الجهاد( خواطر في رحاب سورة التوبة)

شريف هادي في الأربعاء ١٠ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى ،،، وبعد
قبل أن أبدأ في طرح هذا الموضوع ، ومحاولة عرض خواطري حول آيات الجهاد في سورة التوبة (براءة) ، وذلك لكي أدلو بدلوي في الموضوع الذي عرضه الدكتور عمرو اسماعيل ، وتكلم فيه الدكتور عثمان ، وبعض الإخوة الكرام ، أحب أن ألقي الضوء على التركيبة السكانية لأهل الجزيرة العربية من الناحية العقائدية ، وذلك لإيجاد أرضية بحثية مشتركة مع الجميع في فهم مفردات آيات القرآن وفقا لمعناها اللغوي وقت النزول ، وحتى ندرأ عن القرآن تلute;ك النهمة التي يزعمها أعداءه بأنه حمال أوجه ، كما ننزه القرآن من تلك الفرية التي يلصقها به المعتدين من أهله بأن به ناسخ ومنسوخ ، وأن آيات الجهاد وخاصة آية السيف والجزية نسخت ما عداها من آيات تتكلم عن الرحمة والمغفرة وحرية الانسان في العقيدة ، ثم بعد ذلك نحاول فهم آيات الجهاد وخاصة آية الجزية ضمن سياق النص القرآني ، وتكون الخاتمة بالإجابة على (لماذا؟) ، لماذا نؤكد دائما على أن الله قد جعل للناس حرية الاختيار في كل كتبه ، خاصة في الكتاب الخاتم (القرآن الكريم)؟
وندعوا الله أن يوفقنا إلي ما يحبه ويرضاه ، وإن أصبت فمن الله وإن أخطئت فمن نفسي والشيطان ، وعلى الله قصد السبيل.
زمن نزول القرآن على رسول الله (ص) كان الناس في الجزيرة –بخلاف أتباع الرسول – ينقسمون إلي أقسام ثلاثة.
1- الكفار:وهم كل من لم يؤمن بالله وبأنه هو الخالق وقد قال فيهم الله سبحانه وتعالى " وقالوا ما هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا الا الدهر وما لهم بذلك من علم ان هم الا يظنون" الجاثية 24 ، وهؤلاء انقسموا قسمين الأول يعبد آلهة غير الله والثاني وهم الأكثرية من هذا القسم لا يعبدون شيئا
2- المشركين:وهم أولئك القسم من أهل الجزيرة العربية الذين يؤمنون بأن الله خالق كل شيء ولكنهم يعبدون الأصنام زلفى ولتقربهم ولتشفع لهم عند الله وقد قال فيهم الله سبحانه وتعالى" المشركين:وهم أولئك القسم من أهل الجزيرة العربية الذين يؤمنون بأن الله خالق كل شيء ولكنهم يعبدون الأصنام زلفى ولتقربهم ولتشفع لهم عند الله وقد قال فيهم الله سبحانه وتعالى" ولئن سالتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله قل افرايتم ما تدعون من دون الله ان ارادني الله بضر هل هن كاشفات ضره او ارادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون" الزمر 38 ، وهؤلاء يدعون آلهة من دزن الله يعتبرونهم شركاء لله في العبادة ويتخذون من عبادتهم قربا وزلفى لله وقد قال فيهم الله سبحانه وتعالى " الا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه اولياء ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى ان الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون ان الله لا يهدي من هو كاذب كفار" الزمر 3
3- أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى بشكل أساسي ومعهم بعض الحنفاء الذين كانوا على ديانة إبراهيم عليه السلام (الحنفية) ، وهؤلاء أيضا قسمان ، القسم الأول من آمن بالله واليوم الآخر وقد قال فيهم رب العزة سبحانه وتعالى " ان الذين امنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من امن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " البقرة 62 ، ومن الطبيعي أن يكون هؤلاء خير سند ودعم للدين الجديد ومنهم ورقة بن نوفل وكعب الأحبار ونصارى وفد نجران والراهب بحيرة ، وصهيب وسلمان وغيرهم كثير ، والقسم الثاني من أهل الكتاب هم من أشركوا بالله غيره وقد أعتبر الله ذلك منهم كفرا بل وأعتبرهم أشر خلق الله ووضعهم في سلة واحدة مع المشركين وقال فيهم عز من قائل " ان الذين كفروا من اهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها اولئك هم شر البرية" البينة 6 ، ونرى أن الله سبحانه ذكر لفظ (من) التبعيضية بما يؤكد أنه ليس كل أهل الكتاب ولكن بعضهم فقط ، كما نرى أن الله سبحانه ذكر لفظ (هم) وهي ليست زائدة معاذ الله أن يكون في القرآن زائد أو مهمل ولكنها توكيدية ، ولماذا كفروا؟ لأن بعضهم قال عزير أبن الله وبعضهم قال المسيح أبن الله ( التوبة 30) ، ومن الطبيعي أن يتحالف هؤلاء مع المشركين في كل أمر ضد أصحاب الدين الجديد والدليل التاريخي ما حدث في غزوة الأحزاب وما كان من اليهود ، وكانوا مستشارين للمشركين في حروبهم ضد المسلمين كما كانوا أصحاب الدعم اللوجيستي ، وبعضهم أنضم في صفوف الكفار لحرب المسلمين.
كانت هذه مقدمة لازمة لفهم معنى آيات القتال في سورة التوبة ، وهي السورة التي قد بدأت ببراءة من الله ومن الرسول إلي الذين عاهدتم من المشركين ، ومن يقرأ هذه الآية يظن أن الله يدعوا المسلمين لنقض عهدهم مع المشركين ، ويكون هذا بدأ بالعدوان ولكن كما قلنا أن آيات الله لا تقرأ كجزر منعزلة عن بعضها البعض ولكن تقرأ ضمن سياقها لنتعرف على مقصود رب العزة سبحانه وتعالى على وجه واحد لا يحتمل غيره ، ولذلك تأتي الآية رقم 4 من نفس السورة لنقرأ قوله تعالى "الا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم احدا فاتموا اليهم عهدهم الى مدتهم ان الله يحب المتقين " لنعرف أن البراءة ممن إبتدأ بنقض العهد ، لأن الوفاء بالعهد مع من ينقضه يعتبر في أهون الأحوال خضوع وإستسلام يرفضه الإسلام ولكن القاعدة الأصولية في دين الله هي الوفاء وقد قال تعالى" واوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤولا" الإسراء 34 ، ولأن نقض العهود يكون إستثناء والاستثناء لا يكون إلا بنص فجاء نص سورة التوبة يبين حالة الاستثناء مع الإشارة للحالة الطبيعية وهي وفاء العهود
معنى الجهاد:
الجهاد اسم مشتق من المصدر (جهد) ويكون من باب الدفع وهو عكس الفتح والغزو والذي يكون من باب الطلب ، والله سبحانه وتعالى لم يشرع في كتابه إلا جهاد الدفع فقط دون جهاد الطلب (الغزو) ولننظر في آيات القتال في سورة التوبة ونبدأ بالآية الخامسة
قال تعالى" فاذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا واقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ان الله غفور رحيم" ، وقد إستثنى منهم رب العزة سبحانه وتعالى المشركين المذكورين في الآية رقم 4 أولئك الذين لم ينقصوا المسلمين شيئا من عهدهم ولم يتحالفوا ضدهم مع المحاربين ولم يظاهروا عليهم بتقديم أنواع الدعم والمشورة للمحاربين ، إذا فإن هذا القتال ىفي الآية 5 جاء نتيجة حتمية لنقض الكفار لعهدهم مع المسلمين فيكون بهذه الصورة جهاد دفعا لا طلبا ، ويؤكد صحة ما فهمناه من هذه الآية الكريمة ما جاء في الآية التالية عليها في قوله سبحانه وتعالى " وإن أحد من المشركين إستجارك فأجره... الآية" فيكون قوله تعالى" حيث وجدتموهم" لا يؤخذ على إطلاقة لأن المشرك الذي يستجير بك أنت فعلا وجدته وهو مستثنى من قتله وقتاله ، فيكون المعنى حيث وجدتموهم محاربين ناقضين لعهدكم مظاهرين غيركم عليكم حتى تنطفئ ناركم وتذهب ريحكم فهم الذين يجب عليكم أن تقتلوهم حيث وجدتموهم وأن تخذوهم وتحصروهمخ وتقعدوا لهم كل مرصد.
سيقول سائل وماذا عن النصف الثاني من الآية الكريمة في قوله تعالى " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة ... الآية" أليس في ذلك إجبار على الإسلام ومخالفة لقوله تعالى " لا إكراه في الدين" أقول له لا لأن التوبة هنا لا تعني الإسلام ولكن تعنى التوبة عن نقض العهد والالتزام به وعدم حرب المسلمين ، وإقام الصلاة هنا تعني الصلة وإقام العلاقات الطيبة مع المسلمين وإتاء الزكاة تعنى تزكية نفوسهم بالالتزام بما عليهم أداءه في الشروط المتعاهد عليها ، ىوالدليل قوله سبحانه " فخلوا سبيلهم" وهذا يعني أن من يخلى سبيله أسير فإن قلنا أن إقامة الصلاة هي الصلاة المتعارف عليها ويمكن للأسير أن يؤديها فماذا عن الزكاة والأسير فاقد للولاية والأهلية فكيف سيؤديها على المعنى المتعارف عليها؟ فلزم التأويل مهتدين بالنصوص.
وقت بدأت الآية 7 بسؤال إستنكاري كيف يكون للمشركين عهد عند الله؟ ولكن الله سبحانه وتعالى عاد ليؤكد على الأصل الأصيل في الإسلام وهو الالتزام بالعهود في قوله تعالى " إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين" وقد إعتبر سبحانه الحفاظ على العهد من تقواه.
وقد أكد الله سبحانه أن المحاربين من المشركين الذين نقضوا عهدهم مع المسلمين لن يرقبوا في المسلمين إلا ولا ذمة وقد أكد على ذلك في الآيتين الثامنة والعاشرة وذلك تحميسا للمسلمين وتثبيتا لهم لأنهم إذا هزموا من عدوهم فلن يرقب فيهم إلا ولا ذمة ، مع التأكيد على قوله فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وذلك في الآية الحادية عشر وهنا قرينة تجعلنا نحمل المعنى على الاسلام في قوله "فإخوانكم في الدين" وهنا دون إجبار من المسلمين لهم لأنهم ليسوا أسرى كما في الآية السابعة ولكنهم محاربين
وتأتي الآيتين الثانية عشر والثالثة عشر من سورة التوبة لتؤكد على حقيقة أن الجهاد في الاسلام جهاد دفع لا جهاد طلب في قوله تعالى" وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا ائمة الكفر انهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون(12) الا تقاتلون قوما نكثوا ايمانهم وهموا باخراج الرسول وهم بدؤوكم اول مرة اتخشونهم فالله احق ان تخشوه ان كنتم مؤمنين(13)" ، إذا المشركين هم الذين بدؤوا بالعدوان وليس المسلمين والنص واضح لا يحتاج تفسير ، بل ويفسر الأمر بالقتال الوارد في الآية الرابعة عشر في قوله تعالى" قاتلوهم يعذبهم الله بايديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين" فهو عائد على من بدأ بالعدوان من المشركين ونكث إيمانه وعهده ، وقد أغاظ ذلك المؤمنين وجعل قلبهم يمتلئ بالحنق فكان في نصر الله للمسلمين عليهم شفاء لما في صدورهم من غيظ من كثرة ما نكثوا عهدهم معهم وهموا بإخراج الرسول (ص) ، فهل الأمر بالقتال هنا للعدوان أم للدفاع؟
إنما المشركون نجس
ونأتي لتفسير قوله تعالى" يا ايها الذين امنوا انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وان خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ان شاء ان الله عليم حكيم" التوبة 28
بعدما أذن الله للمسلمين بجهاد المشركين لأنهم نكثوا عهدهم ونقصوا ما عاهدوا عليه وهموا بإخراج الرسول وبدؤوا بالعدوان ، فكان هذا الجهاد إبتداءا جهاد دفع لتصحيح الوضع المزري الذي حدث بتجاوز المشركين مع المسلمين ولم يرقبوا فيه إلا ولا ذمة على النحو الذي قرأناه في أول سورة براءة ، أقول بعد الإذن بالقتال على النحو السابق ذكره فتح الله مكة للمسلمين وهي قبلتهم ومهبط الوحي بكتابهم ،ةزكان فتحهم لها لازم من وجوه عدة فهي أولا قبلتهم التي يولون ، وثانيا مهبط الوحي الذي به يؤمنون وثالثا وجهتهم التي إليها يحجون ورابعا أرضهم التي منها طردوا ، وبها أموالهم التي فيها سليبت منهم وبيوتهم التي منها خرجوا ، فكان فتحها ليس عدوانا بل تصحيحا لوضع الطرد والهجرة وعودة للديار ، فما بال من يسكنها من المشركين؟ قال تعالى " ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم".
نعود لشرح الآية الكريمة فتح الله مكة للمسلمين ، ومكة كما أنها الأرض التي يحج إليها المسلمين فهي الأرض التي يحج إليها المشركين والكفار للتبرك بآلهتهم التي يعبدون من دون الله ولهم صلاتهم الخاصة بهم يقول تعالى" وما كان صلاتهم عند البيت الا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون" الأنفال35 ، وهذه الأفعال من حجاج المشركين هي تصريف عبادات شيطانية ما أنزل الله بها من سلطان فضلا عن كونها تشغل الحجاج المسلمين عن أداء شعائرهم فهي تتناقض معها كما أنها نجس فإنسلخ حكم الفعل على الفاعل فهي إذا نجاسة ظنية لا حسية بما يقترفون من شرك أكبر حول بيت الله العتيق فلا يصح أن يستمر هذا الوضع وقد فتح الله للمسلمين مسجدهم وكعبتهم التي إليها يحجون فقد منعهم الله عن ترك المشركين يقربون المسجد ليمارسوا شركهم ، وقد إحتج بعض المسلمين بأن هؤلاء الحجاج يدفعون الكثير من الأموال ويتاجرون وفي ذلك مكاسب عظيمة لهم رب العزة فإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ان شاء ان الله عليم حكيم.
الجزية
قال تعالى" قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" 29.
عندما منع المسلمون المشركين من دخول المسجد الحرام وإظهار كفرهم فيه ، أغاظ ذلك المشركين فقام بعض كفار أهل الكتاب بدفعهم لحرب المسلمين ، كما نقول اليوم(بالصيد في الماء العكر) فكانوا بئس مستشاري السوء هم ، كما ظاهروا المشركين على المسلمين وحملوا في وجوههم السيف ، فجاء قوله تعالى آمرا بقتالهم لأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر – وذلك على خلاف ما في كتبهم السماوية – ولذلك فهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق وهم ليسوا كل أهل الكتاب ولكن بعضهم فقد جائت (من) التبعيضية لتؤكد أنه ليس كل أهل الكتاب ولكن بعضهم فقط ، وهؤلاء عندما نحاربهم وننتصر عليه وجب عليهم دفع الجزية (عن يد) أي أنها عن يد المحارب فقط ومن ماله فإن لم يكن له مال سقطت عنه ولا تفرض على إمرأة أو طفل أو شيخ أو راهب فكلهم ليسوا محاربين ولا تفرض على من لم يحارب ليحملها عمن حارب لأنها شخصية (عن يد) ، ثم أن فرض الجزية هنا يؤكد على أن هذا الجهاد هو جهاد دفع عدوان لأن الآية 28 تؤكد أن المسلمين خافوا عيلة بدفعهم الكفار عن المسجد الحرام ، فكتب الله لهم الجزية على من يحارب من كفار أهل الكتاب مع المشركين ، والذين تتوافر فيهم عدة صفات أولها أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ولا يحرموا ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق فهم في الحقيقة كفار وهم بعض الذين أوتوا الكتاب وليسوا كلهم ، وقد بين الله الغاية من الجزية في قوله سبحانه وتعالى وهم صاغرون ، فهي إذلال لمن حمل السيف وأعتدى ، وقد إنتفت العلة فيمن لم يعتدي ، فلا جزية عليه ، كما تنتفي شروطها فيمن يؤمن بالله واليوم الآخر من أهل الكتاب وهم الغالبية ، والدليل على أنها حالة فريدة أنها لا مقدار فيها ولا توقيت لها ، فهي إذن مرة واحدة من المحارب الذي هزم ويدفعها عن يده ، وهذا الحكم أخف بكثير من حكم قاطع الطريق على المسلمين كما تعرفون فيما يسمى بحد الحرابة ، فتكون هذه الجزية بدلا عن القتل بحد كالحرابة ، والمشركين من أهل الكتاب هم المعتدين ، ثم أن كلمة جزية من الجزاء عما يفعلة لك غيرك من معروف كقول الشاعر (يجزيك أو يثني عليك ، وإن من أثنى عليك بما فعلت فقد جزى) وأي معروف أكثر من منح الأمن للمحارب الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر على النحو السالف بيانه ، والأهم أنه لا يجوز إجبار ذلك المحارب على دفعها إذا لم يكن له مال ، وهي تدفع مرة واحدة فقط عن يد المحارب.
الغريب أن البون شاسع والاختلاف كبير بين الجزية بالمفهوم الذي جائت به الآية الكريمة وبين تلك الجزية التي فرضها أصحاب الدين الأرضي على البلاد التي قاموا بغزوها ، فقد فرضوها على كل أهل الكتاب من يهود ونصارى مع أنهم كقاعدة عامة يؤمنون بالله وباليوم الآخر ، ثم فرضوها على الجميع وجعلوا على المرأة نصف ما على الرجل ، وقد فرضوها طول العمر مع أنها غير مؤقته تدفع مرة واحدة من المحارب وجعلوا لها مقدار مع أن الله لم يجعل لها مقدار ، وجعلوها حتى على الزرع والثمار مع إنها عن يد ، إذا ما فعلوه ليس جزية أي جزاء مقابل المعروف والإحسان الذي فعله المسلم مع من حاربه من كفار أهل الكتاب بأن تركه لم يأسره ولم يقتله وحفظ عليه دمه ، ولكن إتاوة يأخذها قاطع الطريق أو الغازي المعتدي من المعتدى عليه ، فالفرق كبير بين هذا وذاك ولله الأمر من قبل ومن بعد.
انفروا خفافا وثقالا
نأتي لشرح قوله تعالى"انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا باموالكم وانفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون" التوبة 41 ، والذي يجب الا يفسر بمعزل عن قوله تعالى "... وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا ان الله مع المتقين" التوبة 36 ، لأن الأمر بالقتال سببه أن يبدأ المشرك بالعدوان فلأنهم قاتلوكم فقاتلوهم ، ولكن بشرط عدم نسيان أن الله مع المتقين ، ومن هم المتقين الذين لا ينقضوا العهود ولا يعتدوا كما سبق ذكر ذلك في الآية رقم 7 من نفس السورة ، فنحن مأمورون بالاستقامة لمن استقام لنا.
ونصل إلي محطتنا الأخيرة في الإجابة على السؤال الذي فرضناه في أول البحث ، لماذا نؤمن بأن الله قد جعل للناس الاختيار بين الكفر والايمان في كل كتبه لاسيما القرآن؟
جعل الله السبب في من خلق الجن والإنس هو عبادته فقال عز من قائل" وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون(56)ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون(57) الذاريات.
والعبادة من حيث القوة على آدائها نوعان جبرية وأختيارية ، وعبادة الملائكة تقع تحت مفهوم النوع الأول وهي الجبرية كقاعدة عامة بخلاف ما أستثناه رب العالمين كحالة هاروت وماروت ، والدليل قوله تعالى " لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون" التحريم6 ، وقد خلقوا الملائكة لأداء وظائف محددة كملائكة العذاب في هذه الآية الكريمة وهم مجبورين على أداء ما وكل بهم ، كرقيب وعتيد والملائكة الحفظة والقرآن الكريم ذكر الكثير من وظائفهم التي يؤدونها بإخلاص ، حتى في سؤالهم لرب العزة (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) نأخذ منه عدة مسائل
الأولى أنهم لم يردوا الأمر على الله ولم يستنكروا قضاءه ، ولكنهم جاء سؤالهم من باب توضيح الأمر لا رده
الثانية بمفهوم المخالفة في قياسهم بينهم وبين البشر قالوا من يفسد فيها ويسفك الدماء ، فهم مخلوقون لا يعرفون الفساد أو سفك الدماء.
الثالثة أنهم مخلوقون للعبادة وهي شغلهم الشاغل في قولهم ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، وأن عبادتهم لله على سبيل الجبر لا الاختيار فليس لهم إختيار بين المعصية والطاعة لأنهم لا يفسدون على العموم فليس لهم غير الطاعة على الخصوص ، فتندرج عبادتهم لله تحت باب التيسير لا التخيير
وهنا نأتي للسبب والإجابة على السؤال ، فكما يعرف البديع بما أبدع والخالق بما خلق فإن الله يعرف بمن يعبده ، فلو أقتصر من يعبدوه على التيسير دون التخيير فألوهيته غير كاملة – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- فلكمال جلال عظمته يكون من مخلوقاته من يعبده إختيارا ، ولكي يكون هناك إختيار يجب أن يتواجد الشيء المختار منه وهو الشيء ونقيضه فالعبادة نقيضها المعصية ، ولكي لايكون أختيار العبادة سهلا حتى يكون إبراز كمال الجلال لله وحده يجب أن ترتبط المعصية بأدوات جذب ، وهي الشهوة وإرتباط النفس بها من حب هذه الشهوات وتزين للناس من أموال وبنين وخيل مسومة وخلافة ، وأن يكون للطاعة أدوات تنفير وهي الوسوسة مع ثقلها على النفس العاصية ، ولنعلم علو كمال الجلال يجب أن يكون للمعصية دليل يحض عليها وهو الشيطان.
ورغم ذلك كله يقوم الانسان متحللا من شهواته وما تهوى نفسه إختياره صاما أذنيه عن وسوسة الشيطان وعن تزينه للمعصية ، متغاضيا عن غرم الطاعة وصبرها ، أقول يقوم على الطاعة والعبادة ، وهذه العبادة هي مقصود الخالق من خلق خليفته على الأرض ، وهو سبحانه الواحد الأحد ذو الجلال والإكرام
لذلك أول ما نزل من آيات القرآن الكريم المكية تحض على الاختيار ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، أما قوله وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ليؤكد لنا على أن مشيئته قد سبقت مشيئتنا في الاختيار بأن جعل سبحانه الاختيار لنا ، ولو شاء لجعلنا أمة واحدة ولكن جرت مشيئته سبحانه أن يترك لنا مشيئة الاختيار لإبراز قيمة الطاعة والعبادة والتي تكون لتأكيد كمال الجلال لله وحده.
أقول ذلك وأجيب على هذا السؤال لكي أصل إلي نتيجة أن من يتخذ الحرب والقتال سبيلا لإكراه الناس على الدخول في الاسلام أو الجزية أو القتل قد خالف مقصود رب العزة وهو معاند لله سبحانه وتعالى ،فالاسلام لا يعرف ما يسمى جهاد الطلب ، فكل الجهاد في الاسلام جهاد دفع أذى الكفار والمشركين ، ومن يقيم جماعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غرضها حمل الناس على إقامة الصلاة عنوة عند سماع النداء هو في الحقيقة محارب لله مخالف لكتابة معاند لمشيئته.
وأخيرا أدعوا الله لي ولكم أن يلهمنا معرفة الحق وطريقة ، وأن يعيننا على الطاعة وسبيلها ، وأرجوا أن أكون قد وفقت في درء الشبهات حول آيات القتال والسيف والجزية في سورة التوبة ، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شريف هادي

اجمالي القراءات 37149