النرويج .. الآن يمكنني الحديث عنها!

محمد عبد المجيد في الإثنين ١٧ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً



أوسلو في 12 يناير 2008


كل فترة زمنية تعطي مكان انطباعها الذي يتغير وفقا لفترة المعايشة، ورؤية الشخص الزائر أو السائح أو المغترب أو المهاجر مؤقتا أو الذي قطع نهائيا خط العودة للوطن الأم.

والناجح غير الفاشل، والمندمج في قضايا وطنه الثاني يختلف عن المقيم فيه كأنه لم يغادر وطنه الأم.

والرؤية قد تنقلب إلى العكس تماما إنْ تعرض المغترب لظروف قاهرة أو تمييز أو عنصرية صريحة، وقد يحدث العكس فيكتشف في وطنه الجديد ما أفتقده في مسقط رأسه.

ثلاثون عاما أو يزيد هي عمر اقامتي في النرويج، أي أن نصف عمري قضيته في هذا البلد النائي، وبالتالي فإن الذكريات تصبح ملتحمة بالحياة العادية اليومية، حُلوها ومُرّها، ولو قمت بتقسيم تلك الفترة إلى مشاهد متقطعة فأغلب الظن أن الرؤية لن تكون موحدة.

خلال السنوات الأولى من وصولي كان الحديث عن إسرائيل يجري همسا، ولم يكن باستطاعة أحد أن يرفع صوته منتقدا الدولة العبرية.

كان أكثر من نصف أعضاء البرلمان النرويجي هم في الوقت عينه أعضاء في منظمة ( أصدقاء إسرائيل )، بل كان من المستهجن أن لا يكون المرء صديقا لدولة حصل مستعمروها على عقد تمليك من الرب في كتاب مقدس بأن يعودوا، ويطردوا شعبها ولو مضى عليه في الأرض المقدسة مئات الأعوام .

جئت في وقت كانت عقدة الذنب الهولوكستية تلتصق بدموع النرويجي حتى لو كان والده من المتعاونين مع الاحتلال النازي للنرويج.

وكان الوجه البريء لاسرائيل يخفي قسوة العنصرية الصهيونية التي لم يشاهدها أحد قبل عام 1982 عندما بدأ جنود قوات حفظ السلام من الشباب النرويجي يعودون إلى أهلهم، ويقصّون عليهم ما لم يدر بذهن أي منهم.

اكتشف ذوو العيون الزرقاء والشعر الذهبي أن العرب ليسوا شياطين يعتدون على اليهود الملائكة في جنوب لبنان.

وشاهدوا صواريخ اسرائيل تهبط على الآمنين بدون تمييز، وتقتل الأطفالَ والنساء، وأن العرب من فلسطينيين ولبنانيين يبحثون عن السلام.

وحدث أول تغيير بطيء كالسلحفاة لدى الرأي العام النرويجي، فاسرائيل حالة من القداسة المرتبطة بالعهد القديم، واليهود المساكين تكاد تلمسهم أنيابُ العرب كما صوّرهم الاعلام الغربي والأمريكي، لذا باعت النرويج لاسرائيل الماء الثقيل للمفاعل النووي، ثم ساعدت في تهريب صواريخ من فرنسا.

أما قضية أحمد بوشيخي الشاب المغربي الذي قامت عناصر الموساد بتصفيته وهو خارج من مطعم يعمل به في مدينة ليلهامر المسالمة فلم تؤثر على الرأي العام، فقد كان ذلك عام 1973 وحالة الغضب عما حدث في ميونيخ لا تزال رافدا لتبرير جرائم جهاز الاستخبارات القذر القادر على تصفية من يشاء في أي مكان وزمان.

سنوات طويلة مرت قبل أن يحدث التغيير الملحوظ في الرأي العام النرويجي، ولم يكن أحد من أكثر المتفائلين قادرا على تصور وجود وزيرة نرويجية ورئيسة حزب، وتطالب علانية بمقاطعة اسرائيل( أعني السيدة كريستين هالفورسين وزيرة المالية ورئيسة الحزب الاشتراكي اليساري ) !

وظهر الجانب القبيح للدولة العبرية، وانتهى عصر التابو، واختفى تقريع الضمير بمجرد ذكر اسم اليهود وتاريخهم والمذابح ضدهم.
مع ظهور البترول عام 1968 وتصديره بكميات تزداد حتى أصبحت النرويج رابع أكبر مصدر للذهب الأسود، تطورت الدولة بسرعة عجيبة، وتعاملت مع العصر بلغته، وانعكس الوضع الاقتصادي على التعليم والعلاج والمستشفيات والطرق والأجور والتطور التكنولوجي وامكانيات أفراد الشعب لشراء احتياجات جديدة ظهرت مع القدرة المادية.

النرويجي صريح إلى أبعد الحدود عندما يحدثك عن سنوات الفقر الطويلة، وأن ثلث السكان هاجروا إلى أمريكا .. العالم الجديد ما بين 1830 إلى 1950.

وجاء الباحثون عن لقمة العيش، وخطا الباكستانيون أولى خطوات الهجرة إلى النرويج في نهاية الستينيات وكان أكثرهم من مدينة لاهور وضواحيها، ثم لحق بهم المغاربة وأكثرهم من شمال المغرب، وبدأ الهجرات العربية في موجات تدفعها الحروب والأزمات..اللبنانيون خلال الحرب الأهلية، والعراقيون الهاربون من جحيم الحرب مع إيران، والفلسطينيون بعيد الغزو الاسرائيلي لجنوب لبنان في 1982، ثم العراقيون بعد حرب تحرير الكويت، وجاءت موجات صومالية وكردية وارتيرية.

ولم تكن النرويج محظوظة في نوعية كثير من الأجانب، فلم تستقبل فقط مساكين وهاربين وباحثين عن عالم الحرية والثقافة والتحضر، لكن كان هناك أيضا محتالون ومتطرفون وكسالى وخصوم للتمدن.

اللجوء السياسي وقبول الكثيرين كحالات انسانية، والتحاق العائلة برب الأسرة هنا حمل معه الاثنين معا: التنوع الثقافي الذي يثري، والتناقض الثقافي الذي يصنع التصادم الصريح أو غير المرئي.

عندما يفشل المهاجر في الاندماج يلقي بالمسؤولية على مضيفيه، ولكن الحقيقة أن العنصرية ليست مقتصرة على أهل البلد إنما قد يصنعها المهاجر بسلوكياته الغريبة والمتناقضة مع وطنه الثاني.

وظلت مساحة التسامح في النرويج كبيرة ، بل يصعب أن يعثر المهاجر العربي على مثلها في أي قطر عربي آخر يحتضنه إنْ طرده بلده الأصلي أو ضاقت به سبل الحياة.

أجانب كثيرون حصلوا على الجنسية النرويجية ولا يستطيع أيٌّ منهم أن يكتب أو يقرأ أو ينطق جملة سليمة بلغة البلد الذي منحهم جنسيته.

تستطيع هنا أن تعيد صياغة كرامتك الانسانية رغم بعض مظاهر العنصرية المتفرقة هنا و .. هناك.

كنت تقدم جواز سفرك لضابط أمن المطار في بلدك العربي أو أي قطر عربي آخر وترتعش يداك، وتصطك أسنانك وتشكر ضابط الأمن أنه أعاد إليك جواز سفرك بعدما تفحصه مليا، ثم انتقل التفحص إلى وجهك وقسماته وعضلاته المضمومة والمرتخية، كانت ركبتاك لا تستطيعان حَمْلَك إنْ تم ابلاغُك بأنك مطلوب في قسم الشرطة للردّ على عدة أسئلة، هنا لو طلبك رئيس جهاز المخابرات النرويجية وقدمت اعتذارك لأنك ذاهب إلى السينما مع ابنك الصغير فلن يعترض أو تبهت ابتسامته.

أما الآن فإنك في مطار أوسلو تبدي تململا وبعض الغضب إنْ تأمل ضابط الأمن في جواز سفرك عدة ثوان وأعقبها بالنظر إليك.

شاهدت مرة كوري فيلوك عندما كان رئيسا للوزراء، وكان يقف في الترام وعلى جانبه مقعدان متجاوران يجلس على الأول طفل في الثامنة من العمر وبجواره والدته.

نظرت السيدة إلى رئيس الوزراء وابتسمت، لكنها لم تطلب من ابنها أن يقوم ليجلس رئيس الحكومة مكانه.

هنا تجد أجنبيا يتحدث اللغة النرويجية بصعوبة، ويعمل في واحدة من الأعمال اليدوية التي لا تحتاج لأي جهد فكري أو حتى رائحة التعليم والثقافة، لكنه يعرف حقوقه جيدا، ولا يستطيع صاحب العمل أن يطرده إلا بشق الأنفس فالنقابة تسانده، والقانون يقف معه، والصحافة يمكن أن تكون طرفا للدفاع عنه.

حضرت منذ سنوات طويلة وقائع محاكمة السيدة فيفي كروج بتهمة معاداة الاسلام وممارسة العنصرية ضد المسلمين، وحكم عليها القضاء بعقوبة مناسبة لجرم اهانة القرآن الكريم. تحصل كل المراكز الاسلامية على
دعم سخي من الحكومة النرويجية، وفي أوسلو ترتفع مأذنة في قلب العاصمة، ورغم ما نشرته الصحافة النرويجية من مشاكل وحوادث مؤسفة منها معارك بالسلاح الأبيض بين مسلمين باكستانيين من أجل التحكم في إدارة المسجد، وكتبت الصحف أيضا عن فضيحة الأسماء التي يتم تقديمها للحكومة للحصول على دعم مادي وفقا لعدد أعضاء المركز الاسلامي، ومنها أسماء أشخاص وهميين وبعض أسماء الذين توفاهم الله منذ سنوات، إلا أن لغة التسامح بقيت قائمة ولو تخللتها بين ألفينة والأخرى عنصرية أو تمييز لأفراد وليس لحالة مجتمع.
وهنا تحصل على الضمان الاجتماعي، وتقدم لك الدولة الدعم الأسري، ويعالَج طفلك مجانا حتى يبلغ الثانية عشرة من العمر، وتحصل الحامل على كل المميزات التي لا تحلم بعُشرها نساء في عالمنا الثالث، حتى المبلغ الذي تدفعه لسيارة الأجرة في الطريق إلى المستشفى تعيده لها الحكومة.

وتوفر لك الدولة التعليم والكورسات ومعها الدعم المالي، وتستطيع أن تقضي ما بقي لك من عمر تتعلم والدولة تساهم بالنصيب الأكبر.

وأنت آمن على نفسك وكرامتك ودينك، وتمارس شعائره دون أن يعتدي عليك قانون أو مسؤول حكومي أو أمني.

وهنا لا تموت من الجوع، ومهمة الحكومة هي إدارة شؤون الدولة، أي أنها في خدمتك، أما في عالمنا العربي فأنت في خدمتها.

والنرويجي يحترم حبك لبلدك، ويتذوق طعامك، ويسمع هموم غربتك.

وإذا قام التلفزيون بحملة تبرعات لصالح مرضى أو أيتام أو ضحايا عنف أو زلزال أو مجاعة فإن النرويجيين كلهم، تقريبا، سيتبرعون، وبسخاء.

ليس هناك عالم من الملائكة، وستعثر بسهولة على عنصريين وطائفيين وكارهين لدينك ولونك وجنسيتك السابقة وموطنك الأصلي، وستتخفى العنصرية البيضاء في قلوب سوداء، لكن الحقيقة أن الأغلبية من أبناء الشعب النرويجي تتعامل معك بتسامح ومودة وصدق قد لا تقابله بين أهلك وأحبابك وأبناء مسقط رأسك.

العنصرية حالة كراهية، لكنها قد تكون جهلا بثقافات الآخرين وأديانهم ومذاهبهم وبلادهم، فيبدأ التوجس، وتعم حالة ترقب وخوف حتى تدخل الطمأنينة إلى قلب النرويجي ، وهنا ترى وجها غير الذي كنت تخشاه أو تظنه حالة كراهية لك.

والأجانب يرتكبون جرائم وسرقات، وجاء معهم القات وزادت تجارة المخدرات، وتوسع العنف والاغتصاب، وعرفت إدارة مكافحة الفساد والتهريب أنواعا جديدة من الجرائم حملها إلى النرويج المواطنون الجدد.

والنرويجيون صنعوا بلادهم بأنفسهم، وساهم الأجانب معهم، وتَمّتْ تسيير عجلة التطور بفضل البترول، لكن الجميع نهلوا من خيراته، النرويجي والأجنبي على حد سواء.

وهنا لا يستطيع حتى وزير الداخلية أن ينزع جنسيتك، أو يقوم بتفنيشك كما يفعل الكفيل، ولو عملت لدى رئيس الوزراء ونقص حقك المادي دولارا واحدا فأغلب الظن أن القانون سيأتيك به، ولو لم تكن معك أتعاب المحاماة فإن هناك مكاتب للاستشارات القانونية المجانية تكون دائما في رهن اشارتك؟

والحكومة هنا في خدمتك فتشرب ماء صالحا، وتستنشق هواء نقيا، وتتعلم، وتحصل على أجرك كاملا غير منقوص، وتسافر من النرويج وتعود إليها سبعين مرة في اليوم دون أن ينبس أحد ببنت شفة، أو تطرح عليك شرطة الحدود والمطار سؤالا عن أسباب سفرياتك المتعددة. كلنا تعرضنا للعنصرية والظلم، لكنها تظل حالات فردية في مقابل مجتمع يعطيك كل حقوقك ولا تتأخر أنت عن أي من واجباتك.

الملائكة لا تتجمع كلها في مكان واحد، واعطاء هذا الوطن حقه في الثناء لا يعني أن هناك حالة انبهار مزيفة لمغتربين غابت عنهم حقائق الجانب المظلم.

العدل يقتضي أن نقدم للنرويج الشكر الخالص والمحبة الصادقة والولاء الذي لا يتعارض مع ما نحمله للوطن الأم، بل يصبح مكملا له.


محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج

http://www.ahewar.org/m.asp?i=461
http://taeralshmal.jeeran.com
http://blogs.albawaba.com/taeralshmal
Taeralshmal@gmail.com

اجمالي القراءات 31246