العقوبات الأربعة في شرعة أهل القرآن.
نبأ سراقة والسارقة المتقرئنة.

ربيعي بوعقال في الإثنين ٠١ - يوليو - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

   نبأ سراقة والسارقة المتقرئنة.

   سلام عليكم يا أهل القرآن، طبتم وطابت مساعيكم، أما بعد: فقد جئتكم بشيء لا اعرف كيف أصفه لكم، وأرجو أن يكون مفيدا لهذا الناس وللعرب بشكل خاص لأنه مستوحى من كتابهم المهجور، ويهدف إلى تصحيح الفهم المتعلق بالعقوبات الأربعة، وهي:  جزاء السارق والسارقة، وجزاء الزانية والزاني، وحزاء الحرابة، والقتل الخطأ. وقبل أن أختم هذا المبتدأ القصير أدعو القاريء الكريم إلى التحلي بالصبر لأن الرحلة ستكون طويلة طولا يفوق التصور، وتبدأ ميسرة سهلة هكذا:    

   جلس القاضي حمدون بسكينة ووقار، فأطرق برهة يقرأ قرطاسا، ثم رفع رأسا معممة فألقى السَّلَمَ إلى من حضر، ومد كفا ثم سحبها مشيرا إلى المدعية أن اقتربي، فأقبلت مرفوعة الهامة تسترق النظر تارة إلى المتهم، وطورا تحدق في الشهداء الجالسين عن يمين القاضي، وكان بالمكان كهل تعرف من هيئته وحمرته وعدته أنه السياف.

ـ القاضي : اقرأ كتابك يا سياف !

ـ السياف:

· القضية الأولى تحمل رقم : 38/6

· التهمة : سرقة غير موصوفة.

· العقوبة الشرعية : فيها قولان، إما جز الرسغ لبتر الكف، وهو مذهب الملك الحالي المبارك خالي، وإما السجن أو ماشابه من العقوبات الكفيلة بقطع يدي السارق قطعا معنويا، وهو مذهب الملك الهالك، وجده الشيخ أبو البركات أحمد الزيات.

· اسم المدعية : فاطمة بنت موسى الصقلي.

· اسم المتهم : سُراقة بن يقظان المقدسي.

· المحجوزات : مخطوط رق مورق، وخاتم من ورق الفضة، وعقد ذهبي زنته أربعة مثاقيل وحبتي شعير.

· تقرير الشرطة : فيه ورقتان، كتب في الأولى: حيث أن فرقة البحث والتحري عثرت على خاتم فضي ملقى أمام قصر العدالة، وبحلقته رسالة مكتوبة بخط دقيق ولهجة مبهمة ركيكة، وهذا نص الرسالة: لقد فرط المرسل في خاتمه الفضي ليثبت لكم حسن نيته وليؤكد صحة هذا البلاغ: المجوهرات ضاعت والكافلة جاعت، الأيتام ولد كفيف مكفوف، وثلاث إناث ضعاف كفراخ الدجاج، وقطع الذهب خمسة أزواج، أما سراقة فيسكن بالدير المهجور، لكن سراقة شريف، والشرطة لا تراقب ولا تحاسب، كأنها لم تقرأ ما جاء في كتاب سيدنا البخاري:(إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد).. انتهى، وكُتب في الورقة الثانية ما يلي: حيث أن الشرطة بحثت عن المشبوه فوجدته يأكل الحشيش أمام دير يقع بأقصى المدينة، وبعد أن تحققت من اسمه ورسمه سألته عن الكنز، فأقر واعترف، ثم دخل بيته مسرعا فعاد يضحك ساخرا وبيده سلسلة صفراء، ولما سئل عن بقية الكنز سكت وتبكم، وقد فتشنا الدير ركنا ركنا وفليناه حجرا حجرا ولم نجد الكنز ولا أي شيء مشبوه.

· ملاحظة : المتهم بالغ عاقل، وهو أعسر غير مبتور... هذا كل ما عندي.

ـ القاضي : اقترب يا سراقة، واسمعني جيدا، أنت متهم بسرقة كنز كبير لم نعثر عليه بعد،  وأنت متهم بسرقة هذا العقد الذهبي، إضافة إلى ما جئت به من ضحك وتبكم وزم للفم.

ـ سراقة : سلام عليكم، هي أربعة تهم محزنة، وسأبدأ بتهمة التبكم وإغلاق الفم، فأقول: الناس يلقبون فاقد السمع بــ الأبكم، وسراقة يعتبر الفعلة شكل من أشكال التنابز بالألقاب، ويرى أن كلمة الأبكم أو البكماء لا يطلقها المسلم العاقل إلا على بهيمة الأنعام، وأنت تعلم ـ يا سيدي القاضي ـ أن البهائم لا تتكلم ولا تشير ولا تعبر عن حاجتها إلا بتصويت مبهم. أما البشر المصابين بذهاب السمع فكلهم يتكلمون، وميثاق الحسنى يقتضي أن نلقب المصاب بلقب يليق به ولا يحمل أي معنى من معاني الإساءة وسوء الأدب، كأن نقول مثلا: جاء الناطق وحيا، ورأيت الأصم المتكلم، أو سألت الأصم المشير عن تخصصه، وقائمة الأسماء الجميلة طويلة، فإن رمنا الاختصار قلنا:  المتكلم، أو المشير أو الصمصام أو الموحي. هذا وأدعو  قومي إلى الاعتبار بما جاء  في القصص الحق عن الام الكريمة التي سئلت عن الولد: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ) والكل يعلم أن العذراء كانت ـ يومئذ ـ صائمة عن الكلام، لكن القوم فهموا الأشارة ولم يطلبوا منها النطق بالعبارة، وإنما سألوها مجددا: (قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا). ومن قبل هذا خرج النبي زكريا من المحراب فاوحى إلى قومه، أي أشار إليهم (َأن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي: أقيموا الصلاة بكرة وعشيا، ولا شك أن القوم فهموا قصده وما يريد، بدليل أنهم سكتوا ولم يطلبوا منه تفسير الإشارة. والمؤسف المحزن ـ يا سيدي القاضي ـ أن الأشراط حين عرفوا أن اسمي سراقة، علق بعضهم قائلا: اسم على مسمى، فقلت لهم: أما قرأتم قصة يوسف، وهلا اعتبرتم بقول إخوته (إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ) وحاولت النصح  فألفيتهم معرضين لا يفهمون ولا يريدون أن يفهموأ، فقلت لهم: أنتم اشرار وبئس المذهب مذهبكم، وأسررت الوصف في نفسي حتى لا أزيد النار اشتعالا  وطينة المذهب  المتعفن ابتلالا.. ومن لحظتها قررت الصوم عن الكلام، هذا ردي على تهمة السكوت وزم الفم، أما عن تهمة الضحك، فأقول: كانت لي قصة حب حزينة، خلاصتها أني عُلقت امرأة فجمعت بعض المال واشتريت هذا العقد لأجل خطبتها، لكن المرأة عُلقت رجلا غيري وفاز بها الرجل الثري، الأمر الذي جعلتني أكره الذهب كره موسى للعجل الذهبي، وفي اللحظة التي كنت أفكر مترددا بين حرقه أو دفنه، جاءتني الشرطة تسألني عن ذهب سًرق من كافلة أيتام، فأسرعت بإحضار العقد الملعون، وأنا مسرور أضحك مثل سمكة سلكت سبيلها إلى البحر سربا، ومعلوم ـ يا سيدي القاضي ـ أن الضحك مباح حلال، لكن شرطة البلاد كثيرا ما تفسر ضحك الضحايا والمتهمين بتفسيرات مضحكة.. هذا جوابي عن تهمة الضحك، وأخيرا أقول أن تهمة السرقة مجرد دعوى متبرجة عارية عن الصحة، والرد عليها يكون باربع كلمات لا أكثر: البينة على من ادعى.

ـ القاضي : الكلمة للمدعية.

ـ فاطمة : البينة يا سيدي القاضي حاضرة جلية، وتتمثل في شهادة خمسة رجال وأربع نساء من أعيان المدينة الثقات العدول، ولك يا سيدي القاضي أن تسالهم.

ـ القاضي : للشهداء كل الاحترام، لأنهم بمجرد أن سمعوا المؤذن الشرعي يخبر عن الحادثة حتى هرعوا على المحكمة ليشهدوا بما علموا، وقد أكدوا لنا أن العقد ملك لك، وأن السارق هو من وجد العقد في بيته، أقصد في الدير المهجور.. والمطلوب يا سراقة أن تكشف لنا عن مكمن الكنز وتعيده لهدة المسكينة كاملا غير منقوص أو تقص منك الكف قصا.

ـ سراقة : مع احترامي لكم، ولهذا الجيش من الشهداء، لا يسعني إلا أن قول لهم ولكل من شهد ضدي ليقطع يدي: أنتم  ـ يا إخوتي ـ واهمون، والوهم نوع من الكذب، ولو أنكم قرأتم القرآن وتدبرتم القصص الحق ما تجرأتم على الشهادة .. ولا يخفاك ـ يا سيدي القاضي ـ أن إخوة يوسف لما رجعوا إلى أبيهم كانوا يظنون أنهم جاءوا بالخبر اليقين، ثم تبين لهم أن بعض اليقين ضلال مبين، قالوا: ((يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ))ومعلوم أن الولد ما سرق ولا تصوع، ولكن البصر برق فخدع من خدع.

ـ القاضي : اللكمة،، عفوا، الكلمة للمدعة.

ـ فاطمة : ليسوا سواء، أولئك تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، اما هؤلاء الشهداء فليسوا كذلك، بل هم من خيار الناس، ومهما يكن سأبقى متمسكة بحقي ولن أفرط في ذهيباتي، فإن لم تقنعكم حجة التسعة الكرام اسألوا أهل المدينة فردا فردا فالجميع قد سمع بالخبر ويعلم أني أملك كنزا، وأن العقد الذي وجد بحوزة هذا السراقة لا يمكن... 

ـ القاضي مقاطعا : اقصدي واقتصدي فالوقت أيضا من ذهب. والكلمة للمتهم.

ـ سراقة : سيدي القاضي، أنا بريء، وأرفض رفضا قاطعا شهادة أهل المدينة، وهذا مهما كانت صفتهم ومهما بلغ عددهم، وحجتي ان الوهم الذي ألم بإخوة يوسف ـ يوم ضياع الصواع ـ لم يكن مقصورا عليهم، بل شاع وذاع في القرية كلها، ليكون عبرة لكل الشهداء، قالو: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) )  أريد القول ـ يا سيدي ـ أن الوهم ساد قوافل المسافرين وأهل القرية، ولو سئلوا ـ يومئذ ـ لقالوا إن شهادة  رهط  الأسباط صحيحة، ونحن على ذلك من الشاهدين.

ـ القاضي : السيد السياف يحمل الكتاب حملا جيدا، وسيقرأ علينا مشكورا  من "ارْجِعُوا " إلى " فَهُوَ كَظِيمٌ".

ـ السياف مَزْهُوا بِنَفْسِهِ يقرأ : (( ارْجِعُوا إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ(81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(83) وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ(84))(12).

ـ القاضي : صدق الله العلي العظيم .. هلم أيتها الفاضلة فاطمة، نريد حجة أخرى قبل الفصل في المعضلة العاضلة؟

ـ فاطمة : سيدي القاضي المحترم، لا يسعني إلا أن أكرر أن العقد عقدي، وأنا امرأة صادقة كالهدهد، واعرف ذهيباتي كما يعرف الطير أوكاره وفراخه؟

ـ القاضي مبتسما : جاءك الهدهد بالخبر اليقين، فكيف ترد يا سليمان زمانه؟

ـ سراقة : وددت لو أن المدعية اعتبرت بقصة ملكة سبأ يوم قيل لها: (أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ ۖ قَالَتْ كَأَنَّهُ هو) ولم تقل هذه هي عُريشتي بالذات والصفات، ولا قالت: أنا ملكة وأعرف عرشي كما تعرف النسور أعشاشها وفراخها. وأقول للقاضي المحترم: احذر الهوي، واعتبر بقصة الطير الجميل الذي قال للقاضي الحكيم: ((جِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)22)) فلم ينشعل القاضي بريش الهدهد وجماله، ولم يفضله بلقب الفاضل،  ولم يقل تفضل أيها الفاضل، ولا قال للمتهم هلم يا أبكم أجب عن التهم.

ـ السياف : ((فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ)).

ـ القاضي غاضبا : لم أطلب منك أن تقرأ، ولا أذنت لك بالتدخل.. تفضل يا سراقة ولا تعقب على السياف، بل انسى الموضوع تماما.

ـ سراقة : هذا من نزغ الشيطان، فاقرأ الرقية معي او أصغي إلي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ)20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ(21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍإِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ)23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ)24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ(25) اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ  (26) قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)).

ـ القاضي : صدق الله العلي العظيم ..الكلمة للمدعية.. تفضلي .

ـ فاطمة : سيدي القاضي، الذهب مبصوم بخدش خفي لا يعرفه إلا مالكه الأصلي وبنت موسى الواقفة أمامك.

ـ القاضي : هذا ما كنا نبغي، لماذا لم تذكري هذا من قبل، اقتربي، اقتربي، هاك الحلية، أرني البصمة.

   ــ قال الراوي : واستلمت العقد الذهبي من كف تهتز كما الثعبان، فنظرت فيه وأمعنت النظر فعاد إليها البصر حسيرا يقول: لا خدشة  هنا ، ولا خَمَشَهُ ، ولا بصمة، فسكتت مبهوتة فاغرة فاها، فحمحم القاضي ليوقظها، ولما عادت لرشدها أخذت  تخلط وتخوض وتمخُض، وتتكلم دون أن تقول شيئا، قالت: لا شك أن من أزال ومحى الخدش عرف قصة من نكر العرش، ففعل مثله كي أنكر ما أعرف، وفاته أن يوسف عرف إخوته وهم له منكرون، ولما جاءت الملائكة ابراهيم وراى أيديهم لا تمتد...

ـ القاضي مقاطعا : ما خطبك يا فاطمة، ما هذا الخلط ، لماذا لا تقولين هذه ليست حليتي لانها لا تحمل أي خدش وتسكتي.. معك القوس يا سراقة فسدد ولا تخظيء الهدف.

ـ سراقة : قوسي مكسورة وأنا رجل مسالم، ولن أرمي امرأة تتظلم، وإنما أقول لها: يا اختاه يامسلمة، يبدو أنك تملكين ـ بالفعل ـ كنزا موسوما، لكن الحلية التي بين يديك ليس لك، بدليل انها مسلمة لا شية فيها. وأقول: يا أختاه يا مؤمنة، إن الحلية التي تفحصتي ليست لك، برغم أنها صفراء فاقع لونها، لأن اللون في قصة البقرة يسر الناظرين، بينما الأصفر الذي بين يديك جلب لك الحسرة والحزن، وجعلك تنكرين الواقع المحسوس الملموس. وختاما أقول: يا جارة القاضي، هذا العقد لي بلا شك ولا مراء وأنا وهبته لكما بلا من ولا أذى.

ـ القاضي : اقرأ (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ)

ـ السياف : (... بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُون))(2).

ـ القاضي: اسمعي بافاطمة با ابنة موسى، رُمت ذبح الرجل فسلخك سلخا، وإني لأشم رائحة كيد نسوي، فاتق الله ولا تكتمي...

ـ السياف مقاطعا : معذرة سيدي القاضي، يبدو أن االمتهم محتال كبير، نهب الكثير ثم وهب القليل ليسحركم ولينجو بفعلته، اقصد أنه استبدل عقدا بعقد ليخدعكم، واقترح تأجيل الفصل في القضية، وتكليف الشرطة بتفتيش بيت السارق مجدداـ وأنا متيقن أنهم سيجدون كيس المجهورات مخبأ عند هذا المحتال .

ـ القاضي غاضبا : هل أفرغت مزود اللغو والتطفل كله أم عندك المزيد، ألم أقل لك لا تقاطعني، ولا تتكلم إلا بإذني.. يا لك من مسلم,, تحمل الكتاب حملا وتظلم الناس ظلما، تقول: ساحر ، وتلقبه بلقب السارق، ألا تعلم أن المتهم بريء إلى أن يثبت العكس؟ تالله لقد بلغ السيل الزبى، ولن أرضى بهذا أبدا. فإما أنت أو أنا.  وموعدنا غدا، وسوف ترى اينا أقرب للملك..تفضل يا سراقة الكلمة الأخيرة لك، وأكرر.. أوجز واختصر فإن الوقت من ياقوت.

ـ سراقة : سيدي القاضي، لنفرض أن الشرطة ذهبت الآن وفتشت الدار وعثرت على كيس المجوهرات، فهل ستقطعون كفي لاجل عجل الذهب ؟

ـ القاضي : يجيبك العراف، عفوا.. يجبك السياف.

ـ السياف : عقوبة السارق البتر، هو الشرع يا سراقة، هي الشريعة يا سراقة، وايمُ الله لو أن ابنتي سرقت لقطعت يدها.

ـ سراقة يترنم كلمُغيب : أنا يا سادة يا كرام بريء، وبريء مما تقولون، وقطعا لست أخشى بترا لاني مجنون، بالامس بتر الملك أصابع رجل مشير وسكتم، اما علمتم أن اليد آية بيضاء تتكلم، ظلمتني دولتكم ـ قبل هذا ـ ودام ظلمها دهرا، فهجرتكم والدنيا حتى قلتم سراقة يأكل الحشيش كما الأنعام، واليوم قلتم أبكم، ألا ليت شعري متى ينتهي هذا الظلم، ألا ليت شعري متى تعودون لرشدكم.

·       هموم هموم ولا أيدي

·       ظلوم ظلوم ذاك الحد

·       أفيقوا يا فقهاء النقد

·       افيقوا ويحكم

·       واغسلوا بالحب

·       سعير الكراهة والحقد

·       واطفئوا ويحكم

·       بالوحي، نارا تسوقكم

·       بعيدا بعيدا بلا عود

·       ظلوم ظلوم ذاك الحد

·       كفكف دمعك يا ولدي

·       كفكف دمعك هاك يدي

·       عينيك عينيك لا ترمد

·       عينيك عينيك وا كبدي

·       انا يا صاحبي صاح

·       وخطيئتي أني  

·       يتيم أمة نام الدجى

·       بين نحرها والنهد

·       انا يا صاحبي حي

·       وخطيئتي أني

·       دفين أرض يملكها

·       عربي رضع الظلم

·       صبيا بالمهد،

·       مزق اوراقي،

·       واحرق جلدي،

·       كف كفاك أخي لا تعتدي،

·       يا لقلب غلب الحجر الصلد  

·       ومن الحجارة ما تفجر أنهارا

·       ومن الحجارة ما تشقق أبارا

·       أيا محجر العين رفقا بالخد

·       أيا بحار الدمع رفقا بالعبد

·       غفرانك غفرانك ربي 

·       يهبط بتارا مزق قلبي

·       يهبط، يهبط، يهبط...

ـ قال الراوي :  وذهب سراقة يردد الاخيرة وهو ينزل ويذوب كقطعة ملح حطها السيل من عل، فأسرعت إليه حسناء ملثمة فأمسكت بيده، قال: من الملاك؟ ثم أفاق قال: معذرة، من أنت؟ قالت: كف عن البكاء ويحك مزقت قلوبنا، حصحص الحق، أنا صاحبة الكيد يا سيدي، وأنت بريء براءة موسى واليد البيضاء، واعلم أن قصدي بريء براءة يوسف وقميص الشفاء، ثم كشفت عن وجهها، فصرخ القاضي: إنها ابنتي عفاف، ويحك يابنيتي قتلت رجلا من الصالحين، ما كان أبوك امرأ سوء، ولا عرفتك ظالمة، قالت: سلام عليك يا أبتي، لا تحزن يا قرة عيني، يا أبتي أنت معلمي ومرشدي، لكن رجاء رجاء لا تسالني عن شيء حتى تأتيني بالمتهمين كليهما أضيافا مرحبا بهما. فرفع القاضي الجلسة، ثم قام فأمسك بيمين سراقة، وقال مضاحكا: لا خوف ولا حزن بعد اليوم، نجوت من الجز والبتر، ومن سكاكين الجوع والشر، فهَلُمَّ إِلَى السُّوقِ نَشْتَرِ هواء، أو إلى القصر نُصِبْ غَدَاءً، وقصري أقرب وطعام عفاف أشهى وأطيب...    

ـ قال الراوي : ظل القاضي يضاحك الضيف، والضيف ساكت مغلق المبسم، قال: ما خطبك تكلم، أما زلت حزينا مهموما ؟ قال: كلا، كل ما في الأمر أني كظمت ضحكتي مخافة أن تُفسر تفسيرا مضحا، وانطلقا يتجاذان أطرف المضحكات والطرائف.. وفي الأثناء امسكت رقية بكف عفاف، وقالت: رجاء بطئي قليلا وذري الرجال بسبقون، أريد أن أفشي لك بسر خطير، انت صاحبة الكيد، وأنا شريكتك في الصيد، وأبوك  هو السارق، قالت: رأيت ذلك في عينيك، ورأيت شيئا آخر في نظرة السياف، فسالتها فاطمة: هل سرق قلبك؟ قالت: كلا، بل سرق ذهبك، وأرجوا أن يحسم الصيام قبل ثلاث ليالي وأربعة أيام. قالت: كيف؟ فأطلقت عفاف يد صاحبتها وقالت: الحب قبل الذهب، الحب قبل الذهب، كررت عفاف الجملة المبهمة ثلاث او أربع مرات، ثم انطلقت مسرعة كالريح تريد أباها، وأحس القاضي بصوت خلفه كحفيف الشجر، وما إن التفت حتى أمسكت عفاف بيده لتلصقها بيد سراقة، هنالك أذن مؤذن الحب فأسمع كل حي، قال: والله ما رأيت مفلسا مثلي، تلك سرقت قلبي، وهذا سرق قلب ابنتي.

ـ قال الراوي : ورأى سراقة القصر يقترب، فقال لصاحبه مضاحكا: أشم رائحة هواء مشوي، قال القاضي: لعله شواء هوائي، ودخلوا بهو القصر وهم يضحكون فوجدوا متكأت تحيط بطاول تحرسه ثلاثة قوارير تشكلت طيورا، وحولها الاكواب تحكي هيئة أوكار من فضة، وما إن استقروا جالسين حتى اشارت عفاف إلى المائدة، وقالت: نزلتم أهلا وحللتم جنة من حنان القاضي: ذا ماء يحي، وذا لبن سائغ، وتلك عصائر فاكهة ورمان. قال القاضي: لا ينقص جنتك إلا الشراب، قالت نسيته وما أنسانيه إلا الشيطان، وهرعت إلى غرفة الطبخ لتعود بقارورة مقبعة بكأس صغيرة، وقالت: عسل مصفى، اشربوا بالهناء والشفاء،. هنالك قام سراقة فشكر ودعا، ثم قرأ من سورة محمد، قول الله جل وعلا: ((مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى)).

  ــ قال الراوي : قرأ الأية فرتلها ترتيلا، فلما ختم قال تأكدي يا عفاف أن سراقة لن يمد يده، ولن يطعم رزقا حتى تقصي عليه قصة العقد، وتشرحي مقصد الكيد شرحا يشفي الغليل، قالت: ألا ما أشبه الليلة بالبارحة، بسم الله الرحمن الرحيم (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ ۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ۚ...))، وختمت بقولها: ياأبتي سراقة رجل كريم وليس ملاكا، وانت الولي فزوج ابنتك هذا البشر السوي، قال إن يرضي بك فكلي واشربي وقري عينا، فقام سراقة فاحتضن القاضي ووضع قبلة على جبهته، وقال: ابنك مفلس لا درهم ولا دينار، ولا خاتم ولا سوار، قال: العلم يكفيها ويغنيها فإن وفقتما لعشرة الحب والوفاء، فتلك عيشة لا تعرفها إلا ملائكة السماء.

ــ قال الراوي : ثم التفت إلى فاطمة، فقال: أما صداقك أنت إن رضيت بي.. فقاطعته مشيرة أن أسكت، فسكت راضيا، وأنشد في سره : الآن عَرَفْتُ أن حُــبَّــكِ قَـــاتِــلِــي،، وأنَّـكِ مَـهْـمَـا تَـأْمُـرِي الـقَـلْبَ يَفْعَـلِ.. وتلقت عفاف اشارة من الفاطم فانطلقت تقص قصتها، قالت: القصة يا أحبتي بدات يوم جاءتني فاطمتُنا الجميلة فأخبرتني خبرها ومن تكون، وكانت تبكي بكاء الثكالى، وتساءل حيرانة: هل يعقل ان يأمر دين الرحمة بهذا؟  هل يعقل ان يأمر دين الرحمة ببتر أصابع الأصم؟  قلتُ: الدين ـ ياصاحبتي ـ رحمة كله ولم يأمر إلا بالعدل والإحسان (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، ولقد خطرت لي فكرة، أمكثي هنا ساحضر قلما وورقة، ولا تسألي عن شيء حتى أحذث لك منه ذكرى، فأحضرت القلم، وكتبت لها عقد ملكية، هذا نصه: انا عفاف بنت الشيخ حمدون قاضي قضاة المحلة الشرقية، أشهد أني منحت عن طيب خاطر الحلي والمجوهرات التالي ذكرها لفاطمة بنت موسى المقدسي، وذكرت عدد ونوع موجوهراتي واوزانها، وأن كل جوهرة تحمل خدشا خفيا لا يعرفه إلا حامل ورقة العقد الموثق، وختمت العقد المحرر بهذا السطر: كتبته عفاف بخط يدها وختمته بخاتمها، ثم وضعت كل مجوهراتي بين يديها، وقلت لها : هذا الكنز يكون ملك لك إن خرجت غدا لأداء مناسك الحج والعمرة، فكان ردها: امسكي ذهيباتك وعالجي ذاتك، واسالي الله الشفاء وبالغي في الدعاء، قلت: ألم أقل لك لا تسألي، اصبري قليلا وتاكدي أني لست عليلة، بل معي حيلة أحسبها جديرة بإبطال العادة السيئة وتصحيح الفهم المغلوط، قالت: أكملي حكايتك ستجدينني إن شاء الله صابرة، قلت: اما الطواف فقبلته الصاغة والتجار وأعيان المدينة، تعرضين عليهم العقد الذهبي فمن سامك منهم ورغب في البضاعة أره العقد الموثق، وأوضحت لها أن المقصود هو أن يشهد أكبر عدد ممكن من النساء والرجال على ان الحلية ملك حلال لحامل العقد، قلت: تفعلين هذا ثلاثة أيام وأنت صائمة عن الكلام، فإن استعجلت فيومين، ثم تسألين عن أكبر فقيه بالمدينة وتحتالي للوصول إليه، كأن تسأليه عن فتوى، فتضعين كيس المحوهرات ببعض زوايا بيته، وتعودين ..

 ـ قال الراوي : وقطعت صاحبتنا السرد الطويل لتقول: أكملي يافاطمة جف حلقي. !فقام سراقة فملأ كأسين، وقدم كأس الفضة راكعا، قال: اشربي معي ياحبيبتي نخب توبتي من خطيئة إمساك اليد عن الرزق، وتحريم ما أحل الله لي.

 ـ قال الراوي : وباتوا أزواجا شاكرين، وما غرموا غرما وقد غنموا غنما.

.......................

... يتبع  بعد أربعة أسابيع، وسيُفتتح الفصل الثاني بهذا السؤال المُسبع: 

ـ كيف عرفت عفاف أن السارق هو السياف ؟

ـ تنبيـــه : النص ملغم كله، وفيه عشرات الأشياء المتماثلة، منها الرباعيات التالية:

1ـ الشخصيات الرئيسة أربعة : المدعية والمتهم، والقاضي وابنته .

2ـ ومن الشخصيات الثانوية: تسعة شهداء من الرجال، ومن النساء أربعة .

3ـ التهم أربعة: سرقة كيس الجواهر، وسرقة العقد الذهبي، والضحك،  والتبكم.

 4 ـ وكان الرد بأربع كلمات فقط: البينة ـ على ـ من ـ ادعى .

 5 ـ  الحب قبل الذهب : كررت عفاف هذه الجملة ثلاث او أربع مرات، ثم انطلقت لتضع يد أبيها في يد سراقة.

6 ـ على الطاولة ثلاثة قارورات على هيئة الطير ولكل طير عش واحد، وأضيف لها قارورة الشراب فاصبحت أربع قارورات وأربعة أكواب كاملة.

7 ـ أرزاق جنة الدنيا أربعة : ماء يحي، ولبن سائغ ، وعصير فواكه، وشراب تصنعه الملكة النحيلة السمينة والخدم الهزيل الخطير.

8 ـ أنهار الجنة الثانية أربعة : ماء غير آسن، ولبن لم يتغير طعمه ـ وخمر لذة للشاربين، وعسل مصفى.

9 ـ ولقد ذكرتُ من جغرافية القصة أربعة مواقع : المحكمة، والطريق المديد، وبهو القصر المشيد، وغرفة المطبخ.

10 ـ سرق الراوي من (المقامة البغدادية) أربع جمل، ولم ينكر منها سوى كلمتين، ولو شاء لغير أربعة كاملة.

11 ـ خُتم السرد المسرود بأشياء سرقت من (قصيدة الكرم للحطيئة) وفيها خبر ثلاثة أشباح والرابع ضيف طرأ فحير الأشباح  الجياع وملأهم رعبا.

12 ـ الحجارة أربعة ، أولها قلوب وآخرها محاجر العيون: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74))سورة البقرة.

13 ـ أربعة من اليتامى تكقلهم فاطمة، ونصيحة فاطمة أربع جمل كاملة : امسكي ذهيباتك وعالجي ذاتك، واسالي الله الشفاءـ وبالغي في الدعاء،.

14 ـ أركان الحج الفاطمي أربعة: طواف بأسواق المدينة فوقوف بالمحكمة، ثم سعي بين الديار فجلسة العيد بذاك القصر المشيد.

ــ وقائمة الرباعيات طويلة كموج البحر، وهي خفية خفاء خافية الطير، أو كما قال الشاعر:" فيها اثنتان و أربعون حلوبةً،، سوداً كخافية الغراب الأسحم "

ـ المختتم : يقال أن فقيها وضع للناس كتابا يدعو إلى الاجتهاد والتجديد ثم خشي البلادة والكسل فسجل برأس الصفحة الأولي العبارة التالية: وإذ هو من عند غير الله فلا شك أن فيه اختلاف كثير، فمن صادف أي خطأ ولم يصححه فلا شك أنه كذا  أو كذا، وذكر صنفين من الفقراء ضحك منهم الجاحظ وأضحك كل من قرأ كتاب البخلاء.  

·        شكرا مرة اخرى وإلى لقاء قريب.

اجمالي القراءات 3992