أقرأ عليكم رسالة لم أتسلمها!

محمد عبد المجيد في الثلاثاء ٢٥ - ديسمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً



رسالة خيالية من مصريين طيبين
السيد محمد عبد المجيد رئيس تحرير مجلة طائر الشمال


المدهش في كتاباتك عن مصر خلال ربع القرن المنصرم هي في ذلك الاصرار العجيب على خلق هُوّة وفجوة بيننا وبين السيد رئيس الجمهورية، واعتبارك إياه المسؤول الأول والأخير والوحيد عن كل ما حدث من تجاوزات وسرقات ونهب وقتل وتعذيب واغتصاب واعتقال وظلم وفساد وأميّة وأمراض وتلوّث وغلاء وانحطاط إعلامي وانحدار اجتماعي، وتصل اتهاماتك الظالمة إلى اعتبار ربع مليون أو نصف مليون مدمن على المخدرات مسؤولية مباشرة لرئيسنا الذي سيحتفل قريبا بعيد ميلاده الثمانين في ولاية خامسة.

دعنا نعترف لك بأن طبقة سميكةً من البلادة تحُول بيننا وبين فهم مقصدك وهدفك وما ترمي إليه ظاهرا وباطنا، وما يختفي خلف الأسطر المتوهجة ناراً تظن أنها تؤنْس وحدتنا، وتخيف عدونا، فإذا بها تفصلنا عنك، فنحن لا نريد أن نقرأ أو نكترث لمن يقوم بتذكيرنا صبحا ومساء أن هراوة الرئيس تهبط على ظهورنا، وكفّه تصفع أقفيتنا، وضحكاته على طاعتنا المستكينة والمسالمة تهتز لها السماوات السبع ومن فيهن.
في كل مرة تغمس قلمَك في قلبِك قبل أن تخطّ به أوجاعَ أم الدنيا، ويحرك جهازُك العصبي أناملَك فوق الكي بورد، وتظن أن الكلمة التي قدّسها الله، تعالى، لا تزال تؤتي أكلها في نفوسنا، وأن حقائق تضعها أمامنا عن ألف حالة تعذيب واغتصاب في أقسام الشرطة ( وفقا لاحصاءات مركز النديم لضحايا التعذيب) قد تلين قلوبنا، وربما تتسلل خلسة إلى نفوسنا نزعات الخير فتلمس روح الله التي نفخها فينا، فنرفض العبودية، ونغضب غضبا ساطعا، ونكتشف كرامتنا في التمرد، وانسانيتنا في سلوك الخيل التي إن خُدِمت خَدَمت، وإن ضُرِبت شَرَست، وحقوقنا في مباديء الصقور التي لا تلاَعَب ولا يُستَأثر عليها بالصيد له ( كما قال عبد الرحمن الكواكبي ).
نعيد رؤية المشهد البؤس في الوطن السجن لست وعشرين سنة، فنستلقي على الأرض ضحكا ومزاحاً وتهكما، ونلقي نكاتا، ونعثر بسهولة ويسر على كل مبررات الاستحمار الجماعي، ونصب جَمّ غضبنا على من يقول لنا بأننا نقبل الامتهان، لكننا نصفح عن من يهيننا.

ماذا تريد منا؟
مع كل مقالة لك تذهب بك أوهامك وهواجسك وتخاريفك بأنها ستحرك الصخر أو ينبجس منه ماء، وأن مظاهرة للأحرار ستندفع في سباق شجاع لميدان التحرير، وأن صحف المعارضة الوطنية ستتسابق لنشر مقالاتك، وأن زملاء صاحبة الجلالة السلطة الرابعة سيفتحون معك حوارات من أجل مصر، فإذا بك تحارب طواحين الهواء وفقاعات الصابون.
قرأنا لك ( وقائع محاكمة الرئيس حسني مبارك ) و ( أحبابنا شركاء الوطن الأقباط .. حقوقهم واجباتنا ) و ( ورسالة مفتوحة إلى أم الدنيا .. ماذا فعل بك هذا الرجل؟ ) و ( الرئيس لا يقرأ ) و ( سيدي الرئيس .. استحلفك بالله أن تستقيل) و ( سيدي الرئيس استحلفك بالله أن تهرب ) و ( الله يخرب بيتك ياريس ) , ...
ولم تهتز شعرة في جسد أيّ منا، ولم يلمس الغضب على طاغيتنا المبجل أخف مواضع الانتفاض والتمرد في نفوسنا، ثم قرأنا لك ( حوار بين الرئيسين حسني مبارك و .. جمال مبارك ) و ( حوار بين حر سجين و .. سجين حر ) و ( لماذا أكره الرئيس حسني مبارك ) و ( سيدي الرئيس .. أنت جبان ) و ( أيها المصريون هذا الرجل مجنون .. هذا الرجل نيرون ) و ( سيدي الرئيس أرجو أن تبصق في وجوهنا ) و( الحوار الأخير بين رئيس يحتضر و .. رئيس يرث ) و ....
وبدا أن هناك مللا يتسلل إلى مساماتنا من جراء تكرار أحاديث مكدرة ووصف لمشهد كارثي مفزع نعرفه أكثر منك، بل نحتضنه مع دموعنا مساء كل يوم، لكننا نرفض أن تُشركنا معك في التعبير عن الغضب الكامن، فنحن مسالمون وطيبون وأنت تظن أبناء شعبك في مصر كالأوكرانيين والفنزوليين واللبنانيين والباكستانيين والهنود وشعب توجو..
تُحَرضنا على الغضب، وتحاول تنشيط أوجاعنا لعلنا نشعر بها، وتكتب عن أبنائنا ,أحبابنا في سجون مبارك، وتسعى لاقناعنا بأن هناك قيمة كبرى للحياة في شيء سمعنا عنه من قبل ولم نعد نؤمن به وهي الكرامة..
ثم قرأنا لك ( أيها المصريون: سأجعلكم تلعقون تراب الأرض ) و ( لماذا لا يحاكم مبارك بتهمة شائعة موت الشعب المصري؟) و( مات يموت سيموت الرئيس) و( أصل الحكاية ما تضحكش ) و ( لماذا لا يؤمن المصريون بأن مصر بلدهم؟ ) و( محاولات لتخريب الشخصية المصرية) و ......
واصطدمت كلماتك بصخور صماء من المشاعر المتجمدة، فنحن خائفون خوف الأرانب، ويتملكنا فزع لو أصاب فئرانا لكانت أشجع منا، ونرفض رفضا قاطعا جلدك إيانا بتلك التعبيرات المتوهجة والنارية، فنحن نقبل المهانة من الرئيس، ونرفض أن يصفنا أحد بقابليها!
لذا رفضنا مقالتك ( طز في الأحرار والشرفاء والوطنيين)، ومنعت أكثر المواقع والمنتديات مقالتك ( يا ولاد ستين ألف كلب ) التي وضعتها على لسان رئيسنا ورمز بلدنا مُفسرا جرائمه على أنها ترمز لهذا التعبير، فإذا بنا نرفض الوصف ونخضع للفعل.
ضحكنا حتى الثمالة من دعوتك في عام 2005 للعصيان المدني، ورفضت كل القوى المعارضة تلك الدعوة، بل أجمعت أنْ لا تشير إليها قط، وتراجعت قناة ( الجزيرة ) في ( الاتجاه المعاكس ) بعد استضافتك، وقبل بث البرنامج بيومين، فاسقاط الرئيس مبارك خط أحمر لا نقترب منه لأنه يعني تحقيق خوفنا من مستقبل مجهول لا ندري بأي يد سيلهب السوط ظهورنا، ومن حسن الحظ أن الاحتلال الأمريكي للعراق أطال عمر رئيسنا، وجعله يلوّح بالمشهد العراقي فنصمت جميعا مستكينين بالمهانة، ووصلت حالات التعذيب والاغتصاب والحرق والاذلال في أقسام الشرطة وتخشيباتها ما يجعلها تنافس ( أبو غريب )، بل إن الأمريكيين يرسلون المتهمين العرب لفخامة رئيسنا لكي تنتزع أنيابُ ذئابِه الاعترافات منهم.
ثم قرأنا لك ( هل المصريون سعداء بالذل أم تعساء بالخوف ) و ( محاولات مضنية للبحث عن الرئيس مبارك ) و ( البيان والتبيين في أحزان مصر وأوجاع المصريين ) و ( مبارك يصنع المرشدين من صعاليك الإنترنيت ) و ( لماذا لا يغضب المصريون) و ( فتاوى الرأي السديد للشيخ محمد عبد المجيد) و( خمس وعشرون ليلة قدر من عمر الرئيس مبارك ) و ( مستقبل مصر كما أحلم به ) و ( السيناريو القادم في مصر .. ماذا يخطط الرئيسان؟ ) و ....

وزادت الفجوة بيننا وبينك، واتسعت المسافة حتى لم نعد نراك، وعندما اطلقت دعوتك ( الانتفاضة الشعبية المصرية ) واشتركتْ معك فيها ( مندرة كفاية ) وأرسلتَ لآلاف من المثقفين والاعلاميين والمحررين ورؤساء الأحزاب والكتاب والأكاديميين والقضاة والمحامين ... وأجهدت نفسك شهورا طويلة في وهم وخيال وخرافة أن المعارضين لمباركنا سيهتزون لنبل الدعوة، وسيمدون إليك أيديهم لتحرير وطنهم من طاغيته، وفقا لمزاعمك، فوجدت نفسك أمام حقيقة غضضت الطرفَ عنها لسنين عددا، وهي أن جزءا كبيرا من قوى المعارضة ترفض الاستبداد ظاهرا، وتعانق المستبد في الخفاء.
وظننا أنك ستعتزل معارضة زعيمنا المبجل، وأنك ستفهم أن ليس بيننا وبينه ثأر، وأننا كما قال علماؤنا ندعو له بالهداية فهو ولي الأمر ولو صفع كلَّ واحد منا على قفاه قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن بعد صلاة العشاء مادام لا يمنع عنا صلاة العيدين والجمعة!
ولم تتب، ونشرت ( سيدي الرئيس أرجو أن تبصق في وجوهنا ) و ( سيدي الرئيس .. أنت جبان ) و ( نعم، أنا جبان، فماذا أنتم فاعلون؟ ) و ( نفوضكم أيها القضاة لحكم مصر مؤقتا) و( مقطع من يوميات كلب ) و ( كيف نطيح بالرئيس مبارك عن طريق الإنترنيت ؟ ) و( رسالة مفتوحة إلى قائد الإنقلاب العسكري المصري ) و ( الحمد لله تخصلنا من 900 مصري ) و ( أيمن نور .. لن نسير في جنازتك ) و( جمال مبارك: سوطي ينتظر ظهوركم العارية ) و( انتحار الرئيس حسني مبارك ) و( جنازة الرئيس حسني مبارك ) و( الوصايا العشر للاطاحة بالرئيس مبارك ) و ( كيف تقنع المصريين بأن لهم كرامة؟) و( القبض على الرئيس مبارك ) و ( انقلاب عسكري في مصر ) و ( كلاب السيد الرئيس ) ...

لم تفهم، ولا تريد أن تفهم أننا نبحث عن حائط نسير بجواره، وأن فلسفتك التي تقول فيها بأنني أحب أولادي وأخاف عليهم، إذن فأنا ضد مبارك نراها نحن عكس ذلك، فنحن نخاف على أنفسنا ونتعلل بأن الخوف هو على أولادنا رغم اليقين أن جحيما تصغر بجانبه كل كوارث مصر منذ بدء تاريخها ينتظرنا على يد الرئيس الشاب الذي سيرثنا ومعنا مصرنا دون أن ننبس ببنت شفة.
ونشرت في مواقع كثيرة ومنتديات وأرسلت آلاف الرسائل الالكترونية وبها مقالات ظننت بحماقتك وطيبتك الساذجة وثقتك بنا نحن أبناء مصر أنها ستؤثر فينا قيد شعرة وكانت ( رسالة من الرئيس مبارك للمصريين: كرامتكم تحت حذائي ) و ( سأبصق في وجه كل من يعطيني صوته ) و ( البحث عن زعيم لمصر ) و ( أيها المصريون: ماذا تنتظرون، لقد هرب الرئيس؟ ) و ( خمسون إجابة لخمسين سؤالا عن العصيان المدين ) و ( حوار بين إبليس والرئيس حسني مبارك ) و ( الرئيس حسني مبارك يضحك في جنازة وطن .. محاولات لتحريض المصريين ) ثم( عشرون خطوة لتحرير مصر من اسرة مبارك ) ووصل غضبك لتحطيم أي جهاز عصبي لمواطن يعشق بلده فكان ( لماذا أحلم بحبل المشنقة حول عنقك ؟ ) ....

ألم يدب اليأس في قلبك بعد؟
أكثر من أربعين من المنتديات على النت تراجعت عن نشر مقالاتك، واصطكت اسنان القائمين عليها، وارتعشت أيدي الأعضاء فأي مصري يظن أن الرئيس مبارك قام بتعيين حارسين عن اليمين وعن الشمال لكل من شرب من ماء النيل ولو كان مختبئا في قرية مجهولة لا يعرفها واضعو الخرائط، فيتبرع الكثيرون بالدفاع عن ولي الأمر، وتوجيه الاتهامات لك كأن الثار بينك وبين رئيسنا ونحن محايدون أو في صف السجّان.
لماذا تكترث بنا وتحمل همومنا وتدمع عيناك من أجل معذبينا ويؤرقك اغتصاب رجال الرئيس لأبناء أم الدنيا؟
لماذا بكيت عندما قرأت عن المصريين الذين يقفون أمام المستشفيات لتأجير أجسادهم لطلاب كلية الطب، وبكيت عندما قال أحد المواطنين بأنه كان يضم فخذيه ورجال مبارك يحاولون ادخال العصا في فتحة شرجه، فالرئيس ينتظر في قصره، ويقرأ عن آلاف الحالات، ويؤشر بالموافقة على استمرارها استحسانا، ثم يبصق بصقة شيطانية لاعنا أبناء شعبه، ومتوعدا إياهم بدهسهم كالحشرات؟
لماذا بكيت بعدما قرأت عن المواطن الذي اشعل ضابط الأمن النار فيه وهو نائم؟ وأغرقت دموعُك وجهَك بعدما قرأت تفاصيل اجبار رجال الرئيس لأحد المواطنين على ارتداء ملابس نسائية، ثم جره من أمام بيته ليراه كل من يعرفه ويفهم قيمة المصري في عهد الرئيس مبارك حتى أن أم الشاب أصيبت بالشلل؟
لماذا تصرّ على الكتابة لربع قرن تقريبا، وتأمل، وتتمنى، وتتفائل، ولا يخالجك الشك أو اليأس أو القنوط بأن روح الله لا تزال فينا؟
ماذا لديك لتكتب أكثر مما كتبت؟ هل يستطيع غضبك على الرئيس وحبك لمصر وللمصريين أن يحركا مظاهرة من ثلاثة يؤمنون بأن مصر وطنهم؟
لن ننصت إليك، أو نسمع منك، أو نقرأ لك، أو نتاثر بكلماتك أو حتى نصل إلى السطر الثالث، فنحن نتصبب العرَقين: عرق البؤس وعرض الخوف.
نتهمك بأنك تجلدنا في غربتك، ونطلب منك أن تتركنا في حالنا فلسنا بحاجة لنصائحك وتذكيرك إيانا بمن يلسعنا بالسوط، فهو ولي الأمر ويكفي أننا ندعو الله له بالهداية ولو سلخ جلودنا ضرباً وحرقاً.

إننا على استعداد لأن نضحي بأنفسنا ونخرج في مظاهرة مليونية للدفاع عن حجاب طالبتين مسلمتين في نيس وتولوز وبروكسيل، لكننا لا نعبأ بمن يمتص بلدنا، ويوردنا المهالكَ، ويسلط علينا من لا يخاف الله ولا يرحمنا، ويدمر مصرنا وعشقنا وحبنا.
عدد الذين دخلوا على مدونتك المعنونة بــ ( تجديد الدعوة للعصيان المدني في مصر ) أقل من ثلاثة آلاف في تسعة اشهر، والذين كتبوا مشاركاتهم ورؤيتهم في العصيان المدني سبعة عشر لا أكثر، وكما قال لك البعض بأن قراءة مقالاتك انتحار الكتروني فكيف تأمل منا أن نغضب؟ والغريب أنك تعقد آمالا على جيشنا الوطني أن ينتفض، وعلى المعارضة أن تتوحد، وعلى الشعب أن يتمرد، وعلى المثقفين والأحرار والشرفاء والأكاديميين والمحامين والقضاة أن يقفوا مع وطنهم.

عندما عندما جاء الأمر لضرب المستشار القاضي ممثل العدالة بحذاء ضابط الأمن، كانت الرسالة من الرئيس مبارك لثمانين مليونا واضحة وليس فقط للسلطة القضائية، فكلنا تحت حذائه، ولا نريد منك أن تقوم بتذكيرنا في كل كتاباتك المملة والطويلة والكئيبة والحزينة والموجعة.
لقد رضينا بالذل والاستكانة والمهانة ولدينا كل التبريرات السياسية والدينية والفكرية والانسانية التي نغرف منها ما نشاء في أي موقف لنستخرج من العبودية قيما سامية ومن الاستحمار طاعة مقدسة لولي الأمر، ولو أمر باغتصابنا جميعا في ميدان عام.

ترجل أيها الرجل، واذهب أنت وحبك لمصر فقاتلا، فنحن أعرف بأوجاعنا وعذاباتنا منك ومن قلمك.



محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في مساء الثلاثاء 25 ديسمبر 2007

اجمالي القراءات 11613