ضغط عالي..والسينما الهادفة

سامح عسكر في الإثنين ٠٨ - أبريل - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

تشرفت بدعوة كريمة من الفنانة والكاتبة "صوفية عبدالعزيز" لحضور العرض الأول لفيلم "ضغط عالي" ومن الاسم يتبادر إلى الذهن محتواه الفني إما تصوير مشاعر غضب ترفع الضغط العصبي.. وبالتالي هو نقد لأسباب ودوافع ذلك الغضب، أو هو حكاية عن تيار كهربائي يُعرف لدينا في مصر بأسلاك الضغط العالي التي تحملها أعمدة الإنارة العملاقة، أو هو مزيج بين هذا وذاك فيخرج العمل يحكي غضبا يختلط بالكهرباء في سياق درامي، وبعد مشاهدة الفيلم تبين أن المقصود منه هو التفسير الثالث.

لم يكن العمل دراميا فقط بل جامعا لأغلب فنون التمثيل من "سياسة وفلسفة وكوميديا وتراجيديا" مصحوبة بلمحة شبابية في الأزياء والسلوكيات، إنما من حيث الطبيعة يمكن وصفه بطبيعتين:

أولا: الطبيعة الكوميدية وهي الغالبة على العمل ساعدها وجود عمالقة كوميديا تصل بين القديم والجديد، فلا خلاف على أنه حسن ختام قبل اعتزال الفنان "لطفي لبيب" الذي تحول منذ 20 عاما إلى أداء الأدوار الكوميدية التي برع فيها بحسه التمثيلي الاجتماعي، ويكاد لبيب ينفرد في رأيي بمقوّمات الفنان الشامل الذي يبرع حتى في أداء صور الشر بلمحة كوميدية خاصة جدا، لكن في هذا العمل كان والدا للفنان "نضال الشافعي" بطل الفيلم ذلك الموظف الفقير الغارق بين مآسي الحارة الشعبية وميزاتها الاجتماعية الشرقية التي تتطلب عونا للجار مثلما ساعد جيرانه لإنارة بيوتهم، وبخاصّته الكوميدية تحولت تلك المساعدة لاستغلال مادي استغلالي لإنارة الحي بأكمله.

ويعد لبيب وزوجته "هالة فاخر" محور تلك الطبيعة الكوميدية ، وحضرت هالة بتلقائيتها وبساطتها وروحها المرحة في ديالوج ثنائي مع ابنها البطل في تكوين لغوي مُركّب بين المصرية والإنجليزية بطريقة مضحكة، أما عن بقية عناصر تلك الطبيعة الكوميدية فلا يغيب الفنان "أحمد راتب" رغم دوره المحدود بتمثيله والدا للبطلة "آيتن عامر" وكذلك إيمان السيد وأحمد فتحي ورامي غيط والصيدلي وعبدالله مشرف وحماده بركات وعمرو رمزي الباسم الشهير ببرامجه الاستفزازية، ومن عناصر تلك الطبيعة الكوميدية يظهر لنا أن المخرج أوجد وصلا بين روح الكوميديا القديمة والحديثة معا ليُخاطب الشباب والكبار.

مع العلم أن السينما المصرية عموما لا تبرع في أداء الكوميديا سوى من هذا الجانب، بطل فقير..حي شعبي...تحديات، يبرع أحيانا المخرج في دمج مشاهد الصدفة المضحكة كما برع المخرج "عبدالعزيز حشاد" في مشهد الخليجي عمرو عبدالعزيز المُستغل لطاقة البطل الكهربائية وإفيهات الشافعي ورامي غيط التي نزعت ضحكنا وسعادتنا من الأعماق، ولعلمي بذكاء المخرج لسبق إخراجه عملين هادفين – رأيتهما - مزيج من الفلسفة والإصلاح الفكري وهما "ألوان الطيف وهي ودافنشي" يبقى إتاحة الفرصة لهذا العبقري الذي لم يسعفه الحظ في فيلم دعدوش – الهادف أيضا – لكن عندما حذفت الرقابة كل مشاهد العمل التنويرية أخرجت لنا العمل عن سياقه الإصلاحي إلى مجرد فيلم كوميدي.

يبدو أن المخرج على دراية بالحس الشعبي حيث يُلاحَظ من تاريخه أنه مهتم بتقديم وجبة فكرية في سياق شعبي مقبول شبابيا خصوصا في الفترة الأخيرة، ولست بوارد تقييمه لكن تاريخه يشهد بإخراج مسلسلات هوانم جاردن سيتي-حديث الصباح والمساء – الطارق - أوبرا عايدة ومحمود المصري كمخرج مساعد، وهي من ذاكرة الدراما المصرية الخالدة، وبإمكانياته العقلية تلك ربما نرى له عملا كوميديا هادفا من الطبقة الأرستقراطية لأول مرة في تاريخ السينما..فلربما غاب عن حِسّ فنانين مصر العِظام أن الأغنياء وذوي الطبقة المتوسطة لا يقلون مَرَحا ونكتة وحضورا عن الفقراء..فمشاهد الثراء دائما يجري تصويرها بالبذخ والوجوه الصلبة الجادة كميراث طبيعي للثورة على الإقطاع في الخمسينات، بيد أن في حقبتي الثلاثينات والأربعينات رأينا أعمالا كوميدية من الطبقة العليا والمتوسطة كمعظم أعمال سليمان نجيب وحسن فايق.

ثانيا: الطبيعة السياسية..وهي الوجه الهادف والفلسفي في الفيلم، ومحور مادته الفنية حيث تؤدي معاناة وفقر البطل لقبوله عمودا لتقوية شبكات إحدى شركات المحمول بجانب منزله فوق السطوح..وتحت ضغط الحاجة واستغلال صاحب العقار يقبل مُرغما، ثم تتطور الأحداث ليُصعق كهربائيا من العمود ليحمل نفس الطاقة الكهربائية في جسده وتخرج على شكل صعقات لكل مصافحيه..ولم ينس المؤلف والمخرج وضع مشاهد الصعقة ضمن تأثيرات سينمائية حقيقية..فخرجت مشاهد الصعق غاية في الإتقان والواقعية..وبرأيي أنه ومن شدة واقعية مشاهد الصعق تنعكس سلبا على المُشاهد بتعاطفه مع الضحية.

تقع حكومة بلده في أزمة ناتجة عن فقر الإدارة..وبالعودة لتاريخ العمل سنة 2012 فهي تحكي واقعة أزمة الكهرباء الشهيرة في مصر وحلول حكومة قنديل الفاشلة لعلاجها، وبإسقاط سياسي على فضيحة مؤتمر سد النهضة المذاع دون علم الرئيس مرسي تُركّب مشاهد الوزراء – الذي تعمد المخرج أن يختارهم كوميديانات بلا استثناء- وحلولهم المضحكة للأزمة..مصحوبا بتطور حالة البطل من تشغيل منزله كهربائيا ثم الحارة ثم الحي بأكمله، ليأتي مشهد مصافحة البطل للبطلة "آيتن عامر" فتقع مغشيا عليها ويُحال الشافعي للمحاسبة وبعد فاصل من كوميديا الضابط "أحمد فتحي" يأتي الإفراج عنه بعد شهادة آيتن لصالحه.

هنا يدخل الفيلم مرحلة جديدة وهي علم الحكومة بحالة كهرباء البطل وضغطه العالي ليجدوا لديه حلا ينقذهم من سؤال الناس وفشل الإدارة، فيتولى الفنان القدير"صبري عبدالمنعم" مهمة تفاوض البطل ليمنحه حياة جديدة تنشله من الفقر لمساكن الأغنياء من فيلا وحمام سباحة وسيارة..إلخ مقابل أن يُنير الشافعي مصر بمحطة كهربائية خاصة صممت لحالته، لكن يتبين بعد ذلك أن هذه الهدايا كانت مرهونة بقبوله المهمة دائما لتعويض عجز الحكومة عن الوفاء للمواطنين، بيد أنه وفور علم الشافعي بأهميته بالغ في طلباته ليظهر الجانب السلطوي الحاد بتهديده وسحب كل مقومات العيش الكريم له فيضطر لقبول المهمة دون مقابل آخر ولكن بعد انكسار نفسي أثر على حالته الصحية لاستنزاف الكهرباء من جسده فيقترب من الموت.

إن استغلال الحكومة للمواطن لا يحدث سوى بعد الفشل في خلق الحلول، فتستخدم أدواتها السلطوية لإرغام المواطن على القبول بما يرفضه أو حتى يؤذيه، فمبلغ علم الحكومة هو بقائها ولو على حساب أرواح وممتلكات الناس، ودائما هذا الجانب السلطوي هو ما يشعر المواطنين بالإحباط ثم يُحفز المثقفين على النقد..ومن هذا المدخل دائما تُشرع الدساتير لضمان حقوق الشعب والقوانين لتنظيم الحياه..

إن الطاقة الكهربائية في جسد البطل هي الإرادة والإخلاص والضمير والصدق في نفوس البسطاء تجاه دولتهم، بينما لا يجدوا التقدير الكافي من الحكومة، ومشهد مساومة الحاكم للبطل على حياته وأسرته يكشف لي الفكرة التي أرادها المؤلف والمنتج هو محمود صابر وهو من قام بدور العسكري صاحب الدم الخفيف ، فالدراما السياسية والكوميدية لم تكن سوى مدخلا لإقناع الناس بجودة المحتوى الهادف..ولو لم أر العمل هادفا ما كتبت فيه، وقد تعمدت أن أبدأ بصياغة للعنصر التمثيلي قبل الدخول في محتوى العمل الذي يعد في رأيي سابقة تاريخية في السينما تعيد أجواء "النقد الرمزي" في أفلام الستينات، ولأن السينما الناجحة هي ما تواكب عصرها فقد نجح المخرج في صياغة قالب عصري مميز في الألفاظ والمصطلحات الشعبية كمثال كلمة "زخروف" على العملة المصرية، إضافة للأغنية الشعبية المجمعة التي قدمها عمرو الجزار وهدى وحجازي متقال خرج العمل مؤرخا لحقبة فنية تتسم بالبساطة وروح الشارع.

أما النهاية فهي كسائر أعمال السينما يتحول العمل فيها من الكوميدي إلى التراجيدي كمتلازمة سينمائية لا أعلم مصدرها..لكن يبدو أن لديها تأصيلا تاريخيا وفلسفيا ودينيا يحكي أحداث النهاية في الأديان الإبراهيمية والشرقية، فحتى الهندوس لديهم نفس النهايات، هنا يتحول البطل من كوميدي لتراجيدي حيث يسابق الزمن لإنقاذ حبيبته بعد تعرضها لحادث سيارة، فقد أبلغه الأطباء بأن عمله بالمحطة يقربه من الهلاك..وكعادة الحكومات لا تسمع لمطالب الشعب بعقل جاد وضمير صادق، فتنقطع الكهرباء عن غرفة عمليات حبيبته فيتحامل في مشهد باكي مأساوي ليُنير المستشفى من طاقته حتى لو أدى ذلك به إلى الموت، ممزوجا بأغنية رائعة مليئه بالشجن أظنها ترمي إلى فلسفة أكبر من كونها أغنيه رومانسيه فكلماتها كانهأ موجهه للوطن وليست لحبيبه،، وبعد إنقاذ حبيبته يُغشى عليه ليدخل مرحلة حرجة..

لنرى المواطن الصادق يموت، إن طاقته من الإرادة والصبر التي أفناها لخدمة وطنه على وشك الفناء، لكن يأتي الطبيب مبشرا بشفاء الحالة ونهاية عصرها الكهربائي لتسحب منه الحكومة كافة الامتيازات ويعود فقيرا مُعدما من جديد، إنه المواطن المجني عليه دائما، فلا ينضم لجماعات ولا ينافس سياسيا ولا يهتم بالأحزاب ومع ذلك تراه الحكومة مجرد وسيلة لبقائها لا أن تصبح هي الوسيلة لبقائه عزيزا مُكرّما، فلا الحب الصادق أصبح شفيعا كما قال "محمد منير" ومع التفاني والإخلاص لا ينظر المواطن لبلده بالازدراء كما يُخيّل إنما يصبر حتى لو طأطأ رأسه وأحناها للزمن.

وكعادة أي عمل فني لا يخلو من العيوب، وبرغم أنني أرى العمل هادفا مميزا إلا أن غياب الدراما الرومانسية كان ملحوظا، فحسين الشافعي ربما قدراته كممثل رومانسي أكبر من ذلك..كذلك آيتن، إنما غلب عليهم الطابع الكوميدي بما يتناسب مع فكرة العمل، كذلك دور الصحفية المجتهدة "صوفية عبدالعزيز" وحرصها على كشف الحقيقة والخطر على حياة البطل من استنزاف طاقته الكهربائية ..هذا دور محوري كان يجب أن تُفرَد له المساحة أكبر من ذلك، فالمعروض من حضور الصحافة قليل في قضية سياسية مهمة ، برغم أن الصحافة الاستقصائية هي عُمدة أي علاج ومن رحمها تخرج الحلول..لكن ألتمس العذر في هذا الجانب فلربما غَلَب على صنّاع الفيلم التقيد بمبدأ العرض الرمزي الهادف دون العُمق الكاشف لأسباب خاصة.

أيضا أرى صغر مساحة دور الضابط أحمد فتحي الذي أراه دورا محوريا في أحداث فيلم كهذا.

أما عن أجمل مشاهد الفيلم برأيي فهو مشهد النهاية حيث يعبر عن المضمون في دقيقة واحدة، فبعد شفاء البطل من شحنته الكهربائية وتجريده من كل امتيازاته وعودته فقيرا على شاكلة فيلم الرائع بشارة واكيم "لو كنت غني" يدخل البطل ووالده حماما للتبول..وفي هذه الأثناء تنتشر أخبار عن أزمة بنزين حادة ونفاذ محطات الطاقة، وبسلوك غاضب ومتشائم مما حدث يقذف البطل سيجارته في "المبولة" لتشتعل فورا بنار حمراء عظيمة..لقد أصبح بول البطل وقودا في ظل أزمة بنزين..هنا يُدرك الشافعي مستقبله المظلم لو صرح بذلك..وبمشاعر مركبة من الدهشة والسخرية تتعالى ضحكات الأب وولده لينصرفوا سعداء راضين بحياتهم المعدمة ألا يُصبحوا حقلا للتجارب ووسيلة ربح وغطاء للفشل مرة أخرى.

وربما يرى البعض مشهد النهاية وعلو ضحكات الأبطال بوجهة نظر أخرى ، أنه لا مفر من احتياج الحكومة للمواطن فلا داعي للاستنزاف.

إن الدرس المستفاد من مشهد الختام أن المواطن ليس غبيا ولا يرضى باستغلاله، وأنه لن يُضحي من أجل وطنه ما دامت حكومته لا توفيه حقه الدستوري، إنه صراع بين القانون والأخلاق..فالقانون لا يُلزم البطل بالتضحية مرة أخرى ما دام لا يرضى بذلك، فالتضحية خيار لا إجبار، أما الأخلاق فتُلزمه بالتضحية من أجل ملايين المواطنين الذين سيفقدون عملهم ويتشردون لقاء أزمة البنزين، ويبدو أن مشهد الانصراف رغم أنه ظهر في قالب اجتماعي كوميدي إلا أن رسالته الفلسفية معقدة، الإنسان قد يتجرد من أخلاقه في لحظة قوة..وها هم أصبحوا أقوياء وسيعودون لخدمة أنفسهم بالوقود المشتعل في المبولة دون علم الحكومة..ولا يُلدغ المؤمن من جُحر مرتين.

أخيرا أبدي إعجابي بالمخرج وكادراته المميزة، كانت نقطة مضيئة في الفيلم سواء في الانتقال بين المشاهد أو بنقل تعابير الوجه لبعض الممثلين البارعين في هذه الخاصية كالبطل ووالده وبعض سكان الحارة – صاحب القهوة تحديدا – وفي المشهد الساخر عن حلول الوزراء لمشكلة الكهرباء، فبرغم هزلية الحلول لكن وجوههم الصارمة كشفت إيمان المخرج بجهل حكومة قنديل المُركّب ويقينهم الزائف ثم تكلفهم الخارج ، وبرأيي هذا المشهد بالذات ربما لن يلفت النقاد لهزليته في الظاهر، فمعظم نقادنا السينمائيين ليسوا فلاسفة في الحقيقة يستنبطون تلك الأشياء من عقل المُبدع.

ونهاية شاهدت فيلما مميزا أرجو تكراره على أيدي كبار المنتجين الذين لايلتفتوا لعمق السيناريو وعمق الرسالة بقدر ماتُلفتهم البروباجاندا والشكليات التي نندم بعدها على عدم حضور وتخليد أعمالهم، فالسينما المصرية بحاجة إلى دعم هذه الأعمال الجادة والتفاف كبار المنتجين نحو المبدعين الحقيقيين ، ولعودة السينما المصرية إلى مقامها الذي اعتدناه في السابق قبل أن تدخل مافيا احتكارات النجوم لشركات بعينها لا تهتم بالقشور في ظل هلهلة وسطحية المستوى، ورجائي أن نرى تجربة أخرى مماثلة بجرأة ضغط عالي.

اجمالي القراءات 3435