العلمانيون الأقباط والنحت بالأظافر

كمال غبريال في الثلاثاء ١٨ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

العلمانيون الأقباط – لمن لا يعرفهم- مجموعة من مثقفي الأقباط الأرثوذكس، أخذت على عاتقها محاولة فتح كوة يدخل منها النور والهواء المتجدد إلى كهوف الكنيسة الأرثوذكسية العتيقة، والتي انغلقت على نفسها جراء عصور الجهل والاضطهاد الطويلة والممتدة، لتتكون فوق جوهرة الإيمان المسيحي النقية طبقات متعددة ومتوالية من القشور المتكلسة، عزلتها عن العالم وعزلت العالم عنها، ذلك بالتوازي مع ذات ما حدث لمصر الوطن، التي تكاد تخرج نهائياً من مسيرة التاريخ الإنساني، نتيجة لأسرها الذي طال بين براثن الأفكار والرؤى منتهية الصلاحية.
"العلمانيون الأقباط" حسب فهمي الخاص لرسالتهم -والذي لا يتحتم أن يوافقني عليه جميع أفراد تلك المجموعة- لا يحملون رؤى أو أفكار جديدة تتعلق بالعقيدة الدينية للمسيحية أو للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فمفهوم وفهم الإنسان للعلاقة بينه وبين إلهه ليست من الأمور التي تقبل الطرح للنقاش العام، فهي أمر شخصي إلى نهاية المدى، ويستطيع الفرد إن شاء مناقشته مع من يشاء من الخبراء في شئون العقيدة، يأخذ منه ما يشاء ويحتمل، ويترك ما عدا ذلك، دون ما موجب لإملاء أو وصاية من بشر كائناً من كان، لكن ينصبُّ اهتمام "العلمانيون الأقباط" على الإنسان في حياته العامة واليومية، وفيما يتلقاه من تعليم وثقافة تؤهله للتعامل مع الآخر، وتساعده على رؤية واقعية وعقلانية لذاته وللعالم من حوله، علاوة على اهتمامهم بشئون الكنيسة باعتبارها أضخم وأعرق مؤسسة وطنية مصرية، تحتل بأنشطتها وخطابها المساحة الأكبر في حياة قطاع هام من المصريين تتراوح نسبته بين 10- 15%، علاوة على التأثير غير المباشر، عبر علاقات الكنيسة وجماهيرها مع باقي مكونات المجتمع المصري في شتى مجالات الحياة.
ربما أكثر الحجج التي يروجها أعداء التغيير والمتضررون منه رواجاً، هو أنه ليس الآن وقت النقد الداخلي للكنيسة، فيما الأقباط وكنيستهم يواجهون هجمة شرسة من الجماعات الظلامية، التي نجحت في اختطاف المجتمع المصري، بل واختطاف كافة أجهزة الدولة ذاتها، النصف الثاني من الحجة صحيح ولا ريب، فوضع الأقباط حقيقة خطير، والأمور تسير حتى الآن في اتجاه تحول ما نعتبره "تمييزاً ضد الأقباط" إلى أن يصبح "اضطهاداً سافراً ضدهم"، لكن النصف الأول من الحجة خطأ محض، فليس هنالك أوان للإصلاح وأوان لا يناسبه الإصلاح، فالإصلاح والتغيير في أي مؤسسة إنسانية لابد وأن يكون مستمراً، وإلا تحللت وتهاوت، أو صارت متحفاً في أحسن الأحوال، رغم أن وقت الأزمات بالذات هو الوقت الذي يكون فيه الإصلاح والتغيير أكثر إلحاحاً، فإصلاح ما بداخل الكنيسة، وتطوير خطابها وتعليمها للأقباط ليتوافق مع العصر وظروف الوطن، هو الذي سيمكن الأقباط وكنيستهم من مواجهة ما تتعرض له من ضغوط، كما سيساعد عموم الوطن على اجتياز أزمته الحضارية والثقافية، ليلتحق بركب الحضارة العالمي، فمن السذاجة إن لم يكن سوء النية أن نقول بأن نحتفظ بعيوبنا كما هي إلى أن نحقق ما نصبو إليه، لأن العكس هو الصحيح تماماً، فما لم نغير ما بأنفسنا، فلن نستطيع تغيير ما يحيط بنا من ظروف نرفضها.. يذكرني منطق هذه الحجة بما يقوله أذناب الدولة في المجال السياسي، من رفض تطبيق الديموقراطية حتى ينتهي الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فياله من منطق متهافت، ويالها من نكتة سخيفة مبكية!!
مشكلة أو مأساة "العلمانيون الأقباط" أنهم يسعون بفكرهم الجديد (لمن يشاء اعتباره جديداً) في مصرنا العزيزة أرض المقدسات، نعم هي بجدارة أرض المقدسات، فكل ما في بلادنا مقدس، كل ما في بلادنا يحمل لافتة غير مرئية، لكنها واضحة ومقروءة ومستقرة في وجدان الجميع، لافتة تقول "ممنوع الاقتراب والتصوير" و"ممنوع المناقشة أو الاعتراض"، "ممنوع حتى مجرد التفكير والتأمل والتدبر"، فكل ما حولنا مقدس وغير قابل للمس أو الجس، الحاكم مقدس وقد اعتبرناه في العصور الفرعونية إله، أما الآن فقد تنحى قليلاً ليصبح نائب الإله على الأرض، أو مستعيناً في بطانته بعدد من نواب الإله، يؤمنون له القدر المطلوب من القداسة، لكي لا يتجرأ أحد على مناوأته أو مساءلته عما يقول ويفعل، كما لا يتجرأ أحد على إنزاله من كرسيه الذي لا يبارحه إلا بالموت، بل وربما بعد موته لا يعدم من يستدعي روحه لترشدنا في تخطيط ما عجز هو عن حسن تدبيره خلال حكمه وحياته الماجدة، أو لم نفعل هذا مع زعيمنا المفدى جمال عبد الناصر؟!!
عاداتنا وتقاليدنا وثقافتنا كلها مقدسة، فليس من المقبول في أرض المقدسات أن تكون ثمة أفكار إنسانية غير مقدسة، لذا يلجأ كل صاحب رأي إلى إسناد ما يرى إلى الكتب السماوية، ولا يتم هذا الإسناد على أساس التماس التأييد لفكر إنساني من مرجعية الكتب السماوية، فهذا لا غبار عليه، وربما عده البعض مطلوباً وضرورياً، لكن الإسناد يتم على أساس أن الرأي المعروض هو الفهم والتفسير الوحيد الصحيح لكلمة الله، وأن أي انحراف عنه أو نقد له هو من قبيل الخيانة والردة والكفر والشرك والزندقة والهرطقة وازدراء الأديان.... عدد لا بأس به من الاتهامات الخناجر جاهزة دائماً لتسدد إلى قلب من يتجرأ على انتقاد الأفكار المقدسة الراسخة كالصخور الأزلية.
إذا أرادت الدولة تغيير ضريبة التركات، ذهبت إلى رجال الدين ليسندوا الأفكار المطلوب تقنينها إلى المرجعية المقدسة، وإذا أراد الأطباء والمجتمع مناقشة زراعة الأعضاء البشرية أو تغيير توصيف موت الإنسان من توقف القلب إلى موت جذع المخ، ذهبوا أيضاً إلى سدنة المقدس، لأنه غير مسموح في بلادنا العزيزة بأن يكون هناك أي رأي أو فكر غير مقدس، كما هو غير مسموح ولا مستساغ أن يُتخذ صالح الإنسان كمرجعية، فالإنسان في هذا المناخ مجرد مفعول به لا أكثر ولا أقل، مجرد حجر بلا قيمة في حصون المقدس المنيعة، وفي أحسن الفروض متسول ينتظر ما قد يجود به سدنة المقدس من مراحم، لكنه دائماً عليه أن يحرص على أن يكون من زمرة القانعين الشاكرين على كل حال وفي كل حال ومن أجل كل حال!!
هذا عن مصر الوطن الذي يشمل الجميع، وتحتويهم ثقافته وهيمنة رجال حكمه بالإكراه أو بالتي هي أحسن، فما بالنا إذا كان الأمر يتعلق بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية، حيث تعني كلمة الأرثوذكسية الرأي المستقيم، وهذا مقبول ومستحب في العقائد الأساسية واللاهوتية، لكن المشكلة أو الكارثة هو امتداد الجمود والانغلاق على الذات إلى ما يتعلق بحياة الناس ورؤيتهم لأنفسهم وللعالم، فيما الناس من حولنا يبدلون ويطورون حياتهم باستمرار ودأب، بل ويعتنقون التغيير والتطوير منهجاً للحياة، لنظل نحن جالسين القرفصاء نطقطق عظم أرجلنا كما قال نزار قباني، ونجتر مقولاتنا ومفاهيمنا، التي تفصلها عن العصر دهور لا نستشعر مرورها، ونسارع بإخراس كل صوت يهمس بغير المستقر المقدس دائماً، باعتباره اعوجاجاً ومروقاً من الأرثوذكسية والدين والإيمان المستقيم.
لو توقفت تلك الرؤية المضحكة المبكية للتقديس عند حدود الأفكار لهان الأمر، ولأمكن الالتفاف حولها بطريقة أو بأخرى مثل التأويل والفهم المجازي للمقدسات، لكن الكارثة الحقيقية هي في امتداد التقديس إلى الأفراد الذين ينصبون أنفسهم نواباً للإله ورعاة وحماة للدين، أي رجال الكهنوت باختلاف رتبهم، هم في نظر الأقباط -المغسولة أدمغتهم منذ الطفولة بالتعليم الكنسي- ملائكة أطهار مقدسون، كل ما يقولونه مقدس.. كل ما يلمسونه مقدس.. إن لمسوا الماء أو الزيت صار مقدساً، وإن ماتوا فرفاتهم مقدسة، تشفي الأمراض وتجلب المنافع والنجاح والفلاح لكل من يتسمح بها، حتى تراب قبورهم مقدس، وإذا ما شُرب مزيجه مع الماء فسيكون له فعل السحر، ربما بما يفوق سحر "شربة الحاج محمود" ذائعة الصيت.
في ظل هذه الثقافة من الطبيعي ألا تعدم الكنيسة بين قادتها أكثر من "بريا" و"جوبلز"، وأن نعيد إنتاج مقولة "أنا الدولة" التي صارت مثار سخرية، في صيغة "أنا الكنيسة" و"أنا المسيحية"، ما يعني بالتالي أن تعتبر مجموعة "العلمانيون الأقباط" "ضد الكنيسة" و"ضد المسيحية"، وليست كما هي في الحقيقة ضد ممارسات وأفكار لم تعد مقبولة، يفرضها ويصر عليها من نصَّبوا أنفسهم نواباً لله ومتحدثين باسمه.. والناس في بلادنا بطبعهم أتقياء وطيبون وبسطاء.. نعم هم يئنون مثلاً تحت وطأة تعسف قوانين الأحوال الشخصية المقدسة واللا إنسانية التي يصر عليها قادتنا المقدسون المعصومون من كل خطأ أو سوء تقدير.. والناس أسرى أسوار الكنيسة خائفون مرتعبون من الاختلاط بأولاد العالم (كما يسميهم خطاب الكنيسة) خارجها.. هم عاجزون عن التأثير الإيجابي في وطنهم سياسياً واجتماعياً، وهم المحاصرون بتهديدات جماعة الإخوان المسلمين، التي تحيطهم بالكراهية، ويحقر أعوانها منهم ومن دينهم وكتابهم المقدس في وسائل الإعلام ليل نهار، دون أن يكون لهم حول ولا قوة وهم محاصرون داخل الكنيسة، خوفاً من الخروج إلى الهواء الطلق، لأن الكنيسة تقول لهم أنهم أبناء الملكوت وليسوا أبناء العالم، وتعدَّهم لكي يكونوا خرافاً جاهزة للذبح.. هم المتضررون من سوء إدارة الكنيسة وإهمال الفقراء والضعفاء والمحاصرين بالضيقات، لحساب تعاظم القلاع الخرسانية والسيارات المرسيدس الفارهة.. لكنهم قبل كل ذلك ورغم كل ذلك لا يريدون أن يخالفوا المقدس، كي لا يخسروا حياتهم الآخرة، خاصة بعد أن يأسوا من هذه الحياة الدنيا.
وسط هذه الظروف المقدسة والمستحيلة تحاول تلك الجماعة المحدودة عدداً من العلمانيين الأقباط النحت بأظافرها في صخور المقدس العتيقة والأزلية.. تحاول أن تفتح كوة يدخل منها نور العصر الذي نعيشه، والهواء النقي الذي تستنشقه الشعوب المتحضرة.. تحاول أن تعبر عما يجيش بصدور الملايين من الأقباط، الذين يعانون ويئنون في صمت غير مقدس.. تحاول أن تشق لهم درباً يهربون خلاله من سجن العزلة، ليلتقوا بإخوانهم في الوطن على قاعدة المواطنة والعدالة والمحبة والمساواة، وليواجهوا جميعاً خطر وحش الفاشية الثقافية والسياسية والدينية الذي يهدد مصر وأهلها صناع الحضارة في فجر التاريخ.
كلما تكاثرت المقدسات، كلما انحسر العقل أو غاب، وتحولت الحياة إلى سجن كبير، يتم فيه سحق الإنسان والإنسانية، رغم أنه على باب السجن هنالك لافتة تَدَعي أنه "سجن مقدس"، فهل ننجح جميعاً في تحطيم بوابات السجن، لنخرج إلى "حرية مجد أولاد الله"؟

اجمالي القراءات 10543