حوار مع إبليس .. قصة قصيرة

شادي طلعت في الجمعة ٠٨ - مايو - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

ساد الظلم في الأرض، وإمتطى أشد الظالمين مقاليد حكم العباد، فأصبح المرتشون الغير مغالون .. هم أصحاب الذمم النظيفة، والرجال الزناة اللذين يعترفون بذرياتهم .. هم الصالحون، وبات أصحاب الألسنة اللاذعةبلا ألفاظ خارجة .. هم المهذبون.

أصبحت الكرة الأرضية مجتمع مريض، يعج بالموبقات ..

وقد عاش "مناظر" الذي كان شديد التأمل، كل تلك الموبقات على مدار عشرون عاماً، والتي إكتملت في الأول من يناير عام 2020م، وفي عيد مولده العشرين إذ به لا يأبه للحفل أو الحضور أو الهدايا، إلا هدية أهداها له شيخ كبير، كانت كتاب عنوانه : زيارة إلى الجنة والنار .. رواية للدكتور/ مصطفى محمود.

وخلال وقت قصير قرأ "مناظر" الكتاب، وإكتشف أن هناك نظريات أخرى حول شكل الجنة والنار، فقد تكون النار حياة كحياته الدنيا، بيد أنها في صحراء شديدة الحرارة، طعامها من الأشواك - وظلها أقل لهيباً من شمسها – الأنانية تسيطر على ساكنيها – قبحت ندرة المياه نساؤها فلا هن أصبحن يغتسلن أو يتجملن مثلهن كــ الرجال.

لكن بات "مُناظر" يتساءل لماذا يدخل البشر النار، كما يدخلها الجان ؟.

وبات يبحث في المسألة عن طريق التطرق إلى كتب التاريخ، فوجد أن التاريخ متناقض من بلد لآخر، فهناك شخصيات سيئة في الشرق، إلا أنهم أبطال في الغرب، والعكس صحيح فــ تساءل الشاب :

س : ألا يوجد من أسأله .. ممن عاصروا التاريخ ؟ .. حتى أجابه عقله إلى من عاصر التاريخ البشري كله، بل كان موجداً من قبل أن يبدأ هو (إبليس)، لكن أين مكانه، واين أدوات الإتصال به .. يبدو أن الوصول إليه ليس بالأمر السهل.

 

وبينما يجلس "مناظر"، على مكتبه الصغير بغرفة نومه، يبحث عن إبليس عبر حاسبه الآلي، إذ به يجد شيئاً يلمع على سريره، فــ يرتجف قليلاً .. لكنه ينهض من على كرسيه، ويتجه إلى السرير، لــ يجد مظروفاً ورقياً يلمع وكأنه نار مشتعلة، بيد أنها ليست بنار، وإلا لــ كان السرير قد إحترق.

فـ يمد يديه اللتان كانتا ثابتتين، فالشاب لم يخف، بعد أن أخبره عقله أن تلك النار ما هي إلا رسالة .. قد تكون من ملك الجان .. نعم  إبليس نفسه، فـ رفع المظروف وتأمله، وتفحصه، وإذ به يجد عبارة مكتوبة خلفه تقول (إنظر داخل المظروف).

يفتح "مُناظر" المظروف ويجد بداخله رسالة بها ستة جمل منفصلة متباعدة .. تقول :

 

الجملة الأول : لقد وصلتني رسالتك، وقد خصصت لك لقاء لمدة ساعة بحسابات البشر.

الجملة الثانية : موعدك بعد مرور شهر من تاريخ قراءتك للرسالة.

الجملة الثالثة : إذهب إلى حيث الهرم الأوسط، بعد غروب الشمس مباشرة، جهة الغرب.

الجملة الرابعة : ستجد قارب بحري، إصعد به، ثم أغمض عينيك، وإخفض رأسك.

الجملة الخامسة : بعد أن تقرأ الرسالة، قم بإعادتها لمكانها، لتذهب من حيث أتت، ولا تخبر أحد بموعدنا.

الجملة السادسة : التوقيع/ ملك الجان (إبليس).

 

أغلق "مُناظر" الرسالة بعد أن قرأها، وأعادها للمظروف، ثم وضعه إلى حيث وجده، فاختفى، ثم عاد إلى حاسبه الآلي، ليدقق موعد وآلية اللقاء، فوجد أنه بحاجة إلى البحث عن طريقة للدخول إلى الأهرامات في هذا الوقت الذي لا يسمح فيه بتواجد أحد.

لكن عقله أشار إلى أن مجتمعه لا يوجد فيه ما يعيق مخالفة القانون، والتواجد في وقت المنع، وبالفعل يتفق "مناظر"، مع أحد حراس الأهرامات، والذي قبل المال نظير السماح له بالتواجد في وقت منع الزيارة.

 

وجاء اليوم المنتظر، وذهب مناظر، إلى المكان المطلوب، وفي اللحظة المنتظرة، إذ بقارب كبير عائم في الصحراء يتقلب فيها كما لو أنه يتقلب على الماء.

يقترب "مناظر" من القارب، من دون خوف، ويصعد عليه، ويغمض عينيه، ويخفض من رأسه ..

وبعد أقل من دقيقة يسمع الشاب صوت إنسان، وما هو بالإنسان، قد كان صوت حارس من حراس الجان .. يقول له : إنهض يا مناظر، فأنت في حضرة ملك الجان.

 

وبعد أن فتح مناظر عينيه إذ به يجد نفسه في قصر ليس كأي قصر، لم يرى مثيل له قط، لا رؤى العين، ولا عبر الإنترنت، ولا عبر أي وسيلة أخرى، إنه قصر فاق كل الأحلام.

ما رآه يمكن أن يوصف بكلمات قليلة وهي : ((الفارق في العِلم بين دنيا البشر، وعالم إلجن، كالفارق بين السماء والأرض)).

وبعد أن نهض مناظر، وجد القارب تحته قد رحل، ليبحر أمامه في بحر يحجزه عنه زجاج شفاف، فيه أسماك وكائنات أخرى .. تنظر للإنسي كمخلوق غريب، لأنه يختلف عن سائر الجان.

طلب صوت الحارس الجني من مناظر أن يجلس على الكرسي، ففعل .. وجاءت لحظة اللقاء، فوجد مناظر كل شيء من حوله قد تغير في طرفة عين، فـ إذ به بغرفة كبيرة جدرنها متباعدة لمسافات كبيرة، وسقفها عالٍ كأنه يلامس السحاب، يبدو من هول العلم فيها أنها غرفة إبليس، حتى تحدث إبليس للشاب من دون أن يراه، فكان صوته يصل لــ مناظر من كل صوب وحدب :

 

إبليس : مرحباً بك يا مناظر.

مناظر : أريد أن أشكرك على الإستضافة، بيد أني لم آتي لتستضيفني، بل لــ تجيبني على عدة أسئلة.

إبليس : بما أني صاحب الدار، فقد رحبت بك، وأنت لم تشكرني، لأنك إنسان، وعدم شكرك لا يغضبني، فلستُ أفضل من الخالق الذي لم تشكره أنت وجنسك حق الشكر، لذا .. سل ما شئت.

 

مناظر : لماذا لم تسجُد لآدم ؟

إبليس : ولماذا أسجد لمن لا يعطي الخالق حق قدره، لماذا أسجد لمن لا يعبد الخالق إلا بغية مصلحته، لماذا أسجد لمن لا يعلم الحكمة من خلقه.

 

مناظر : كيف كانت الأرض قبل خلق آدم ؟

إبليس : جميلة وتسير طبقاً لقواعد الكون الأعظم.

 

مناظر : كيف ترى الأرض بعد أن عَمُرت بــ بني آدم ؟

إبليس : عبثية الآن، فمن البشر من لديهم حلاوة اللسان التي أباحت الباطل، وحرمت الحلال، إنكم تقتلون الأرض كل يوم.

 

مناظر : هل كان بنو آدم الأولين، أفضل من بني آدم الآخرين ؟

إبليس : لا إختلاف بينكم، فجميكم خطاء – بكاء – ظالم – أناني – تسعون وراء أهوائكم.

 

مناظر : كيف كانت سفينة نوح ؟

إبليس : عظيمة – كبيرة – تسع لكل خلق الخالق.

 

مناظر : لماذا هلك البشر في عهد النبي نوح، وماذا إقترفوا من الذنوب وقتها ؟

إبليس : كانت ذنوبهم وقتها كــ ذنوبكم اليوم.

 

مناظر : كيف كان يعيش الإنسان البدائي ؟

إبليس : البشر هم البشر، قديمهم كحديثهم، لم يخلقوا عبثاً، وقد أمدهم الخالق بالعلم اللازم، منذ أن خلقهم.

 

مناظر : هل لو كانت حضارة البشر اليوم موجودة لدى السابقين منهم، أكانوا سيحيدون عن طريق الحق ؟

إبليس : لقد تعددت الحضارات في الأرض، وقد وصل الإنسان إلى ما هو أعلى في العلم، وفاقوا ما أنت وجنسك فيه اليوم، لكن كلما ظن الإنسان أنه قادر على الأرض، عاد ليبدأ من جديد.

 

مناظر : لماذا تكره الإنس ؟

إبليس : أكره جزء من الإنس، ولا أكرهه كله، فأنتم لا تؤمنون بالخالق حق الإيمان - لا تبحثون إلا عن مصالحكم الشخصية دوماً - حتى العابدون منكم، يتعبدون لنيل الجنة، وليس لخالقهم - أما أنا فخير منكم، أعلم الحكمة من خلقي، ولم أفكر بمصلحتي الشخصية إلا مرة، لكن لم يغفر الخالق لي خطيئتي.

 

مناظر : وأنت وذريتك، ألا تبحثون عن مصالحكم الشخصية ؟

إبليس : لا .. فــ الحياة بالنسبة لنا تمر سريعاً لا ببطئ كما هو حالكم، ونحن نعلم أن عذاب الخالق ينتظرنا، لكن ليس لنا حول أو قوة.

 

مناظر : نحن أفضل منكم، وننتظر دخول الجنة فنحن بها أولى .. ألا تتفق معي ؟

إبليس : يا هذا .. ليست لكم الجنة إلا برحمة الخالق، فأنتم في الآخرة أزواج ثلاثة، منكم المقربون، وهم قلة وطوبى لهم، ومنكم أصحاب اليمن، وهم كُثر وسينعمون بحياة أبدية مرفهة، ومنكم أصحاب الشمال، وهؤلاء كثر وبئس المصير لهم.

أما أنا وأتباعي، فــ لا ننعم بما تنعمون به أنتم من الرحمة والمغفرة، نحن عبيد الخالق، وبقضائه نحن راضون.

 

مناظر : كم عدد من إستعصوا عليك، ولماذا لم تؤذهم، وقد إستعصوا عليك ؟

إبليس : كثيرين يا هذا، ولا يسع المجال هنا لحصرهم، وأنا لا أقدر على إيذاء من عرف طريق النور، فهو أقوى مني وأعلم.

 

مناظر : كم من الجهد تبذل لضالتنا ؟

إبليس : بالأمس كنت أعاني، واليوم لا أجهد نفسي، فأنتم لطريق إبليس راغبون.

 

مناظر : وما هو طريقك ؟

إبليس : أنا الدنيا يا هذا، الروائح الزكية – المتع البصرية – الإبهار – المتع الحسية – المتع الذوقية.

 

مناظر : مَن مِن الناس يسهُل أن يضل معك ؟

إبليس : الأغبياء وهم كثر – من لا يعلمون الحكمة من خلقهم – لا يعلمون متعة رضاء الخالق عنهم – من يسعون وراء مصالح غيرهم من البشر وينسون أنفسهم.

 

مناظر : وهل من البشر من يسعى لمصلحة غيره وينسى نفسه ؟

إبليس : نعم .. فمن الآباء من سيدخل النار لأنه قد سرق لأجل أبنائه، ومن الناس من يعبد ملوك الأرض، وينسى خالقه.

 

مناظر : لماذا وافقت على لقائي ؟

إبليس : لأنني أعاني كما تعاني، وكنت أحتاج لمن يحاورني فيخفف عني بالحديث.

 

مناظر : هل تظنني من أتباعك، أو هكذا سأكون ؟

إبليس : يكفيني أنك ستتبع نهج آباءك، فكل مسالكك ستؤدي إلي.

 

مناظر : لماذا لا تذكر إسم الإله، كلما وجب أن يمر في حديثنا ؟

إبليس : ومن أنا حتى أجرؤ على ذكره مجرداً، إني أخشاه، ومن أنت حتى أحمل وزراً بسببه.

 

مناظر : قد إنتهت الساعة، وسأعود إلى وطني، فهل تغضب إن أخبرتُ الناس بحوارنا هذا، لعلهم يتعظون، ويعودون إلى رشدهم ؟

إبليس : إفعل ما شئت فلن يصدقك أحد، وحتى وإن صدقوك، فإنهم لن يحيدوا ابداً عن طريقي.

 

مناظر : أرى القارب الذي قد جئت فيه قد حضر، فهل إنتهى اللقاء ؟

إبليس : نعم .. وعليك بالرحيل الآن، لكن قبل أن ترحل إعلم أني سألبي إليك طلباً، فاختر ما شئت.

 

مناظر : وجدها فرصة لا تتكرر إلا مع عدد محدود من البشر، إنه مع إبليس ملك الجان، إنه الدنيا كلها، وعليه أن يفوز بشيء ثمين من هذا اللقاء، لذا رد على إبليس قائلاً :

أريد أن أعرف سبيل مكان مليء بالكنوز، لا ينضب أبداً، أغترف منه أنى شئت.

إبليس : ولك ما شئت ..

 

وبعد أن غادر مناظر قصر إبليس .. سأل نائب ملك الجان إبليس سؤالاً :

نائب ملك الجان : لماذا أعطيت مناظر هدية، هي مفتاح الدنيا له ولآخرين ؟

إبليس : لقد آتاني صلباً قوياً، لكنه كباقي البشر، ولم يتعظ حتى بعد أن حاورني، وقد طلب مني مطلباً، سيجعله من أخلص أتباعي، وسيتكفل بأن يضم إلي أتباع آخرون كُثر، أفلا ألبي له طلبه.

 

شادي طلعت

اجمالي القراءات 8152