ثقافة الفقر فى مصر من السادات الى السيسى

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٣ - يونيو - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

ثقافة الفقر فى مصر من السادات الى السيسى

مقدمة :

1 ـ  يظل عبد الناصر الأقل فسادا ممن جاء بعده ، بل إن الفساد بدأ فى التطور من عصر السادات ليصل الى اكبر معدلاته فى عصر مبارك ثم عمّ كل شىء فى عصر السيسى . ولكن عبد الناصر هو أساس الاستبداد ، والعادة أن يأتى الفساد مصاحبا للإستبداد .

2 ـ قلت فى حوار منشور فى جريدة ( اليوم السابع ) فى أواخر عصر مبارك وقت الدعاية لتوريث ابنه جمال مبارك أنه لا مانع من أن يتولى جمال مبارك الرئاسة إذا أعلن إلتزامه بتحول ديمقراطى يبدأ بحرية التعبير . ضاع هذا فى الهواء ، ثم فى حوارات لاحقة دعوت السيسى لأن يبدا تحولا ديمقراطيا بحرية الدين وحرية التعبير ، وأن التحول الديمقراطى يستلزم وقتا قد يصل الى نصف قرن تتعزز فيه ثقافة الديمقراطية . أى لا ضرر على السيسى وخليفته من هذا التحول الديمقراطى . ونشرت هذا صحيفة مصرية تابعة لمخابرات السيسى . أى وصله الكلام ورفضه . أعلم تماما أنه لا فائدة ، ولكنه كلام للأجيال القادمة . المستبد الفاسد لا يمكن أن يرضى بحرية التعبير لأن حرية التعبير ستفضح فساده . لذا هو ماض فى طريقه الى النهاية. ونهاية الطغاة معروفة ، وتتكرر فى عصرنا ولا يتعظ أحد .

3 ـ نرجع الى موضوعنا عن ثقافة الفقر المصرى بعد عبد الناصر .

أولا : بإيجاز :

1 ـ ورث السادات النظام الناصرى المتأثر بالماركسية فى القطاع العام ، خرج عليه السادات بالانفتاح الإقتصادى تمهيدا لحرية السوق . أصدر قوانين الانفتاح الجديدة دون تغيير كبير فى قوانين عبد الناصر . ترتب على هذا وجود تعارض ، خصوصا مع الاسهال التشريعى والقرارات الاقتصادية الكثيرة والمتضاربة ومع بقاء تحكم الدولة المصرية العميقة فى كل تفصيلات الحياة الاقتصادية خلال ملايين من صغار كبار الموظفين وكبار صغارالموظفين . إستفادت من هذا البيروقراطية المصرية العتيدة التى تمسك بخناق الإقتصاد . موظف مرتبه بضع مئات من الجنيهات ويملك سلطة إصدار تصريح لمستثمر يكسب منه هذا المستثمر ملايين الجنيهات . الموظف لديه من القوانين ما يجعله يرفض ولديه من القوانين ما يبيح له أن يعطى . وغابة القوانين والاستثناءات تتيح له أن يصدر ما يشاء من القرارات وتتمتع بتفسرات قانونية مطاطة . لذا فالحل ميسور : أن يأخذ رشوة من المستثمر . أقلها رشوة مالية وأكبرها أن يكون الموظف شريكا للمستثمر ، ليس بنفسه ولكن بإسم زوجته أو أحد ابنائه . هكذا بدا الإنفتاح الإقتصادى ملوثا بالفساد ، وتعانقت السلطة والثروة ، فالذى يملك إصدار التصريح يكون شريكا للمستثمر ، وإتسع الأمر ليصل الى قمة السلطة فى عصر السادات . ثم شمل كافة الجهاز الحكومى فى عصر مبارك .

2 ـ مبارك لم يكن مستبدا فاسدا ، بل كان فاسدا مستبدا . الفساد فيه أكبر وأعمق من الاستبداد . لا مانع عنده من هامش ضئيل لحرية التعبير مقابل أن ينهب ما يستطيع من مصر . فساد مبارك يحتاج مجلدات ، وقد عرضنا لمحة منه فى كتابنا ( وعظ السلاطين من معاوية الى مبارك اللعين ) ، وهو ملحق لهذا الكتاب نرجو قراءته . مبارك أسس طبقة من اللصوص جعلهم رجال الأعمال . مبارك ومعه زوجته وولداه يختارون شخصا يعمل لحسابهم ، يأخذ قرضا بملايين الجنيهات من البنوك مع تسهيلات فى السداد على أقساط طويلة ، يسدد بعضه فقط ، ثم يعطونه مساحة هائلة من الأراضى الصالحة للبناء بمرافقها على أساس أن يبنى فوقها مصنعا أو مساكن للشباب ، وثمن المتر من هذه الأرض جنيهات قليلة وبالتقسيط المريح جدا ، وبعد دفع مقدم هزيل يتملك الأرض ويقوم بتقسيمها للبيع ، المتر بآلاف الجنيهات،ويجنى عشرات الملايين من لاشىء. معظمها يذهب الى آل مبارك . وبهذا إستولى رجال الأعمال على أراضى تبلغ مساحة دولة من الحجم الصغير .

3 ـ جاء السيسى يحكم بإسم الجيش ، وكانت للجيش مؤسساته الإقتصادية وكان منافسا لرجال أعمال مبارك . السيسى جعل الجيش هو المتحكم فى الإقتصاد والذى يخضع له رجال الأعمال ، وأرغمهم السيسى على دفع المعلوم وسحب البساط من تحت أقدامهم . السيسى خنق حرية التعبير لدى المصريين كما أوصل فقراء مصر الى أسوأ الأحوال ، بلغ فى الفساد والتعذيب والاستبداد الى درجة غير مسبوقة .

ثانيا : بعض التفصيلات مما شهدناه :

1 ـ فى عهد السادات كان الأقرب اليه عثمان احمد عثمان ، ووصل نفوذه وثروته من خلال ( المقاولون العرب ) الى درجة أن جريدة ( الأهالى ) كتبت عنه تحقيقا بعنوان ( مصر هبة عثمان أحمد عثمان ) . لا تجرؤ ( الأهالى ) اليوم على نشر مقال مماثل تنتقد فيه أحد المقربين من ( السيسى ) , ومن المقربين للسادات كان ( سيد مرعى ) من اشهر وزراء الزراعة ، وكان يملك 99 فدانا من أراضى البناء . وكان يتحكم فى أسعار الفواكه بسبب كثرة أراضيه التى تزرع الفواكه . هذا عدا فساد عصمت السادات وغيره .

2 ـ كانت القرارات الفوقية تصدر لصالح رجال الأعمال وتؤثر على عموم المصريين الفقراء ، أذكر منها فى عصر السادات : تحريم ( تبييض ) محصول الأرز . وظلت مصانعها لا تعمل مدة طويلة ، عانى فيها الفلاح المصرى الذى يعتمد فى طعامه الأساس على الأرز . ومن ذلك تحريم ذبح الحيوانات مدة شهر على ما أتذكر ، وثارت الإشاعات عن المستفيد من هذا . وفى عصر مبارك أصبح هذا قاعدة عامة ، منها ما نفذه وزير الزراعة يوسف والى والأمين العام للحزب الوطنى ، والذى نشر زراعة الفراولة وغيرها بديلا عن القمح ، وكان ممنوعا التوسع فى زراعة القمح ، بل كان ممنوعا على المراكز البحثية أن تنفذ مشروعاتها البحثة بإستزراع الأصناف عالية الانتاج من القمح كما فعلت الهند . وقد تكلم فى رواق ابن خلدون أحد العلماء الذى عزلوه بسبب إحتجاجه على سياسة مبارك فى عدم إكتفاء مصر من القمح ، لتظل تستورد القمح من أمريكا ، وهذا لصالح صبيانه العاملين معه فى إستيراد القمح .

3 ـ فى عهد مبارك إكتملت سيطرة البيروقراطية على كل شىء ، ووصل الأمر على المستوى الأعلى فتحكمت مافيات فى البناء وفى الاستيراد والتصدير ، وعلى المستوى الأصغر أصبح صاحب أى محل تجارى عرضة لابتزاز موظفى الوزارات والإدارات المحلية . يأتيه موظف من التأمين ومن التموين ومن كذا ومن كذا ، ويأخذ المعلوم شهريا ، ولو رفض فمصيره السجن وبئس المصير . وهناك أمثلة شهدتها بنفسى :

3 / 1 : بعد إغلاق مركز ابن خلدون إفتتحنا مكتبة صغيرة ( مكتبة سامح ) وأنفقنا عليها معظم مدخراتنا  ، وفوجئنا بزيارات الموظفين إياهم ، كل منهم يطلب إتاوة . والطريف أنه كان دكان مجاور لنا فى نفس المبنى يشرب صاحبه الحشيش والبانجو ورائحته تفوح فى المكان ولا يتعرض له أحد . خسرنا كل شىء وتركنا المحل بكل ما أنفقناه عليه من ديكورات.

3 / 2 : صديق تعرفت به فى مصر . كوّن ثروته فى الخليج ، وأراد أن يعود بها مستثمرا فى مصر فى أوائل رئاسة مبارك ، قابل خبيرا فى لندن فقال له : لا تستطيع أن تنجح إلا إذا شاركك من الباطن أحد أصحاب النفوذ ، وإقترح عليه ( رفعت المحجوب ) رئيس مجلس الشعب وقتها .

3 / 3 : اصبح معلوما أن يبحث ضابط الشرطة حين يأتى الى منطقة ـ عن ( ممول )، أى تاجر يريد حماية الشرطة مقابل المعلوم . ويصبح ضابط الشرطة فى خدمة التاجر ، لا يحميه فقط بل يلفق القضايا ويعذب من يريد التاجر الانتقام منهم.

3 / 4 : مجموعة من الشباب قاموا بجهد خارق إستغرق أعواما من الحصول على التوقيعات حتى تملكوا قطعة أرض فى صحراء بلبيس . وبدءوا فى زراعتها ، وحين أوشكوا على جنى المحصول فوجئوا بجمعية تتبع ضباط الشرطة والقوات المسلحة تستولى على الأرض لأنها تزعم ملكيتها تلك الأرض .

3 / 5 : شاب إستورد شحنة من أجهزة الكومبيوتر من الصين ، وربح فيها ، فتشجع ، وإستدان حوالى مليون جنيه وإستورد بها شحنة كبيرة لفتت أنظار مافيا الاستيراد وأعوانهم فى الميناء فعطلوا إستلام شحنته وإضطروه الى إرجاعها ، وخسر الأموال التى إستدانها .

3 / 6 : مصرى أمريكى محتال ، إستدان حوالى مليون دولار ، ثم هرب بها الى مصر وأقام بها مشروعا . أولاد الحلال من الموظفين أفشلوا مشروعه . فضّل الرجوع لأمريكا ودخول السجن فيها بدلا من البقاء فى مصر .

3 / 7 : صديق لى ( مصرى أمريكى )أخبرنى أنه ينوى الرجوع الى مصر ليقيم كافتيريا فى الساحل الشمالى . حذرته ، رفض التحذير . رأيته بعد عام مبتئسا . قال إنه إفتتح الكافتيريا وفوجى بالموظفين إياهم ، ورضى بدفع الإتاوات لهم وكان يعرف هذا . ولكنه فوجىء بضابط الشرطة إقتحم الكافتيريا وقبض على الشاب الذى كان يعمل فيها ، وكان يعمل فى الأجازة الصيفية ليوفر تكاليف تعليمه الجامعى . الشاب المقبوض عليه بدون تهمة جعله الضابط ( كعب داير ) يعنى يُطاف به فى اقسام الشرطة ليتأكدوا أنه ليس مطلولا جنائيا ، هذا عدا التعذيب الذى تعرض له. كان من الممكن أن يتعرض صديقى لمتاعب لولا أنه أشهر الباسبور الأمريكى فى وجه الضابط . فى تفسيره لما فعل بالطالب المسكين قال ضابط الشرطة أنه مضطر لأن يقوم بهذا لإثبات أنه يقوم بعمله. صديقى أغلق الكافتيريا وعاد لأمريكا.

 4 ـ مافيا البيروقراطية المصرية من اعلا مستوياتها الى أدناها خنقت أصحاب المشروعات الصغيرة ، وهم عصب الطبقة المتوسطة ، وهبطت بهم بسرعة الى طبقة الفقراء. الذى ينجو هو بالتعبير المصرى ( الذى يفتّح مخه ) أى يكون فاسدا راشيا . وعندها لا ضير عليه مهما فعل ، فهو فى ظل الحماية .  ولحق بأصحاب المشروعات الصغير الموظفون الشرفاء أصحاب الدخول الثابتة أوالذين لا تتيح لهم وظائفهم أى نفوذ .

5 ـ فى نفس الوقت تعجز البيروقراطية المصرية الفاسدة عن إدارة أى مشروع ، فالموظف لا يصلح أن يكون منتجا ، خصوصا إذا كان من أهل الثقة لا يفلح إلا فى الهتاف للرؤساء وتسهيل أمور الفساد . ونعطى أمثلة :

5 / 1 : مصر بموقعها الفريد فى منتصف العالم يجعلها محطة الطيران لأكبر شركات الطيران فى العالم . هذا لم يحدث لأن مطارات مصر دون المستوى . بل إن شركة مصر للطيران كانت مثلا للفساد ، وإشتهر بهذا رئيسها ( ريان ) . ولا تزال حتى الآن فى ذيل شركات الطيران العالمية ، ليس لها ترتيب فيها مثل طيران قطر والامارات وتركيا . هذا لأن شركة مصر للطيران شركة حكومية يديرها المحاسيب من أهل الثقة .، ومهما سرقوا ومهما فشلوا فهذا خفيف على القلب ، قلب المستبد الفاسد .

5 / 2 : مفترض أن تصدر مصر الأسماك ، فهى تطل على البحرين الأحمر والمتوسط ، ولديها خليج السويس وخليج العقبة ، وتمتلك بحيرات متصلة بالبحر المتوسط ، ولديها البحر الأحمر بثرواته الطبيعية والسمكية ، ثم نهر النيل وما يتصل به من ترع وقنوات وبحيرة قارون فى الفيوم ، ثم بحيرة ناصر الذى وصل فيها السمك الى درجة التوحش تتغذى عليها التماسيح ، وقد تكاثرت حتى أصبحت تصل الى نيل القاهرة . وهذه التماسيح فى حد ذاتها ثروة يمكن أن تقام على جلودها ولحومها مصانع . البيروقراطية المصرية عاجزة عن الاستفادة من بحيرة السد العالى ، أفلحت فقط فى منع تهريب أسماك البحيرة الى الداخل المصرى ، وأبقت إحتكارها للبحيرة ، ولا تزال مصر تستورد السمك . الطريف أن بعض قوارب الصيد المصرية تتوغل فى البحر الأحمر وفى البحر المتوسط ، ويتعرض أصحابها للاسر والإعتقال . ولا تهتم السلطات المصرية بالسؤال عنهم . وحدث أن إحتجز قراصنة الصومال بعض الصيادين المصريين وطلبوا من الحكومة المصرية فدية فلم يرد عليهم أحد. ومرت الأيام ، ورأى القراصنة أنهم يتكلفون إطعام الصيادين المصريين بلا فائدة ، فأطلقوا سراحهم .

5 / 3 . الذى يبقى فقراء مصر على الرمق هو تحويلات المصريين من الخارج . وتعبيرا عن أهمية هذه التحويلات فقد أقامت الحكومة المصرية وزارة للمغتربين ، مفروض أن تتواصل معهم وأن تكون الى جانبهم فى الغربة . ولكن كالعادة ؛ هى وزارة لاستيعاب المحاسيب من أهل الثقة فقط . يتعرض المصريون للإمتهان وأحيانا للسجن ظلما ولا يهتم بهم أحد . والويل للمصرى إذا إحتاج الى السفارة المصرية أو القنصلية المصرية فى البلد الذى يعمل فيه . الويل له إذا إحتاج الى تجديد جواز سفر أو عمل توكيل . لن أعطى مثالا لتجربتى الشخصية ..فقد تعودنا على الاضطهاد من مصر حتى ونحن فى أمريكا .!

6 ـ ثم ما رأيكم ــ دام فضلكم ــ فى بيع الغاز المصرى لاسرائيل ثم شرائه منها بأضعاف السعر ؟ . ثم من يملك التحرى عن مناجم مصر من الذهب والفوسفات والبترول ؟ ثم ماذا  عن التفريط فى حقوق مصر فى البحر المتوسط بحثا عن البترول ؟ وهل نسيتم الجزيرتين تيران وصنافير ؟

7 ـ صديق لى يملك مزارع فاكهة فى الاسماعيلية إستولى الجيش عليها . أصبح لا يستطيع الاقتراب منها . يكتفى بالبُكاء عن بُعد .  

8 ـ هيا بنا نبكى .!

اجمالي القراءات 6657