دانــاتٌ.

طارق حجي في الإثنين ١٤ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

فى شهر مايو 1967 سُئِلَ قائد عربي كبير عما ستفعله بلده لو أن الأسطول الأمريكي السادس تَدَخَل فى النزاع الذى كان مرتقبا يومها بين بلده وإسرائيل .فكان رده بكلمة واحده ( سنغرقه ) !!! وفى سنة 2003 قال قائد عربي آخر أن الأمريكيين سيموتون على أبواب بغداد . ومنذ أيام قال قائد إيراني أن أكثر من ثلاثمائة قبر يجري حفرها وإعدادها لدفن الأمريكيين والإسرائيلين بها !! . تذكرت تلك المقولات الناضحة بالحكمة وبُعد النظر ورجاحة العقل وأنا أراجع بروفة الطبعة الخامسة من كتابي عن العقل العربي ؛ وكنت ساعتئذ أراجع فصلاً معنوناً " ثقافة الكلام الكبير" ؛ فهمست : "على بركة الله !!



· ما الذى يسوغ لعربة كارو (مثل مصطفي صادق الرافعي أو جلال كشك) أن يتجاسر ويهاجم بل ويسفه سيارة رولز رويس (طه حسين) أو جاجوار (سلامة موسي ) ؟ ... السيد جلال كشك كان يكتب للملوك (بالأجرة !!) ؛ إذ كتب لملك سعودي كتابه السقيم "السعوديون والحل الإسلامي" وكتب لملك مغربي كتابه المرتزق " وقيل الحمد لله ".



· رأيت الأب جورج قنواتي ( 1905-1994) مرة واحدة فى حياتي ... ذهبت إليه فى الدير الدومينيكاني بالقاهرة وأنا طالب بقسم الماجيستير فى القانون بجامعة عين شمس (1971) ... كان حديثه يومها عن الفيلسوف فى أعمال نجيب محفوظ (الرواية والقصة القصيرة ) ... يومها : صال الأب قنواتي وجال فى حديثه المعمق عن فن الرواية فى الآداب العالمية وفى الأدب العربي المعاصر ... ثم طوف بنا فى عالم محفوظ من عبث الأقدار لبداية ونهاية لثلاثية بين القصرين ثم أولاد حارتنا واللص والكلاب ... ثم أطال الحديث عن رواية الشحاذ وعن المجموعات القصصية التى نُشِرَت فى أواخر الستينيات وبالذات "تحت المظلة" ... وفى نفس الجلسة تحدث بإستفاضة عن الفيلسوف الفرنسي جابرييل مارسيل وعن الفيلسوف الوجودي الألماني مارتن هايدجر ... ثم عرج على فيلسوف الشباب الأمريكيين - وقتها - هربرت ماركوز مؤلف "الإنسان ذى البعد الواحد" ... فى آخر هذا اللقاء أعطانا الأب قنواتي بعض كتاباته عن إبن رشد ( الذى هو فى إعتقادي : أفضل عقل فى تاريخ المسلمين) ... وكانت تلك بداية غرام فكري وثقافي بإبن رشد العظيم . تذكرت كل ذلك منذ أيام وأنا أطالع مقالا عن الأب قنواتي ورد فيه أن أبرز المفكرين المصريين معرفة - شخصية وفكرية - بالأب قنواتي هو استاذ الفلسفة المرموق الدكتور عاطف العراقي ... فعسي أن يتحف الدكتور العراقي المناخ الثقافي فى مصر والمنطقة العربية بسلسلة مقالات عن هذا المحيط الفكري والثقافي والمعرفي والفلسفي العارم الأب جورج قنواتي ... وعسي أن تجذب هذه الكتابة الراقية عقول وضمائر أبناء وبنات مجتمعاتنا عوضاَ عن إستئثار التفاهة والسطحية والهزال الثقافي الذى يروج له - ليل نهار - مسوخ من الناحية المعرفية ... مسوخ وراءهم تمويل مفسد لا مثيل له فى تاريخ البشرية .



· إسمان إذا ذُكرا أمام أي ديكتاتور اليوم فى العالم تكهرب وتخلله رعب وهلع وجزع وفزع لا حد لهم : تشاوشيسكو ... وميلوسوفيتش ... وفى المستقبل القريب سيُضاف إسم الرئيس السوداني البشير لقائمة أسماء الرعب وعدم النوم ؛ وربما الإسهال أيضا .



· رغم إحترامي وتقديري الكبيرين لرموزٍ عظيمة من رموز النهضة الفكرية والأدبية في مصر مثل طة حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ؛ إلا أن جيلهم كان يضم نجوماً أخرى لم تحظ بالشهرة والشيوع والتقدير اللائقين لفقرٍ شديد في جانب المُتلقي . فعمالقة مثل أحمد لطفي السيد وسلامة موسى ومنصور فهمي ولويس عوض هم أفذاذ من طبقة برتراند راسل في بريطانيا ... ولكن المُتلقي هنا لا يستطيع التلقي على موجة الإرسال والبث التي تأتي عليها تجليات هؤلاء الأفذاذ فلطفي السيد الذى لا يعرف للمصري هوية إلا أنه مصري . ولطفي السيد الذى يُترجم للمصريين روائعا من أعمالِ أرسطو ... وسلامة موسى (مثله مثل حسين فوزي) الذى يُقدر الحضارة الغربية التقدير الذي تستحقه بصفتها الحضارة الوحيدة الحية اليوم على سطح الأرض اليوم ؛ فهؤلاء يصعب على المتلقي العربي المعاصر إستيعابهم . أما منصور فهمي فأكبر وأكثر من إحتمال (حتى بالمقارنة بسلامة موسي وأحمد لطفي السيد ) المُتلقي الذي هو في أعلى حالاته وفي شخوصِ من يُسَمون بكبار مثقفيه , محض أطفالٍ في عوالم المعرفة الإنسانية الرحبة . وينطبق نفس القول على لويس عوض الذي كان بقامة طة حسين والعقاد , ومع ذلك فإن مُقدريه وعارفي قدره أقل بكثير مما كان ينبغي أن تكون عليه الحال . ويمكن قول نفس الشئ على شخصياتٍ أخرى مثل محمود عزمي (فارس معركة الطربوش والقبعة منذ ثمانين سنة في مواجهة رمز من أكبر رموز التقوقع والهجرة للماضي وكراهة الحضارة الغربية وهو مصطفى صادق الرافعي) . أما حسين فوزي , فلا يوجد بين المثقفين المصريين والعرب المعاصرين من يعرف عنه أي شئ ؛ بإستثناءات معدودة . لماذا كانت ولا تزال تلك الظاهرة مُتفشية ؟ الجواب ببساطة : لأن المُتلقي ليس فقط مُعتل الصحة الثقافية وواهن الكيان المعرفي ولكن لأنه أيضاً ضحية ذهنية ثيوقراطية إقصائية تضع مُسميات على هؤلاء الأفذاذ , وهي مُسميات كفيلة بالإنصراف عنهم في بيئةٍ ثقافية أحفورية (من الحفريات) .



· ما الذي دهى حِصن الإسلام السُني الأكبر أي الأزهر ؟ . لماذا تقبل مؤسسة بهذه العراقة بالتبعية الفكرية لمؤسسة دينية أُخرى خاضعة بالكلية لأضعف تيارات الفقه الإسلامي وأكثرها نصية وعبادة للنقل وعداءاً للعقل (تيار أحمد بن حنبل وإبن تيمية وإبن قيم الجوزية) ؟ لماذا لا يتصدى الأزهر لأفكارٍ هى بالتأكيد مفارخ التعصُب والتزمت والعُنف والإرهاب والدعوة الحاضة على الصدام مع الإنسانية مثل أفكار الولاء والبراء التي كان لها المُساهمة الكبرى في إنتاج دولة طالبان والأفغان العرب وأتباعهما من الجهاديين والإنتحاريين في شتى أرجاء المعمورة . لماذا لا يتصدى الأزهر لمُجمَل نظرية الولاء والبراء ويشرح لجمهوره الواسع أنها (نظرية الولاء والبراء) نظرية أنتجت في زمن معين وفي ظل ظرف تاريخي محدد هو سقوط أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي تحت سنابك خيل المغول الذين أسقطوا عاصمة الدولة الإسلامية وداسوا أشياءاً عديدة في طريقهم . لماذا لا يُقال على أوسع نطاق أن القول بنظرية الولاء والبراء كانت حاجة سياسية مُلحة في زمنٍ وظرفٍ تاريخي لمنع أبناء الشعوب الإسلامية (وقتها) من التعامل مع العدو الغازي .



· سمعت بأُذُني عملاق الأدب العربي الراحل عباس محمود العقاد وهو يتسائل في سُخريةٍ موحية : لا أظن أن الله سيُحاسبنا على أعمالنا في زمنٍ صار فيه كمال الدين حسين وزيراً للتعليم والبحث العلمي ! ... تذكرت هذه السخرية الفذة أثناء محنة تسرب أسئلة الثانوية العامة مؤخراً فالنظام التعليمي الرائع الذي ورثته حركة يوليو 1952 وحولت قيادتهِ من رجالٍ على شاكلة أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وطه حسين لرجلٍ مثل كمال الدين حسين ، كيف وضعت هذه المؤسسة الهامة للغاية بيد الجهالةِ والسطحيةِ والرعونة منذ نصف قرن على طريق الأفول والإنهيار والإنحدار والتراجعِ حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم ؟




اجمالي القراءات 10381