دماء على أنياب الرئيس التونسي

محمد عبد المجيد في الجمعة ٠٦ - يوليو - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

دماء على أنياب الرئيس التونسي

أوسلو في 12 مارس 2007
للمخابرات المركزية الأمريكية قدرةٌ عجيبة على معرفها رجالها قبل أن تخشنّ أصواتهم، وتظهر شواربهم، ويبلغوا الحلم، ربما لأنهم سيكونون قادرين في وقت لاحق على حجب أحلام شعوبهم.
عندما يبدأ السباق الأكبر للحيوانات المنوية فلا شك في أن طاغيتهم يكون قد تهيأ قبل الاخصاب بزمن كاف، فلن يمر وقت طويل بعد الشهور التسعة إلا وتكون عيون مُدَرّبة قد التقطته، ثم تأتي الموافقة من فوق .. نعمl;عم، سيكون هذا رجلَنا في المستقبل!
صناعة الطاغية تشترك فيها أجهزة الاستخبارات، والقابلية للطغيان، ومشاعر الدونية لدى المستبد، ومساحة واسعة من الكراهية تمد أذرعها في كل مسامات الجسد.
كل الطغاة يظهرون في العامين الأولين لطفاء، خجولين، تقطر من ألسنتهم رقة، وتكاد الدموع تنزلق على الوجه لأي حادث انساني مهما كانت أهميته أو صِغَره.
كان موعد تونس مع طاغية من نوع جديد.في السابع من نوفمبر عام 1987 كانت جهنم تطرق باب تونس الخضراء، لكنها تََخَفّت في صورة كأنها وعد بالجنة، إلى أن تمكن الجنرال من إحكام قبضته على رقاب كل التونسيين.
بعدما أزاح سيده ورئيسه الذي وهن العظم منه، أجرى انتخابات ملفقة كانت نتيجتها، أو نتيجته 99,20%، أي أقل من النسبة التي وضعها صدام حسين وكانت 100%.
آه لو نطقت صناديق الاقتراع في عالمنا العربي لبصقت على النتيجة قبل أن يعلنها وزير الداخلية، بل قبل أن يتوجه الناخبون إلى لجان الانتخابات بوقت طويل.
نتيجة الانتخابات في أي بلد عربي تعني أن الزعيم كان أمام خيارين: إما أن يحكم شعباً ، وإما أن يرعى ماشية، وغالبا ما يختار زعيمُنا المفدّى عصاه ليهش بها علينا، ولضباط أمنه فيها مآرب أخرى!

العالَم الأبيض الحر قرر أن يضع عَصَابة فوق عينيه الجميلتين الزرقاوتين لئلا يؤذيها المشهد الجديد، والجثت المتعفنة في أقبية تحت الأرض، وآلاف من الذين تمت تصفيتهم بقبضة حديدية يراها الزعماء المتحضرون في أوروبا وأمريكا بأنها قيود من حرير.
لا بأس أن يبتسم زعماء العالم الحر عندما تصلهم نتائج الانتخابات التونسية لعامي 1989 و 1994 فهي لا تزيد كثيرا عن 99%، أي أن ديمقراطية رجل الغرب في تونس تفضلت وسمحت، مشكورة، لأقل من 1% من الأحرار الوطنيين أن يعترضوا. هنيئا للضمير الأبيض وهو يغمض عينيه أمام الجحيم الأسود.
صنع التونسيون طاغيتهم الجديد عندما سمحوا لطاغيتهم القديم أن يصبح رئيسا مدى الحياة، وأن تهيمن أخباره وحركاته وتنقلاته ورياضته المفضلة وأحاديثه التي لا تسعفها ذاكرته على حياة التونسيين، ليلا ونهارا، صبحا ومساء، حتى بَدَا مَلك الموت خائفا من الاقتراب من الرئيس مدى الحياة .. الحبيب بورقيبة.

الطاغية يبدأ حُكمه بالعبث في ذاكرة شعبه، وينهي آثار من سبقه، ويلغي أيّ ايجابيات رسخت في أذهان رعيته، ولكن المهم هي صناعة الرجل الجديد.
تماما كما يحدث في الغربة، فالمغترب يقوم بصناعه ماضيه، ثم يتولى عملية تلميعه، وزركشته، وتلوينه، وبعد ذلك يضيف مواقف وطنية وبطولات دون كيخوتية لكي تكتمل ملامح الصورة الجديدة.
أول ما فعله زين العابدين بن علي بعد انقلاب نوفمبر هو محو آثار ماضيه ليتمكن من صناعة الجنرال الذي سيحكم ما بقيّ له من عُمر، لذا اختفت بعد الانقلاب ببضعة أيام كل الشهادات والاثباتات من مدرسة سوسة الثانوية، فالاطلاع على ماضي الرئيس جريمة بكل المقاييس، ومشاهدة أي فترة زمنية سابقة لوصوله للحكم هي تعرية له، وتلصص على أشياء أراد أن يعيد هو صنعها بنفسه، وفي زمن يحدده.
لكن فقدان الذاكرة لا ينسحب على الشعب فقط إنما يصاب به المثقفون والإعلاميون والمؤرخون فالرئيس هو صاحب الحق الوحيد في صناعة ماضيه، فإذا اقترب أي كاتب من الاشارة همساً أو جهرا من مشهد ماضوي يظهر فيه الجنرال فإن أبواب جهنم سيفتحها كلاب الرئيس.
يقول جان بيير توكوا ونيكولا بو في كتاب ( صديقنا الجنرال زين العابدين بين علي ): في عام 1997 نشر ملحق مجلة لو نوفيل آفريك-آزي الأسبوعية صورة قديمة للرئيس زين العابدين بن علي وظهر فيها بشعر أبيض أشيب، فماذا حدث؟
قامت السلطات التونسية باتلاف كل أعداد المجلة ومنعت توزيعها، فالجنرال هو الذي يحدد ماضيه، وهو يرفض صورة له قبل أن يصبغ شعر رأسه، وعلى الدولة السمع والطاعة.
رئيس النقابات التونسية السابق، الحبيب عاشور، كتب مذكراته عن أحداث الشغب الدامية عندما كان زين العابدين بن علي رئيسا لجهاز الأمن، ونَجْمَ القمع والقهر والقتل والتعذيب.
لم يذكر الحبيب عاشور أهم رجل في أحداث تلك الفترة، فالرئيس التونسي هو رئيس منذ سقوطه من بطن أمه، بل هو رئيس قبل أن يكون نطفة فعلقة فمضعة.
لم يكن الأمرُ عَصِيّاً على أجهزة صناعة الزعيم الجديد في محو كل آثار الزعيم الأسبق، فأعطى توجيهاته أن تتم ازالة كل تماثيل وصور الحبيب بورقيبة، فالتونسيون كالليبيين والعراقيين( سابقا ) والسوريين والمصريين والأردنيين والمغاربة وغيرهم. العالم كله يبدأ من وصول الزعيم إلى القصر، والدنيا قبل وصوله كانت كئيبة وحزينة والرعية جماعة من الأيتام، ثم أرسلت العناية الإلهية زعيم الدولة ليُخرج الناسَ من الظلمات إلى النور.
والجنرال التونسي كاذب حتى النخاع، ويحمل بين جنبيه قسوة وغلظة وقوة خداع تكفي أن ترهب ألدّ خصومه، وأشدّ أعدائه بأسا وقوة.
قال بن علي أمام أعضاء الحكومة بأن الحبيب عاشور طلب إبعاد الشرطة عن مقر الاتحاد العام للعمال التونسيين، وأنه هدد باغراق تونس بالنار والدم. كان زين العابدين بن علي كاذباً كعادته، وفي السادس والعشرين من يناير 1978 فَتَحَتْ قواتُ الجيش النارَ على المتظاهرين فقتلتْ مئةً منهم. وهنا صعد الجنرال بقوة الحديد والقسوة إلى حيث تتم حماية الرجل الأول( أو الانقلاب عليه فيما بعد ) كما حدث مع الجنرال محمد أوفقير عندما كانت السيارات تجمع جثث الطلاب من شوارع الرباط، فصعد جنرال المغرب لحماية الملك ( أو الانقلاب عليه فيما بعد ).

بعدما صرح الحبيب بورقيبة أنه لا يريد أن يموت قبل أن يجتث الملتحين وعشش الصفيح، فَهَمَ زين العابدين بن علي أن مزيدا من القسوة والتعامل الخشن وتوسيع عمليات التعذيب ضد الاسلاميين هو الذي سيجعله مُقرّبا من الرئيس بورقيبة.
في 28 ابريل 1986 أصبح بن علي وزيرا للداخلية، والقبضة الحديدية للرئيس مدى الحياة .. الحبيب بورقيبة.
ذاكرة الناس كلعبة الشطرنج تُحَرّكها القوى المهيمنة كيفما شاءت، لذا فقد حضر أعضاء في منظمة حقوق الانسان حفلَ منح محمد الناصر وساما تقديرا لجهوده في خدمة الأمن!
ومحمد الناصر هذا يمثل قمة السادية في التعامل مع المعتقلين حتى أنه كان يرغم المساجين على لعق العصا بعد ادخالها في فتحة الشرج ( كتاب : صديقنا الجنرال زين العابدين بن علي ).
تاريخ طويل من القهر والتعذيب والمهانة لف تونس كلها فرائحة الجثث المتعفنة في السجون التونسية تزكم الأنوف، والرئيس التونسي ينتقم من الشعب كله بعدما كان الانتقام مقتصرا على الاسلاميين وحدهم، فالصدام معهم كان حتميا.
بعد أقل من ثمانية عشر عاما من ( ثورة الياسمين ) التي أتت بأكثر الطغاة العرب قسوة إلى قصر قرطاج، كانت محكمة ابتدائية في جنيف، في 18 يونيو 2005، تنظر في طلب الناشط التونسي عبد الناصر نايت ليمان فتح تحقيق مع الرئيس زين العابدين بن علي بتهمة التعذيب، وكانت تلك فاتحة أمل لاستدعاء الطغاة كما حدث مع حسين حبري وبينوشيه.
واستبشر المصريون والليبيون خيرا فمحاكمة حسني مبارك ومعمر القذافي على جرائم التعذيب ستكون محاكمات العصر وكل العصور.
بعد أقل من عامين من تولي الجنرال حكم تونس توجه نحو ألف من الأكاديميين والكُتاب والمثقفين وصفوة المجتمع إلى قصر قرطاج لتقديم الولاء للرئيس، وهنا سقطت تونس بين يديه كما تسقط الثمرة الناضجة من شجرة عجوز.
كان القصر هو الذي يحرك الاسلاميين والليبراليين واتحاد العمال ويضع حقوق الانسان فرجل المخابرات زين العابدين بن علي يخطط لمرحلة لاحقة بعد أن يعرف الجميع أن المقصلة أيضا نوع غير رقيق من الديمقراطية، وأن ما يدور داخل السجون والمعتقلات لا يؤثر على ابتسامة الجنرال والمصالحة الوطنية المزيفة.
في 2 ابريل 1989 جرت الانتخابات التشريعية كنصيحة غربية لـ ( بن علي ) حتى يحتفظ بصورة حضارية تساعد العالم الغربي أن يدعمه.
وجاءت التوجيهات الرئاسية الاستخباراتية حاسمة: إذا نجحت قوى المعارضة فسيتم تسريح الموظفين الذين أشرفوا على صناديق الاقتراع.
حصلت المعارضة على 18% من الأصوات، وتم الاستفتاء على الرئيس فجاءت النسبة مساوية لما يحصل عليه كل الطغاة. 99,20% لصالح الرئيس، ومن حسن الحظ أن الجن والملائكة والحيوانات والطيور لم تشترك في الاقتراع وإلا أصبح الأمر شاقا على المزورين لصناديق الاستفتاء.
لم يدم شهر العسل طويلا فقد اصطدم الرئيس بحركة النهضة، التي دخلت اللعبة الديمقراطية ظنا منها أن الرقص مع الذئاب قد يجعلها أقل افتراسا، وكان راشد الغنوشي بعد خروجه من السجن قد أعلن بأنه يثق بالله وبالرئيس زين العابدين بن علي.
ثم جاء الصدام مع قوى الطلاب بعد التغييرات في جامعة الزيتونة، واعتقلت قوات الأمن مئات منهم وأرسلتهم إلى الصحراء، واحتفظت بأهم الرؤوس لديها لكي يتعلموا آداب الطاعة في أقبية السجون.
كيف يكون رئيس جهاز القمع سابقا أمينا على الحركة الديمقراطية؟
معذرة، سيدي الذئب، هل لك أن ترعى الغنم ريثما أعود؟
كان الرئيس ينام وتطارده صورة الجزائر، وتهيمن على أحلامه فتتحول إلى كوابيس.
كان يريد أن تكون نتائج الانتخابات التشريعية كنتائج الاستفتاء على رئيس الجمهورية، أي حفنة قليلة من المجانين ترفض في مقابل طاعة عمياء من كل أفراد الشعب.
وجاء الثاني من أغسطس المشؤوم، واجتاحت قوات الطاغية صدام حسين جارتها الصغيرة الكويت، وغدر بالكويتيين الرجل الذي قال في يوم من الأيام عنهم بأنهم الأقرب إليه.
وكانت فرصة للرئيس زين العابدين بن علي، فهو يريد أن ينحاز إلى الأغلبية من أبناء شعبه المخدّرَة بهوس القوة العراقية، ويبحث كنظيره السوداني عمر حسن البشير عن قطعة من الكعكة الكويتية،
وصدر بيان اتحاد الكتاب التونسيين الذي بعث تهنئة للرئيس صدام حسين بعودة الكويت إلى تراب الوطن الطاهر .. العراق!
وتحولت جمهورية الرعب العراقية إلى نموذج يحلم به المثقف التونسي ورئيسه، أما المقابر الجماعية فلم يأت أحد على ذكرها، فربع مليون عراقي قام صدام حسين بتصفيتهم لا يمثلون أمرا جللا أو خَطْباً كبيرا لكي يكترث الجنرال التونسي بهم.
الجنرال التونسي يختلف عن الجنرالات الجزائريين، ففي الجزائر احتاج الأمر في الحرب القذرة إلى مئة ألف قتيل لينتهي الصراع لصالح مافيا الجنرالات، أما في تونس فإن أجهزة القمع كانت قادرة على حسم المعركة لصالح القصر في مقابل عدة مئات من المناهضين قضوا تحت التعذيب في جمهورية الرعب التونسية.
ابتسمت الأم الحنون فرنسا فجنرالها في تونس قضى على الخطر الأخضر وتلك هي الديمقراطية المقبولة غربيا وأمريكيا.
لهذا يعتبر الرئيس جاك شيراك صديقَه ونظيرَه الرئيسَ حسني مبارك حامياً للسلام الغربي في أرض العواصف والأنواء والارهاب ، ولا يهم وجود ثلاثين ألف سجين في معتقلات مبارك لم يُعرض أكثرهم على العدالة ( للمفارقة فالقانون الفرنسي يطير بجناحين مصريين ) .
في مارس 1994 أعلن الدكتور منصف المرزوقي رئيس رابطة حقوق الانسان التونسية ترشحه أمام بن علي، ودفع منذ ذلك الوقت ثمنا غاليا تماما كما دفع الدكتور أيمن نور ثمنا باهظا من عمره وصحته لأنه ترشح أمام الرئيس حسني مبارك. الأول قامت سلطات بن علي باتهامه بسرقة سيارة، والثاني بتزوير أصوات وتوكيلات.
في تونس اختطف ثلاثة من رجال الاستخبارات الناشط الدكتور منصف المرزوقي وأعادوه بعد يومين ، وفي مصر قامت أجهزة استخبارات حسني مبارك باختطاف الدكتور عبد الحليم قنديل وأوسعوه ضربا، ونزعوا ملابسه وتركوه عاريا في الصحراء.
كأن الطغاة يتقاسمون نفس الأحلام وشعوبهم تطاردها نفس الكوابيس.
عشرون عاما ستمر قريبا على وجود أعتى أنظمة الارهاب والسادية والوحشية، لكن جنرال تونس في حماية أصدقائه في الغرب والولايات المتحدة، واستثمارات دول الخليج عادت لدعم اقتصاده، وأربعة ملايين سائح طيب يبحثون عن الشمس والبحر والتسوق والاسترخاء أمام الأزرق الكبير، لكنهم لم يسمعوا عن مقابر جماعية في تونس، فعظام الموتى الذين قضوا تحت التعذيب لا تزعج الزوار. والتونسيون يحبسون دموعهم فسوط الرئيس على ظهورهم يلهبها، لكنه يزيد الصمتَ صمتاً.

التونسيون يتنفسون بأمر الرئيس

أوسلو في 28 ابريل 2007
نشرنا في العدد السابق من طائر الشمال مقالاً تحت عنوان ( دماء على أنياب الرئيس التونسي )، لكننا اكتشفنا أن الدماء لم تجف بعد، وأن الأنيابَ لا تزال بارزةً فلا تظنن أن الليثَ يبتسم!

إنه حالة خاصة من الطغاة، فهو يحب الفنَّ، ويقلّد بعضَ المفكرين أوسمةً، ويستقبل كبارَ النجوم.

ولكن ألم يكن الحسن الثاني يفعل نفس الشيء؟

كانت سجون المغرب تصرخ من هَوّلِ ما في جوفها، ويتلقى السجناءُ وجباتٍ من كل أنواع التعذيب التي لم يعرفها بشر من قبل، وكان الملك يستمتع بالفنون والآداب ويقرأ في الحقوق، ويمارس رياضة الجولف، ويضع أصابعه في عيون من يظنون السوء بأمير المؤمنين.

اللغة التي يستخدمها حُماة الطغاة لا تختلف كثيرا من بلد إلى آخر، أعني من وطن سجين إلى وطن زنزانة.

تزداد المذابح وحشية، فيرد الديمقراطيون الجدد بأن الرئيس ليس مسؤولا، لكنها الحاشية المحيطة به!

عندما كان محمد مواعدة رئيس الحركة الدستورية الاشتراكية مُدافعاً عن بن علي، ومناديا بميثاق مع الرئيس أسعفته لغةُ داعمي الطغاة فقال بأنها من أجل مسيرة الديمقراطية!

وفي انتخابات عام 1994 استعان بلغة التزلف للحصول على نفع آخر فقال بأنه يضع ثقته الراسخة في الرئيس زين العابدين بن علي في نفس الوقت التي كانت منظمات حقوق الانسان تندد بالتعذيب المنظَّم في سجون الجنرال.

لكن فكر الطاغية يرتبط مع زملائه الطغاة في كل مكان بخيط عجيب لا تراه العين المجردة، فعندما قال أحد الوزراء للملك الراحل الحسن الثاني بأنه في خدمته، لم تَرُقْ الكلمةُ مجردةً لأمير المؤمنين فرد قائلا: لا يكفي أن تقول هذا، إنما أن تعمل على أن تكون في خدمتي!

الطاغية لا يحب أن تقول له بأنك تلعق حذاءه إنْ طلب منك ذلك، ولكنه ينتظر أن تقوم بنفسك بلعق الحذاء، وأن تُبهجه بتعبيرات المذلّة والخنوع والمَسْكَنة.

الجنرال التونسي فَعَلَ نفسَ الشيء، فلا يكفي أن تضع الحركة الدستورية الاشتراكية وجهها تحت حذائه، فعندما جاء موعد الانتخابات البلدية في ربيع عام 1995، لم يُلق الرئيس للمعارضة المستأنسة بالفتات، إنما صفعها أيضا ومنح ستة مقاعد لأربعة أحزاب، واحتفظ هو بباقي الــ 4090 مقعداً، تماما كما فعل الرئيس صدام حسين عندما حصل على نسبة 100% في استفتاء رئاسة الجمهورية فهو لم يصدق أن هناك بعض المجانين الذين ربما يريدون الانتحار ويصوتون للرئيس بــ (لا ) !

لدىَ الطغاة إكليشيات جاهزة يعرفها متزلفو السلطة ومستشارو الزعيم والمتقدمون من أجهزة الأمن أي الأقرب إلى سيد القصر.

خميس الشمّاري عضو في الحركة الدستورية الاشتراكية كان يستعد لركوب الطائرة متوجهاً إلى مالطا، لكن أمن الرئيس كان في انتظاره، وتم تفتيش حقائبه ثم الاعلان لاحقا عن العثور على وثائق تدينه!

وهل هناك مواطن عربي من البحر إلى البحر ليست لديه وثائق تدينه إنْ أراد الزعيم به سوءً؟

يُذَكرّني هذا بعمليات القبض على الخلايا الارهابية وعرض صور ساذجة لاقناع بلهاء بأنها أدوات الارهاب المستخدمة في محاولة تخريب المنشآت، وترويع المواطنين.

تنظر إليها جيدا بعدما تضع نظارتك الطبية على عينيك، ثم تعيد الكَرّةَ مرتين فيعود إليك البصر خاسئا وهو حسير!

ستجد سكينتين، وبطاريات قديمة، ومسدساً يعلوه الصدأ، وثلاثَ قنابل يدوية، وبعضَ الأسلاك، ورُزمةً من العملة الخضراء بها عدة مئات من الدولارات، ولفةَ من الحبال الغليظة!

وبعبقرية لا تناظرها أو تناهيها أو تعادلها أخرى، يتولى رئيسُ تحرير الصحيفة المقرّبة من الزعيم كتابة الافتتاحية عن عيون الأمن اليقظة، واكتشاف مؤامرة ضد منجزات ومكتسبات العهد !

عندما تسقط كل الأوراق فَتَبْينُ سوءات المعارضة، يبدأ المديح في سيد القصر، ولعلنا نتذكر مجموعة من الكومبارس الذين تم اختيارهم بعناية ليقوموا بدور المُحَلّلِ( باستثناء أيمن نور) عندما قرر الرئيس حسني مبارك لعب مسرحية أمريكية انتخابية، فقال أحد المرشحين بأنه لو حقق الفوز فسيقوم باهدائه إلى الرئيس مبارك!
الأمين العام لحركة التجديد المنبثقة عن الحزب الشيوعي التونسي محمد الحرمل قال في مقابلة معه في عام 1999 بأنه كزعيم معارضة يحتفظ بعلاقات وثيقة مع رئيس الدولة، فزين العابدين بن علي منهمك في الاصلاح، والمعارضة أمام سلطة وطنية، لذا فإنها ترى أن النقد والدعم يسيران جنبا إلى جنب!
تشعر أحيانا بغثيان عندما يبصق المعنى على اللغة، ويستخرج المنافقُ من المُعجَم ما يحاول أن يداري به عورته، وأحسب أن معظم القوى المعارضة في عالمنا العربي تقف هذا الموقف، فتضع جسدها كله تحت أقدام النظام، وتُخرج إصبعاً واحدا تَدّعي أنه في خدمة الشعب وقضية المعارضة.

إننا لا نشك في نزاهة سيّد القصر، لكن أولاد الكلب المحيطين به هم الذين يمنعون صراخ الرعية من الوصول إليه، أليس هذا ما يقوله أكثرنا ونحن في حالة التخدير والنوم الطوعي وقد تجمدت ضمائرنا حتى ونحن نصلي ونصوم ونعمر مساجد وكنائس الوطن العربي .. الكبير؟

في تونس عبقرية تتفوق على نظيراتها في عالمنا العربي وهي تزوير الانتخابات.

إنها في تونس الخضراء عمل خياري يقوم به المزورون وفقا لامكانياتهم، فهناك من يستبدل الصناديق، وهناك من يُعِدّ أسماءً وهمية ليضيفها إلى الأصوات المُجْبَرة على انتخاب الرئيس.

وهناك من يقوم برشوة مالية أو تهديد أمني، أو تقديم اغراءات لاحقة في مناصب تضمن الأمن والأمان.

المادة 25 من قانون 3 مايو عام 1988 تعاقب كُلَّ من يعكر النظام أو الأمن الداخلي أو الخارجي!

تهمة لو أنزل الله ملائكة تسير في حالها ولا تُكَلّم أحدا فإن احتمال توجيه التهمة إليها كبير، بل قد يضيف إليها القضاءُ تفسيرات سلطوية لم تعرف طريقها إلى واضع مواد الطغاة.

من قصر قرطاج تخرج كل ورقة، وكل توقيع، ولو كان بامكان الجنرال أن يتحكم في نسمات الهواء لما تأخر لحظة واحدة.صورة جديدة أراد الطاغية رسمها لكي تلهج الألسن بالدعاء له

صورة الزعيم المستبد تتغير، فهي في ذهن المواطن طاغية لا يرحم، وسجان أعَدّ زنزانة لكل مواطن، أما على الألسن فهي ذلك الانسان البسيط المتواضع الذي يستيقظ مبكرا ليتصل برئيس تحرير صحيفة حكومية ويسأله عن أحوال الطفل الذي أمر سيد القصر بعلاجة على نفقة الدولة، وأن يسافر معه والده وطبيب مرافق!

دكتور جيكل ومستر هايد يحكم بلدا ظن الشابي أنه إذا أراد شعبها يوما الحياةَ فإن القدر لن يتأخر لحظة واحدة، ولكن هل يريد الشعبُ فعلا الحياةَ أم أن كفَّ رجل الأمن الغليظة مع الفرحة بقدوم السياح أنسياه عملية اغتيال وطن؟

يقول نيقولا بو وجان بيير توكوا في كتاب ( صديقنا الجنرال زين العابدين بن علي ): إن الرئيس مولع بالمعلوماتية، ولديه على حاسوبه جهاز مراقبة كامل، وفي عام 1989، أي بعد تولّيه السلطة، دخل شاب في السادسة والعشرين من عمره على النظام المعلوماتي للقصر، وأسَرَّ لبعض المقربين أنه عثر على أسماء عملاء للموساد، ومعلومات عن كيفية مراقبة الفلسطينيين في تونس.

لم يمر وقت طويل حتى لقي الشابُ مصرَعه في ( حادث سير )!

وقامت قوات الأمن ، مشكورة، بحضور الجنازة، ومراقبة جثمان الطالب الذي دخل سهوا على أسرار الرئيس، فصدمته ( مصادفة ) سيارة في الطريق!

الاتحاد العالمي لروابط حقوق الانسان نشر تقريرا في نهاية عام 1998 عن التعذيب في تونس، وذَكَر بأنه يملك أدلةً قطعيةً عن خمسمئةِ حالةِ تعذيبٍ في خلال ثمان سنوات، لكن الحقيقةَ أنها آلاف لم يتم التحققُ من كل حالة.

لم يتمكن الاتحادُ من توثيق أكثر من ثلاثين حالة وفاة تحت التعذيب، ولكن باقي الوفيات ذهبت وراء الشمس، أو تحت الأرض.

لو نطقت عظامُ الموتى تحت الأرض العربية لبكت السماوات والأرض والجبال، فالمقابر الجماعية ليست في تونس فقط أو في مصر أو في العراق أو في مغرب الحسن الثاني، لكنها للأسف الشديد تكاد تصبح سمة عربية إلا من رحم ربي وهي دول تعد على أصابع اليد الواحدة.

منظمة هيومان رايتس ووتش نشرت تقريرها عام 1999 وفيه لهجة ساخرة فهي تقول بأنه لا توجد في العالم دولة تضع نفسها في موقع المدافع عن حقوق الانسان وبنفس القدر والوقت تلاحق المواطنين، وتكمم الأفواه وتمنع الأنفاس كدولة تونس.

قوانين الجنرال كعاهرة تحاضر عن الفضيلة، وسجّان يتحدث عن حقوق الانسان، وكافر يدعو الناس ليلا ونهارا للايمان بالله.

وكالعادة يشعر زبانية التعذيب أن قصر قرطاج يتولى حمايتهم، وأن الجنرال نفسه


صاحب الأمر المباشر والتوجيه الصارم بتلقين التونسيين آداب السُخْرة واستعذاب الذل.

فيصل بركات شاب تونسي تجرأ خلال مناظرة تلفزيونية وطالب بحرية أكثر للنقابات، وكانت النتيجة طبيعية فقد نسي الشاب المسكين أنه في عهد دراكيولا العصر، وأن الله قد نزع من قلب زين العابدين بن علي كل ما له علاقة بالانسانية.

بعد وقت قليل من المناظرة التلفزيونية قامت ( المصادفة إياها ) بدهس الشاب في حادث سير.

الشهادة الطبية الصادرة من مستشفى نابل تقول بأن الوفاة ناجمة عن ادخال جسم في فتحة شرج الشاب!

لا أدري ما هي العلاقة بين الطغيان وبين فتحة الشرج؟

كل زبانية التعذيب يدخلون من هذا المكان، ويجلسون أمام المتهم ولكن تفكيرهم يذهب إلى الناحية الأخرى والسفلى.

كل السجون العربية استخدمت أنواعا متعددة ومبتكرة من المعادن وقطع الخشب والورق المقوى لادخالها في موضع العفة من المتهم المناهض للزعيم.

لكن الاغتصاب يحمل الاثنين معا، اللذة التي يشعر بها الحيوان المفترس، وهو قد يكون ضابطا أو مخبرا أو مرشدا أو أمين شرطة أو عسكري جلف، واللذة الأخرى في نشوة التعذيب، وامتهان كرامة المواطن، وقطع أي دابر لما بقي من رجولته كما يراها ذئاب الزعيم.

لكن هناك لذة ثالثة من نوع خاص وسِرّي وهي ليست موضعَ نقاش أو جدال أو حتى اشارة في التقرير نفسه إنْ تم عرضه لاحقا.

إنها الاحساس برضا سيد القصر، وسعادة الزعيم وهو يجلس في مكتبه وتأتيه التقارير واحدة تلو الأخرى، أو يقرأها متسربة إلى منظمات حقوق الانسان، أو يحكيها على مسامعه وزير داخليته، فيسرح الزعيمُ بعيدا .. بعيدا وهو يتخيل معارضيه وقد تم نزع ملابسهم، وقامت كلابه باغتصابهم مع الضرب والركل والحرق.

كل ضابط أمن يهين مُواطناً يفكر وقتها في الزعيم، وكل زعيم ينتشي باذلال مواطنيه تقفز صورة رجل الأمن السادي والحيواني في ذهنه.

معادلة لا تستقيم من طرف واحد.

سيد القصر وكلاب القصر.

السيد يُطعم، والكلاب تحمي. السيد يضمن لهم طعاماً وشرابا وملبسا ومالا وأمنا، والكلاب تضمن له أنيابا حادة، وافتراسا لا رحمة فيه، وذيلا يرقص فرحا كلما رأى الزعيم.

سيد القصر قد يتحول إلى كلب فيفترس بنفسه، وكلبه يتحول إلى سيد فيوشي إليه بأسماء معارضيه، ويوحي إليه بطرق التعذيب، ويبلغه بأحلام مناهضيه في يقظتهم ومنامهم.

في مجلس تأديبي بأحد سجون العاصمة التونسية تم الحكم على سجين بعشرة أيام في حبس انفرادي داخل زنزانة مظلمة ومعتمة وخانقة لأنه لم يُلق التحية على السجّان!

أفهم أن الكلب يحرك ذيله فرحا، ولكن كيف يعاقَب من لا يرفع قبعته له؟

في تونس تلاحق الشرطة مئات الزوجات والأمهات والبنات للضغط على المعارضين، فإذا كان المعارِضُ غائبا أو هاربا فكل وازرة تحمل وزر أخر، فيتعرضن للملاحقة، والتهديد والوعيد، وأخيرا الاغتصاب.

الكلب يكتفي بنهش لحم فريسته، لكن الزعيم لا يتلذذ إلا بمؤخرة ضحاياه أو اغتصاب النساء الضعيفات العفيفات، فيأمر، ويتم التنفيذ قبل أن يقوم من مقامه.

لا يوجد في تونس قضاء مستقل، فالرئيس الجنرال هو القاضي والخصم والجلاد والسجّان والمحامي والنيابة العامة ولو كانت هناك هيئة محلفين لكانوا كلهم نسخا مكررة من زين العابدين بن علي.

نظام الجنرال أكّذَب الأنظمة العربية على الاطلاق لأنه يصُمّ الآذانَ بادعائه احترام حقوق الانسان وكأن هذه الازدواجية نوع جديد ابتكره الرئيس بن علي لكي يبصق به على كل تقارير حقوق الانسان. في أوج كذبه، تلقى رسالة تهنئة من جاك شيراك يمتدحه فيه، ويصفه بالقائد صاحب النهضة!

البريد التونسي مراقَب مراقبة صارمة، وهناك قانون يمنع ايصال رسالة فيها كلمات تُعَكِرّ النظام، والبريد الالكتروني يحظى هو الآخر برقابة صارمة فاعلة تدخل فيها تقنيات حديثة حتى أن السلطات القت القبض على عائد من الخارج لأنه أرسل رسالة لصديق انتقد فيها النظام.

كل المعارضين مراقَبون، وعندما كان العقيد يفتخر بأن أجهزة التصفية الليبية تطارد الكلابَ الضالةَ في الخارج، كان الجنرال التونسي يضحك حتى تبدو أضراسه الداخلية، فالعقيد بخيمته لا يستطيع أن يصل إلى عبقرية الرقابة التونسية التي لا ينافس فيها الرئيس بن علي إلا إبليس نفسه وهو يوسوس من مكان ما.

ترى متى يعلن التونسيون أنهم مع أبي القاسم الشابي ويريدون الحياة،لأن القدر لن يستجيب قبل ذلك؟ 


محمد عبد المجيد

طائر الشمال

أوسلو   النرويج

Taeralshmal@gawab.com

Taeralshmal@hotmail.com

اجمالي القراءات 14865