ماذا كان يفعل أكابر المجرمين عام الطاعون 841 ؟
المقريزى يؤرخ للعام الأخير من حكم برسباى .( 1 )

آحمد صبحي منصور في السبت ٠٤ - أبريل - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً

السلطان المملوكى برسباى وابن حجر العسقلانى أكابر المجرمين في طاعون عام 841

المقريزى يؤرخ للعام الأخير من حكم برسباى .( 1 )

ماذا كان يفعل أكابر المجرمين عام الطاعون 841 ؟  

مقدمة عن نوعية السلاطين في الدولة المملوكية البرجية

 1 ـ إشتهرت الدولة المملوكية البحرية  بشراء الرقيق الأطفال من أواسط آسيا وشرق واواسط أوربا  حيث كان يتم فيها قنصهم وأسرهم وخطفهم ثم استحضارهم الى حلب التابعة للسلطنة المملوكية توطئة لبيعهم فى مصر. ثم تدريبهم عسكريا وتعليمهم ثقافيا في الجزيرة النيلية المُحاطة ب ( بحر النيل ) هؤلاء هم المماليك البحرية ، وبعد مدة التدريب يتم عتق المملوك ويصبح حرا تابعا للأمير أو السلطان الذى إشتراه . يشق طريقه من جندي الى رتب أعلى في الجيش وسلك الأمراء حسب إمكاناته في فن المكر والفروسية ، قد يصل الى مرتبة الأتابك أي قائد الجيش ، أو السلطنة أو يفقد حياته .  

2 ـ وبتوالى عشرات السنين أصبح معروفا فى تلك البلاد ( أواسط آسيا وأواسط وشرق أوربا ) أن أولئك المخطوفين من أبنائها ينتهى بهم الحال ليكونوا أمراء وسلاطين فى مصر ، لذا أصبح من الشائع فى تلك المناطق الآسيوية والأوربية وقوع الشباب الطموحين منها فى الاسترقاق طوعا وبإرادتهم ليؤتى بهم مماليك فى مصر المملوكية أملا فى مستقبل أفضل خيرا من المعاناة في أوطانهم .

3 ـ  واكب هذا عصر التنازع بين الأمراء للسيطرة على السلطان الصغير من أبناء وأحفاد السلطان الناصر محمد آخر سلطان قوى من بنى قلاوون . هذا التنازع دفع الأمراء المتناحرين الى تقوية مراكزهم  ب ( إستجلاب ) مماليك من تلك الأصقاع ، وكانت الأفضلية ليس للأطفال المحتاجين الى تدريب وتهذيب بل الى شباب مدرب جاهز. تغيّر المصطلح ، فلم يعد ( شراء) الأطفال ليصيروا مماليك متمصرين ، بل أصبح ( جلب ) شباب من الفتيان الذين لا إنتماء لهم إلا للمال وبأى طريق . فتكاثر ( جلب ) نوعبة من الرجال الطموحين للسلطة . وأولئك هم المماليك الأجلاب . وكان منهم برقوق مؤسس الدولة المملوكية البرجية ومعظم الأمراء. وكثر في عهد برقوق وبعده إستجلاب المماليك من كبار السّن . بل كان بعضهم بعد أن يتوطد أمره فى مصر يستقدم اهله ويضمهم الى الطبقة المملوكية ويعطيهم رتبة مملوكية، وهكذا فعل السلطان برقوق الذى استقدم أباه ، وكان هناك أولاد عمومة وأقارب من أمراء المماليك مما يدل على مجيئهم مماليك بإرادتهم .

4 ـ الذى تبقى من المماليك ( الجلبان ) في عصرنا هو وصف : ( شلبى / شلبية ) ، فالأصل ( جلبى / جلبية ) أي من أصل مملوكى من المماليك الجلبان ذوى البشرة البيضاء . ومنها جاء إسم ( شلبى / شلبية ) .

5 ـ في عصر المماليك البرجية لم يعد هناك فارق بين السلطان ( الجلبى ) والأمراء المماليك الجلبان ، والجنود الجلبان ، سواء من الجيش أو ( المماليك السلطانية ) المماليك المملوكين للسلطان نفسه . السلطان ( جلبى ) وكل المماليك ( جلبان ) .

6  وجميعهم كانوا الأسوأ :

6  / 1 : كانوا من الرعاع في أوطانهم . لا نتصور شخصا من أسرة طيبة عريقة يقبل أن يوقع نفسه بالرق ويصبر عليه . لا يقبل هذا إلا أرباب الجرائم ومن لديه إستعداد لأن يكون من بينهم . المماليك السابقون الذين جىء بهم أطفالا وقعوا في الرق رغم أنوفهم وجىء به الى مصر صفحة بيضاء ، فنشأوا على المعتاد ، ولم يكن كله سيئا . لذا كان المماليك البرجية  أسوا من المماليك البحرية .

6 / 2 : كانوا أسوا من السلاطين المستبدين العاديين ( العلمانيين ) الذين لا يرفعون راية الشرع ولا يتمسحون بالإسلام  . كان السلاطين الجلبان  أوغادا حقيقيين متخصصين في السلب والنهب والفتن . كانوا أقرب الى قطاع الطرق وعصابات الإجرام . ومع هذا فكانت شرورهم تحمل راية الإسلام .

6 / 3 :  ليس هناك أسوا منهم إلا العسكر المصرى الحالي الذى يحتل مصر من عام 1952 ، ووصل بمصر والمصريين الى الحضيض .

7 ـ وقد قام المقريزى بالتأريخ لهؤلاء السلاطين المماليك الجلبان في الأجزاء الأخيرة من كتاب ( السلوك ) وكان حاد النبرة في الهجوم عليهم . وسنرى جانبا من ذلك في تأريخه لجرائمهم في عام 841 .

8 ـ المماليك الجلبان ( الرعاع ) ورثوا نظام الكهنوت الدينى من السلطان بيبرس البندقدارى ، فهو الذى إستقدم شخصا من الأسرة العباسية وجعله خليفة في القاهرة يعطى شرعية ومصداقية دينية للسلطة المملوكية ، وهو أيضا ( الظاهر بيبرس ) الذى أدخل نظام القضاة الأربعة على المذاهب السنية ، وجعل قاضيا للقضاة لكل مذهب منها .  هؤلاء المماليك الجلبان الفجرة إزداد إعتمادهم على الطائفة الأخرى من أكابر المجرمين من الجناح المدنى من أكابر المجرمين ، وهم ا الفقهاء ورجال الدين ، ليغطّوا على فسادهم ووحشيتهم . وكلما إزداد الفقية طاعة للسلطان المملوكى الجلبى إزدادت شهرته ، وهذا ما نراه من شهرة ابن حجر العسقلانى الساقط أخلاقيا مع شهرته حتى الآن بلقب ( أمير المؤمنين في الحديث ). ومن يقرأ ترجمة له يراها مرصعة بالمناقب والمحامد في تناقض مع تاريخه الحقيقى وخدمته لأكابر المجرمين . ولا يمكن أن يخدمهم إلا إذا كان مثلهم من أكابر المجرمين .

9 ـ وكما قلنا فإن الجناح المدنى من أكابر المجرمين إنقسم الى نوعين :  

9 / 1 : ( وظائف دينية ) كالقضاة والفقهاء ومشيخة المؤسسات الدينية ، والأغلب أن يحمل صاحبها لقب القاضي حتى لو كان معزولا من القضاء . وكان شائعا التولية والعزل في المناصب .

9 / 2 : ( وظائف ديوانية ، يحمل صاحبها لقب الأمير ) مثل ناظر الخاص والاستادار وكاتب السّر .

9 / 3 :وفى كل الأحوال فكل منهم يحمل لقبا دينيا مثل ( شهاب الدين ) ( علم الدين ) ( عز الدين )..إلخ

10 : وسنعرض لدورهم جميعا في تولية ولى العهد وهو يوسف إبن السلطان برسباى حين تنازل برسباى عن الحكم بسبب شدة مرضه.

11 ـ نذكر من أحداث هذا العام أهم ما يخص برسباى وزمرته ( أكابر المجرمين ) ، ننقلها عن المقريزى في ( السلوك ) ، ولم يكن المقريزى من المجرمين .

http://www.al-eman.com/images/book/arrow_top.gif.سنة إحدى وأربع وثمانمائة:

شهر المحرم، أوله يوم السبت:أولا
1 ـ ( في ليلة الأحد تاسعه: بلغ القاضى زين عبد الباسط، والوزير كريم الدين، وسعد الدين ناظر الخاص، أن المماليك السلطانية عزموا على نهب دورهم، فوزعوا ما عندهم، واختفوا. ثم صعدوا إلى الخدمة السلطانية على تخوف، وعادوا إلى دورهم، والإرجاف مستمر إلى يوم الأحد سادس عشرة، فنزل عدة من المماليك، فاقتحموا دار عبد الباسط ودار الأمير جانبك أستادار ودار الوزير، ونهبوا ما وجدوا فيها . ). هنا المماليك الجلبان من المماليك السلطانية ( أرفع طبقة ) يهجمون على قصور أعيان الدولة ويسلبون ما فيها . وطبعا هذا برضى السلطان برسباى ( وهو أيضا مملوك جلبى ). ونفهم مما بين السطور رغبة برسباى في إبتزازهم .  

2  :  ( وقدم الخبر بأن نائب دوركى توجه في خامس عشرة في عدة من نواب تلك الجهات وغيرهم، وعدتهم نحو الألفى فارس، حتى طرقوا بيوت الأمير ناصر الدين محمد ابن دلغادره وقد نزل هو والأمير جانبك الصوفى على نحو يومين من مرعش، فنهبوا ما هنالك، وحرقوا. ففر ابن دلغادر وجانبك الصوفى في نفر قليل. وذلك أن جموعهما كانت مع الأمير سليمان بن ناصر الدين بن دلغادر على حصار قيصرية الروم. ) كان برسباى يطارد خصمه جانبك الصوفى ، ووصل جانبك الصوفى في فراره الى إمارة دلغادر على حدود العراق وتركيا الآن ، وطارده أعوان برسباى هناك .

ثانيا : شهر صفر، أوله يوم الأحد:

1 ـ ( فيه توجه الأمير أينال الجكمى نائب الشام من دمشق يريد حلب. وقد سارت نواب الشام حتى يوافوا قيصرية، مددًا لإبن قرمان على سليمان بن دلغادر .). هذا ضمن مجهودات برسباى في مطاردة خصمه جانبك الصوفى .
2 ـ ( وفي سابعه: قدمت تقدمة الأمير أينال الجكمى نائب الشام، وهى ذهب عشرة آلاف دينار، وخيول مائتا فرس، منها ثلاثة أرؤس بسروج ذهب وكنابيش ذهب، وسمور عشرة أبدان، ووشق عشرة أبدان، وقاقم عشرة أبدان، وسنجاب مائة بدن، وثياب بعلبكى خمسمائة ثوب، وأقواس حلقة مائة قوس، وجمال بخاتى ثلاث قطر، وجمال عراب ثلاثمائة جمل، وصوف مربع مائة ثوب، ذات ألوان. ). إينال الجكمى نائب برسباى في حكم الشام بعث ب ( تقدمة ) الى سيده برسباى ، هي بعض ما سلبه من أهالى الشام.  تعبير(  تقدمة وتقادم ) يعنى في العصر المملوكى الهدايا الإجبارية التي ( يقدمها ) الأمراء المماليك للسلطان.  

3 ـ ( وفي يوم الإثنين سادس عشرة: خلع على جلال الدين أبى السعادات محمد بن ظهيرة قاضى مكة خلعة الإستمرار. وكان قد قدم من مكة صحبة الحاج بطلب. وأرجف بعزله، فقام بأمره القاضى صلاح الدين محمد بن نصر اللّه كاتب السر، حتى رضى عنه السلطان، وأقره على قضاء مكة، على مال قام به للسلطان، وهو نحو خمسمائة دينار، فكان ذلك من المنكرات التى لم ندرك مثلها قبل هذه الدولة . ). أشاع السلطان برسباى عزمه على عزل قاضى مكة ليستنزف أمواله . وتوسط القاضى كاتب السّر ( سكرتير السلطان ) حتى رضى عنه السلطان وأقره في وظيفته قاضيا في مكة بعد أن دفع رشوة للسلطان . وطبعا سيقوم قاضى مكة بسلب اضعافها من أهل مكة . المقريزى يعتبر هذا من المنكرات غير المسبوقة . لا يقصد دفع الرشوة ، فهذا معتاد وشرعى في دولة أكابر المجرمين ، ولكن الجديد هنا أن برسباى إبتزّ قاضى مكة وإستقدمه ليدفع له الرشوة ، وهذا بتدبير سكرتير السلطان ( كاتب السر ) القاضي إبن نصر ..هنا تعاون ليس على البرّ والتقوى ولكن على الإثم والعدوان ، أبطاله السلطان والقضاة . والمظلومون هم الشعب الذى يدفع إتاوات للقاضى والسلطان

لمجرد التذكير : بدأ الطاعون في هذا الشهر ، يقول المقريزى : (  وفي هذا الشهر( صفر ) : والذى قبله كثر الوباء بحلب وأعمالها، حتى تجاوزت عدة الأموات. بمدينة حلب في اليوم مائة ) ..  جاءت الأخبار بكثرة الوباء في حلب وما حولها . ومن الطبيعى أن يمتد الى ( حماة ) . لم يهتم السلطان بالطاعون في دولته .

 ثالثا : شهر ربيع الأول، أوله يوم الثلاثاء:

1 ـ (  فيه إستقر القاضى بدر الدين محمد ابن قاضى القضاة شيخ الإسلام شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر في نظر الجامع الطولونى ونظر المدرسة بين القصرين، نيابة عن قاضى القضاة علم الدين صالح بن البلقينى، بسؤال القاضى زين الدين عبد الباسط له في ذلك، فأذن له حتى إستنابه عنه .). شهاب الدين إبن حجر ( أمير المؤمنين في الحديث ) لم يكن فقط يتولى القضاء بالرشوة بل كان أيضا يستخدم نفوذه لصالح أبنائه . إبنه بدر الدين اصبح نائبا، أي قاضيا يتبع قاضى القضاة الشافعى . وابن حجر كان اشهر من ولى منصب قاضى القضاة الشافعية . وإستخدم نفوذه أيضا في تعيين نفس الإبن ناظرا ( أي مديرا ) للجامع الطولونى ( جامع أحمد بن طولون ) وناظرا لمدرسة بين القصرين ، وتوسط في ذلك إثنان من كبار القضاة والفقهاء من زملاء ابن حجر . كانت الوظائف الكبرى ( دينية وديوانية ) تكون بالشراء ، وبالوراثة أيضا . ويتولى المنصب من ليس مؤهلا له سوى أن معه مالا ، أو كان ابنا لأحد الشيوخ ، أو هما معا . فساد العسكر المملوكى نراه في دولة العسكر المصرى الذى يحتل مصر الآن .

2 ـ ( وفي خامسه: خلع الأمير غرس الدين خليل الذى ولى الوزارة بعد نيابة الإسكندرية، و إستقر في نيابة الكرك ، وسار بطلبه وأثقاله من ساعته. ) . كان غرس الدين خليل نائبا للسلطان في الإسكندرية ثم اصبح وزيرا ، ثم اصبح نائبا ( واليا ) للسلطان في حكم ( الكرك ) وهى الأردن الآن . المستفيد الأكبر من هذه التنقلات هو برسباى لأنه يأخذ رشوة في كل حركة تنقلات أو حركة تعيينات .

3 ـ ( وفيه توجه قاضى مكة الجلال أبو السعادات يريد مكة .). بعد أن دفع الرشوة للسلطان عاد لمنصبه في سلام وأمان . غيره كان يصادره السلطان ويعذّبه ليستخلص منه الأموال التي سرقها . وبعد أن يدفع المعلوم يرفع عنه العذاب ، وربما يعود الى منصبه بعد حفل تكريم .!

4 ـ ( وفي يوم السبت تاسع عشرة: خلع على الصاحب جمال الدين يوسف بن كريم الدين عبد الكريم بن بركة المعروف بابن كاتب جكم ، وإستقر في نظر الخاص، بعد موت أخيه سعد الدين إبراهيم . ). بعد موت ( ناظر الخاص ) أي المشرف على ممتلكات السلطان الشخصية إشترى أخوه المنصب .

5 ـ ( وفيه كملت عمارة الجامع الذى أنشأه السلطان بناحية خانكاة سرياقوس على الدرب المسلوك، وذرعه خمسون ذراعًا في خمسين ذراعًا. ورتب فيه إماما للصلوات الخمس، وخطيبًا وقراء يتناوبون القراءة في مصاحف .). هنا التعاون على الإثم والعدوان بين أكابر المجرمين من المستبدين وأكابر المجرمين من رجال الدين . السلطان برسباى يجمع المال السُّحت ويبنى به هذا المسجد  ، يديره له رجال الدين ، يقومون بالدعاء له ليزداد إثما ، فقد إشترى الجنة بأمواله الحرام .  من المال السُّحت كان السلاطين المماليك يبنون المساجد والعمائر الدينية ويوظفون فيها دروسا ومدرسين في علوم دينهم الأرضى من تفسير وحديث وتصوف ، ويقوم الصوفية بالدعاء للسلطان .. هل يذكّرنا هذا بمسجد الفتاح العليم للسيسى ومساجد أخرى لأكابر المجرمين في عصرنا اللعين ؟

لمجرد التذكير لم يقم السلطان بأى جهد لمواجهة الطاعون . إذ واصل زحفه فوصل حماة . قال المقريزى :  ( وفي هذا الشهر( ربيع الثانى ) : شنع الوباء بحماة، حتى تجاوزت عدة الأموات عندهم في كل يوم ثلاثمائة إنسان، ولم يعهدوا مثل ذلك في هذه الأزمنة )

نستكمل أخبار بقية العام . 

اجمالي القراءات 3614