من ف3 : الكتابة عن المزارات:من ج 1 :( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )
التعليق على ما ذكره ابن بطوطة فى رحلته لمصر المملوكية : ( 1 )

آحمد صبحي منصور في الأحد ٢٧ - أكتوبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

التعليق على ما ذكره ابن بطوطة فى رحلته لمصر المملوكية : ( 1 )

من ف3 : الكتابة عن المزارات:من ج 1 :( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية )

 كتب الرحلة مصدراً تاريخياً :

1 ـ عادة ما يكون الجزء الأخير من الحوليات التاريخية أثمن ما يكتبه المؤرخ, فالمؤرخ في الأجزاء الأخيرة من الحوليات يكتب التاريخ المعاصر له. أي يؤرخ للعصر الذي يعيش فيه ويكتب عن أناس يتعامل معهم ويقابلهم ويحادثهم. من هنا فالكتابات المعاصرة لزمن المؤرخ تنبض بروح العصر وتفكيره , وإن كانت ملونة بنظرة المؤرخ كاتبها ومتأثرة بعلاقاته وخصوماته إلا أنها في نهاية الأمر تصدق في التعبير عن نفسيته وعن روح العصر بوجه عام , ثم لا تخلو من صدق في الأحكام والتصوير . وكتابات الرحالة تنتمي إلى هذا النوع من التاريخ المعاصر للأحداث . فالرحالة هنا – كالمؤرخ المعاصر- يسجل ما يشاهده ويدون ما يراه مستحقاً للتدوين.

2 ــ إلا أن كتابات الرحالة تتفوق على كتابات المؤرخين المعاصرين للأحداث التي يسجلونها , ويرجع ذلك للاختلاف بين الرحالة الزائر والمؤرخ المقيم في موطنه , فالرحالة ليس ملتزماً بالتأريخ للحاكم والتزلف إليه فنراه يهتم بالتاريخ السياسي بقدر اهتمامه برصد التفصيلات الاجتماعية والدينية والاقتصادية والعلمية والعقلية والنفسية , ويكتبها بوعي أو دون وعى إذ أنه يرصد مشاهداته وتعاملاته مع أفراد المجتمع من العامة والخاصة ومن خلال ما كتب من مشاهدات وما يحكى من أقاويل يمكن للباحث أن يعيش مع نبض الشارع الذي يسير فيه الرحالة .

3 ــ ويزيد في أهمية كتابات الرحالة أنه غريب تحمل المشاق ليروى غليله للمعرفة ورؤية الجديد والطريف والغريب في كل مجتمع يمر عليه في رحلته , فالرحالة يسير بعين مفتوحة وعقل يرصد كل شيء . ومن هنا تزخر كتب الرحالة بتفصيلات ثمينة تسجل دقائق الحياة في العصر الذي عاشه الرحالة وفى المكان الذي مر عليه , وفى هذا المجال يتفوق الرحالة على المؤرخ المقيم في موطنه , فالمؤرخ قد عاش عمره في موطنه وتعود على رؤية أشياء كثيرة فيه ويرى أنها لا تستحق التسجيل لأنها مألوفة ومعتادة , وربما تندثر بعض تلك الأشياء وينمحي العلم بها , ولولا كتابات الرحالة التي تسجل كل شيء لما عرفناها . والمؤرخ يهتم أساساً بالحاكم والعاصمة والمدن الكبيرة خصوصاَ وهو في الأغلب يقيم في المدن الكبرى ويتعامل مع علية القوم , أما الرحالة فيمر على القرى والبلاد ويقابل العامة والخاصة ويلتقط شوارد الكلم ويسجل ملاحظاته عن كل شيء بعين مفتوحة لكل شيء .

4 ــ والرحالة في حقيقة الأمر يسجل طرفاً من ملامح موطنه الأصلي أثناء رحلته وذلك لأن الرحالة غريب ينتمي لوطن آخر فهو يحمل في قلبه موطنه ومستقر أهله وعشيرته أينما سار , وهو في كتاباته عن البلاد التي يمر عليها يقارن بوعي أو دون وعى بين تلك البلاد وموطنه , ولأنه يسجل ما يراه غريباً ومدهشاً فكلما تباعدت الأواصر والمسافات والظروف بين موطن الرحالة والبلاد التي يزورها كلما كانت ملاحظاته ومشاهداته أجمل وأغزر وأكثر , وعلى سبيل المثال فإن الرحالة الأوربيين الذين زاروا الشرق تحفل كتاباتهم بالكثير من التفصيلات خصوصاً عن الحياة الدينية والطوائف المسيحية واليهودية وتصف الشوارع والعمائر والصادرات والملابس وغيرها من تفصيلات لا تجدها مثلاً في كتابات الرحالة المسلمين من المغاربة الذين تتشابه حياتهم مع حياة إخوانهم المشارقة في كثير من الأحوال .

5 ــ ولا ننكر أثر الثقافة الشخصية لكل رحالة مما يجعل لكل منهم رؤية خاصة لما يكتبه , وعادة ما يتزود الرحالة ببعض المعارف عن البلد الذي يزوره وربما ينقل عنه كمثل ما فعله ابن بطوطة في رواياته عن الأهرام والفراعنة فهو مستقى من الكتابات المصرية وموجودة بحذافيرها في خطط المقريزي .

       استخلاص المادة التاريخية من رحلة ابن بطوطة :

1 ــ في رحلته الأولى مر ابن بطوطة على مصر فدخل الإسكندرية في أول جمادى الأولى سنة 726 هجرية ، وتجوّل في مدن مصر إلى أن عزم على التوجه للشام في منتصف شعبان من نفس السنة , أي أنه ظل بمصر ثلاثة أشهر ونصف الشهر أثناء سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة , وأثناء مروره على مدن مصر بين الإسكندرية والصعيد سجل ابن بطوطة الكثير من المعلومات التاريخية عن الحياة المصرية المملوكية .

2 ـ فمن الناحية السياسية والعلمية نراه يحرص عند ذكر مروره بمدينة أن يذكر أميرها وقضاتها والبارزين من علمائها وما يحدث من وقائع رآها أو سمع بها. من ذلك أنه حين ورد الإسكندرية يذكر اسم واليها وإن السلطان الناصر محمد قد استضاف فيها سلطان أفريقيا المخلوع ثم يذكر بعض علمائها وقضاتها.

3 ـ ويقص ابن بطوطة واقعة من وقائع التعصب بين المسلمين والنصارى جرت في الإسكندرية سنة 727 هجرية وقد انحازت فيها السلطة المملوكية للنصارى. ولم يكن بإمكانه تعليل السبب . والواقع أن عصر الناصر محمد بن قلاوون شهد كثيراً من الوقائع بين المسلمين والنصارى كان أبرزها الإحراق العام لجميع الكنائس المصرية بين الإسكندرية والصعيد سنة 721 أي قبل وصول ابن بطوطة للإسكندرية بخمس سنوات , وقد تم إحراق الكنائس المصرية في وقت واحد وألصقت التهمة بالصوفي عبد الغفار بن نوح واعترف بها , ونتج عن إحراق الكنائس أن أحرق النصارى الخوانق والمساجد وتدخل الناصر محمد بالكثير من العنف حتى أخمد الفتنة [1], ولذلك تصرف بحزم مع واقعة المشاجرة بين مسلمي ونصارى الإسكندرية ليحول دون تكرار مأساة سنة 721 .

4 ـ ويذكر ابن بطوطة عن دمياط شدة التحرز في ضبط الدخول إليها والخروج منها , ذلك أن دمياط كانت في العصر الأيوبي مهددة بالغزو الصليبي ، وقد أتت عن طريقها ثلاث حملات صليبية في بداية عهد الناصر صلاح الدين وفى عهد الملك العادل أثناء حكم ابنه الكامل في مصر ثم في عهد الصالح أيوب وكان قائد الصليبيين لويس التاسع , صحيح أن الوجود الصليبي كان قد اجتثت جذوره من المنطقة على يد الأشرف خليل بن قلاوون أخ الناصر محمد ابن قلاوون , ولكن كان التحرز لا يزال موجوداً خيفة عودة الصليبيين للنزول بدمياط , خصوصاً وأن لويس التاسع بعد أن أطلق سراحه من المنصورة عاد للهجوم على تونس والدولة الحفصية , وقد كان العصر الوسيط عصر التعصب بين أتباع الديانات على المستوى الدولي بين بلاد الإسلام وأوروبا , وعلى المستوى المحلى بين المسلمين والأقباط .

5 ـ  وحين يدخل ابن بطوطة القاهرة يذكر اسم السلطان والأمراء والقضاة الأربعة, ويلمح إلى حادثة تأييد العامة أو ( الحرافيش ) للأمير المملوكي طشتمر – ويسميه ( طشط ) – ولقبته العامة ( حمص أخضر ) .

6 ـ  والواقع أن صوت العوام كان مسموعاً في الدولة المملوكية على ما جبل عليه المماليك من قسوة وعنف , ويكفى أنهم كانوا يواجهون أول سلطان مملوكي وهو ( أيبك ) بالسخرية والسب حتى اشتد في معاملتهم إلى درجة أن قال المؤرخون أن الصليبيين لو ملكوا مصر ما فعلوا بأهلها مثلما فعل بهم المماليك [2]. ولم تخضع العامة فظل لها صوتها العالي وكان الناصر محمد بن قلاوون مديناً لهم بسلطته الثالثة إذ أيدوه ضد الأميرين المتحكمين فيه وهما سلار وبيبرس الجاشنكير حتى قضى عليهما وحكم بنفسه في السلطنة الثالثة منفردا مستبداً , وفى واقعة الإحراق العام للكنائس المصرية أمر الناصر محمد بشنق بعض الناس كيفما اتفق للإرهاب . إلا أن النصارى أحرقوا الجوامع والخوانق والمدارس فهبت العامة في وجه السلطان تدعوه لنصرة المسلمين فخضع لهم وأوقع الاضطهاد والنهب في النصارى وبيوتهم . ونأتي إلى ابن بطوطة وهو يذكر هتاف العامة في الناصر محمد ( يا أعرج النحس أخرجه ) فيخرج لهم طشتمر من محبسه .

7 ـ وقد حظي العلماء والقضاة باهتمام ابن بطوطة إذ ينتمي إلى نفس الطبقة ، وتولى وظيفة قاض أثناء رحلته في الهند ، فنراه في رحلته لمصر يذكر أسماء العلماء في كل بلد يزوره . وفى القاهرة ذكر كبار العلماء بها .

8 ـ  ولم يكتف بمجرد ذكر الأسماء فهناك مشاهدات وتفصيلات توضح لنا بعض الخلفيات عن مجتمع العلماء ، وذلك مثل اهتمام القاضي عماد الدين الكندي بتكبير عمامته . ولم ير ابن بطوطة في حياته عمامة أعظم منها. واقع الأمر أن مقياس التفاضل والتمايز بين علماء العصر المملوكي أنصب على مظاهر سطحية مثل مقدار ما يحفظه العالم من الأحاديث خصوصاً صحيح البخاري , أو مقدار ما يؤلفه من شروح أو ملخصات أو متون . وفى عصر ينحدر فيه مقياس الاجتهاد إلى الحفظ والاستظهار والشرح أو الاختصار لا بد أن يمتد الاهتمام بالمظاهر والشكليات إلى الزي خصوصاً العمامة ، فكلما عظمت كلما أوحت بخطورة صاحبها , وهذا ما اهتدى إليه قاضي الإسكندرية،إذ حمل فوق رأسه مقصورة كاملة على أنها عمامة , يقول عنه ابن بطوطة:( رأيته يوماً قاعداً في صدر محراب وقد كادت عمامته أن تملأ المحراب ) ولو كان ذلك القاضي منشغلاً بالعلم منكباً عليه ما وجد وقتاً لبناء هذه العمامة على رأسه وما جلس في المحراب يستعرضها أمام القادمين كما لو كانت أحد المعالم السياحية في الإسكندرية .

9 ـ لقد انعدم الاجتهاد أو كاد في العصر المملوكي، وأصبح همُّ العلماء في الحفظ وشرح ما أوجزه السابقون ثم إيجاز ما شرحوه ، وبين الشرح والتلخيص وحفظ المتون والأراجوزات ضاع الابتكار العلمي.  في عصر كهذا لا بد أن ينحدر تنافس العلماء فيه إلى مدى القرب أو البعد من مجلس السلطان , وإلى التعصب المذهبي بين شافعية ومالكية وحنابلة وأحناف، وقد ذكر ابن بطوطة طرفاً من ذلك التنافس بين القضاة حين أنف القاضي الحنفي من أن يكون مجلس المالكي أقرب منه للسلطان , فامتنع عن حضور مجلس القضاة ولكنه أذعن في النهاية وتصاغر أمام السلطان .

10 ـ وحظيت الحياة الاجتماعية بالكثير من تفصيلات ابن بطوطة , وقد أوردها ثناء ثرثرته عن كل مدينة نزل بها . كقوله عن منية الخصيب أن أهلها لا يستترون في الحمام , وقوله عن ملوي أن من عاداتهم أنهم لا يمنعون فقيراً من دخول معصرة السكر فيأتي الفقير بالخبز فيملؤه سكراً من القدر ويخرج , وقوله عن قبائل البجة ( وهم سود الألوان يلتحفون ملاحف صفراء ويشدون على رؤوسهم عصائب. وهم لا يورثون البنات وطعامهم ألبان الإبل ويركبون المهارى) 11 ـ واهتم ابن بطوطة بالموالد والاحتفالات الدينية والمهرجانات حتى أنه يصف المصريين بأنهم ( أهل طرب وسرور ولهو ) ( شاهدت مرة فرجة بسبب برء الملك الناصر من كسر أصاب يده فزين كل أهل سوق سوقهم . وبقوا على ذلك أياماً ) وذكر عن أبيار احتفال أهلها برؤية هلال رمضان ويسمونه يوم الركبة , وذكر احتفال القاهريين بيوم دوران المحمل .

12 ـ وهناك شذرات عن الحياة الاقتصادية؛ فابن بطوطة ينقل عن ابن الواعظ ناظر تروجة بأن جباتها اثنان وسبعون ألف دينار ذهباً , ويسجل أن أبيار تصنع منسوجات ذات شهرة في الشام والعراق , وأن البرلس مشهورة بكثرة النخل والثمار والطير البحري والبوري , ثم يسهب في غنى دمياط فهي متنوعة الثمار وبها الكثير من شجر الموز الذي يحمل إلى مصر في مراكب وكثيرة المواشي والألبان وبها الطير البحري والبوري وتصدر منتجاتها إلى بلاد الشام وبلاد الروم ، ويتحدث عن شهرة أشمون بالرمان . وأن الأسواق متصلة من الإسكندرية إلى مصر ومن مصر إلى أسوان , ويذكر بعض الإحصائيات عن القاهرة ففيها ( 12 ألف ) سقاء و30 ألف مكار – أي سائق يحمل المسافر على حماره - , ثم يتحدث عن النيل وفيضانه , وفى الصعيد يذكر شهرة البهنسا بالبساتين والأقمشة الصوفية , وزراعة الكتان في بوش ودلاص وتصديره منهما إلى مصر وإفريقيا . وأن في ملوي إحدى عشرة معصرة للسكر وفى منفلوط يستخرجون العسل من القمح ويباع بأسواق مصر.

13 ـ  ولم ينس ابن بطوطة الإشادة بالعمران المصري ؛ فكثيراً ما يصف المدن التي مر عليها بأنها كثيرة المساجد وحسنة الآثار، وقد يصف مساكنها بأنها حديثة البناء أو قديمة , يقول مثلاً عن النحراوية ( وهو رحبة البناء حديثة البناء أسواقها حسنة ) ويقول عن أبيار ( وهى قديمة البناء أرجة الأرجاء كثيرة المساجد) ثم يذكر أهم المساجد والعمائر المشهورة في مصر والقاهرة .

14 ـ وهناك إشارات عن المدن النهرية والبحرية فدمياط مثلاً ( على شاطئ النيل ، وأهل الدور الموالية له يستقون منه الماء بالدلاء ،وكثير من دورها بها درجات ينزل فيها إلى النيل ) أما سمنود فهي ( على شاطئ النيل كثيرة المراكب ) .

15 ـ والمهم أن ابن بطوطة غطى الكثير من أنواع التأريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي والسكاني أثناء ثرثرته حول رحلته القصيرة في مدن مصر . ولكن إلى أي حد رصد الحياة الدينية بها ؟؟



[1]
عقد الجمان مخطوط حوادث سنة 721 , نهاية الأرب مخطوط 31/ 3: 4,8 السلوك للمقريزي  2/ 501 الطالع السعيد للأدفوي 172 : 173 , لطائف المنن للشعراني 459 : 460 ط 1288 .

 

[2] السلوك 1 / 380. النجوم الزاهرة لأبي المحاسن 7/ 9 .

اجمالي القراءات 4706