الترتيل
الترتيل يعني الترتيب وليس تجويد التلاوة حصرا

عبدالله جلغوم في الخميس ١٠ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


الترتيل : يعني الترتيب وليس تجويد التلاوة حصرا
بقلم : عبد الله جلغوم


ما معنى الترتيل ؟ :
الترتيل مصدر " رتل " والراء والتاء واللام في لغة العرب جذر لغوي يدل على التنسيق والترتيب ، وعلى حسن الأداء إذا حمل على الكلام .فالأصل في معنى الترتيل هو الترتيب . قالت العرب : ثغر رتل أي مفلج الأسنان منتظمها ، بين كل سن وسن فواصل دقيقة لكنها ملحوظة على نسق ونظام مرتبين .
( فسر بعضهم قوله تعالى [ ورتل القرءان ترتيلا ] أي اقرأه على هذا الترتيب من غير تقديم ولا تأخير . صبحي الصالح : : مباحث في علوم القرآن ص 70 نقلا عن الزركشي : البرهان 1/259 ) .
( وفي المعجم الوسيط ، رتل : استوى وانتظم وحسن تأليفه ، ورتل الشيء : نسقه ونظمه . ورتل : جود تلاوته 1/327 ) .
فهذا هو الأصل في الوضع اللغوي ، معنى الترتيل هو : الترتيب والتنسيق . ومنه استعيرت بقية الصور في الكلام ، ومنها التجويد وتحسين التلاوة في القرآن . السؤال الذي يطرح نفسه هنا :
المعنى السائد الآن للترتيل هو تجويد التلاوة ، فلماذا غاب معنى الترتيب وهو الأصل ، لصالح المعنى المستعار وهو تجويد وتحسين التلاوة ؟
قصة الترتيل :


يختلف ترتيب سور وآيات القرآن الكريم في المصحف – على النحو الذي هو عليه الآن – عن ترتيب النزول اختلافا بعيدا .فمن المعلوم أن القرآن الكريم قد نزل منجما ( مفرقا ) في ثلاث وعشرين سنة حسب الأحداث والوقائع وحاجات الناس , ثم جمع أخيرا على نحو مغاير لترتيب نزوله .

هذه الظاهرة أثارت عددا من التساؤلات ومنذ القديم . بدأت بالسؤال الذي أثاره المشركون عن علة التنجيم ( سبب نزول القرآن مفرقا وليس جملة ) بقصد التشكيك بالقرآن . فرد عليهم القرآن :( سورة الفرقان 25/32)

[ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ]

إجابة قرآنية حسمت الموقف حسما نهائيا : لنثبت به فؤادك .
فعلة التنجيم ( نزول القرءان مفرقا ) هي : التثبيت .

السؤال التالي التي أثارته ظاهرة الترتيب القرآني : ما الحكمة من ترتيب القرآن على غير ترتيب نزوله ؟
لقد لاحظت في ما يكتب عن هذه المسألة الخلط بين نزول القرآن مفرقا والذي نجده بوضوح في قوله تعالى : ( الآية 106 الإسراء )
[ وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ] والترتيل الذي تذكره الآية 32 في سورة الفرقان ، حيث يتم تناول الآيتين للدلالة على التنجيم .
أقول : لقد كان من الممكن أن ينزل القرآن مفرقا ( للتثبيت ومسايرة الحاجات والأحداث ) وأن يرتب أولا بأول .. هناك شيء آخر نلاحظه في آية سورة الفرقان ، إنه الترتيل وهو غير نزول القرآن مفرقا .. ( ورتلناه ترتيلا ) .

إن نزول القرآن منجما ( مفرقا ) قد حال دون ظهور ترتيبه فيما لو انزل جملة واحدة . فلو نزل القرآن جملة لظهر ترتيبه كذلك جملة واحدة , إلا أن نزوله بالصورة الأخرى ( مفرقا ) قد ربط اكتمال ترتيبه باكتمال نزول القرآن لحكمة إلهية ، أما ظهور ذلك الترتيب فلا زمن محدد له . هذه الحكمة من وراء إخفاء ترتيب القرآن وإبقائه زمنا مجهولا قد يطول وقد يقصر هي : التثبيت أيضا . وبذلك يمكننا أن نتصور أن ترتيب القرآن كان يتشكل بالتدريج , تشكلا يرتبط بنزول سور وآيات القرآن وتتابعها خلال ثلاث وعشرين سنة ويسايرها , وانه كان في تغير مستمر تبعا لاستمرار نزول الآيات وتتابعها واتخاذها مواقع جديدة في التشكيل ( البناء التدريجي ) بتوقيف من جبريل عليه السلام .
فالتشكيل ( الترتيب ) كان في حركة دائمة متغيرة , يساير نزول سور وآيات القرآن , ويتغير تبعا للتوجيهات التي كان ينقلها جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم , ومراحل إدخالها في التشكيل , واستحداث مواقع جديدة لها .

إن فهمنا لظاهرة الترتيب يجعلنا نفسر قوله تعالى : ورتلناه ترتيلا : أي رتبناه ترتيبا محكما . دون أن نقصر ذلك على معنى التجويد وتحسين التلاوة .
ونذهب إلى أن الحكمة من ترتيب القرآن على غير ترتيب نزوله هي : التثبيت . وبما أن هذا الترتيب ( ترتيل الآيات وجمعها في تشكيلات محددة ) لن يظهر قبل اكتمال نزول القرآن , وقد يتأخر الكشف عنه إلى زمن ما غير زمن نزول القرآن , فالتثبيت هنا هو " تثبيت مستقبلي " يعنى بالمستقبل والأجيال والمؤمنين في العصور القادمة , وانه مرتبط بالكشف عن أسرار ترتيب القرآن . وفي حالة حدوث ذلك , سيجد فيه المؤمنون " تثبيتا " جديدا لهم , كما وجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون – في الزمن الماضي – في نزول القرآن مفرقا ما يثبتهم .
فالحكمة من نزول القرآن مفرقا , ومن ترتيبه على غير ترتيب النزول هي : التثبيت .

في المرحلة الأولى : ارتبط نزول القرآن - حسب الوقائع والأحداث وحاجات الناس - بما يحقق التثبيت الملائم والمناسب لتلك المرحلة .
في المرحلة التالية : حيث يتم التشكيل النهائــي والموجه للترتيب ( ترتيب التلاوة الآن ) فارتباط الآيات هنا يتجاوز الأحداث والوقائع إلى ارتباطات جديدة وعلاقات جديدة , ويستند إلى قوانين وأسس وقواعد , تناسب هذه المرحلة , والمراحل التالية لها و وتخاطبها بما يلائمها ويحقق " التثبيت " أيضا .هذه القوانين والأسس تحديدا : قوانين رياضية لغتها العد والإحصاء والأرقام لغة هذا العصر .

وبالمنظور نفسه , فان الرد القرآني على الاعتراض على تنجيمه ومخالفته للمألوف, في الآية 32 سورة الفرقان ، يتسع هو الآخر و ويمتد متجاوزا زمن الاعتراض الأول ( زمن النزول ) إلى زمن الاعتراض التالي ( المستقبلي ) , حيث سيكون ترتيل القرآن ( ترتيبه ) هو الرد القرآني الذي يناسب هذه المرحلة , ويتولى دفع ما يجد من شبهات وافتراءات على القرآن .
والمتدبر في الآية 32 سورة الفرقان يلاحظ أن الآية بعد أن تذكر نزول القرآن مفرقا وليس جملة وتبين الحكمة من نزوله مفرقا تضيف شيئا آخر هو " ورتلناه ترتيلا " .. أي فضلا عن نزول القرآن مفرقا – على تؤدة وتمهل كما يقول المفسرون – فهناك شيء آخر هو الترتيل وهو غير نزول القرآن مفرقا ، وهو غير التؤدة والتمهل والتيسير وغير ذلك ..
إنه الترتيب وليس تجويد التلاوة كما هو في المفهوم السائد حصرا .
قرأت لبعضهم أن الله سبحانه نسب الترتيل إلى نفسه للدلالة على عظمة التجويد .
لماذا لا يكون ذلك للدلالة على عظمة الترتيب ؟ أليس القرآن كتاب الله الكريم ؟ فإذا كان الله قد رتب كل شيء في هذا الكون ابتداء بالذرة وانتهاء بالمجرة ، فهل يترك ترتيب كتابه لأحد من الناس يرتبه على هواه ؟ أليس من المنطق أن يتولى سبحانه ترتيب كتابه ؟ وليكون هذا الترتيب مما يليق بالكتاب المعجز ؟
هل يرتب الله كل شيء في الكون ويستثني من ذلك كتابه الكريم ؟
هل عدم اكتشافنا لأسرار هذا الترتيب يعني أنه غير موجود ؟
لقد تعهد الله سبحانه بحفظ كتابه ، وأعتقد أن الحفظ يشمل الترتيب ، أم أن الله تعهد بحفظ كتابه ولكن من دون ترتيب ؟
كما تعهد سبحانه بجمعه وقرآنه ( إن علينا جمعه وقرآنه ) فهل هو جمع فوضوي أم وفق ترتيب محدد ؟ ( قرآنه : أي ترتيبه ) .
( استدل أحدهم ( من الراسخين في العلم ) من هذه الآية أن من لم يقرأ القرآن مجودا فهو آثم . متجاهلا أن القرآن للناس كافة ، وفيهم العربي وغير العربي ، ومن لا يكاد يتقن لفظ الحرف ، ومنهم الأمي ومن لم يسمع بأحكام التجويد المستحدثة ، إضافة إلى ما في ذلك – لو صح – من تضييق وعنت على المسلمين )
السؤال : ما هي لغة الترتيب ؟
لغة الترتيب هي العد والإحصاء والحساب . يقول سبحانه :
" .. وكفى بنا حاسبين " الأنبياء 21/47
" .. وهو أسرع الحاسبين " الأنعام 6/62 .
" وأحصى كل شيء عددا " الجن 72/ 28 .
هذا كلام الله عن نفسه ، فكل شيء عنده بحساب ، إنه أسرع الحاسبين..
والسؤال الذي يطرح نفسه : أليس من الطبيعي أن يكون ترتيب القرآن بحساب ؟ سوره وآياته وكلماته وحروفه وكل شيء فيه ..

يقول سبحانه ( الشمس والقمر بحسبان ) أي تخضعان لنظام وترتيب محسوب .. فهم هذا الترتيب لا يكون بمقالة أدبية ولا بقصيدة شعر ولا بأنشودة . السبيل إلى فهم هذا النظام هو الحساب . وهو فهم مرتبط بتقدم العلوم والمعرفة ، بدأ هذا الفهم بالنظر إلى القمر وانتهى بالنزول على سطحه ..
وكذلك ترتيب القرآن ، السبيل إلى فهمه هو الحساب ، وليس تدبيج الخطب الرنانة الفارغة . من السهل أن يطلع احدنا ليقول : إن كل سورة في القرآن في مكانها وكل آية وكل كلمة ، إن القرآن لا يقبل زيادة ولا نقصانا ، ولا يقبل تقديما ولا تأخيرا .. كلام جميل خطابي حماسي ، والسؤال هو : كيف ؟
إن على من يقول ذلك – على صحته – أن يبين لنا – مسلمين وغير مسلمين عربا وغير عرب - كيف ذلك ؟

السؤال الثالث الذي أثارته ظاهرة الترتيب القرآني فيما بعد :
هل تم ترتيب القرآن بالوحي أم باجتهاد من الصحابة ؟
من الواضح من السؤال نفسه أنه قد طرح في مرحلة متأخرة من جمع القرآن وليس في زمن الصحابة ، فليس من المعقول أن يطرح الصحابة مثل هذا السؤال على أنفسهم . وذلك يعني أن المواقف منه لم تكن بمعزل عن إشكالات النقل والرواية والتدوين .
يرد هذا التساؤل لدى السيوطي على النحو التالي :
" وأما ترتيب السور فهل هو توقيفي أيضا ( كالآيات ) أو هو باجتهاد من الصحابة خلاف ، وجمهور العلماء على الثاني منهم مالك والقاضي أبو بكر في أحد قوليه " السيوطي : الإتقان 1/135 .
ولدى المتأخرين الشكل التالي :
( اختلف العلماء في ترتيب سور القرآن على ما هو عليه الآن على ثلاثة أقوال :
الأول : وهو ما ذهب إليه الجمهور ، أن ترتيب السور كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ( لاحظ أن السيوطي ذكر أن الجمهور على الثاني ) .
الثاني : أن ترتيب السور تم باجتهاد من الصحابة .
الثالث : أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النبي وبعضها الآخر كان باجتهاد من الصحابة ) د. محمد حسين الذهبي : الوحي والقرآن 137 .
ولدى الزرقاني :
( المذاهب في ترتيب السور :
الأول : أن ترتيب السور على ما هو عليه لم يكن بتوقيف من النبي إنما كان باجتهاد من الصحابة .
الثاني : أن ترتيب السور كلها توقيفي بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم كترتيب الآيات .
الثالث : أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النبي وترتيب بعضها الآخر كان باجتهاد من الصحابة ، وقد ذهب إلى هذا فطاحل العلماء ولعله امثل الآراء .
مناهل العرفان 1/353 ) .

إن بداية التساؤل عن ترتيب القرآن هل تم بالوحي أم باجتهاد الصحابة ، قد ادخل قضية ترتيب القرآن في دوامة من الآراء والاختلافات لم تخرج منها إلى الآن , بل لقد طغى البحث في تلك الاختلافات على البحث في ترتيب القرآن , بسبب ما حمله التساؤل من توهم البعض أن ترتيب القرآن أو بعضه كان من عمل الصحابة واجتهادهم الشخصي . وقد أدى كل ذلك إلي استبعاد ترتيب القرآن ( الترتيل ) من وجوه إعجاز القرآن , وسبب ذلك أن القول : أن ترتيب سور القرآن أو بعضها كان من عمل الصحابة واجتهادهم ( من عمل البشر ) أضفى عليه صفة بشرية , وبالتالي نفى عنه صفة الإعجاز , وحوله في النهاية إلى مسألة خلافية (موضع اختلاف بين العلماء ) . فإذا أضفنا إلى ذلك اختلاف العلماء في عدد آيات القرآن ، وفي عدد الآيات في أكثر سور القرآن – رغم قولهم : الإجماع على أن ترتيب الآيات توقيفي - ، ندرك أننا في مواجهة معضلة حقيقية .
وكان من الطبيعي وهذه الحال أن يسود المعنى الآخر للترتيل الذي ذكره القرآن في سورة المدثر , [ أو زد عليه ورتل القرءان ترتيلا ] المدثر 4:74 . وهو : تجويد التلاوة طيلة القرون السابقة , رغم إدراك البعض أن الترتيل الذي أشار إليه القرآن في آية سورة الفرقان هو الترتيب , إلا أن أصحاب هذا الرأي لم يتمكنوا بما توفر لديهم من الأدلة ( الروايات ) من حسم الموقف لصالحهم .
( ... كان جبريل ينزل بالآيات على الرسول صلى الله عليه وسلم , ويرشده إلى موضع كل آية من سورتها , ثم يقرؤها النبي على أصحابه , ويأمر كتاب الوحي بكتابتها معينا لهم السورة التي تكون فيها الآية , وموضع الآية من هذه السورة . وكان يعارض به جبريل كل عام مرة , وعارضه في العام الأخير مرتين .. الزرقاني / مناهل العرفان 1/ 346 ) .

( كانت الآية تنزل لأمر يحدث ,والآية جوابا لمستخبر , ويوقف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع الآية والسورة , فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبي صلى الله عليه وسلم , فمن قدم سورة أو أخرها فقد افسد نظم القرآن .. وقال ابن الحصار : ترتيب السور ووضع الآيات موضعها إنما كان بالوحي .. الإتقان : السيوطي 1/ 136 ) .

نفهم من هذه الروايات وأمثالها : أنه لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ولا للصحابة من بعده رضي الله عنهم جميعا أي دور في ترتيب القرآن اللهم تنفيذ التوجيهات التي كان ينقلها جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم , والنبي بدوره ينقلها إلى كتبة الوحي . إلا أن تضارب آراء العلماء وتعدد الاجتهادات والأقوال في الإجابة على التساؤل : " هل تم هذا الترتيب بالوحي أم باجتهاد من الصحابة " أدى إلى دخول مسألة الترتيب في نفق لم تخرج منه حتى الآن , بل تحولت إلى مسألة خلافية , واضطر معها الجميع إلى الابتعاد عن البحث عن الحكمة من ترتيب القرآن على غير ترتيب النزول ، وهي غير الحكمة من نزوله مفرقا .
وورث المتأخرون هذه الأقوال وحافظوا عليها , ودافع البعض عنها , وفي النهاية وجد البعض أن حل هذه المعضلة يكمن في التضحية بترتيب القرآن واعتباره مسالة ثانوية لا أهمية لها , فالقرآن هو القرآن سواء أكان ترتيبه كذا أو كذا وسواء أكان عدد آياته كذا أو كذا .. ومن الواضح أن مثل هذا الكلام ليس أكثر من هروب من مواجهة المشكلة , فالفرق كبير جدا بين أن يكون ترتيب القرآن من عند الله أو أن يكون باجتهاد من الصحابة ؟؟؟

ومن الطبيعي وهذه النهاية أن يستبعد ترتيب القرآن من دائرة الاهتمام , وأن تختفي الإجابة على التساؤل عن الحكمة من ترتيب القرآن على غير ترتيب النزول قرونا طويلة .. وأن تتحول التوجيهات التي كان ينقلها جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم , والتي كان النبي ينقلها إلى كتبة الوحي , تحولت إلى مجرد رواية يتناقلها الدارسون يمرون عليها دون أن يتساءلوا ما الهدف من تلك التوجيهات ؟ هل يمكن أن تكون بلا هدف ولا قصد ؟ وإذا كانت كذلك افتراضا فما ضرورتها إذن ؟

إن الهدف من تلك التوجيهات بكل بساطة : الانتهاء بترتيب سور القرآن وآياته إلى الحال الذي هو عليه الآن , وهو ترتيب قدره الله سبحانه وتعالى ليكون وجه الإعجاز الموجه إلى جميع الناس في الزمن الملائم , الزمن الذي يستطيعون فيه فهم أسرار هذا الترتيب ودلالاته , هذا الزمن هو زماننا هذا . أما لغة هذا الوجه فهي الأرقام لغة هذا العصر , اللغة المشتركة بين أمم الأرض كلها .

في عصرنا هذا سيجد الناس في ترتيب القرآن ما يثبت لهم – بلغة عصرهم - أن هذا الكتاب هو كتاب إلهي وليس كما يزعم خصوم القرآن والمشككون فيه وهم كثيرون ..وهذه هي وظيفة المعجزة , إنجاز الخطوة الأولى باتجاه رسالة ما وتصديقها , يتوجه من يؤمن بها بعد ذلك إلى كتاب الله واتباع كل ما جاء فيه , يصل بعد ذلك إلى مرحلة تبدو معها المعجزة وكأنها فقدت دورها في حياته , وهذا هو السر في قول بعضهم : أنا مؤمن بالقرآن ولست بحاجة إلى أي معجزة جديدة .
[ ليس بالضرورة أن يفهم الشخص كل أسرار الترتيب ليصل إلى القناعة بأن القرآن كتاب الله ، قد يكفي البعض ظاهرة ما .. كما أنه ليس بالضرورة أن يقرأ الشخص القرآن كله ليصل إلى تلك القناعة ] .
الطعن في القرآن :
ويواجه القرآن حملات من التشويه والافتراء وإثارة الشبهات من حوله بقصد التشكيك فيه , ويزعم المرتابون والمشككون في القرآن ضياع بعض أجزائه بحجة كتابته على الحجارة وسعف النخل واستخدام أدوات بدائية في حفظه مما كان متوفرا زمن نزوله ... وتتسع دائرة التشويه إلى حد الزعم أن القرآن من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم , وقد أعانه عليه بعض معاصريه ، وهي شبهة قديمة حديثة ...

ومن الطبيعي أن تجد هذه الافتراءات آذانا صاغية من قبل الكثيرين الذين لا يعرفون عن القرآن غير ما يصلهم عن طريق هذه الفئة , ويزداد التأثير على هؤلاء في حالة غياب البديل , أعني دور المؤسسات الإسلامية في تقديم الصورة الحقيقية للقرآن الكريم , واستغلال كل ما من شأنه توضيح هذه الصورة , وفي مقدمة ذلك ترتيب القرآن , معجزة القرآن التي ادخرها لهذا العصر , ومخاطبتهم باللغة التي يفهمونها لغة الأرقام ..

لنقرأ بعض ما يكتبه خصوم القرآن عن القرآن : ( نقلا عن الإنترنت )
" ومما لا ريب فيه ولا ينبغي أن يختلف فيه اثنان أن محمدا هو في الحقيقة مصنف القرآن وأول واضعيه , وان كان لا يبعد أن غيره أعانه عليه كما اتهمته العرب ....... "
" ولما قام الحجاج بنصرة بني أميه لم يبق مصحفا إلا جمعه واسقط منه أشياء كانت نزلت فيهم وزاد أشياء ليست منه . وكتب ستة مصاحف جديدة بتأليف ما أراده وهي القرآن المتداول اليوم ...."
" وهذا الكتاب كما اعتراه النقص تطرقت إليه الزيادة أيضا وذلك أن الخلفاء الذين أمروا بجمعه أولا لم يكفهم انهم حذفوا منه كل ما رأوا المصلحة في حذفه حتى زادوا فيه ما ليس منه ... "
" ويترتب على ما مر من التناقض والغلط والجهل أن القرآن كلام البشر لا كلام الله وانه من حيث المعنى تصنيف رجال مختلفي المقاصد من عرب ومجوس ونساطرة ويهود ...وكم وكم في القرآن من كلام لا ينبغي أن يتردد أحد في الجزم بأنه لمحمد نفسه , وكم وكم فيه من كلام لكتبة محمد .... "

وقد تصدى علماء المسلمين للرد على هذه الشبهات كل قدر استطاعته , إلا أن هذه الردود على كثرتها ظلت قاصرة عن مواجهة حملات التشكيك في القرآن بسبب غياب حقيقة الترتيب القرآني , هذه الحقيقة التي بدأت تتكشف أسرارها حديثا .. إذ أن كثيرا من هذه الشبهات اتخذت من تضارب الأقوال في مسألة ترتيب القرآن ، ومما هو موجود في كتبنا منافذ للتشكيك في جمع القرآن .

إن في ترتيب سور القرآن وآياته من الأدلة المادية الملموسة على مصدر القرآن وألوهيته ما لا يمكن إنكاره , انه وجه الإعجاز القرآني الذي يمكن نقله إلي الآخرين باللغة التي يفهمونها دون أن يفقد دلالاته , وهي ميزة تستدعي الاهتمام بهذا الوجه وتوظيفه في خدمة القرآن وأهله .
ولا بد أن يثير ترتيب القرآن – حين الاطلاع عليه – التساؤل : كيف جاء ترتيب القرآن على هذا النحو مع ما نعلمه من نزول القرآن مفرقا حسب الوقائع والأحداث وحاجات الناس , وترتيبه على نحو مغاير لترتيب النزول ؟ ..

هل يتفق هذا الترتيب المحكم مع ما يزعمه المشككون بالقرآن , والزاعمون بأن القرآن من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم ؟ هل يتفق هذا الترتيب مع القول بتحريف القرآن وتعرضه للزيادة والحذف التي يروج لها المشككون ؟ هل يتفق هذا الترتيب مع الطريقة التي يزعم المشككون أن محمدا اتبعها في تأليف القرآن ؟

إن ما أثير حول القرآن من شبهات سيبدو مضحكا وغير مقبول حين نحتكم إلى ترتيب القرآن , ونيسر للآخرين الاطلاع عليه , وهذه المهمة تتطلب دورا فاعلا من المؤسسات الإسلامية , وأقل ما يمكنها تقديمه في هذا المجال : دعم الباحثين والدراسات الجادة في هذه المسألة .

إن من المؤسف حقا أن بعض المنتسبين إلى ديننا الحنيف هو أول من يحارب الباحث في هذا المجال بحجج واهية ، كقولهم أن القرآن كتاب هداية وإرشاد وليس كتاب رياضيات ،( ومن قال أن القرآن كتاب رياضيات ؟ وما المانع أن يكون القرآن كتاب هداية وإرشاد ومحكم الترتيب ؟ ) وأن هذا مما لم يعرفه السلف الصالح ولو عرفوا فيه فائدة ما تركوه ( لقد كان لهم في لغة القرآن ما يكفيهم ، ولم تكن الوسائل المتاحة لديهم تعينهم في هذه الناحية ) ومنها قولهم أن مثل هذه الأبحاث المعاصرة من البدع المنهي عنها ، وغير ذلك من الحجج الواهية .

اجمالي القراءات 57709