القرآن واللوح المحفوظ

سامر إسلامبولي في السبت ٢٠ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

إن مفهوم اللوح المحفوظ من المفاهيم التي أصابتها ضبابية كبيرة، لدرجة خفاء هذا المفهوم في التراث، وتفسيره بشكل غيبي، مع ربط عالم الشهادة به بصورة ملفقة، أدت إلى ظهور عقائد وهمية على درجة من الخطورة ،حيث صارت مع الزمن قاعدة مسلمة لدى المجتمعات اللاحقة، التي بنت عقيدتها، وفكرها عليها، ومن أهم تلك المفاهيم ،مفهوم الكتابة ال&aute;مسطورة لكل ما يحدث في هذا الوجود بأبعاده الثلاثة ،وذلك قبل وجودهم في الواقع ،بل قبل أن تتوجه إرادة الله -عز وجل -لفعل الخلق - كتابة أزلية - ،والمفهوم الآخر هو أن القرآن موجود قبل نزوله إلى النبي محمد  في اللوح المحفوظ، وكون اللوح المحفوظ أزلي حسب اعتقاد السلف ،اقتضى أزلية كل ما هو موجود فيه، وبالتالي فالقرآن أزلي من هذا الوجه!
وهذا الطرح التراثي الهزلي، كان أحد الأسباب الذي دفع المستشرقين ،ومن اتبعهم إلى نقض النص القرآني والتشكيك بمصدريته الإلهية، والتشكيك بحفظ متنه عن التحريف ،سواء أكان ذلك من منطلق الدراسة الموضوعية أم من منطلق خبيث ،المقصد منه تشكيك المسلمين بمصداقية كتابهم، ناهيك عن تشكيل حاجز إشكالي ،يمنع الناس من الإيمان به.
ولدراسة مفهوم اللوح المحفوظ ،ينبغي استبعاد الفهم السطحي ،والهزلي عنه أولاً، وفرز المفهوم التراثي ثانياً، وعدم التأثر بما هو سائد على ألسنة الناس ، من استخدامات لدلالة الكلمات لأن هذه الاستخدامات تخضع لعملية الحياة والموت حسب التطور والحاجة.
قال تعالى:
1 – (بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ ) ( البروج 21-22)
2- ( إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون، وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ( الزخرف 3-4 )
3 – ( إنه لقرآن كريم ، في كتاب مكنون ) ( الواقعة 77 – 78 )
لاحظ علماء السلف أن حرف (في) يتكرر في النصوص الثلاثة:
[ في لوح محفوظ ] ، [ في أم الكتاب ]، [ في كتاب مكنون ].
ومن دلالة حرف (في) الظرفية وكون الكلام عن القرآن وهو النص المتلو بين أيدينا قالوا:
إن هذه الصفات الثلاث ،إنما هي لشيء واحد، وهو اللوح المحفوظ، وأحاطوا اللوح المحفوظ بمفاهيم غيبية، وأعطوه صفات، لا تكون إلا للخالق المدبر نفسه، نحو صفة الأزلية ،والإحصاء لكل ما كان ،ويكون، وسيكون، بشكل كتابة فيه، ولأن القرآن موجود في اللوح المحفوظ، ظهرت إشكالية أزلية القرآن - كلام الله - قبل أن ينزل على محمد ، وجرى الصراع الثقافي بين التيارات الإسلامية حول مسألة خلق القرآن وأزليته.
والملاحظ أن مفهوم أزلية القرآن، أو حدوثه في التراث، قد انبنى على مفهوم صفة كلام الله ،والمفهوم التراثي للوح المحفوظ. إذاً ،المشكلة تكمن في التراث، وطريقة تناول البحث، وهذا الإشكال كان السبب الرئيس لفتح باب الهجوم، والطعن في صحة ومصداقية القرآن ،وصلاحيته لكل زمان ومكان.
لذا، اقتضى إعادة الدراسة لهذا المفهوم من جديد ،من خلال القرآن ذاته ، واللسان العربي بأبعاده، مع مراعاة عامل التاريخ، وكل ذلك بمنهج علمي منطقي، إمامه الواقع (آفاق وأنفس).
وإذا تم إغلاق هذا الباب، الذي دخل منه الهراء، والتهافت الفكري ،فقد بطبيعة الحال الطرح الإشكالي المتهافت، قيمته العلمية، لعدم جدواه في واقع الحال، وانتفاء المبرر له ،وإلغاء السبب يبطل المسبب حتماً.
قال تعالى: ( إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون )(الزخرف 3 ).
والجعل هو تغير في الصيرورة وليس عملية خلق جديد للشيء ابتداء.
انظر قوله تعالى :
1- (وإذ ابتلى إبراهِمَ ربُه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً ..) (البقرة 124).
وهذا خطاب للنبي إبراهيم وهو حي يرزق، كيف منحه الله عز وجل مقام الإمامة بعد أن لم يكن إماماً.
وانظر أيضاً:
2-(وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ) (السجدة24).
3-(وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) (المؤمنون50).
4-(لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه ) (الحج 67).
5 –(وجعلنا ذريته هم الباقين ) (الصافات 77).
فقوله تعالى: ( إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون )(الزخرف 3 ).
يدل بشكل واضح وصريح على وجود القرآن موضوعياً، قبل جعله بصورته اللسانية، إذن للقرآن صورتان في واقع الحال:
الأولى: الوجود الموضوعي،
الثانية: الوجود اللساني.
وكلاهما قرآن في واقع الحال، وهذا الكلام يوصلنا بشكل مباشر لمعرفة وتفسير النصوص الثلاثة المذكورة سابقاً المتعلقة بالقرآن ولنبدأ بقوله تعالى:
( إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون، وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ( الزخرف 3-4 )
فالنص الأول كما ذكرنا من خلال تعريف عملية (الجعل) يدل على أن القرآن كان موجوداً بشكل موضوعي ،ومن ثم أضاف الله عز وجل لوجود القرآن موضوعياً، صفة الوجود اللساني ليصير القرآن ذا بعدين الأول: وجود موضوعي، والآخر وجود لساني. وهذا يدل على أن القرآن بالبعد الموضوعي ،سابق في وجوده عن القرآن بالبعد اللساني كما أن القرآن اللساني، لاحق للقرآن الموضوعي ،وهو صورة لسانية عن القرآن الموضوعي.
أما النص الثاني (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ( الزخرف -4 )
فالكلام عن القرآن اللساني المجعول عن القرآن الموضوعي، يخبرنا الله -عز وجل - أن هذا القرآن المجعول هو من حيث المعنى ، والجوهر، والحقيقة ،موجود في أم الكتاب، فماذا تعني أم الكتاب؟
الأم لغة: هي الأصل والمرجع للشيء. ومن ذلك نقول عن الوالدة أم لأنها أصل لأولادها وكذلك نقول عن الرجل إمام ،إذا كان في مقام القيادة والتوجيه للناس ،وهم متبعون له في سلوكهم وأفكارهم ،ويرجعون له بكل شيء.
فالنص يخبر أن القرآن اللساني موجود في أم الكتاب أي موجود من حيث الجوهر والموضوعية في أم الكتاب وذلك قبل جعله بصورة لسان، فإذا أردنا أن نعرف هذه (الأم) التي هي أصل ومرجع للصورة القرآنية اللسانية فما علينا إلاَّ أن نسارع في قراءة النص القرآني ونرجعه إلى أصله (محل الخطاب من الواقع) لنصل في النهاية إلى أن أمَّ القرآن اللساني، هي الآفاق والأنفس، وذلك أشبه بالصورة الشمسية للإنسان من كونها عكساً ظلياً له، فإذا أردنا أن نعرف صاحب هذه الصورة (الأصل لها) يجب إسقاطها على الواقع البشري والقيام بعملية السبر والتقسيم بين الناس لمعرفة صاحب الصورة ،الذي هو أصل ومرجع لها، ويتمتع بوجود حقيقي موضوعي، قابل للدراسة بخلاف صورته، فإنها ليست إلا صورة ظلية تقوم بعملية الدلالة والإرشاد للأصل (الأم).
وهكذا النص القرآني هو صورة لسانية يدل على أصله ومرجعه (الآفاق والأنفس).
إذاً ،الآفاق والأنفس هما الكتاب المذكور في النص، وكلمة (أم الكتاب) يقصد بها الأصل والمرجع للآفاق والأنفس ،وهذا إشارة إلى القوانين الناظمة للوجود كله، إذ هي أم له ،تشرف عليه ويسير بحسبها.
قال تعالى(سنة الله في الذين خلو من قبل ولن تجد اسنة الله تبديلاً ) (الأحزاب 62).
(فهل ينظرون إلاّ سنّت الأوّلين فلن تجد لسنّت الله تبديلا ولن تجد لسنّت الله تحويلا ) (فاطر 43).
فهذه السنن الناظمة للوجود، هي أم الآفاق والأنفس ،كونها أصلاً ومرجعية للكون الثابت والمتغير.، فتصير جملة
(وإنه في أم الكتاب )وصفاً وإخباراً من الله عز وجل بأن القرآن اللساني، موجود من حيث الأصل، والمرجعية في مجموعة السنن الناظمة للخلق، التي هي أم الآفاق والأنفس حقيقة، وما القرآن اللساني، إلا صورة لهذه الأم بشكل لسان حتى تكون قابلة للتلاوة والسماع.
وبعد معرفة تفسير (أم الكتاب) تسهل معرفة تفسير اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، فما هو اللوح المحفوظ؟
لوح: لساناً تدل على مكان ظهور حركة منضمة إلى بعضها بجهد ممتد منتهية بحركة مؤرجحة، ومنه قولنا: لاح الشيء إذ ظهر بشكل منضم على ذاته مع تأرجح عملية ظهوره، فيكون المقصد من قوله تعالى:
(في لوح محفوظ ) على الشكل التالي:
إن كلمة القرآن لم تحدد هنا بالقرآن المتلو (اللساني) مما يدل على أنها تتناول القرآن ببعديه الموضوعي واللساني، فكلاهما في لوح محفوظ ،بمعنى، أن الآفاق والأنفس هما اللوح الذي تمَّ فيه حفظ القرآن ببعديه، وذلك من خلال القوانين الناظمة للخلق ،حيث جعلها الله دائمة ومستمرة ،غير قابلة للتبديل أو التحويل عن سيرها، فمن يستطيع من الخلق أن يحرف آية الشمس في سيرها من المشرق إلى المغرب؟ قطعاً، لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك، بل لا يحاول أصلاً لإدراكه لعجزه وضعفه اللازم لوجوده، فهذا القرآن الموضوعي محفوظ في واقع الحال، فجاءت صورته اللسانية مرتبطة به، كونها إخباراً عنه ،فأخذت الحكم نفسه من حيث الحفظ، لأن أي تبديل أو تحريف في القرآن اللساني يظهر مخالفته بشكل واضح للقرآن الموضوعي ،وبالتالي يظهر كذبه وبطلانه، وأن هذا النص اللساني ليس من عند الله الخالق المدبر (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) (النساء 82).
والكلام عن القرآن اللساني، يخبر الله عز وجل أن هذا النص القرآني لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً ضرورة مع أصله ومرجعيته الذي هو القرآن الموضوعي (آفاق وأنفس)، إذاً ،التطابق بين النص القرآني، والقرآن الموضوعي، شيء لازم ضرورة ،كونهما من مصدر واحد، الذي هو الخالق المدبر.
(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (تبارك14).
ومن خلال هذا العرض بدأت الغشاوة تزول عن الأعين ،ويلوح الفهم للنص القرآني ،ولنرَ ذلك في قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم ، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ،إنه لقرآن كريم ،في كتاب مكنون ، لا يمسُّهُ إلا المطهرون ) (الواقعة 75-79).
يقسم الله عز وجل بمواقع النجوم ،وليس بالنجوم ذاتها، ويخبر أن هذه المواقع [الفواصل بين آيات الكتاب المتلو أو مواقع النجوم في السماء أو كلاهما] هي على درجة من العظمة والأهمية، وبغض النظر عن دلالة كلمة النجوم في الواقع، فهذا بحث آخر لسنا في صدده، يخبر الله عز وجل أن القرآن الكريم في عطائه المعرفي موجود في كتاب مكنون، وكوننا قد عرفنا مكان القرآن قبل جعله قرآناً عربياً، أنه في أم الكتاب ،واللوح المحفوظ اللذين هما في واقع الحال الآفاق والأنفس ،والسنن الناظمة لهما ،مما يدل على أن جملة (في كتاب مكنون) يقصد بها مجموعة السنن الناظمة للكون، وكلمة (مكنون) تدل على الستر والصون ،مما يؤكد أن هذا القرآن اللساني مُصان من أيدي العابثين المجرمين ،كونه موجوداً في أم الكتاب ،واللوح المحفوظ، بصورته الأصلية الموضوعية ،المحفوظ بقوانينه المستورة، ويكمل الله عز وجل النص، أنه لا يستطيع أحد أن يكشف هذه القوانين المستورة المحفوظة إلا العلماء وهذا دلالة (لا يمسُّهُ إلا المطهرون )لأن المس هو جمع متصل منته بحركة غير محددة، والطهارة: هي النقاء والصفاء. فالإنسان لا يستطيع أن يضع يده على القانون الإلهي في الواقع ويكشفه من ستره ،إلاّ إذا كان نقياً وصافياً في تفكيره ،ومنهجه العلمي ،والموضوعي، من أية شوائب ،نحو الآبائية، والأكثرية، والخرافات..، ولذلك قال تعالى:
إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ )
(فاطر28).
وهذه نماذج من آيات الذكر الحكيم لتوسيع الفكرة وتوضيحها:
1- (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) (الرعد 39).
كلمة (يمحو ويثبت) فعل مضارع ،مما يدل على الحدوث في الحاضر والمستقبل، والنص القرآني نص مستمر في العطاء ،مما يدل على استمرار فعل المحو والإثبات ،وليس هو خاصاً لزمن دون آخر، وصفة المشيئة جاءت بصيغة (يشاء) كذلك فعل مضارع تدل على الاستمرار في الحدوث، ودلالة (شاء) هي للاحتمال والتخيير ،بخلاف صفة (أراد) فهي للقصد والعزم والتحديد لشيء بعينه، مما يدل على أن فعل المحو والإثبات لم يتحدد بعد ويتعين في الواقع ،وإنما هو أمر مناط بمشيئة الله عز وجل ،وهذا محله القرآن الموضوعي (آفاق وأنفس) فهو محل لعملية المحو والإثبات ،حسب مشيئة الله ،وذلك مرتهن بكل أمر في حينه.
قال تعالى:
2- (ويمح الله الباطل ويُحق الحق بكلماته (الشورى 24).
أما أم الكتاب فالمقصود بها مجموعة السنن الكلية الناظمة للوجود، فهي ليست بمحل للمحو ، لأن الله عز وجل جعلها دائمة مستمرة.( ولن تجد لسنت الله تحويلا )
إذاً، المحو هو للأشياء المرتبطة بالقوانين الجزئية الاحتمالية في الواقع، التي لها أكثر من احتمال حين الحدوث ، نحو نزول الأمطار في زمان ومكان معين، وإطالة عمر فلان أو تقصيره، وما شابه ذلك من الأمور فكلها مرتهنة بمشيئة الله -عز وجل- ويقوم الإنسان بدفع أقدار الحق بالحق للوصول للحق - تدافع الأقدار ببعضها - دفع قدر المرض بقدر الصحة، وقدر الجهل بقدر العلم، وقدر التخلف بقدر النهضة.
(كلا إنها تذكرة ، فمن شاء ذكره ، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة ، بأيدي سفرة ،كرام بررة (عبس 11- 16).
إن موضوع الإيمان بالله واليوم الآخر والانقياد لشرعه أمر تحت متناول أيدي الناس جميعاً ( فمن شاء فليؤمن ) وهذا الأمر - الإيمان - موجود ومتوفر من خلال السير في الأرض ودراسة الحقيقة وهذا ما دل عليه جملة :(في صحف مكرمة)
لأن الصحف جمع صحيفة، وتطلق على وجه الأرض، أما جملة ( مرفوعة مطهرة)
فهي الحقيقة الصافية النقية المرفوعة عن كل دنس أو شائبة، أو تحيز لأحد، وجملة ( بأيدي سفرة )المقصود بها بأيدي العلماء الذين يُسفرون عن الحقيقة ويكشفونها للناس ،ويمارسون دور السفراء في الأرض لدعوة الناس إلى الحق والسلام ،والأمن والعدل والمحبة، وجملة ( كرام بررة ) صفة لهؤلاء العلماء الذين لا يبخلون بعلمهم على أحد، ويقومون بأعمال البر والإحسان والتواصل مع الناس لنشر السعادة والمحبة في الجنس البشري.
3 –( الذين جعلوا القرآن عضين ) (الحجر 91).
إن كلمة (عضين) من التعضية وهي تدل على التفريق والتجزيء، وكلمة القرآن لم تحدد بالنص المتلو مما يؤكد على اشتمالها على الدلالتين: القرآن الموضوعي، والقرآن اللساني، ويكون المقصد من النص هو التحذير من التفريق بين بُعدي القرآن: الموضوعي واللساني، والمحكم والمتشابه فيهما،( الثابت والمتغير) أثناء الدراسة لأن هذه التعضية للقرآن عن بُعده الموضوعي تجعله نصاً لسانياً جامداً مفرغ المحتوى، ليس له أي قيمة، كما أن الدراسة للقرآن الموضوعي دون بعده اللساني تصير مادية، لا روح فيها، مخلدة إلى الأرض، لا تسمو إلى السماء، كما أن الدراسة لكليهما اعتماداً على المتشابه دون المحكم ،يؤدي إلى الفتنة والضلال.
4 – (يا رب إنّ قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) (الفرقان 30).
إن كلمة القرآن في النص لم تحدد بدلالة لأحد البُعدين مما يدل على أنها تشمل البُعدين للقرآن معاً - الموضوعي واللساني - فكلاهما قرآن ،وعملية الهجر ،لم تكن للبُعد اللساني، وإنما كانت للبُعد الموضوعي الذي هو أصل للبُعد اللساني، وإذا تمَّ ذلك في الواقع فإن عملية الهجر تكون حاصلة للقرآن ،كون النص اللساني، لا يمكن دراسته وفهمه دون إرجاعه إلى أصله الموضوعي، ومن هذا الوجه أطلق الله عليه اسم قرآن ،وهو من قرن الشيء بالآخر وضمه إليه ،وليس هو إلا الجانب الموضوعي ،والآخر المتلو، وكلاهما يشكلان القرآن، ولا يستغني الإنسان عن أحدهما في دراسته، ونهضته لتحقيق السعادة والفلاح في المجتمعات الإنسانية، ويكون ذلك من جراء ضم أحدهما للآخر ،والقيام بعملية القراءة لهما من خلال إسقاط النص على محل خطابه من الواقع ،لأن القراءة هي تفكر وتدبر للشيء من خلال ربطه مع محل خطابه من الواقع، وفهمه حسب المنظومة التي ينتمي إليها ،سواء رافقه نص متلو أم لا.
5 – ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر 9).
إن كلمة الذكر تطلق على ما أنزل الله عز وجل على نبيه بواسطة الوحي الذي شمل الكتاب كله قال تعالى (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا (الكهف 1).
فأطلقت كلمة الذكر على محتوى الكتاب كله لأنه قابل للذكر بشكل صياغة لسانية(تلاوة) مع وجود صفة التدبر والتذكر.
فيكون المقصد من حفظ الذكر هو حفظ مادة الوحي كلها، وذلك من خلال ربط النص المتلو مع محل خطابه من الواقع، وحفظ الرسالة التشريعية الموجهة للمجتمع الإنساني من خلال وضعها وتفصيلها بين آيات القرآن، فشملها الحفظ الموضوعي بجانب كونها سنناً اجتماعية متعلقة بالأنفس ،نحو قانون النفعية والأحسنية ،فالواقع كفيل بغربلة وفرز الخطأ .
( فأما الزبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض (الرعد 17).
هذا هو مفهوم اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، وأم الكتاب. وقد بينا علاقة اللوح المحفوظ مع النص القرآني، وأنه علاقة الشيء بصورته، علاقة الأصل بالنسخة عنه. وبهذا العرض، سقط ،وبطل أي استغلال لمفهوم اللوح المحفوظ بالمعنى التراثي لنقض النص القرآني ،والتشكيك بمصدريته الإلهية، أو التشكيك بحفظه كنص لساني، لأن مفهوم التراث لا يمثل حقيقة المفهوم موضوعياً، وإنما هو مجرد رأي زمكاني ضمن معطيات المجتمع حينئذ، غير ملزم به أي مجتمع لاحق.

اجمالي القراءات 9077