من ف 4 ، من ج 1 ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )
كتابات الفقهاء بين الفقه والتاريخ

آحمد صبحي منصور في الخميس ٣١ - أكتوبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

  كتابات الفقهاء بين الفقه والتاريخ

من ف 4 ، من ج 1 ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )

1 ـ الأغلب على الكتابة الفقهية الجانب النظري التقعيدي وبحث ما يجب أن يكون في صورة مجردة دون نظر للواقع المعاش , وفى هذا النوع يكون التمثيل بصور فقهية فرضية بمثل ( لو حدث كذا لكان الحكم كذا ) وقد أولع بتلك الصور الفرضية نفر كثير من الفقهاء حتى تطرقوا للصور الفقهية المستحيلة الحدوث .

2 ـ بيد أن هناك نوعاً من الكتابة الفقهية جمع بين الواقع المطبق والتقعيد النظري , وهو ما نعتمده مصدراً أساسياً من مصادر التاريخ الديني في العصر الذي كتب فيه , وتغلب على هذا النوع من الكتابة الفقهية سمة الوعظ والإرشاد والتنبيه على الخطأ وما يجب أن يكون عليه فعل الناس . وهذه الكتابة الفقهية الناقدة المحتجة على أفعال العصر وتصرفات الناس تعتبر مصدراً تاريخياً في النواحي السياسية والاجتماعية والدينية ، حيث تحفل بتفصيلات عن نواح مختلفة من حياة الناس في معرض النقد والاحتجاج والتنبيه على خطئها وتصحيح الأوضاع من وجهة نظر الكاتب الفقيه .

3 ـ ومن الطبيعي أن تتلون كتابة الفقيه بعقائده ومذهبه الفقهي وخصوماته وثقافاته , ومع التسليم بتأثير نظرته الشخصية على أحكامه فإن كتاباته في النهاية تصدق في التعبير عن نفسيته والعلاقات القائمة بين أنماط المجتمع في العصر الذي عاشه الفقيه وكتب عنه .

4 ــ وهذه الكتابة الفقهية – على مبلغ علمنا – لم تعرف قبل عصر الغزالي، إذ كان الفقه قبله نظرياً مجرداً منصباً على الشكليات والمظاهر . , وقد ابتدع الغزالى في مجال البحث الفقهي جانبا صوفيا ظهر فى كتابه ( إحياء علوم الدين )   

5 ـ وقد راج في القرن الثالث وما تلاه ما عرف ( بفقه الحيل ) أو ما يعنى بكيفية التحايل على النصوص الشرعية الملزمة بطرق تبدو شرعية مقبولة في الظاهر ، أو ما يعرف في القانون بالحيل القانونية ، وقد راج هذا الاتجاه في العراق عند أصحاب المذهب الحنفي ، ويسر السبل أمام كل طامع في التحلل من لوازم الشرع بطرق شرعية من حيث الفقه النظري الشكلي .

6 ـ وبدأ التصوف وانتشر مؤثرا في الحياة الدينية ، وجاء الغزالي فاستخدم تفوقه في الفقه وبحثه في الأمور الباطنية وانغماس الفقهاء في فقه الحيل ونقمة بعض المتدينين عليهم – استخدم ذلك كله في تقرير التصوف على اعتبار أنه معاملة القلوب مع الله ، ولأنه صوفي جمع بين الحقيقة والشريعة كما يدعى – فقد أقنعهم بتفوقه في مجال المعرفة القلبية اللدنية أو علم الكشف وأنه علم لا طاقة للفقهاء به ولا أمل في وصولهم إليه .وكان ذلك هو الاتجاه السائد في ( إحياء علوم الدين ) وقد قرنه بفصل عن غرور الخلق، تحدث فيه عن الانحرافات المختلفة لطوائف عصره من علماء وزهاد وصوفيه وفقهاء وعوام وحكام ،فكان يورد أفكارهم وعقائدهم وتصرفاتهم في معرض النقد ، فافتتح بذلك باباً في الفقه العملي أو الفقه التاريخي وهو ما نقصده بالكتابة الفقهية التاريخية .

7 ـ لقد تناسى الغزالي أن الحل يكمن في التقوى الإسلامية والإخلاص الذي دعا إليه ربنا تعالى في إخلاص الدين والعبادة والدعاء لله ،في تعامل الإنسان مع ربه ومع الناس ،ولو أخلص الناس في تعاملهم مع الله وحققوا التقوى الإسلامية لما كان ثمة انحراف وتقنين لذلك الانحراف تحت اسم الحيل .ولكن الذي حدث أن العقائد منذ القرن الثالث الهجري أقفرت من الإخلاص والتقوى وأصبح الالتزام بالشرع شكلياً ومظهرياً في أغلبه ، ودخل الرياء في عقائد الناس ، ثم انتشرت تزكية الزهاد بالصلاح والتقوى رغم النهي الصريح عن تزكية النفس أو تزكية الغير , ثم تحولت التزكية بالصلاح والتقوى إلى تزكية بالوسيلة ، وبدأ الشرك باعتبار الصوفية والأئمة واسطة بين الله والناس وتم الانقلاب الأخير برعاية التصوف والتشيع . وبدلاً من أن يحاول الغزالي رد الأمور إلى نصابها الصحيح الذي كان سائداً فإنه قدم العلاج بالمزيد من الداء ، وهو تأكيد تقديس الأولياء والتوسل بهم وإضفاء صفات الألوهية عليهم من التصريف في ملك الله تحت اسم الكرامات – أو العلم بغيب الله – تحت دعوى الكشف أو العلم اللدني , أو اعتبارهم آلهة مع الله تحت دعوى وجودهم في الحضرة الإلهية. ثم استخدم تهويشاته الفقهية والفلسفية والوعظية في حمل الناس على عقائده الصوفية التي نثرها بين سطور كتاب إحياء علوم الدين .

8 ــ ترفّق الغزالي فى تجريح الصوفية في باب ( غرور الخلق ) في الإحياء بهم بينما اشتدّ في هجومه على غيرهم من العُبّاد( بضم العين وتشديد الياء) والزهاد والعلماء والفقهاء , بل وحاول الدفاع عن شطحات الصوفية كالحلاج والبسطامي , بل وقرر بين السطور أخطر مما قاله الحلاج والبسطامي في عقائد الاتحاد والحلول ووحدة الوجود .

9 ـ على نهج الغزالي سار ابن الجوزي في كتابه  تلبيس إبليس في أنه لم يقتصر في هجومه على الصوفية – وهم خصومه- وإنما هاجم معهم طوائف الناس من علماء وعامة ثم ركز في الهجوم على الصوفية وأفاض في شرح عاداتهم ومعتقداتهم  وطقوسهم .

10 ـ وعلى نفس النمط سار ابن قيم الجوزية في ( إغاثة اللهفان ) إذ انتقد الصوفية والنصرانية والفقهاء من أصحاب الحيل وغيرهم , ثم اتبع نفس السنة ابن الحاج في المدخل والشعراني في تنبيه المغترين ..

                         كتابات الفقهاء عن الصوفية :

1 ـ كان الفقهاء أبرز المنكرين على الصوفية منذ أن بدأ التصوف في القرن الثالث الهجري , وهم الذين عقدوا للصوفية المحاكمات واتهموهم بالكفر والزندقة حتى اضطروا الجنيد للاختفاء والتستر بالفقه وإعلان أن منهجه مرتبط بالكتاب والسنة ، وأنه بريء من الحلاج ، واقتصر في تدريس التصوف على خاصة تلاميذه في عقر داره وبعد أن يغلق أبوابه ويجعل المفاتيح تحت وركه خشية أن يتهم بالكفر والزندقة على نحو ما حكى الشعراني في الطبقات الكبرى . والفقهاء هم الذين لقبوا ذا النون المصري بالزنديق واتهموه بالكفر وأرسلوه للخليفة المتوكل في بغداد إلا أن المتوكل عفا عنه حين أنكر أمامه التهمة، وسعى الصوفية في خلاصه وعودته لمصر. والفقهاء هم الذين طاردوا أبا يزيد البسطامي في كل بلد نزل فيه وأثاروا عليه العوام لما ينطق به من شطحات كافرة ، فظل أبو يزيد البسطامي حياته متنقلاً من مكان لآخر في حالة نفى مستمر .

2 ـ إلا أن الزمن كان يعمل لصالح التصوف، فظل رواده على اتصال مستمر فيما بينهم عن طريق السياحة الصوفية ، وانتشرت خلاياهم من مجموعات تتبع كل شيخ ، وتنقل أفكاره وتتصل بالمجموعات الأخرى. كما اتخذ بعضهم من التقية أو النفاق سلاحاً احتمى به من الفقهاء. ثم تغير الوضع السياسي بضعف الخلافة العباسية وكف يدها عن الحكم وتحكم الأتراك والقبائل الوافدة في بغداد وتقاسمهم السيطرة على الولايات العباسية . وأولئك الحكام كانوا في صراع مستمر فيما بينهم وساموا الرعية الخسف والظلم وقد وجدوا حليفاً لهم في الصوفية بينما نفروا من الفقهاء الحنابلة . والفقيه الحنبلى بحكم الطبع والوظيفة يتخذ من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر طريقا للنفوذ والتسلط ، فلم يكن منتظرا أن تنفق سوق الفقهاء في القرن الرابع الهجري وما تلاه , ومن هنا ارتفع شأن الصوفية وأقام لهم الحكام الأربطة والخوانق من ( المال الحرام )، وتلك كانت تهمة مسلطة عليهم في مصادر ذلك العصر .

3 ـ وابتداءاً من القرن الخامس الهجري بدأت سيطرة التصوف بجهد جيل جديد من الصوفية مهر في الفقه وعلم الكلام ، وتزعم الفقهاء والمتكلمين والمفكرين ، وأبرزهم الغزالي والقشيري، وقد حملا على صوفية عصرهما ولبسوا رداء الفقهاء في الهجوم على أوباش الصوفية ، في نفس الوقت الذي قرروا فيه مبدأ التصوف وأرسوا المبدأ الشهير بالحقيقة والشريعة وانفصالهما , فالحقيقة وهى عقائد التصوف لا تخضع لنظر الفقهاء أما الشريعة وهى الأحكام من حلال وحرام فهي مجال الفقيه وعليه أن يقتصر عليه ولا يتعداه إلى علم الحقائق ومصطلح القوم – أي الصوفية – فليس ذلك من شأنه ولا يدرى عنه شيئاً .  وقد أرسى الغزالي ذلك المبدأ بالانفصال بين الشريعة والحقيقة في كتابه ( إحياء علوم الدين ) . وقد حوى ( الإحياء ) طرفاً من العلوم كالفقه والوعظ والتصوف والفلسفة ، وإستمر مسيطراً على الحياة العقلية والدينية مدة طويلة بعد الغزالي . وعبقرية الغزالي في الإحياء أنه نثر عقائده في التصوف خلال سطور الإحياء وتحت عناوين بريئة كالتوكل والمعرفة ، ثم يبهر القارئ بتمكنه من الفقه وتعمقه في البحث في دقائق النفس وخطراتها ، وتلك أمور لم يكن الفقهاء في عصره يتعرضون لها ، إذ دار علمهم الفقهي على التركيز على الحركات الظاهرية والبحث عن حكم شرعي لها مع عدم التعمق في العوامل الباطنية من رياء وسريرة ونية ،  فجاء الغزالي بحديثه عن النواحي الباطنية في الفقه فتحاً جديداً في البحث الفقهي، أبهر الفقهاء فانصاعوا له فسهل عليه التأثير فيهم , خصوصاً وهو يشاركهم في الهجوم على غوغائية المتصوفة في عصره , بينما هو يؤكد عقائد التصوف من خلال السطور بأحاديث موضوعة وباطلة وبتأويلات لآي القرآن الكريم .

وانحصر الإنكار بعد الغزالي على أفراد الصوفية الذين يعلنون عقائد التصوف صراحة أو ما يعرفون بأصحاب الشطح  , وظل ذلك همّ الفقهاء ممن حمل على عاتقه الهجوم على الصوفية بعد عصر الغزالي . لقد أرسي الغزالي في إحياء علوم الدين عقيدة التوسل بالأولياء والحج إلى قبورهم وأكد مبدأ الانفصال بين الحقيقة والشريعة ، وتأثر بذلك الفقهاء من بعده إذ تسامح بعضهم في عقيدة التوسل بالأولياء والقبور , ومن أنكر منهم على الصوفية كابن الجوزي كان من الدعاة للتوسل بقبور الأئمة الفقهاء كابن حنبل بل وما اعتقده من معتدلي الصوفية, ورأينا في فصل المناقب والمزارات كيف أن ابن الجوزي يدعو للتوسل بقبري ابن حنبل ومعروف الكرخي .

وبعض الفقهاء المنكرين على الصوفية انخدعوا بدعوة معتدلي الصوفية وهجومهم على متطرفي الصوفية ؛ فالجنيد أعلن التزامه بالإسلام وهاجم الحلاج ؛ والقشيري هاجم متصوفة عصره ، وألح على ارتباط التصوف بالإسلام ، والغزالي جعل من نفسه حجة للإسلام  وهاجم متطرفي الصوفية في عهده . ومن هنا اعتقد بعض الفقهاء بوجود صنف معتدل من أشياخ التصوف فاستشهدوا بكلامهم المعلن وتجاهلوا كلامهم الآخر الذي يقررون به التصوف بين السطور . ونرى ذلك واضحاً في كتابات ابن تيمية وابن القيم والبقاعي ، وهم أبرز الفقهاء المنكرين على الصوفية في العصر المملوكي .

وإذا كان هذا حال الفقهاء المنكرين على الصوفية فغيرهم كان أكثر تأثراً بالتصوف ، ونعنى بهم المتصوفة الأصلاء الذين درسوا الفقه باعتباره شريعة وأعدوا نفسهم قبلاً بالتصوف أو ما أسموه ب (علم الحقائق ) باعتباره العقيدة الثابتة . وهذا الصنف لم يتوان في الهجوم على صوفية عصره أيضاً ، ولكن لهدف آخر هو الحرص على سلامة الطريق الصوفي ممن يعتبرهم دخلاء مثل ابن الحاج العبدري في كتابه المدخل . وبعضهم أضاف إلى الهدف السابق هدفاً آخر هو الحط من صوفية عصره لأنهم ينافسونه في السوق الصوفي ويزاحمونه على المريدين والنذور والنفحات . والشعراني أصدق مثل لذلك في كتبه الكثيرة التي هاجم فيها معاصريه من الصوفية ، بل وأفرد فيهم كتباً خاصة مثل ( تنبيه المغترين ), ( رسالة إلى مدعى الولاية ) .

أي أننا يمكن أن نتعرف في عصر ما بعد الغزالي على أنواع مختلفة من الفقهاء المنكرين على الصوفية : منهم فقهاء متأثرون بالتصوف كابن الجوزي وفقهاء مخدوعون في التصوف مثل ابن تيمية وابن القيم والبقاعي في العصر المملوكي , وصوفية فقهاء ساروا على نهج الغزالي في تقرير التصوف والهجوم على صوفية عصرهم مثل ابن الحاج والشعراني .

اجمالي القراءات 3325