كتاب مرقوم

محمود دويكات في السبت ١٩ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

باختصار بالغ و بعد دراسة بعض أقدم المخطوطات المتوفرة للمصحف الشريف ، نستطيع القول أن ترقيم أيات المصحف كان أمرا من عند الله جلت قدرته. حيث أنه كما سنرى أن الناسخين كانوا يحافظون بشكل منتظم على علامات ترقيم ما بين الايات في نفس الوقت الذي كانت مخطوطات تراثية أخرى( مثل الشعر و غيرها) تخلو من أي ترقيم ما بين فقراتها. وذلك كان في نفس الوقت التي افتقر فيها العرب نظام ترقيم فعال. مما يدل على إرادة إلهية في حفظ ترقيم المصحف الشريف. الطريقة و الكيفية التي كان يتم بها ذلك و غيرها من التفاصيل تجدها في هذا البحث.

ملحوظة: هذا المقال يتحدث عن الترقيم : يعني أرقام و أعداد ـ و ليس تنقيط و علامات تشكيل.

لقد اختلفت الاراء حول ما إذا كان ترقيم القرءان توقيفي أو توفيقي ( يعني من عند الله أم من عند البشر) ، و الحقيقة إن البحث حول هذا الموضوع يستلزم بحثا اعمق في جذور الكتابات و النسخ المصحفية . وقد حاولت اغتنام ما هو متوفر من وقتي و من مصادر حول بعض أقدم المخطوطات القرءانية على الانترنت للتنقيب حول هذا الموضوع .  إن المخطوطات المعتمد عليها بشكل مباشر هنا تعود للقرنين الاول و الثاني للهجرة (50-150 بعد وفاة النبي الكريم)  ـ و هي بالتالي تعتبر الاقرب لعصر النبوة. و بالتالي نحن لا نقارن هنا مع مخطوطات تعود للعصر المملوكي أو العثماني (700-1000 سنة بعد وفاة الرسول ) ـ كتلك الموجودة في اسطنبول و غيرها  - و هذه نقطة في غاية الحساسية.


في عام 1965 ، و بسبب غزارة الامطار ، انهار بعض أسقف المسجد الكبير في صنعاء باليمن، و الذي يروى أنه بني زمن النبي الكريم . أثناء إعادة ترميم للمسجد تم العثور على مخطوطات قرءانية و غير قرءانية تعود الى القرن الاول الهجري (حوالي 50-90 سنة بعد وفاة الرسول ) ، و تلك المخطوطات تعد من ضمن اقدم المخطوطات الكاملة عن القرءان الكريم. و قد قام بعض اللجان التابعة لليونسكو بتصوير المخطوطات رقميا و تجميعها ضمن مشروع عام لحفظ التراث الانساني (انظر موقع التوعية الاسلامية في المصادر) . و قد قمت شخصيا بدراسة ما توافر من تلك المخطوطات عبر الانترنت لمعرفة كيفية ترقيم الايات و مدى الاختلافات ما بين المصحف الذي بين أيدينا و تلك المصاحف التي كانت تكتب على زمن قريب من زمن النبي عليه السلام.

ماذا تقول المخطوطات:

الامر المتفق عليه من بين جميع المخطوطات أن المصحف (القرءان المكتوب ما بين دفتين) كان الوحيد الذي يحمل أرقاما بين ثناياه بحيث تفصل ما بين مجموع الجمل التي كانت تشكل آيات. إلا أن طريقة الترقيم كانت "بدائية" نوعا ما وذلك بسبب عدم توفر الارقام في ذلك الوقت. ,و مع ذلك فإن المخطوطات تشير بوضوح الاهتمام البالغ بمحاولة إثبات أرقام الايات بشكل كتابة العدد مجاورا لها..و إذا ما قارنا ذلك النمط مع الكتابة لمخطوطات آخرى (كالشعر مثلا) نجد أن مخطوطات المصاحف الاولى تتميز باحتوائها على نظام ترقيم يحفظ مواقع الايات فيها.. و هذا يوحي لنا بديهيا أن موضوع ترقيم الايات لم يكن شيئا اختياريا .. بل كان أمرا ملزما و ذا أهمية قصوى حتى و إن بدا أنه الناسخين قد غفلوا عن اهمية الارقام التي كانوا يكتبونها بالأحرف.
كما هو واضح من مخطوطات القرن الاول الهجري (بداية الهجرة – 99 سنة بعد الهجرة) ، كان الايات ترقم كل عشرة آيات بشكل حزم و مجموعات. حيث كان يوضع شكل هندسي يدل على انتهاء الاية ، و من ثم يوضع الرقم كتابة و بشكل مقابل على هامش الصفحة على رأس كل مضاعف للعشرة . فمثلا: إذا بلغ عدد الايات عشرة ، يضع الناسخ علامة هندسية مميزة في نهاية الاية و يكتب على طرف الهامش مقابلا لها: عشرة. و إذا بلغت الاية رقمها 20 ، يضع علامة مميزة و يكتب مقابلها على طرف الهامش: عشرون ـ و هكذا دواليك :ثلاثون ـ أربعون -.... مائة ... مائتان و أربعون. ..الخ .. إنظر الى الصورة رقم 1 ـ و صورة رقم 2 و تفصيلتها صورة رقم 3.

أما ما بين علامات الترقيم العشرية تلك ، فبعض المخطوطات القديمة لا يظهر وجود فواصل ما بين الايات. ففي كثير من الاحيان لم يكن يهتم الناسخ بتمييز أرقام الايات أو وضع علامات لتمييز متى تبدأ الاية أو متى تنتهي. كما نرى في ضورة رقم 1 و صورة رقم 3، حيث لا يوجد أي رمز يدل على بداية الاية أو نهايتها (إلا إذا كانت على رأس عشرة أو مضاعفاتها) . أي أن الايات كانت تكتب بشكل متصل ما بين علامات الترقيم العشري دون فواصل مميزة. أنظر أيضا التفصيلة في صورة رقم 3.  في حين أن مخطوطات أخرى تظهر علامة (أو علامات) واضحة للفصل ما بين الايات كما سنرى لاحقا.

صورة 1 - مخطوطة تعود الى القرن الاول /الثاني (50-150 سنة بعد وفاة الرسول) و هي جزء من مخطوطات صنعاء المجموعة في مشروع اليونسكو لحفظ التراث العالمي. لاحظ الفواصل الرقمية واضحة بين الايات العشرية. (كل 10-20-30-40-50-..الخ)

المصدر http://www.unesco.org/webworld/mdm/visite/sanaa/en/present2.html

و مصدر آخر  لمخطوطة مشابهة لنفس النظام  تجدها هنا    http://www.usna.edu/Users/humss/bwheeler/quran/maili.html

صورة 2 - مخطوطة تعود للقرن الاول/ الثاني الهجري (75-150 عام بعد وفاة الرسول) و هي جزء من مخطوطات صنعاء

المصدر : http://www.unesco.org/webworld/mdm/visite/sanaa/en/present1.html

صورة 3- تفصيلة من الصورة رقم 2

و الملاحظ الغريب أيضا أن تلك المخطوطات (القرن الاول الهجري) ، و التي تعد من ضمن الاقدم ، قد احتوت على أحرف منقوطة (انظر صور 1 -3). إلا أن التنقيط لم يكن شاملا ، مما يعني أن المصاحف الاولى كانت منقوطة بشكل يكفي لقراءتها دونما لبس ، و لكن ليس بشكل يشبه ما نألفه الان. هذه المعلومة تخالف صراحة كافة الادعاءات الموجودة في كثير من كتب التراث خصوصا تلك التي كتبت في العصر المملوكي و نهاية العصر العباسي. أنظر الى مخطوطة في صورة رقم 4 ، فرغم ان تلك المخطوطو تعود للقرن الثاني الهجرى إلا أنها سارت على نفس النظام: بعض الحروف منقوطة و بعضها الاخر غير منقوط.

صورة رقم 4 تبين أنه في عصور لاحقة لكن قريبة (القرن الثاني الهجري : 100-199 عام بعد هجرة النبي الكريم) كان يتم استخدام علامات خاصة  لتمييز فواصل الايات ـ لكن دون الاشارة الى القيمة الرقمية... الامر الذي قد يوحي أن فواصل الايات كانت محفوظة ذهنيا (أو سجعيا) ما بين علامات الترقيم العشري. ففي صورة رقم 4 ـ يبدو أن الناسخ كان يستخدم النقاط (...) لتمييز فواصل الايات ـ إلا أنه لم يكن يستخدمها بذكاء. فلو أنه كان ذكيا بما فيه الكفاية لوضع النقاط بشكل يتزايد عددها لتدل على القيمة العددية ـ فمثلا نقطة واحدة تدل على 1 ـ نقطتان تدل على 2 و ثلاثة نقاط تدل على 3 و هكذا دواليك. بحيث يتم جمع عدد النقاط الى القيمة العشرية المكتوبة على يمين الصفحة . لكن أمرا كهذا لم يحدث ، إذ أنه من الواضح أن الناسخ كان يستخدم شكلا محددا من النقاط لتمييز الفواصل ، دونما أن يلقي بالا للقيمة العددية المترتبة عليها. .. و هذا يعد دليلا على أهمية وجود تلك الفواصل. فمن الواضح أن الناسخ لم يكن يعلم ما هو سبب وجود تلك الفواصل.. بل ربما - و هو البديهي- ان الناسخين كانوا يعتبرونها مواطن وقف و استراحة أثناء التلاوة. إلا أن ذلك لا يفسر وجود تلك الفواصل في أماكن محددة دائما في جميع المخطوطات. الامر الذي يؤكد على أن تلك الفواصل كانت من الاهمية بمكان لم يسمح  للناسخين للعب بها فحافظوا عليها قسرا و بشتى الوسائل في مخطوطاتهم دونما أن يلقوا بالا لما تختزنه من قيم عددية.

صورة 4 - مخطوطة تعود للقرن الثاني الهجري (100-175 سنة بعد وفاة الرسول) ، تابعة لمشر وع اليونسكو في حفظ التراث العالمي – مخططات صنعاء .
http://www.usna.edu/Users/humss/bwheeler/quran/maili.html

نظام الترقيم العشري هذا استمر حتى فترات لاحقة (الى القرن السادس للهجرة : 500-599 سنة بعد هجرة النبي) ، و هذا واضح في المخطوطة المبينة في صورة رقم 5 . إلا أنه في هذه المرحلة فقد زاد الاهتمام بفواصل الايات . حيث نلاحظ أن علامة التمييز ما بين بداية و نهاية الايات أصبحت اكثر وضوحا – لكن مازال هناك عدم اكتراث للقيمة العددية عند تلك العلامة. من الظاهر أن اهتمام النساخ كان منصبا على الناحية الجمالية للمصحف دونما أن يلقوا بالا للقيم العددية للارقام على فواصل الايات ما بين علامات الترقيم العشرية. لكن عندما كانت الاية تقع على رأس عشرة أو مضاعفاتها فكانوا يهتمون حينها بإظهار القيمة العددية لذلك الفاصل . إن تصرفا كهذا قد يوحي لنا أن الناسخ لم يكن يضع القيمة الرقمية من بنات أفكاره ، و إنما كان مجبرا على فعل ذلك حتى و إن كان في ذلك تأثير على الناحية الجمالية لزخرفة المصحف.

صورة 5 - مخطوطة تعود للقرن السادس الهجري (حوالي 550 سنة بعد الرسول ) – جزء من مخطوطات صنعاء ، و فيها ما زال النظام العشري مستخدما – إلا أن هناك تحسن ملحوظ بالاهتمام بفواصل الايات

المصدر:    http://www.unesco.org/webworld/mdm/visite/sanaa/en/present1.html

صورة 6 – تفصيلة تابعة للصورة 5.

صورة 7: تفصيلة تابعة للصورة 5.

المفارقات
تاريخيا كانت الانظمة الرقمية تعتمد على عد الرموز ، إذ لم يكن قد تم اختراع الصفر و المنزلة العشرية ـ و قد حصل هذا الاختراع الفذ و العبقري على يد المسلمين في القرن التاسع/العاشر (ما يكافيء القرن الثالث/الرابع الهجري ) أنظر (http://en.wikipedia.org/wiki/Hindu-Arabic_numeral_system) .. و بعد اختراع هذا النظام على يد كل من الخوارزمي و الكندي ، أصبح يتم استخدامه بكثرة في أمور الرياضيات و علم الجبر الذي توسع به الخوارزمي (القرن الرابع الهجري: 300-399 سنة بعد هجرة النبي الكريم ) .. بل بلغ المسلمون من التقدم أن وسعوا و طوروا هذا النظام ليمكن من خلاله كتابة الارقام الكسرية على شكل أرقام عشرية ( يعني مثل 1.2 و 1.15 Fractional positional system) ، حدث ذلك في القرن الرابع الهجري (300-399 سنة بعد هجرة الرسول) على يد أبو الحسن الاقليدسي.
إلا أنه رغم كل ذلك التطور ... لم يتم إدخال هذا النظام السلس و السهل على كتابة المصحف. ففي الصورة رقم 5 ، التي تعود للقرن السادس الهجري (500-599 سنة بعد الرسول) ، نرى الناسخ قد أصر على استخدام العدد كتابة الى جانب العلامة الهندسية المميزة للفاصل على رأس عشرة (و هي ستون هنا صور 6 و 7) في حين مازال يرفض استخدام الارقام التى كان الخوارزمي و علماء الرياضيات يستخدمونها في كتبهم منذ أكثر من مائة عام. و أظن انه من الممكن تفسير ذلك بمقدار حرص الناسخين على المحافظة على أدق تفاصيل و متعلقات المصاحف أثناء النسخ – وذلك مشيا على رفض البدع حتى و إن كانت مفيدة.

نتيجة:
إن من أهم النتائج المهمة بعد هذا البحث ، أن المصاحف الاولى قد احتوت على نظام ترقيم بدائي و لكن فريد من نوعه ، حيث كان الترقيم يحدث بالكتابة العددية على رأس كل عشرة عشرة أيات. أما ما بين علامات الترقيم العشرية تلك ، فيبدو أنه في القرن الاول لم يكن هناك اهتمام كبير بإظهار تلك الفواصل ما بين الايات (رغم وجودها) ، و لكن في القرن الثاني ، بدأ تلك العلامات المميزة للفصل بين الايات ما بين علامات الترقيم العشرية - بدأت بالظهور بشكل أكثر مع تحسن نوعية الخطوط. و حتى مع اختراع نظام ترقيم عبقرى (هو المستخدم حاليا) ، إلا أن النساخ لم يستفيدوا من ذلك النظام و لم يحاولوا إدخاله على كتابة المصحف ، بل استمروا في كتابة القيمة العددية على رأس كل عشر آيات مع إبقاء فواصل ما بين الايات ، و هذا يدل على مقدار الاهتمام بالمحافظة على أدق تفاصيل المصحف.

و مع كثرة تداول النظام الرقمي الذي اخترعه المسلمون ، بدأ شيئا فشيئا إستخدام الارقام لتحل محل تلك الفواصل ، يبدو هذا جليا في مخطوطات القرن الثامن الهجري و تاليا الى العصر الحالي و التي يمكن العثور عليها في المصادر الملحقة مع هذا المقال.

خلاصة البحث هو أن الله قد حفظ لنا القرءان مكتوبا في مصاحف مرقومة .. فحتى في الاوقات التي كان من الصعب إجراء عمليات حسابية معقدة بسبب عدم وجود الارقام - فإن تلك المصاحف القديمة الاولى قد احتوت على نظام ترقيم مميز عن باقي المخطوطات التراثية الاخرى ..و نظام الترقيم ذاك كان له الاثر الاكبر في حفظ ترتيب الايات في المواقع التي وضعت فيها منذ المصحف الاول الذي كتبه الرسول عليه الصلاة و السلام.  ..

حسب المخطوطات القديمة و مقارنة مع مخطوطات تراثية اخرى ، فإن المصحف كان الكتاب الوحيد الذي يكتب مع الحرص على ترقيم آياته .. وهذا يجعله يستحق وصف: كتاب مرقوم.

ملحق علمي عن التأريخ الكربوني:
إذا تم العثور على مادة عضوية ، فإنه يمكن نظريا تقدير عمرها عن طريق قياس نسبة النظير المستقر للكربون المشع C14 الى نفس النظير لكن الغير مستقر لنفس الكربون . إذ أنه من المعروف علميا أن أي نظير مشع فإنه يتحلل الى جزء مستقر (ثابت) و جزء غير مستقر . فإذا فرضنا أن مجموع كمية الكربون في تلك المادة ثابتة ـ فإن النسبة ما بين النظير المستقر الى الغير مستقر تعطينا فكرة عن مقدار المدة الزمنية التي تم فيها التحول . و بالنسبة للورق – فإذا افترضنا أن الورق مصنوع من الخشب – الشجر ، و أن عملية التصنيع لم تستغرق سوى بضع سنوات – فإنه بالامكان الادعاء أن كمية الكربون تثبت داخل الورق بمجرد الانتهاء من تصنيعه. و بالتالي يمكن استخدام تأريخ الكربون المشع لتقدير أعمار المخطوطات . مقدار الخطأ في طريقة التقدير هذه يعتمد على حجم العينة ، كما يعتمد على الفترة الزمنية نفسها – لكن على أسوأ الاحوال فإن مقدار الخطأ في التقدير الزمني يتراوح من 40- الى +40 عام . للتفاصيل انظر http://en.wikipedia.org/wiki/Carbon_dating.


المصادر:
- أرشيف منظمة اليونسكو : مشروع ذاكرة العالم :
http://www.unesco.org/webworld/mdm/visite/sanaa/en/present1.html
- مركز الدراسات الشرق أوسطية و الاسلامية - موقع الاكاديمية البحرية الامريكية - مخطوطات قرءانية
http://www.usna.edu/Users/humss/bwheeler/quran/quran_index.html
- موقع التوعية الاسلامية http://www.islamic-awareness.org/Quran/Text/Mss

- الموسوعة الحرة Wikipedia.com

اجمالي القراءات 38739