز والهياج. ( شخصياً لم أكن قد سمعت باسم هذه الفنانة حتى وفاتها، والبركة، طبعاً، بالموت الذي جعلنا نتعرف عليها. ففي مجتمعاتنا، وحيث تنتشر ثقافة الموت، لا نتعرف على بعضنا إلا حين نصبح أموات، وكم من صديق لا نتذكره إلا حين يسلمها إلى باريها ويقضي، ويموت فجأة ومن غير استئذان).


المهم وما علينا، ففي قصة سوزان وهشام قصة عشق وهيام من نوع آخر، عشق الموت، وحب الدماء، والولع بقطع الرقاب، والتمثيل بالأموات والأحياء. قصة أبطالها قوادون وسماسرة وعاهرات ودولارات وطلاق، وخيانة، وخناجر ورقاب مقطوعة وقتلة مأجورون ومباحث أمن دولة وتحريات ودماء ومطاردات وخيانات ونفط ومخابرات وعقارات ودولارات وجنيهات وحزن وبكاء وعبسات وإخفاقات وتنكر وأنانية هوجاء وحقد أعمى وتهور وعمى بصر وبصيرة وانفلات وتحرر من كل منظومات القيم والأخلاق، وهذا كله انعكاس لمجمل العلاقات الاجتماعية المتخلفة السائدة في عموم منظومة الاستبداد الشرق أوسطية، وأكثر أمة ولعت وهامت بقصص النكاح. فصول هذه الدراما العربية الإجرامية تتنقل بين لندن والقاهرة ودبي وبيروت التي تحتل الصدارة في الحركة والنشاط العام لأصحاب الثروة والنعمة والجاه. قصة سوزان وهشام هي قصة النهايات التراجيدية المحزنة لعشاق وأحفاد خير أمة أخرجت للناس، قصة الغدر والقتل والدم والإثم والحقد والغيرة المريضة والعلاقات الاجتماعية التي يحكمها الظلم والاستبداد والعهر والقهر والجلادون ومصاصو الدماء وإمبراطوريات المال والأعمال التي قامت على قهر وسحل المواطنين الفقراء وتهمش ملايين الناس وسحقهم والتحكم بمصائرهم وإبعادهم عمداً عن مراكز الثروة والنفوذ والسطوة والتأثير والمال. قصص الرجال الصاعدين على أكتاف الفقراء من ناهبي لقمة عيش الشعب المحروم الجوعان وقوافل الفقراء في أوطان تسبح في بحور من الفجور والفضائح وفنون الإذلال. قصص الثروات الأسطورية المنهوبة والمراكمة من عرق البؤساء التي تسفح هدراً ومباهاة على أفخاذ، وبين سيقان الفاتنات اللواتي يبدلن ويخلعن العشاق، والمعجبين، والأزواج، بكل سرعة ولا اهتمام أو مداراة كما يخلعن السوتيانات والملابس الداخلية الشفافة المثيرة في لحظات المجون المجنونة الشبقة الحمراء. قصص السفاح الآثم، ودوس المشاعر وهتك الأعراض واستشراء الرذائل والذنوب والمعاصي المخجلة، وشراء ذمم رجال الأمن كما تشرى أبخس السلع وأردأها في البازارات. قصص التفسخ والعار والانحلال وتذرر العلاقات المتبدونة الرثة والمحرّمة التي لا تحترم المشاعر، ولا تعرف الفضيلة، ولا تقيم وزناً لقيمة وشرف وجمال، وانبناء شخوصها كلية على نزعة التفوق والاستعلاء الذكورية وممارسة العبودية واستدمان الحرملكية. إنها قصص الطبقات حديثة النعمة والثروات الأسطورية التي لا تأكلها النيران الهابطة من السماء، بسبب غياب القانون وسيادة شرائع الحيتان والغابات، وتظهر حقيقة الطبقات الغامضة والشريرة الصاعدة من قيعان الأمية والجهل المسكونة بشذوذ سلوكي وانحرافات خلقية وبنزعات إجرامية متأصلة ومترسبة لا تتورع أن تنقض على الأنوثة الجميلة وافتراسها انقضاض الذئاب على الحملان. قصص الطبول الفارغة، وصبيان السياسة، والغلمان الصغار، التي ينفخها الإعلام، وتزركشها الدولارات، وترتقي إلى قمم السلالم الاجتماعية والوطنية من غير أية مواهب ومؤهلات، ولكنها تسقط بشكل مدو وتهوي، وتنزع عنها وريقات التوت عند أول اختبار وامتحان.


إنها أمرّ، و"أزفت"، وأقسى الخيارات، وفي كلتا الحالتين، بين أن تتابع قصص عشق وحب جميلة تبدو كحلم وخيال باذخ لا يطال، ولا يمكن أن يتصوره عقلك أو تصله يداك بسبب سوداوية الواقع وبؤس وتواضع الحال والحياة والفوارق والفجوات الحضارية الكبرى بين مختلف الشعوب والأقوام والثقافات. وخيارك الأسوأ والأردأ في أن ترى، وبأم عينك، وتتابع فصول وقصص فسق وفجور وتهتك وإجرام حقيقي لا يمكن وصفها ولا تحدث إلا في الوهم، والسينما، والخيال.

اجمالي القراءات 11667