الإسلام والإعلان العالمي لحقوق الإنسان

احمد شعبان في الإثنين ٢٦ - نوفمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

هذه الورقة قدمت لمؤتمر الإسلام والإصلاح الفترة من 17 : 20 مايو 2006

الإسلام والإعلان العالمي لحقوق الإنسان

صلاح الدين الجور شي
مقدمة
أصبحت مسألة " الإصلاح الديني " من الأولويات التي لم يعد من مصلحة الأمة تأجيلها أو تسويفها، مهما كانت التعلات والمبررات. يقول البعض بأن البيت الإسلامي يحترق، وبالتالي فالأولوية الآن يجب أن تعطى لإطفاء الحريق وليس إطالة النقاش حول الأسباب والأدوات. هذا الاعتراض قد يبدو منطقيا، لكن البيت الإسلامي يتعرض منذ قرنين على الأقل إلى حرائق متكررة، مستمرة. وفي كل مرة ينشب فيها حريق جديد، ترتفع بعض الأصوات مطالبة بتأجيل عملية الإصلاح، والحيلولة دون القيام بمراجعات جذرية للثقافة الإسلامية السائدة. فالسياسي كان دائما يَقدُم على الثقافي، ويحجبه بالرغم من أن العلاقة بينهما وطيدة وجدلية. فالأحداث السياسية التي هزت المنطقة، منذ إجهاض مشروع محمد علي الإصلاحي، وصولا إلى احتلال العراق، لم تكن مقطوعة الصلة عن الجذور الثقافية والرؤى الفكرية التي كيفت ولا تزال المواقف الفردية والجماعية. لهذا سيكون من الخطأ فصل مختلف مسارات الإصلاح عن بعضها، لأن تغييب أي عامل من عوامل الإصلاح، سيؤدي بالضرورة إلى تعطل وتعثر البقية.
فعلى سبيل المثال، استشرى الاستبداد، وانتشر أسلوب التعسف وطغت المعالجة الأمنية للظواهر الاحتجاجية، وفر ذلك مناخا ملائما لانتشار أفكار متشددة لدى جماعات إسلامية انشقت عن محاضنها الحركية الأصلية. وهكذا مالت هذه الجماعات تدريجيا نحو تنبني العنف كأسلوب، واعتقدت بأنه الخيار الوحيد لتغيير الأوضاع والدفاع عن حقوقها الأساسية. وكلما اشتدت قسوة الأنظمة تجاه هذه الجماعات بغية استئصالها، كلما تجذر الفكر الراديكالي لديها، وزاد إصرارها على إضفاء الشرعية الدينية على أعمالها. ومع تراكم الأخطاء الضخمة في السياسات الدولية تجاه العرب والمسلمين، دون فهم عميق لخصوصياتهم أو أدنى احترام لحقوقهم، بدأ يخرج العنف من إطاره الجغرافي الضيق الذي تقيد لسنوات طويلة بصراع ثنائي بين الأنظمة والجماعات الإسلامية الراديكالية، ليشهد تطورا غير متوقع بعد أن تحولت أفغانستان إلى أرض مفتوحة. وهكذا تم إكساب الصراع الدولي على المصالح والنفوذ أبعادا أيديولوجية، شديدة التعقيد، أعادت مصطلحات ومفاهيم الفكر السياسي والعقائدي الإسلامي التى كانت سائدة قبل قرون عديدة خلت.
الموضوع
هذه الدراسة، محاولة تندرج ضمن محاولات عديدة، لا تكتفي بالدفاع عن شرعية الإصلاح، واعتباره خياراً استراتيجياً، وإنما تدفع نحو تعميق النقاش حول مضامين هذا الإصلاح ومحاوره، وبالأخص الجانب التشريعي منه. قادتنا في ذلك مصلحة الأمة كما فهمناها، وانخراطنا في مناهضة الظلم والدفاع عن حقوق الإنسان. والله من وراء القصد

كنت أتمني أن يكون العنوان المسلمون والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، وهذا يساعد على تحليل الموضوع وتناوله بشكل أفضل ، وأتساءل عن مشروعية هذا السؤال ولماذا يطرح الآن ؟
عادة ما يفترض نشطاء حقوق الإنسان بأن إثارة هذا الحديث حول العلاقة التي يمكن أن تجمع بين الإسلام وحقوق الإنسان ، وطرح هذا الإشكال يثير العديد من الإشكاليات أو العقبات النظرية والعملية ، ولذلك يفضلون العودة مباشرة إلى الإعلان العالمي وإلى الوثائق الدولية ومحاولة شرحها والترويج لها دون الدخول أو تجنب الدخول في إشكاليات ذات طابع ديني أساساً ، وأنا أزعم أنني منخرط في حركة حقوق الإنسان منذ فترة ، بمعنى أنني لا أرى مستقبل لمنظومة حقوق الإنسان إلا إذا تمت عملية مراجعة جذرية للثقافة الوطنية والثقافة الإسلامية لتجنب أي جوانب أو أشكال تعارض بين الإسلام وهذه المنظومة ، ومن خلال مطالعاتي لا أجد أن هناك مجتمع أو أمة أمكن أن تتغير وتنهض إلا من خلال مراجعات عميقة تمت من خلال نسقها الثقافي ، أي محاولة لتغيير مجتمعات من خارج أنساقها الثقافية باءت بالفشل وتعثرت ، هذا من حيث مشروعية السؤال .
أما لماذا يطرح هذا الموضوع بإلحاح الآن ؟ ، فذلك لاعتبارات عديدة
أولها أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد اكتسب سلطة رمزية مرجعية لابد أن نأخذها بعين الاعتبار.
ثانيا :تصاعد وتيرة الانتهاكات لحقوق الإنسان بوجه عام في عالمنا الإسلامي وعالمنا العربي بشكل خاص ، بمعنى كلما تكدست هذه التجاوزات كلما وجدنا أنفسنا أمام استنطاق مباشر من قبل هذه الوثيقة العالمية الهامة.
ثالثا : تحول الإسلام إلى قضية عالمية تهم الجميع ، وعندما تزور أي بلد في العالم مثل اليابان و الصين والولايات المتحدة الأمريكية وأوربا ، لم يعد شأناً عربياً أو إسلامياً بل أصبح قضيةً عالمية تُعْتَبَر أحد شروط الاستقرار العالمي .
رابعا : صعود الحركات الإسلامية هذا الصعود السياسي قد وفر نوعا من الأرضية لمخاوف شرائح وأوساط ومكونات وأطراف دولية وإقليمية وأيضا تساؤلات فبالتالي صعود الحركات الإسلامية زاد في تغليب هذا السؤال : ما هى علاقة الإسلام بحقوق الإنسان ؟ وبمعنى أدق الإسلاميين تحديدا من انتهاك منظومة الحرية .
أخيرا استمرار الجدل داخل الفكر الإسلامي وداخل الفضاء السياسي الإسلامي ، نجد أن هناك حقوق بديهية ، ولكن مع ذلك مازال الجدل قائماً حول مشروعيتها ، أي أن الفكر الإسلامي لم يحسم بعد عدد من القضايا ، وهو في أمس الحاجة إلى ضرورة طرح هذه الإشكالية ، هذا بالنسبة للعنصر الأول ، والعنصر الثاني الذي أريد أن أشير إليه في عُجالة ، هو أن هناك لحظة تاريخية ، فمثلا في بلورة وصياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، المشكلة أن هذه اللحظة التاريخية كان المسلمون غائبين تماما ولم يتهيئوا لها أصلا – لم ينتبهوا لها بشكل مباشر – الإعلان العالمي شارك فيه عدد قليل جداً كان من بينهم محمود عزمي من مصر ، وحين مناقشة المشروع أيضا كان عدد الدول الإسلامية المشاركة قليل للغاية ، أما معظم الدول الإسلامية كانت ما زالت تمر بمرحلة مخاض من أجل استرداد استقلالها ، وليس هذا فقط غياباً شكلياً لكن عندما تعود إلى تلك المرحلة لا تجد جدلا في العالم العربي والإسلامي حول أهمية هذا الإعلان وانعكاساته ، فالقضية هى عدم حضور نسبي أو جغرافي أو مُتعلِّق بالتوقيت ، وإنما في تقديري يعود إلى الفكر الإسلامي عموما لم يكن مهيأ بحكم بنيته ، إلا أنه يمتلك في هذه اللحظة ويشارك فيها بشكل مباشر وعميق .
والعنصر الثالث الذي أردت أن أشير إليه هو أنه : إذا وضعنا ورع المسلمين جميعا في اللحظة التاريخية التي تمت صياغة الإعلان العالمي ، فيها أيضا الإسلاميون لم ينتبهوا ، وان أول حركة إسلامية ضخمة نشأت مبكرا في عام 1922 ، لكن مسألة حقوق الإنسان كما تشكلت على مستوى الوعي الكوني لم تكن بها بصمات واضحة من الحركة الإسلامية في تشكلها الأول ، كان هناك عدم اهتمام ووعي في هذه الحركات بعد ذلك عندما بدأت القضية تطرح بشكل موسع انتقل موقف الإسلاميين بشكل عام - ودائما كان هناك استثناءات – ، انتقل الموقف إلى رفض وتوجس من هذه المنظومة الحقوقية الدولية ، وكان هذا التوجس راجع لاختلاف وتناقض فيما بدا لهم في المرجعية ! ، وثانيا ارتباط هذه المنظومة بصيرورة التطور الغربي ، وبذلك ودون أن يشعروا بخطورة ما يقولون ، وقع الربط بين منظومة حقوق الإنسان والمشروع الغربي ، فبدا أن هذه المنظومة هى مُسْقَطة وواردة من خارج الفضاء الإسلامي ، أكثر من ذلك قد تكون هذه المنظومة نوع من التبرير للاستعمار والهيمنة ، ومن هنا خلق المشروع إشكاليات ، بعد هذه المرحلة تعرض الإسلاميون إلى قمع شديد في كثير من الدول ، هذا القمع جعلهم يكتشفون أمرين :
أولا يكتشفون أن هناك أشخاصاً ومنظماتٍ لا يعرفونها وتتكلم بلغات مختلفة وتنتمي إلى مناطق جغرافية بعيدة جداً عنهم ، ومع ذلك تهتم بهم وتناضل من أجلهم وتمارس كل الضغوط من أجل إطلاق سراحهم ، والتعريف بمآسيهم وما تعرضوا له من انتهاكات ، وتدافع عن حقهم في الوجود والتعبير والتنظيم .
كان هذا أول ربما مرة فالإسلاميون يكتشفون بعداً إنسانيا قادماً من بعيد يهتم بهم وبمآسيهم .
الأمر الثاني : أن قضية حقوق الإنسان قضية أساسية تهمهم بهم بدرجة مباشرة ، لذلك بدأ الخطاب يتحدث عن حقوق وحريات من أجل آخرين .
إذن مرحلة القهر أدت إلى الانفتاح على الصعيد العالمي ، وبداية الوعي بالإشكالية ، وبدأت المرحلة الرابعة وهى العودة إلى المرجعية الإسلامية من أجل تأصيل الحقوق والبحث عن صيغ ، أيضا إثبات أن هذه الحقوق موجودة داخل التراث الإسلامي وداخل الفكر الإسلامي وداخل التجربة الإسلامية ، وكانت هذه العودة مرتبطة برفض المرجعية الغربية أو التوجس المستمر من هذه المرجعية الدولية ، وبعد ذلك جاءت مرحلة المشاركة السياسية ، وفي المشاركة السياسية بدأ الإسلاميون يتجهون أكثر إلى الجانب الحقوقي ، وبدءوا يتحدثون عن أنهم يؤمنون بحقوق الإنسان ويثبتون ذلك في مرجعياتهم ، هذا التحول جعلهم ينخرطون أكثر ويفهمون هذه الحقوق أكثر ، لكن المشكلة أن هذا الانخراط الفكري والسياسي في المنظومة الحقوقية بقى إلى الآن يستظل بسقف معين يتعلق بالمرجعية التي ينطلقون منها وهذه تجعلهم في إشكالية مع الشريعة وإمكانية ارتباطها بهذه الحقوق ، ومنهج عملية الاجتهاد لتأصيل حقوق محددة جدا تتعلق بحرية تشكيل الأحزاب والحرمة الجسدية للأشخاص وبقضية المرأة ، وبقضية الدولة ، وكثير من القضايا .
والظاهرة الجيدة أن الإسلاميين انخرطوا في منظمات حقوق الإنسان ، وباعتباري وربما أكون من الأوائل الذين انخرطوا في منظمة حقوقية هى " الرابطة التونسية لحقوق الإنسان " في عام 1982 كانت البداية مثل اليساريين من أجل الحماية ، وانخراطي في منظمة " قد يوفر لشخصي الحماية ولمجموعتي " .
بعد ذلك نجد إلحاح فكري متزايد ، هل سيبقى انخراطي شكلياً من أجل ضمان بعض الحقوق المحدودة ، أم أن هذا الانخراط سيترتب عنه بالضرورة - إن كان انخراطا واعيا ومنطقيا واستراتيجيا – تحولات في فكري ، وبالتالي إلى إعادة بناء منظومتي الفكرية مع هذه المنظومة الحقوقية .
أخيرا أختم فأقول بشكل برقي عساها توضح ما أود قوله :
1. خطأ استراتيجي يرتكبه الديمقراطيون الليبراليون الحقوقيون الإسلاميون عندما يفتعلون تعارضا بين الدين والحقوق والحريات .
2. لا يمكن أن نتصور معالجة كاملة بين الدين والحقوق إلا إذا تم تحرير الدين من قمقم الماضي وبالتالي إعطاء الأولوية للنص القرآني ومراجعة الحديث مراجعة جذرية ، بدون هذا لا يمكن أن تكون مصالحة كاملة وعميقة .
3. ضرورة تجاوز المنهج السلفي ، ولا إمكانية لمجاملة السلفيين في القضايا المتعلقة بالحقوق والحريات الأساسية ، والفكر السلفي يأتي في مقدمة العوائق من أجل ترسيخ ثقافة حقوقية داخل الفضاء الإسلامي .
4. الاعتقاد بأن الدين وجد ليكون في خدمة الناس وليس الناس في خدمة الدين ، لأن قلب المعادلة يؤدي إلى قلب المفاهيم (تغيير للأوضاع تماما) وبالتالي إجهاض الرسالة (مضمون المقولة الدينية) .
وفي اعتقادي أن هناك أربعة مجالات لابد من التركيز عليها في الفكر الإسلامي :
1. لابد من أن ننتهي من قصة حق الاعتقاد ، لابد من أن نقول بحق الردة ، حق من حقوق الإنسان أن يبدأ بمعتقد ثم يتخلى عنه إذا تغيرت المعطيات الفكرية عنده ، فلا يمكن أن نجبر الناس على دين أو معتقد معين .
2. لابد من إعادة النظر بشكل جذري في بنية التشريع الإسلامي الخاص بالأسرة والإنسان ، بدون مراجعة فكرية لهذه المنطقة الإستراتيجية لا يمكن أن نتقدم كثيرا .
3. لابد من إيجاد الآليات الأصولية والتثقيفية ، ولكن من أجل القول بأن مسألة تطبيق الحدود مسألة تاريخية انتهت .
4. العلاقة بالآخر : كيف نعيد صياغة العلاقة بالآخر المختلف معي في المذهب والدين والجغرافيا والجنس واللون ، بمعنى قضية الآخر لابد من معالجتها بشكل حاسم .
5. لابد من أن يكون لدينا قدرة على الرصد ، لابد من أن لا يكون لدينا موقف عدمي ، المواقف العدمية لا تساعد على فهم ما يجري ، لابد أن نصل بشكل جيد لحالة التراكم الحركية الموجودة داخل الفكر الإسلامي في قضية الحقوق والحريات ، هناك تراكم قد لا يبدوا لنا واضحا وقويا ، لكنه في بداية منعرج نحو حسم هذه القضايا في المرحلة الزمنية القادمة ، تراكم لابد أن نأخذه بعين الاعتبار وشكرا .
الخـــاتـمــة
ليس الغرض من هذه الدراسة أن يقال للمسلمين أن بعض أحكام الحدود ليست من الوحي. فقول مثل هذا مردود بداهة، لأن القرآن احتوى على أحكام مثل السرقة والزنا. يضاف إلى ذلك أن طلبا مثل هذا، يعبر عن سذاجة وجهل بطبيعة الثقافة الإسلامية، ولا يساعد أصلا على التقدم خطوة نحو إقامة حوار بناء.
الهدف من الدراسة هو إثارة ثلاثة مسائل نعتقد بأنها أساسية في كل منظور إسلامي يرمي إلى إحداث تغييرات عميقة في الثقافة والمجتمع:
أولا : ضرورة وضع جميع الأحكام التي وردت فيها نصوص قطعية، وبالأخص الأحكام الحدية، في إطار مفاهيمي أشمل، حتى تحتل موقعها الطبيعي، وتفهم في سياقها التاريخي، ولا يحولها البعض إلى سلاح يشهر في وجوه الفقراء والمستضعفين. فالصراع الذي دار سابقا بين الفقهاء والمتصوفة حول مفهوم كل واحد منهم لجوهر الدين ومهمته، يطرح نفسه من جديد بلغة مختلفة، ولأغراض مغايرة.
كان أصحاب المنهج الفقهي ولا يزالون يعتقدون بأن أسلمة المجتمع، تكون فقط من خلال تقنين حياة الأفراد وفق قواعد صارمة، تتبع خصوصياتهم الدقيقة، وتضبطها وفق تصور عام لحركة الجماعة وطبيعة الدولة. ومشكلة هذا المنهج أنه إذا لم يرتبط برؤية فلسفية واجتماعية وسياسية شاملة تتخذ من الإنسان والمجتمع هدفا أعلى، يقود أصحابه حتما إلى السقوط في تعامل جزئي مع القضايا والظواهر، فيصبح الشكل مقدما على المضمون، والفروع تتحول إلى أصول. لهذا لاحَظَ أحد الباحثين أن محمد إقبال اعتبر " مصير شعب من الشّعوب لا يتوقّف على النّظام الذّي يحرص الفقيه على حمايته وتركيزه بقدر ما يتوقف على قيمة الأفراد وقوّتهم ضمن ذلك المجتمع ". كما لم يساند إقبال منهج الفقهاء لاعتقاده بأنه منهج وقائي " لا يملك الطاقة الإبداعية التي تتطلبها شروط التجديد من أجل تجاوز للخطاب الإصلاحي. لذلك بنى إقبال منظومته على أساس الاهتمام بالفرد و تقوية الذات، تلك القوة الفعّالة التي تحول دون انحلال الشعب. مثل هؤلاء الأفراد هم وحدهم الذين تتجلّى فيهم أعماق الحياة.هم الذين يجهرون بمقاييس جديدة نرى في ضوئها أن بيئتنا ليست واجبة الحرمة في كل شيء. منهم يقع التفطّن إلى ضرورة التعديل في خصوص الميل إلى المبالغة في التنظيم و إظهار الاحترام الزائف للماضي " .
لا يعني ذلك دعوة إلى الاستغناء عن الفقهاء أو رجال القانون، لأن دورهم ضروري في كل مجتمع ودولة. كما أن المتصوفة في التجربة التاريخية الإسلامية لم ينجحوا بدورهم في بناء مجتمع بديل. يقول ( د. النيفر ) " لقد وضع محمد إقبال إشارة الانطلاق لفهم عالم المسلمين الحديث: إنّه جمود صنعه الفقيه المتأخر وتحلّل أفضى إليه صوفي القرون الوسطى وما تلاها. لقد ثبّت الأوّل واقعا تاريخيّا جاعلاً إ يّاه ( الواقع ـ المثال ) الذّي لا يمكن تجاوزه. أمّا الثاني فقد فكّك الجماعة الكبرى وعوضّها بالطّرق الصوفيّة السّاعية لتنشئة الفرد ناسيا أنّ ذلك يستلزم معرفة اللّه معرفة حيّة. مواجهةً لهذين المرجعين اللذّين "تحالفا" بصفة موضوعيّة من أجل إيقاف كلّ إبداع في الفكر الإسلامي.
يقدّم إقبال الوعي النّبوي بديلا لتجديد القيم الإسلامية واستحداث قيم عصريّة. يفعل ذلك لأنّه أدرك أن الفكر الدّيني كلٌّ مركّب قائم على معرفة وتجارب إنسانية أصبحت عديمة الجدوى ".
ثانيا : هناك فكرة رئيسية يجب ألا تغيب عن أي طرف يتصدى للتجديد والإصلاح، وتتمثل في أن الإسلام جاء عالميا في دعوته. ليس للإسلام صورة مجتمعية ثابتة تتكرر عبر التاريخ. ليس الإسلام دينا قوميا بأي حال من الأحوال. الإسلام ليس نموذجا قائما في التاريخ رغم نزول القرآن في القرن السادس الميلادي، ولهذا يبقى التحدي الدائم هو كيف يبقى الإسلام طموحا قائما في المستقبل، يسعى الإنسان للاقتراب من تحقيقه دون أن يبلغه. كيف نُثْبِتْ أن هذا الدين جاء ليخاطب الإنسان الأمريكي أو الياباني أو الصيني اليوم وغداً ، سواء آمن به أم اكتفى بالاستئناس برصيده الفلسفي والأخلاقي والروحي ؟. كيف ندلل بأن القرآن ليس فقط مستوعبا كل الحقوق التي نصت عليها المواثيق الدولية، ولكنه يحمل للإنسانية وعداً مفتوحا على مستقبل أكثر عدلا وحبا وحرية ؟.

ثالثا : عندما نميز بين ما جاء به الإسلام وما جاء من أجله، لا نرتكب جرما ولا نتخلى عن جزء من الدين. ليس صحيحا ما قاله المرحوم سيد قطب، ولا يزال يردده الكثيرون " خذ الإسلام جملة أو دعه ". إنه تهديد يلاحق كل من حاول أن يقدم رؤية مغايرة للإسلام، تختلف عن كل التصورات التي سادت. من قال بأن إسلامنا سيكون ناقصا إذا لم نقطع أيادي آلاف اللصوص والنشالين ؟. أليس العكس هو الصحيح، بمعنى أن وجود هذا الجيش من اللصوص هو دليل على أن تدينا منقوص أو مغشوش ؟. لما يقع التضحية بقيم كبرى يحملها الإسلام منذ نزول الآية الأولى " اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق "، وتعوض برؤية تجزيئية، بعيدة عن روح الرسالة، وغريبة عن روح العصر. والله أعلم

اجمالي القراءات 22302