كونوا برداً وسلاماً على إبراهيم

نبيل شرف الدين في الإثنين ١٤ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

التقيته أول مرة قبل نحو عشرين عاماً، وكان أول ما استوقفني فيه ضحكته التي تحرض كل من حوله على الضحك، وبعد سنوات طويلة من الاقتراب والابتعاد والتوافق والاختلاف، اكتشفت أنه كائن تحريضي في كل شئ، يتقن التحريض على الحياة والتمرد ومحاولات الكتابة وفنون الاحتجاج والصبر ومعان نبيلة أخرى، وأخرى موضع خلاف، وثالثة محض تجارب تثري المرء في النهاية، فالإنسان ابن تجاربه وآلامه.
للوهلة الأولى كان من يرانا معاً، لا يتصور أن هناك ثمة قواسم مشتركة يمكن أن تجمعنا، فهو أولاً "منوفي" وأنا "صعيدي"، وهو معارض ومتمرد بالفطرة، وأنا بدأت حياتي ضابطاً، لا مجال للتمرد في حياته، فالتمرد جريمة في الحياة النظامية، والقانون والأعراف السائدة في هذا المجال صارمة لا تحتمل الجدل ولا التفسيرات ولا الاجتهادات، وجميع قواعدها تصب في خانة "تنفيذ الأوامر"، باعتبارها واجباً وظيفياً.
لم تكن هذه هي كل الاختلافات بيننا، فقد كانت بدايات "أبو يحيى" وهو اللقب الذي صار صديقي إبراهيم عيسى يفضله، ناصرية قومية، بينما كنت ـ ولم أزل ـ أرى هذه التجربة الناصرية كارثة حقيقية قطعت التطور الطبيعي لمجتمعنا المصري، والمجتمعات العربية المجاورة بالتبعية، بعد أن كانت بدأت تتبلور خبرة سياسية ليبرالية في مصر في أعقاب ثورة 1919، رغم ظروف الاحتلال والحرب العالمية الثانية، فضلاً عن ضعف الملك فاروق وفساد حاشيته، ومع كل هذا كان بتقديري يمكن أن تمضي مصر على خطا بريطانيا، في صيغة ملك لا يحكم، ونظام نيابي يحكم فيه رئيس وزراء منتخب، لولم تقم حركة الضباط في مثل هذا الشهر من عام 1952، فتقلب الحياة رأساً على عقب في مصر والمنطقة برمتها.
ما علينا، فهذا ليس موضوعنا الآن، فما يعنينا هنا هو إبراهيم عيسى الذي أحسست بحجم مأساته وأنا أتتبع برنامجه اليومي، كان يفترض به أن يزدحم بالندوات واللقاءات والانغماس في توليد الأفكار والمعارك السياسية، باعتباره يرأس تحرير واحدة من أكثر التجارب الصحافية إثارة للجدل في مصر وهي صحيفة "الدستور" في إصدارها الثاني، بعد أن حوصر إصدارها الأول حتى اضطر الناشر إلى التوقف لالتقاط الأنفاس، ومن ثم تسوية أوضاعه القانونية ليخرج الإصدار الثاني أسبوعياً في البداية ثم يومياً في ما بعد.
وبدلاً من ذلك كله فإن إبراهيم عيسى يقضي أغلب أيامه متجولاً بين قاعات المحاكم وغرف التحقيق، أما التهم الموجهة إليه فهي تتراوح بين التهمة الفلكلورية الشهيرة وهي "الإساءة إلى سمعة مصر"، وصولاً إلى إهانة ما يسمى "رموز الحزب الوطني الحاكم" ولا أفهم كيف يهين المرء كياناً لا وجود له، فالحزب الوطني ليس حزباً بالمعنى المتعارف عليه للأحزاب السياسية، سواء في كتب النظم السياسية، أو في خبرات الأمم والشعوب، لكنه في مصر حالة خاصة، لأنه تحول إلى "رديف" للدولة، بمعنى أنه صار يختزلها في تشكيلاته، كما يحتكر السلطة وحده من دون أدنى بارقة أمل تلوح في المدى المنظور، لإمكانية التداول السلمي على السلطة، وليس بوسع أي حزب سياسي أن يحلم بمجرد منافسته.
ما علينا أيضاً، فهذه مسألة شرحها يطول، فلنبقى مع إبراهيم عيسى، الذي لم تعد سكرتاريته ـ لست متأكداً في الحقيقة إن كانت له سكرتارية أساساً ـ تهتم بتنظيم لقاءاته ومقابلاته، بل تنصب اهتمامها على تنظيم "جدول المحاكم"، فاليوم هناك جلسة أمام محكمة الجنح بشأن قضية "شائعة مرض الرئيس"، وغداً هناك جلسة تحقيق أمام النيابة في بلاغ جديد قدمه شخص مجهول يتهمه فيه بالإساءة لمصر، واليوم التالي هناك جلسة أمام محكمة الاستنئاف في قضية أخرى، وهكذا.. بالله عليكم كيف تكون الحياة في ظل برنامج يومي من هذا النوع؟
وكيف يمكن للصحافي، فضلاً عن رئيس التحرير، أن يفكر في موضوع جديد، أو يطور صحيفته، أو يخوض منافسة باتت بالغة الشراسة مع عدة صحف دخلت مضمار السباق في الساحة الصحافية المصرية خلال الأعوام القليلة الماضية، وأخرى تتأهب لدخول المعترك؟
ثم ألا تعد هذه الملاحقات القضائية المنهكة، بمثابة سلوك حقٍ، لا تتناطح فيه عنزان، وهو الاحتكام للقضاء، لكن يراد به عين الباطل، إذ يستهدف حقيقة استنزاف طاقة الصحافي في قضايا لا معنى لها في جوهرها، وهو بالطبع أمر ينال من قدرات الصحافي على المنافسة الشريفة، خاصة في ظل تواضع الإمكانيات المالية لصحيفة "الدستور"، مقارنة بغيرها من الصحف المدعومة، سواء من جانب الحكومة كالصحف القومية، أو من قبل رجال أعمال كبار مستعدين لتحمل خسائر ضخمة لسنوات طويلة، حتى تستقر تلك الصحف التي يدعمونها، ويترسخ وجودها في المشهد الصحافي المصري.
أما الاتهامات الموجهة من كل صوب وحدب لإبراهيم عيسى، فهي من التنوع بل والتناقض إلى درجة تثير الارتباك، فإذا رأى أن للإخوان حقاً في التعبير عن آرائهم، بالقدر اللازم لاستيعابهم في إطار اللعبة السياسية، تنطلق الاتهامات صوب "أبو يحيى" بأنه أصبح "إخوانياً"، وأذكر أنني أمضيت ساعات طويلة أقنع فيها أصدقاء وزملاء لا يعرفونه عن قرب، بأن إبراهيم لا يمكن أن يكون مجرد متعاطف مع الإخوان، لأنه بحكم روافده علماني ليبرالي، قد نختلف مع معالجاته، لكن هذا لا يعني أن نشارك في اغتياله معنوياً، وهو يرى ـ كما يذهب أستاذنا سعدالدين إبراهيم أيضاً ـ أن جماعة مثل "الإخوان المسلمين" هي حقيقة سياسية في مصر لا يمكن تجاهلها، وليس مستساغا أن نكتفي بمجرد المطالبة بالزج بكل أعضائها في السجون، فمن سنوقع له اليوم على بياض باعتقال الإخوان خارج القانون، سيتوحش غداً ويستدير علينا ليلتهمنا نحن أيضاً في أقرب فرصة ممكنة.. هذا هو رأيه، وهو قول جدير بالمناقشة والتأمل، لا التخوين.
وإذا رأى إبراهيم عيسى أن للشيعة مظلمة تاريخية وأن هذا الملف يرقد على بركان قابل للانفجار في وجوه الجميع، اتهمه البعض بأنه يسعى لنشر التشيع في مصر، مع أن الشعب المصري بطبيعته لا يعاني عقدة "النواصب والروافض" كما هي في بلدان عربية أخرى، فقد وصل عبر خبرات تاريخية إلى صيغة متفردة، فهو سني المذهب رسمياً، شيعي الهوى، لكن لا يمكننا أن نعتبره شيعياً تماماً يؤمن بولاية الفقيه، أو يولي وجهه شطر إيران، ومع ذلك يهيم بحب آل البيت، ويبجل أولياء الله الصالحين، وينظر بكثير من الاحترام لأضرحتهم ومزاراتهم ومراقدهم، ولا يرى في الأمر أي شرك بالله تعالى، كما يتصور السلفيون.
أما إذا أبدى إبراهيم عيسى تعاطفاً مع المظلمة السياسية والإنسانية لأيمن نور، فإنه يصبح برأي بعض الأزلام أميركي الهوى لابد أن الأموال تتدفق عليه سراً من واشنطن وضواحيها، ويتجاهل هؤلاء أن الرجل يكاد لا يدع فرصة لانتقاد السياسات الأميركية في المنطقة دون أن يكيل فيها الاتهامات، لدرجة قد يذهب معها أحياناً بعيداً ـ بتقديري ـ ومع ذلك فإن الاختلاف في الرأي والتقديرات لا يصح أن يكون مسوغاً للتخوين وتوزيع الاتهامات الجزافية على خلق الله، دون أدلة حاسمة وقطعية، خاصة حين يتعلق الأمر بتهم غليظة من طراز العمالة والخيانة وغيرها.
وحين يصرخ عيسى من تبجح الفساد المتفشي في مفاصل الجهاز الإداري للدولة، أو يسخر بلغة تقف على عتبات الكوميديا السوداء، حيال الحجج المضحكة التي يسوقها "كتبة البلاط"، لتبرير خطايا المعالجات السياسية الرخوة للقضايا الوطنية، والالتفاف المكشوف على الإصلاح السياسي الجاد، وغير ذلك من الممارسات التي أوصلت البلاد لهذا المستوى من التدهور الحضاري، حينئذ يتهمه البعض بالمراهقة والصراخ والسوداوية، بينما يمعن من يتهمونه في تمييع أكثر التحديات خطورة وإلحاحاً، ويحسبون أنهم بارتداء مسوح الحكمة سينالون من حماسه وقدرته على مواجهة التحديات.
لهؤلاء جميعاً أؤكد لهم، ومن واقع معرفتي الوثيقة بإبراهيم عيسى، إنني وبعد أعوام طويلة مضت منذ أن التقيته للمرة الأولى بمقر مؤسسة "روز اليوسف" حين كان يلتهم الحياة التهاماً، وعلى الرغم من كل المحن التي خاضها، ولم يزل يخوضها الرجل، فإنها لم تكسره، بل أنضجته كثيراً، إلى حد يستطيع معه أن يسخر حتى من نفسه، وأن يمارس أقسى درجات النقد الذاتي، من دون أن يستشعر أي حرج، أو يلجأ إلى سلوك التبرير وخداع الذات والمكابرة، ومازال يملك روحاً مقبلة على الحياة بشكل يبعث على الدهشة.
سلاماً يا إبراهيم حيثما كنت، في أروقة الصحافة، وعلى المقاهي وداخل ساحات المحاكم وغرف التحقيق، وحتى في غياهب الجب، وفي شتى دروب الحياة، ويا وطناً يبدو أنه احترف التهام أنبل أبنائه، هؤلاء هم ثروتك الحقيقية، ونفطك وزيتك وقنديلك ورايتك وبندقيتك وبستانك، ولا أحسب أن عاقلاً يختار أن يضحي بكل هذه المعاني الرائعة على مذبح إشباع شهوة الانتقام..
والله المستعان

اجمالي القراءات 10335