نقلا عن عدة مصادر بتصرف
قراءة في الصراع السني الشيعي

محمد مهند مراد ايهم في الثلاثاء ٠٢ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

نستطيع القول أن بذور الصراع السني الشيعي بدأت بعد وفاة النبي محمد وبيعة السقيفة التي بادر إليها رهط من الصحابة وكانت بداية بين المهاجرين والأنصار وكانت الغلبة فيها للمهاجرين بزعامة أبي بكر وعمر, على الأنصار بزعامة سعد بن عبادة ولعل أهم ما رجح كفة المهاجرين هو صلابة رأيهم ولين الأنصار وكما يذكر ابن خلدون في مقدمته أن الشعوب التي تدخل ملة عن طوع لها دون حروب ودون معاناة تكون ألين رأي واقرب للعقل منها من تلك الشعوب التي تدخلها بعد صراع وحروب
امتثل الناس لما آل إليه أصحاب السقيفة عدا عن مواقف فردية كتلك التي اتخذها علي ابن أبي طالب وقد اتخذ علماء السنة والشيعة موقف علي ابن أبي طالب شاهدا لها على صحة البيعة أو بطلانها رغم التناقض في المواقف ولئن كان أئمة الشيعة يعتبرونه دليلا على بطلانها غير أنه في هذا الدليل ثغرة وهو تلك المواقف التي اتخذها علي بعد تلك البيعة من امتثاله لأمر الخليفة وبغض النظر عن أن ذلك كان منه حقنا للدماء أو كرها أو خوفا من البطش إلا انه أولا وأخيرا امتثل وذلك ثابت في مصادر السنة والشيعة فإما أن علي كان يعلم ببطلانها وسكت فإن ذلك حسب مفاهيمهم الثورية خذلانا وبالتالي فهو ليس أولى بالخلافة وإما إقرارا بشرعية الخلافة
ولئن قال علماء السنة انه كان مشغولا بمراسم دفن الرسول فهذا لا يبرر قطعا امتناعه عن البيعة لستة اشهر وهل مراسم الدفن تستغرق ستة اشهر
كل ما نستطيع أن نقوله هنا أن خللا ما قد حصل في التركيبية السياسية وهو ما دفع أبا بكر إلى القيام بحروب الردة ولئن بررها أهل السنة لاحقا بأنها حروب دينية لكنها في حقيقة الأمر حروب سياسية بكل ما تعنيه هذه الكلمة فلدى أهل السنة لا يكفر من لم يدفع زكاة ماله ورغم ذلك قاتل أبو بكر الممتنعين عن دفع الزكاة وهذا ما نفسره بالسبب الاقتصادي الذي يقوم عليه أصلا الكيان السياسي وهذا ما تؤكده اغلب الروايات عن حروب الردة ومنها ما نقل عن أبي بكر قوله (والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه)
بعد وفاة أبي بكر تولى الخلافة عمر وذلك بتعيين من أبي بكر دونما شورى ولم يحدث أي اضطرابات في عهده وذلك لسببين رئيسين ألا وهما شدة عمر وجبروته من ناحية والقيادة السياسية التي أسست في عهد أبي بكر وكان من أسسها عمر ذاته لكن الفتوحات التي بدأت في عهد أبي بكر وامتدت امتدادا شاسعا في عهد عمر مهدت لانقسامات سياسية ظهرت جلية في عهد عثمان وما بعده
ولعل أهم أسبابها هي ضعف الاتصالات في دولة امتدت هذا الامتداد الشاسع حيث إن الخبر يحتاج إلى نقله على اقل تقدير عدة أيام وهذا ما كان يولد حنقا من الرعية على الولاة الذين كان يتم تعيينهم من قبل الخليفة مباشرة دونما شورى وقد يقول قائل إن الشورى كانت تحدث في بلاط الخليفة فان ذلك كان يحدث بعيدا عن متطلبات الرعية الذين كانت تختلف رغباتهم المشروعة وحاجاتهم الطبيعية من مصر إلى آخر
في عهد عثمان بدا الخلاف السياسي واضحا جليا منذ اليوم الأول لوفاة عمر وذلك خلال مؤتمرات البيعة التي ظلت تعقد لعدة أيام دونما وصول إلى حل لكن وطأة السيف التي سلطها عمر على رؤوسهم على يد ابنه عبد الله دفعتهم لتجاوز الخلاف وحسم أمرهم رغم ما كان يكتنف هذا الحسم من غموض ويثير في النفس تساؤلات عدة عن جدوى اختيار الرجل المسن الضعيف خليفة لتلك الدولة المترامية الأطراف
على أي حال عاد الوضع إلى الاستقرار مرة أخرى لكنه كان الهدوء الذي يسبق ثورة البركان
كان عثمان الرجل المسن يحتاج إلى رجال أقوياء يقوون دعامة حكمه وهو ما دفعه إلى تقريب بني أمية الذين كان يعود نسبه إليهم وعلى رأسهم مروان بن الحكم الذي كانت تدور حوله شبهات كثيرة ونستطيع القول إن حكم بني أمية الفعلي بدأ في عهد عثمان فقد كان معظم ولاته يعودون لبني أمية نسبا
بمقتل عثمان يمكننا القول إن الصراع السني الشيعي بدأ بشكل فعلي من الناحية السياسية فحسب ولم تكن آنذاك أية صراعات عقائدية أو فقهية
بايع أهل الحجاز والعراق عليا خليفة لعثمان وبايع أهل الشام ومصر معاوية خليفة للمسلمين (طبعا أقول أهل الشام ومصر وأهل الحجاز والعراق تجاوزا لان أهل تلك البلاد كانوا يتبعون حكامهم بمفهوم الأمر الواقع )
وبدأت الفتنة من منطلق الثأر لعثمان وهنا بدأت الحمية القبلية العمياء تعود للظهور مرة أخرى بعد غياب استمر أكثر من ربع قرن انقسم الناس إلى فريقين فريق يتبعون بنو هاشم (آل بيت الرسول حسب المفهوم الديني ) وقد طغا عليها العاطفة من حب آل بيت الرسول وفريق يتبعون بني أمية وقد طغا عليها القوة والمنعة
حسم الخلاف أخيرا بمقتل علي ونزول الحسن عند الصلح ولا أجد مبررا لنص الصلح الذي عقد بينهما والذي يقول احد بنوده (أن يكون الخليفة معاوية ويكون الأمر من بعده للحسن (فهل كان الصراع على كرسي أم على ثأر قبلي أم على مصلحة شعب ) المهم أن الحسن توفي قبل معاوية لأسباب تبدو شبه واضحة إذ انه ثبت تاريخيا لدى السنة والشيعة انه مات مسموما (ومن له المصلحة العليا في موته ) وتوارث الخلافة بنو أمية واشتد الصراع السني الشيعي آنذاك(طبعا لم يكن يأخذ هذا الاسم آنذاك إذ انه صراع سياسي لم تتضح إلا بعض معالمه صراع بين بني هاشم وبني أمية) وطبعا بدا تأليف الأحاديث في هذا العهد على يد اثنين من الصحابة (إن صح انه قولهم) كل لنصرة الفئة التي ينتمي إليها سياسيا فكان على أبي هريرة أن يظهر مناقب بني أمية وعلى عبد الله ابن عباس أن يظهر مناقب بني هاشم(أهل البيت)وهذا ماغذا روح الصراع بينهم ولكن لم يعرف في عهدهم أي اختلاق لحديث يتكلم في أمر عقدي أو فقهي ولم يكن هناك حاجة لها فالصراع سياسي بحت وكانت الأحاديث آنذاك تروى مشافهة ضمن ما يسمى بالحرب الكلامية ولم يكن هناك حاجة لتدوينها
في نهاية عهد بني أمية نجحت دعوة سرية للشيعة في تدمير الدولة الأموية ، وانجلى الأمر ليتضح أن القادة السريين للدعوة الجديدة ليسوا من نسل علىّ بن أبى طالب ، بل من بنى عمومتهم العباسيين. لذا استجد صراع مسلح بين العباسيين والعلويين في ثورة محمد النفس الزكية، وبعد قتله و سجن أتباعه من كبار العلويين . استمر الصراع العسكري بين العباسيين والعلويين فى الحجاز ، وكان منها ثورة الحسين بن على من نسل الحسن بن على ، وقد هزمه العباسيون فى موقعة ( فخ ) في خلافة الهادي وقد نجا من مذبحة ( فخ ) اثنان هما: يحيى بن عبد الله الذي فرّ إلى بلاد الديلم وأعلن الثورة في أواسط آسيا فخدعه هارون الرشيد بإعطائه الأمان وسجنه وقتله. أما الأخ الثاني فكان إدريس بن عبد الله الذي فرّ إلى مصر ثم هرب منها الى المغرب الأقصى حيث أعلن ثورته فبعث له الرشيد من قتله بالسم . ولكن كانت جاريته حبلى فانتظر أتباعه البربر إلى أن وضعت طفلها فأسموه إدريس وبايعوه بالخلافة . وأقاموا به دولة الأدارسة في المغرب. وتتابعت ثورات أخرى للعلويين والشيعة ، مثل ثورة محمد الديباج ابن جعفر الصادق ، قتل الرشيد أخا للديباج هو موسى الكاظم ابن جعفر الصادق لأنه شكّ فيه. وكانت دولة الأدارسة إرهاصا بقيام الدولة الفاطمية الشيعية التي تأسست على أنقاض الأغالبة في تونس ، ثم زحفت إلى مصر والشام وأجزاء من العراق ، في القرن الرابع الهجري.
في كل تلك الحروب بين العلويين والعباسيين فيما بين المغرب الأقصى وأواسط آسيا اشتعلت بينهما الحرب الدعائية التي تعتمد أساسا على الأحاديث. وهنا استدعى العباسيون اسم أبى هريرة ـ بعد موته بقرنين وأكثر ـ وأكثروا من صنع الأحاديث وإسنادها إليه فأصبح أكبر راوية في الدين السني، وأضافوا إليه جدهم عبد الله بن عباس . ومع أنهما معا ـ ابوهريرة وابن عباس ـ أقل الصحابة صحبة للنبي محمد إلا إن العباسيين جعلوهما أكبر رواة الأحاديث في الدين السني ، والأكثر شهرة وعلما بين الصحابة.

وفى العصر العباسي الأول ظهر أئمة الفقه مثل أبي حنيفة ومالك والأوزاعي والشافعي . وكان الفقيه الذي يخرج عن الدولة العباسية مستقلا برأيه يتعرض للاضطهاد كما حدث مع الشافعي ومالك ، وربما يتعرض للسجن والاغتيال كما حدث لأبي حنيفة، وقد قتلته الدولة العباسية وقامت بترويض تلميذية أبى يوسف وأبى الحسن فخدما الدولة العباسية و أسسا مدرسة فقهية ( حكومية ) متجاهلين معاناة واستقلالية استاذهما أبى حنيفة .
العصر العباسي عموما هو الذي شهد تدوين الدين السني و تلوينه ليواجه الدين الشيعي الذي أتيح له أيضا التدوين والتلوين وسط مناخ ثقافي متسع باتساع الحركة العلمية والانفتاح على الثقافات اليونانية والشرقية.
وكانت للتشيع مهارته الكبرى في التسلل إلى دين السّنة باصطناع الرواة والتخفي وراء أسماء الأئمة السنة وبذر أحاديث شيعية الهوى داخل الدين السني . إلا إن مهارتهم الكبرى تجلت في إنشاء فرق جديدة تبدو بعيدة ظاهريا عن التشيع. بعض هذه الحركات والتيارات ما لبث أن ابتعد عن التشيع ـ منشأه الأصلي ـ بعد أن حظي بأتباع كثيرين. أهم تلك التيارات المعتزلة ثم التصوف. ولد تيار المعتزلة قريبا جدا من التشيع مخاصما للدولة الأموية فاكتسب لقب ( المعتزلة ) الذي يعنى الخروج عن التيار الأساسي للدولة والمجتمع. وبالمناسبة فان ( الرافضة ) من ألقاب التشيع التي سادت فيما بعد وأصبحت علما على الشيعة، خصوصا في العصر المملوكي الذي خلف العصر العباسي. واللقبان معا ( المعتزلة والرافضة ) يرمزان إلى نظرة الدين السني السائد إلى مخالفيه في الفكر والعقيدة.وكان أبو حنيفة في أواخر الدولة الأموية أحد قادة المعتزلة وظل طيلة حياته معاديا لرواة الأحاديث ونسبتها للنبي محمد ، وخصومته مع الأوزاعي وفقهاء العباسيين معروفة.
في العصر العباسي انفتح المسلمون على التراث اليوناني والفلسفات الشرقية ، وعادت إلى الظهور المدارس الفلسفية في إنطاكية والرها وجندياسبور وحران . تأثر المعتزلة بهذا المناخ فانفصلوا عن تيار التشيع حبا فى الفلسفة ورغبة في التوفيق بينها وبين الإسلام. وبسبب غرامهم بالعقل فقد نبذوا الخطيئة الكبرى التي وقع فيها السنة والشيعة والصوفية معا ، وهى إسناد آرائهم كذبا لله تعالى والرسول واعتبارها وحيا إلهيا. ولهذا ظل المعتزلة في إطار الإسلام مهما وصل بهم الخطأ ، بينما اخترع السنيون والشيعة والصوفية أديانا أرضية جديدة تتحلى زورا وبهتانا بالوحي الإلهي.
حاز المعتزلة على إعجاب الخليفة المأمون المحب للفكر والنقاش والذي كان يميل أيضا إلى العلويين ويتسامح مع الشيعة. لذا علا نفوذ المعتزلة فى عصره. وقتها حدثت فتنة خلق القرآن التي اضطهدت فيها الدولة العباسية ابن حنبل، وكان ذلك بتحريض أئمة المعتزلة . واستمر نفوذهم حتى خلافة المتوكل الذي بدأ به العصر العباسي الثاني..
وقف فقهاء الدين السني في العصر العباسي الأول ضد الفلاسفة والمعتزلة و ضد الثقافة اليونانية واعتبروها كفرا وإلحادا وانحازت السلطة العباسية للمعتزلة في خلافة المأمون ثم المعتصم ثم الواثق الذي قتل بيديه زعيم السّنة أحمد بن نصر الخزاعي وصلبه.
ثم جاء الخليفة المتوكل وكان حانقا على المعتزلة وزعيمهم ابن الزيات فقتله ، وانحاز للحشوية أصحاب الحديث والسنن وتعصب لهم وأرسل دعاتهم فى الآفاق لنصرة السنة فيما يحكى ابن الجوزي في المنتظم، ومن وقتها بدأ تسيد النفوذ للدين السني .
الصراع الحربى والدعائى بين دين السنة ودين الشيعة فى العصر العباسى

الثانى
شهد العصر العباسي الثاني ضعف الخلفاء العباسيين وتحكم القوى العسكرية فيهم. وأصبحت الخلافة العباسية مجرد رمز للدين السني بينما يتحكم في الدولة قادة وافدون بجحافل عسكرية من أواسط آسيا أتت لبغداد طلبا للسيطرة والسلطان.
بدأ العصر العباسي الثاني بالخليفة المتوكل وهو أسوأ خليفة عباسي فى ميدان التعصب. وقد أسقط العرب والفرس معا من الجندية وأحلّ محلهم الأتراك ، فتلاعب الأتراك بالخلافة والخلفاء في عصر قوتهم
ثم سيطر بنو بويه على الدولة العباسية وكان هواهم مع الشيعة فأذلوا الخلفاء العباسيين .

ثم تلاهم السلاجقة وكانوا متعصبين للدين السني فاضطهدوا الحجاج الأوربيين الآتين إلى القدس فشجعوا المتعصبين الأوربيين على التنادي إلى الحملات الصليبية التي أقامت ممالك لها في سوريا والعراق وآسيا الصغرى وأسقطت دول السلاجقة في تلك المناطق .
وغابت الخلافة العباسية بضعفها وانحلالها عن الصراع ضد الصليبيين فقام بالجهاد دول سنية متتابعة ومستقلة وفى إطار الخلافة العباسية، سرعان ما تنهار فيرثها قادة جدد من أتباعها.
بدأ ذلك بقيام دول الأتابكة في عواصم الشام والعراق على أنقاض السلاجقة. واشتهر عماد الدين زنكي في الموصل بالحرب ضد الصليبين فاشتهر ، وكان فى الأصل تابعا للملك السلجوقى محمد بن ملك شاه ، فأقام دولة بنى زنكي . وخلفه ابنه نور الدين زنكي في جهاده ضد الصليبيين .
وبرز من قواده آل أيوب ، ومنهم صلاح الدين الأيوبي الذي أقام الدولة الأيوبية على أنقاض الدولة الزنكية وضم إليها مصر بعد القضاء على الدولة الفاطمية فيها.ثم ورث المماليك سادتهم الأيوبيين وأجهزوا عليهم ثم على الوجود الصليبي.
امتد العصر العباسي الثاني حتى سقوط بغداد في بداية العصر المملوكي. أي أن العصر العباسي الثاني شهد انهيار الدولة الأيوبية التي كانت تحكم باسم العباسيين معظم الشام والعراق ومصر واليمن والحجاز، وقام على أنقاض الأيويبين مماليكهم الذين أقاموا الدولة المملوكية البحرية بزعامة شجرة الدر فاعترض عليها آخر خليفة عباسي في بغداد ، وبعدها بعشر سنوات أباد هولاكو الدولة العباسية ، ثم أعاد الظاهر بيبرس اسم الخلافة العباسية في القاهرة ليصبح الخليفة العباسي تابعا ذليلا للمماليك وأحد أدوات التجميل للحكم المملوكي العسكري.
وظل الأمر هكذا إلى أن أسقط العثمانيون الدولة المملوكية ا وحمل السلطان سليم العثماني آخر خليفة عباسي واسمه المتوكل الى عاصمتهم ، واقتنصوا منه لقب الخلافة فظلت فيهم إلى أن ألغتها تركيا

دول التشيع المناوئة للعباسيين في العصر العباسي الثاني

في العصر العباسي الأول أقام الشيعة دولة الأدارسة في المغرب الأقصى فأقام العباسيون دولة الأغالبة في تونس لتمنع امتداد الدعوة الشيعية الى مصر.

فى بداية العصر العباسي الثاني قامت في مصر دولتان مستقلتان ذاتيا في إطار التبعية للدولة العباسية هما الدولة الطولونية ثم الدولة الاخشيدية
أثناء الدولة الأخشيدية فى مصر والشام نجح الفاطميون الشيعة فى إقامة خلافتهم فى المهدية بتونس بقيادة عبيد الله المهدى. وساءت الأحوال في مصر أواخر الدولة الاخشيدية مما سهل على الفاطميين فتح مصر وجعلها مركزا للخلافة الفاطمية ، وأسست القاهرة والأزهر
وبدأ الصراع بين ديني السنة والشيعة يأخذ مجرى جديدا بإقامة ملك الفاطميين في مصر والشام وتوسعه في أجزاء من العراق بل في ضواحي بغداد نفسها حين استطاع البساسيرى دخول بغداد والدعاء فيها للخليفة الفاطمي المستنصر
اضطهد الفاطميون أتباع الدين السني في دولتهم ، وكان القتل والصلب جزاء من يعلن دينه السني أو يضبط متلبسا بحب أبى بكر وعمر. وأسهب المقريزى فى ( الخطط ) فى ذكر أحداث من هذا النوع.

ولكن ما لبث أن ضعف الخلفاء الفاطميون وتحكم فيهم وزراؤهم وبات من المضحك التوفيق بين مزاعم التأليه التى تحيط بالخليفة الفاطمي وضعفه أمام وزرائه. وأدى الصراع مع الصليبيين ومع السنيين سياسيا وعسكريا إلى التعجيل بإسقاط الدولة الفاطمية ، وتولى الاجهاز عليها صلاح الدين الأيوبى الذى أقام فى مصر والشام الدولة الأيوبية
وقبل سقوطها كانت الدولة الفاطمية قد أفرزت أكبر عنصر تخريب أرعب الناس نحو قرن ونصف قرن من الزمان. إنها طائفة الباطنية أو الحشاشين الذين أنشأهم الحسن الصباح في قلعة آلموت في قزوين. كان الحسن الصباح في مصر حين توفى الخليفة الفاطمي المستنصر . وتدخل الوزير الأفضل ونقل ولاية العهد من نزار إلى أخيه الأصغر المستعلي مخالفا عقيدة الشيعة في كون الإمامة بالنّص. ترتب على هذا انقسام التشيع الفاطمي الاسماعيلي الى نزارية ومستعلية. وتزعم الحسن الصباح جبهة المعارضة النزارية مفارقا مصر ، ثم استولى بالحيلة على قلعة آلموت ، وربّى فيها أتباعه الفداوية ، وكان يرسلهم لاغتيال خصومه من السلاطين والخلفاء والوزراء والفقهاء والصليبيين. واستمر الباطنية ينشرون الرعب بين المسلمين والصليبيين إلى أن اجتثهم هولاكو أثناء زحفه الى بغداد.
وقد استيقظ صلاح الدين من نومه ليجد خنجرا تحت وسادته جاء تحذيرا له من الباطنية. وبسبب شهرتهم فى الاغتيالات السياسية فقد اشتق الصليبيون كلمة الاغتيال من اسم الحشاشين فقالوا (Assasination) .

كل ذلك كان حاثا لصلاح الدين الأيوبى على مواجهة التشيع فكريا بعد القضاء على الدولة الفاطمية سياسيا.
وبينما سقطت كل تلك الدول من عباسية وسلجوقية وأيوبية ومملوكية وعثمانيةوغيرها، فان الذي بقى هو الدين السني الصوفي أو ما يعرف بالتصوف السني الذي أرساه صلاح الدين الأيوبى ولا يزال دينا للأغلبية من المسلمين.

كيف تم لدين السنة استيعاب دين التصوف ؟

وما سبق كله هو توضيح للمسرح السياسي الذي تمت فيه ولادة وانتشار التصوف السني. ونسترجع الأحداث التاريخية ونربطها بالصراع بين أديان المسلمين الأرضية.
في فترة حكم المتوكل ومن خلفه حيث تحكم القواد الأتراك زاد نفوذ الحنابلة ـ وهم أشد السنيين تعصبا ـ وسيطروا علي الشارع ، واضطهدوا المعتزلة وكل من يخالفهم في الرأي .اختلفوا مع الطبري في موضوع الاستواء على العرش وكرهوه لأنه لم يعتبر ابن حنبل فقيها. وقد كان الطبري في نهاية عمره إمام المؤرخين والمفسرين فى عهده. إلا أن ذلك لم يشفع له عند الحنابلة ـ فحاصروه في داره وهدموه عليه فمات تحت الردم، ومنعوا دفنه فى مقابر المسلمين فدفن في داره،ولم تستطع الدولة العباسية حمايته منهم .
عاش فى هذه الفترة أئمة المعتزلة مثل الجاحظ وابى الهذيل العلاف وابراهيم بن يسار النظام و الجبائى . وكان منتظرا أن يكون لهم مدارس وتلاميذ إلا إن الاضطهاد أجهز على المعتزلة وأبقى أولئك الأعلام بلا تلاميذ. بل على العكس فان تلميذا للمعتزلة انقلب عليهم ليتواءم مع متطلبات العصر فأضحى إماما. انه أبو الحسن الأشعري
فى نفس الوقت تكاثر أئمة الكذب على الله تعالى ورسوله ، وتتابعت كتبهم تؤكد للدين السني بزعم إن ما تكتبه هو وحى سماوي تنسبه للنبي محمد عليه السلام بعد موته بأكثر من قرنين. هذا ما ارتكبه ابن حنبل والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وقد أصبحوا فى العصور اللاحقة وحتى اليوم آلهة معصومة من الخطأ فى الدين السني ، لا يجوز الاقتراب منهم إلا بالمدح والتبجيل ، ومصير من ينتقدهم أو يناقشهم هو الاتهام بالكفر بالدين السني أو ( انكار السّنة ).
ابن حنبل لم يكن فقيها وإنما كان من أصحاب الحديث وكانت مؤلفاته فى الحديث فقط ، وحتى لم يرتبها ترتيبا فقهيا مثلما فعل البخاري ومسلم وغيرهما. ولكن نفوذ الحنابلة جعله اماما فى الفقه واسس له مدرسة فقهية لا تزال سارية وسائدة لدى فقهاء الدين السني حتى اليوم.
وبالقضاء على الاتجاه العقلي ممثلا في المعتزلة خلا الجو للحنابلة وبقية فقهاء الدين السني. ولكن ظهر التصوف من جيب الساحر الشيعي ، حيث كان معروف الكرخى مسيحيا ثم أسلم وصار من أتباع العلويين ثم بدأ يتكلم فى التصوف مبكرا. جاء المتوكل فاضطهد أباء التصوف الأوائل الآتين بعد معروف الكرخى ، وفى ( فتنة سمنون ) اعتقل المتوكل كل أئمة التصوف من مصر ( ذو النون المصرى ) والعراق ( الجنيد ) وغيرهم. وفى أثناء ثورات القرامطة اعتقلت السلطات العباسية الحلاج بتهمة القرمطة، وبعد جدل سياسى أعدموه
هذه الهجمة العنيفة على دين التصوف الوليد جعل الجنيد ( سيد الطائفة )
يختفي ويتستر بتدريس الفقه السني وينهى أتباعه عن مطالعة كتب ( التوحيد الخاص ـ يعنى التصوف ـ إلا بين المؤمنين به، ). ويقول في دروسه العلنية( مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة ) ( ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر) أي لا يصبح شيخا صوفيا. إلا أنه ـ وحسبما ذكر الشعراني في ترجمته في الطبقات الكبرىـ كان لا يتكلم في التصوف إلا بين من يثق فيهم من تلامذته وبعد أن يغلق أبواب داره ويضع المفاتيح تحت وركه ويقول : أتحبون أن يكذّب الناس أولياء الله تعالى وخاصته ويرمونهم بالكفر والزندقة ؟
في نفس الوقت هدم العباسيون ضريح الحسين في كربلاء واضطهدوا الشيعة وألزموا النصارى واليهود بزى معين للتحقير.
هذا هو كشف حساب الدين السني في عصر المتوكل وخلفائه.
دفعت الدولة العباسية الثمن سريعا إذ جاء بنو بويه الشيعة وتحكموا فيها وأذاقوا الخلفاء العباسيين الأمرين مع أنهم كانوا يحكمون باسمهم.
في فترة بنى بويه الكارهين للدين السني لم يظهر أئمة في الدين السني يتفوقون على أساتذتهم البخاري ومسلم وغيرهم، بل على العكس تشجع الشيعة فى شمال أفريقيا على فتح مصر وتحويلها إلى مركز للدعوة الشيعية. ولم يجد الفاطميون صعوبات كبيرة في نشر دينهم في الشام وضمه إليهم وقد كان تابعا للعباسيين إذ كان بنو بويه في بغداد لا يمانعون. أي حوصر الدين السني بين بنى بويه فى بغداد والفاطميين في مصر والشام وأجزاء من العراق نفسه. واستفاد التصوف من محنة الدين السني وغلبة الدين الشيعي فانتشر إنما على المستوى النظري الفلسفي والمستوى الشعبي .
ثم تغير الحال لصالح دين السنة بمجيء الأتراك السلاجقة المتعصبين للدين السني. ولكن فى فترة حكمهم كان التصوف قد نما و لم يعد بالوسع القضاء عليه. فلم يعد من طريق إلا بالتصالح معه واحتوائه.
فى هذه الفترة عاش القشيرى مؤسس ما يسمى بالتصوف المعتدل الذي سار على منوال الجنيد في التقية. وقد كتب القشيرى رسالته المشهورة فى الدفاع عن التصوف وقام بالهجوم على رعاع الصوفية المنتشرين في عهده ليسحب البساط من تحت أقدام الحنابلة المتشددين وليقنعهم بمقولة التصوف الملتزم بدين السّنة وفق ما قاله الجنيد من قبل.وفى مقدمة رسالته هاجم القشيرى جماعات الصوفية في عهده ورماهم باعتناق عقائد الحلول بالله تعالى و زعمهم اتحادهم به ، وإسقاط الفرائض الإسلامية والوقوع في الزنا والشذوذ على أنها مما يقربهم الى الله زلفى والغريب أنه في باقي الكتاب يقرر نفس العقائد والسلوكيات بصورة غير مباشرة ومدافعا عن شيوخ التصوف السابقين الذين قالوا نفس الشيء.
وصارت طريقة مرعية لمدعى الاعتدال من الصوفية بعد القشيرى أن يهاجموا المعاصرين من شيوخ التصوف ، وان يدافعوا عن الشيوخ السابقين ، وأن يقرروا نفس العقائد والسلوكيات الصوفية فى سطور جانبية أو مؤلفات جانبية يقولون أنها فى علم المكاشفات لا يفهمها إلا الواصلون من ( أرباب الحقائق)
هذا ما فعله الغزالي اكبر فقيه وأكبر صوفي في العصر العباسي السلجوقى في كتابه إحياء علوم الدين الذي مزج فيه الفقه ( المعبر عن الدين السني ) بالتصوف ، وبعثر عقائد التصوف بين سطور الإحياء ، ثم أفرد لها كتابه ( مشكاة الأنوار ) الذي أكد فيه عقائد الحلول والاتحاد ووحدة الوجود. وسار على نفس الطريق سار آخرون كان آخرهم عبد الوهاب الشعراني الذي عاصر نهاية العصر المملوكي وصدرا من العصر العثماني وظلت مؤلفاته الكثيرة مهيمنة على عقلية الأزهر طيلة العصر العثماني.
نعود للعصر السلجوقى السني وقد كان أبو حامد الغزالي فيه زعيم الفقهاء والصوفية معا، مع انحيازه للتصوف على حساب الفقه. كان الغزالي مؤمنا بفلسفة الإشراق الإغريقية والتي تعنى فيض العلم اللدنى الإلهي على العارف أو الولي الصوفي عن طريق الرياضات الروحية. وهذه الفلسفة الأفلوطينية الحديثة كانت فى صراع مع الفلسفة العقلية لأرسطو. وورث الغزالي عداء الفلسفة الأرسطية وأتباعها من المعتزلة وغيرهم من فلاسفة المسلمين ، وهاجمهم في كتبه داعيا إلى وقف الاجتهاد العقلي وأنه ( ليس في الإمكان أبدع مما كان ) ثم هاجم برفق شيوخ الدين الصوفي الذين يعلنون عقائد الحلول والاتحاد .
هوجم الغزالي بقسوة مما جعله يؤلف كتابه ( إشكالات الإحياء ) ليدافع عن كتابه إلا إن جهده في النهاية أسفر عن تقرير التصوف كمبدأ وحصر الإنكار على بعض أشخاص من الصوفية المتطرفين. وهذا ما سار عليه شيوخ الدين السني بعد عصر الغزالي وهم الذين توارثوا الاحتفاء بالغزالي بعد موته وأطلقوا عليه لقب ( حجة الإسلام ) كما لو أن الإسلام تركه خاتم النبيين بلا قرآن وبلا حجة طيلة خمسة قرون إلى أن جاء الغزالي.
بالغزالي تمت في عصر السلاجقة العباسي ولادة التصوف السني ، وأصبح الدين المستنسخ من التصوف والسنة محتاجا إلى رعاية سياسية ليصمد أمام التشيع و دعاته من الفداوية أو الباطنية الحشاشين الذين سبقوا عصرهم فى غسيل مخ الأتباع بحيث ينتحر أحدهم طاعة للأوامر.
وهنا جاء دور صلاح الدين الأيوبي
هناك جانبان غامضان فى شخصية صلاح الدين الأيوبي يفسرهما هذا السياق عن الصراع بين ديني السنة والتشيع.
الأول أن صلاح الدين سبق الجميع في استعمال الحرب الفكرية في مواجهة الدولة الأيدلوجية التي تقوم على عقيدة معينة ولا يكفى القضاء عليها عسكريا وسياسيا بل لا بد من مطاردة عقائدها الدينية بعقائد أخرى تتداخل معها وتعارضها في نفس الوقت. الغريب أن من جاء بعد صلاح الدين لم يفعل مثله.
الوالي محمد على باشا الذي قضى على الدولة السعودية الأولى اكتفى بذلك ، وترك العقيدة الوهابية تنمو وتعيد أقامة الدولة السعودية الثانية، ثم الثالثة الحالية. عبد الناصر الذي قضى على الإخوان المسلمين ـ وهم صناعة وهابية سعودية ـ اكتفى بوضعهم في السجون تاركا الفكر الوهابي حرا طليقا بدون نقاش. مما أسهم في مساعدة الإخوان حين عادوا في عصر السادات ، فاستطاعوا فى مدة قصيرة التحكم في العقلية الدينية وتوجيهها لمصلحتهم. هؤلاء القادة العسكريون من محمد على باشا إلى عبد الناصر إلى جنرالات الأمريكان فى عصرنا لم يبلغوا عبقرية صلاح الدين الأيوبي مع أنه عسكري مثلهم.
الجانب الآخر الغامض في شخصية صلاح الدين هي تسامحه مع الصليبيين في حروبه بحيث كان يطلق سراح الأسرى منهم بالآلاف ، ويعطيهم الفرصة للدخول في حرب أخرى ضده ، وفى نفس الوقت كان لا يتسامح مع الشيعة أو الصوفية المتطرفين .
حين بنى جوهر الصقلي القاهرة لتكون عاصمة للدين الشيعي بنى أيضا الأزهر قاعدة لدين التشيع في الحرب الفكرية ضد الدين السني. وبعد إلغاء الخلافة الفاطمية انتقم صلاح الدين الأيوبي لدينه السني بإغلاق الأزهر وإنشاء خانقاه سعيد السعداء لتعيد نشر الدين السني المختلط بالدين الصوفي الصاعد وقتها، واستورد صوفية سنيين وجعل لهم رسوما في حياتهم تجتذب اهتمام المصريين وتبعدهم عن الدين الشيعي .
لم يكن هذا حبا في التصوف بدليل أنه قتل شهاب الدين السهرودى فيلسوف الإشراق وزعيم التصوف المتطرف. كان هدف صلاح الدين إرساء معالم الدين المستنسخ الجديد المعروف بالتصوف السني والذي لا مجال فيه لمتطرفي التصوف أو متطرفي الحنابلة في نفس الوقت.
بعد صلاح الدين تم تطبيق الدين الجديد بمقولة الجمع بين الحقيقة والشريعة، أي الحرص على وجود (الحقيقة) أو العقيدة الصوفية على أساس أنها خاصة بالعارفين من الأولياء أصحاب العلم اللدنى ، وانه محظور على غيرهم التكلم فيها أو الاعتراض عليها،مع الحرص على (الشريعة ) أي التمسك بالمذاهب الفقهية الأربعة في الفروع أو العبادات.
وتسامح السنة في تقديس شيوخ التصوف ( المعتدلين ) واعتبارهم أولياء الله، كما اعترف الصوفية بتقديس أئمة المذاهب الفقهية الأربعة وصارت لهم مناقب وكرامات مثل المعهود لشيوخ التصوف. وانضم إلى قائمة التقديس آل البيت والصحابة جميعا خلافا للشيعة الذين يقولون بكفر أبى بكر وعمر وعثمان وسائر من يبغضهم الشيعة من كبار الصحابة.
واشتهر العصر المملوكي بتقديس الأضرحة الحقيقية والرمزية والمزورة ، وكانت قرافة القاهرة تحتوى على قبور مقدسة لأئمة التصوف الراحلين وللشافعي والليث بن سعد وعمر الفارض والسيدة نفيسة وأسماء كثيرة من الصحابة الذين لم يروا مصر في حياتهم. وصارت الأضرحة سوقا رائجة لمن يعبدها بتقدمهم شيوخ السّنة وقضاة المذاهب الأربعة مع كبار الصوفية.
إلا أن سيادة الدين الجديد المستنسخ من التصوف والسنة ( التصوف السني ) لم يوقف الصراع بين أتباعه من السنيين و الصوفية في العصرين المملوكي والعثماني

اجمالي القراءات 18516