العيش المشترك: المسلمون في أوروبا

عمر الشفيع في الإثنين ٢٥ - أغسطس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

 العيش المشترك: المسلمون في أوروبا بين الإندماج والإدماج

(لكي نفهم العالم فهماً صحيحاً لا بدَّ أن نعرف المصادر الحقيقية للأفكار التي تحكم هذا العالم وأن نعرف معانيها) علي عزت بيغوفيتش في كتابه القيم ’’الإسلام بين الشرق والغرب’’.

الهجرة سنة من سنن الإجتماع الإنساني إذ أن الناس لا بدَّ لهم من الإنتشار في أرض الله الواسعة سعياً وراء الرزق أو هرباً من الظروف السيئة مثل الظلم والخوف والإضطهاد. وقبل نشوء الدولة القومية في أوروبا لم تكن هناك مشكلة حدود أو قوانين هجرة تتحكم في الدخول والخروج من وإلى أي فضاء حيوي تتوفر فيه ظروف العيش الكريم.
وفي السنوات الأخيرة أصبحت أوروبا وأمريكا مستقبِلة للجماعات المهاجرة إليها وخاصة من العالم العربي وذلك لأسباب كثيرة من بينها الفجوة المعرفية والإقتصادية بين الشمال والجنوب وظروف الإستبداد في العالم العربي الطاردة لأبنائه وبناته الذين يتوجَّهون إلى الغرب بحثاً عن الحرية والعيش الكريم. وقد شكل هؤلاء المسلمون مع غيرهم من الأعراق والملل جماعات مهاجرة أصبحت تفكر جدياً في إعتبار الغرب موطناً أولاً لها خاصة بعد الجيل الثاني والثالث من هذه الجماعات المهاجرة.


الجماعات المهاجرة: ما بين الإندماج والإدماج
وما أن تستقر الجماعة المهاجرة حتى تبدأ من الجيل الثاني والثالث في الإنتباه لحقوقها الجماعية والتأسيس لحالة مستقرة تحسِّن بها ظروفها وتؤثِّر بها في المجتمع الذي تعيش بين ظهرانيه حتى يعترف لها بثقافتها وخصوصيتها. وتتوسَّل الجماعة المهاجرة لقيام هذه الحالة المستقرة بإنشاء المؤسسات التربوية والدينية وقد تبدأ في تأسيس جماعات ضغط سياسي أو الإنخراط في الأحزاب السياسية القائمة في بلد المهجر. والجماعات المهاجرة ينبغي عليها قيادة دفة الإندماج في المجتمع المستقبل بشروط العدل والحرية لها ولغيرها. والإندماج هو عملية التكامل الذاتية التي تقوم بها الجماعة المهاجرة حسب ظروفها حتى لا تُفرض عليها عملية الإدماج التي يقوم بها المجتمع المستقبِل حسب مصالحه. ويتضح مما سبق أن الإندماج عملية طوعية ذاتية تراعي ظروف ومصالح الجماعة المهاجرة بينما الإدماج عملية قسرية مفروضة من المجتمع المضيف وتراعي في الغالب مصالحه وتخوفاته من ثقافات الجماعات المهاجرة. والتكامل بين محاسن الإندماج والإدماج وتجنب المساويء بقدر الإمكان هو عملية هدفها العيش المشترك بين الجماعات المهاجرة والمجتمع المستقبِل في فضاءٍ يتوفر فيه العدل والحرية بنسبة معقولة. وفي العمق فإن الإندماج والإدماج هما عمليتا تدافع مستمر لتكوين مجتمع جديد ينشأ من المجتمع المستقبل والجماعات المهاجرة في سلسلة من التوترات التي يقلل منها المعرفة الجيدة بسنن الإجتماع الإنساني.
وأحوال المسلمين بصفتهم جماعةً أو جماعاتٍ مهاجرة تختلف ما بين أمريكا وأوروبا. ففي أمريكا حيث وحدة اللغة والإرتقاء النسبي للتعليم والعلم بين جماعات المسلمين عامة نجد أن وضعهم العام يسمح لهم بالبدء في تكوين جماعات المصالح المختلفة. ولكن في أوروبا حيث تعدد اللغات والإنخفاض النسبي للتعليم والعلم بين المسلمين نجد أن مشكلة العيش المشترك ما زالت قائمة وتحتاج لجهود من المسلمين والأوروبيين للأسراع بها لمصلحة الطرفين.
وفي حالة ألمانيا فقد كثر الحديث عن الـ Integration بمعنى الإدماج الذي يخص في حقيقة الأمر كل المجموعات المهاجرة من كل القارات والأعراق والملل والثقافات ولكن الحديث عن الإدماج يثار في ألمانيا وكأن المقصود به المسلمين وحدهم.


المسلمون: ثقافة قومية تتأبَّى على الإندماج
ثقافة المسلمين من الثقافات السائدة وليست المتنحية (بلغة علوم الحياة) وهي ثقافة ذات جذور عميقة في العادات والتقاليد العربية والفارسية والهندية والعثمانية (قوميات المسلمين الرئيسية) مع قشور سطحية تربطها بأصل الإسلام وهو قيم القرءان العظيم. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الثقافة تختلف عن الثقافة الغربية وتتأبى على الإندماج المجاني لمشاكل تخصها وأخرى تخص الثقافة الغربية وخاصة الأوروبية في تاريخ إحتكاكها وحروبها مع المسلمين.
والمسلمون الآن في أوروبا يزداد عددهم أكثر من زيادة تأثيرهم في ترقية أنفسهم أو تأثيرهم في الحياة العامة وذلك بسبب تدنِّي مستوى وعيهم بأحوالهم وأحوال أوروبا (إقرأ حكمة بيغوفيتش في الأعلى).
وتدنِّي وعي المسلمين الذين يعيشون في أوروبا له أسباب عديدة من بينها تدنِّي مستواهم التعليمي والعلمي مما جعلهم يعيشون في جيتوات عرقية وإثنية أعاقت عملية تطور تدينهم الإسلامي في الفضاء الأوروبي وذلك لقلة معرفتهم بدور المكان والزمان في تكوين تدين معاصر يهتم بالعيش المشترك ويستمدونه من قيم القرءان العظيم مباشرة ويرفدونه بحكمة التجارب الإنسانية.

والآن ما هي العوامل التي على المسلمين مراعاتها حتى يقودوا بأنفسهم عملية إندماجهم في المجتمع الأوروبي والتأثير فيه على المدى الطويل.


الموقف الإيماني من أهل الكتاب ومجموعاتهم
ينظر المسلمون في غالبهم إلى الأوروبين بأنهم كُفَّار حتى مع إعتقادهم أنهم أهل كتاب. وهذه نظرة تستمد جذورها من ثقافة المسلمين وإحتكاكهم بالأوروبيين في حروب الفرنجة ولا علاقة لهذه النظرة بالقرءان العظيم وذلك للأسباب المذكورة أدناه.

1. القرءان يتكلم ـ أولاً ـ عن أهل الكتاب ويذكر مجموعاتهم المختلفة ولا يتحدث عنهم ككتلة واحدة ومن المجموعات التي ذكرها موضحاً خصائصها مجموعة {الذين آتيناهم الكتاب} ومجموعة {الذين أوتوا الكتاب} ومجموعة {الذين أوتوا نصيباً من الكتاب} ومجموعة {الذين أورثوا الكتاب} ومجموعة {الذين هادوا} وغيرها من النصارى واليهود وأهل الإنجيل. وموضوع أهل الكتاب ومجموعاتهم في القرءان العظيم يحتاج إلى دراسة مستقلة توضح خصائص كل مجموعة حتى لا نخلط بين المسيحيين والنصارى والذين قالوا إنا نصارى وحتى لا نخلط أيضاً بين بني اسرائيل واليهود والذين هادوا.


2. وثانياً أن لفظ كُفَّار يطلق في القرءان على مجموعة خاصة تمادت في كفرها فأصبحت أسوأ من مجموعة {الكافرون} وليس أسوأ منها إلا مجموعة {الكفرة}، أي أن لسان القرءان دقيق جداً فهو يصف كل مجموعة على حدة حتى ولو تميَّزت على مجموعة أخرى بخصائص قليلة إذ المهم في القرءان التوصيف الدقيق لكل فرد ومجموعة حتى لا نخلط بين المجموعات المختلفة في المجموعة الكبرى وهي مجموعة {الذين كفروا}. وحتى الذين كفروا أو الكافرون أو الكفار أو الكفرة فلم يمنع القرءان المسلمين من التعايش معهم طالما هناك احترام متبادل في العيش المشترك الذي يقوم على العدل والحرية لأن وصفهم بالكفر يختص فقط بعلاقتهم بالله التي ليس للمسلين شأن بها وحسابهم على الله.


3. والشيء الثالث أن القرءان فصّل في أمر الكفر بالنسبة لأهل الكتاب ويكفيك تدبرالآية 73 من سورة المائدة والآية 171 من سورة النساء.
آية المائدة تقول <لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ >،
وآية النساء تقول <يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً >.
آية المائدة تتكلم عن أسوأ أنواع التثليث وهو الإعتقاد في ثلاثة آلهة منفصلة هي إلاهان والله هو الثالث (تثليث الشرك) وهذا معنى <ثالث ثلاثة> ولذلك جاء الرد <وما من إله إلا إله واحد> والآية حكمت على هذه المجموعة بالكفر <ولقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة>.
آية النساء تتحدث عن أخف أنواع التثليث وهو الإعتقاد في الأقانيم الثلاثة، أي أن الله واحد ولكنه موجود في ثلاثة أقانيم هي الآب والابن والروح القدس <ولا تقولوا ثلاثة> أي لا تقولوا أن الله ثلاثة (لاحظ الإختلاف عن ثالث ثلاثة) ولذلك جاء الرد <إنما الله إله واحد> والآية لم تُكفِّر هذه المجموعة وإنما طلبت منهم أن ينتهوا عن هذا القول لأن في ذلك خيراً لهم. والآية واضحة في أنها تتحدث عن تثليث الأقانيم وليس تثليث الشرك لأنها طلبت من أهل الكتاب ألَّا يغلوا في دينهم وأوضحت لهم أن عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته وروح منه وليس لله ولد بل له ما في السماوات وما في الأرض. والآية لم تُكفِّر من يعتقدون في تثليث الأقانيم.

والخلاصة أن على المسلمين ترك الناس لربهم في علاقتهم به والتفاهم من أجل العيش المشترك مع غيرهم من أهل الملل والثقافات الأخرى. وأمر آخر على المسلمين أن ينهوا هجرهم للقرءان وأن يتخلوا عن نظرتهم التي ترى أنه كتاب المسلمين وأن ينتقلوا إلى نظرة القرءان عن نفسه بأنه كتاب للعالمين ومن ضمنهم الناس الذين من حقهم قراءته ونقده والتفاعل معه. وتصحيح النظرة للقرءان سوف تساعد في عملية العيش المشترك بين المسلمين والأوروبيين.


جماعة المسلمين والترقي الذاتي
وإذا عالج المسلمون مشكلتهم الفكرية الإيمانية مع الأوروبيين كما أوضحناها في الفقرة السابقة فيبقى عليهم معالجة مشكلتهم السلوكية العملية وذلك بزيادة الوعي بأحوالهم وأحوال الآخرين. وتحسين السلوك يكون بالترقِّي الذاتي عن طريق التعليم والعلم والإعلام. والبدء في تنقية ثقافتهم من العوامل المعيقة لعملية إندماجهم الطوعي القائم على عالمية القرءان العظيم والتخلِّي تدريجياً عن النرجسية القومية التي أدت إلى ظهور إسلام تركي وإسلام عربي وإسلام فارسي وحتى التشظِّي داخل القومية الواحدة مثل ظهور إسلام مغربي وإسلام مصري داخل القومية العربية. وعلى المسلمين إجراء تقييم ونقد ذاتي للمساجد ودورها الحالي والمفترض في توعيتهم وترقيتهم والإلتفات لدور أندية الشباب في عملية الترقي الذاتي التي تساعد على التفاعل الإيجابي مع المجتمع الغربي. ومن العوامل التي تزيد الثقة وتسرِّع عملية التفاعل مع المجتمع الأوروبي إجراء الإحصاءات الدقيقة لمعرفة نقاط القوة والضعف ومعرفة مدى مساهمة المسلمين في الإقتصاد الأوروبي في كل مستويات العمل. والتوجُّه المخطط للدراسة الجامعية مثل أن يتوجه بعض أبناء المسلمين لدراسة فروع مهمة مثل العلوم الإنسانية والإجتماعية كالقانون وعلم النفس والدراسات المقارنة. ودراسة التجارب الإنسانية من العوامل المهمة التي تؤدي إلى زيادة الثقة بالنفس والتفاعل الإيجابي مع الآخرين ويمكن دراسة تجارب العيش المشترك في كل قارات الدنيا وبالأخص تجربة المسلمين في أندونيسيا وماليزيا والسودان مثلاً في بداية هجرتهم إلى هذه البلدان. على المسلمين ألا ينسوا أن إعتبار الأسرة وحدة البناء الأساسية للمجتمع أمر في غاية الأهمية على عكس الفكر الغربي الذي يعتبر الفرد هو وحدة البناء الأساسية. والمحافظة على الأسرة بإعتبارها وحدة البناء الأساسية في السياسة والإقتصاد والثقافة وربطها بالقيم والأخلاق (الدين القيِّم) يمثل دوراً فعَّالاً في عملية الترقي ومراعاة شروط العدل والحرية في العيش المشترك. والله أعلم.

اجمالي القراءات 18569