المتحولون عن التنوير (2)

سامح عسكر في الخميس ٠٧ - مارس - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

أفهم أن أي تحول فكري يرفقه دوافع للمشاركة والتغيير بنوايا إما حسنة أو سيئة، أحسب أن أغلب من أقصدهم من المتحولين ليست نواياهم سيئة..فلديهم من العمق ما يكفي لتبرير أفعالهم، ولكني مؤمنا بأن أحد وسائل الاختبار لتلك النوايا هو "قول الحقيقة" أو النقد..فإذا اختفى العُمق وتشابهت ردود أفعالهم مع سلوكيات المتعصبين فاللمسألة أبعادا شخصية لا علاقة بها بقضية مقدسة كالتنوير، هنا يصبح النقد واجبا بصراحة ووضوح قدر الوضوح الملازم للأزمة، ولا يختلف أكثر المتابعين للكتاب والمفكرين والناقدين الآن على السوشال ميديا أن هناك أزمة بالفعل.

رأيي أن هذه الأزمة تخدم التيار المحافظ الذي يرى ردود أفعال من أصفهم بالعلمانيين المحافظين حقيقة مطلقة جمعت بين الدين والمجتمع من ناحية..وقوة تيار التنوير من ناحية أخرى، هنا يستفيد المتشددون من تيار الاستنارة بطريقة مباشرة على طريقة توبة أحد الشيوخ عن مذهب ما ودخوله مذهب آخر، فلنتصور كمّ السعادة والفرح الذي ينتاب هؤلاء..إنهم فقط لا يصلون لنشوة الانتصار..بل إلى قناعة راسخة بصوابية تشددهم في ظل الحملة النقدية على الإخوان والفكر المحافظ المرافق لهم بعد يونيو 2013.

وأكرر أن هذا ليس نقدا شخصيا لأحد..بل لأفكار وطُرق منتشرة تعتقد أنها حازت على القبول وهي في ذاتها أفكار خطيرة تعيد المجتمع للوراء وتدمر منجزات شعب ودولة ونخبة على مدار عشرات السنين ، وتضميني لها في سياق نقدي من قبيل "نقد الذات" الواجب عند ظهور الخلل، وقد سلكت الفعل نفسه مع الإخوان فور ظهور بعض تلك الأمراض التي تصادم قيم الإنسان وحقوقه وتسامحه الواجب.

عندما كنت إخوانيا تصديت لفقهاء الإرهاب فيهم وانتقدت على مدار سنوات دعوات القرضاوي لتكفير الشيعة والعلويين والتحريض على قتل الرؤساء والشيوخ المخالفين..حتى راح ضحية ذلك الشهيد الشيخ "رمضان البوطي" يتكرر الأمر نفسه الآن بدعوات بعض العلمانيين ليست للتكفير..فهذه مفردة دينية لا يستعملوها، إنما يؤمنون بفحواها الخطير المنتج للكراهية، فيدعون لكراهية واستعداء المخالفين بنفس منطق وحماقة القرضاوي، أذكر جيدا أن دعوات تلك الحماقة أنتجت فورا تيارا ليبراليا يدعو لمحاكمة هؤلاء المحرضين مما أدى لحصار الآفة وخوف الأغلبية من الفقهاء من التورط فيها، ولم يتورط سوى أكثر شيوخ السلفية والإخوان الذين سقطوا شعبيا ونخبويا بطريقة سريعة..وهذا يدل على نجاح الحملة الليبرالية التي ساهمت فيها داعش بجرائمها مؤخرا..

نحن لسنا في انتظار داعش أخرى بلباس علماني، أدعو وبكل قوة إلى تشكيل جبهة ليبرالية لمقاومة دعوات الكراهية والإقصاء التي تفشت في الوسط التنويري بمصر..الذي لم يعد يليق به مقام التنوير المقدس بتهذيب العقول والأرواح إلى مقامٍ سامي يعيد للإنسان كيانه ووظيفته العليا المتمثلة ببناء الأرض وتعميرها والانطلاق الطموح إلى ما فوق ذلك.

كذلك من الخطأ الاعتقاد بحصر التنوير في النطاق العلماني، فالاستنارة حالة عقلية شكّية في الأخير وإن ظهرت بلباس كهنوتي، وهذا يدعوني للاستجابة مع دعوات أي شيخ أو قس يدعو للتسامح والمعاصرة والنظر في التراث، ونماذج هؤلاء كثيرة في المجتمع المصري لكنها مظلومة إما من العامة الذين بطبيعتهم لا يميلون للنقد أو من العلمانيين الرافضين لأي شكل من أشكال التدين حتى لو كان عقليا، وهذا من أحد استدراكاتي التي انتقدتها في ملحدي الشرق الأوسط من العرب، فتكلفهم الفكري أدى لبخس حقوق أي مفكر يدعو للتنوير من مقام ديني، ذلك لأن كراهية الأديان لديه لم تقف عند رفض الظاهرة الدينية ..بل كل ما يمثلها من أشخاص وعناصر وطرق هو نفسه لا يفهمها..

حقيقة عندي مشاعر مختلطة من تيار الملحدين الذين أؤيد حقهم في الوجود والتعبير، تلك المشاعر ما بين ربطهم بمفكرين كبار فإذا سقط المفكر سقطوا أو ما بين رفضهم المسبق لأي رأي ولو كان عليما دقيقا، فهناك فارق بين الرفض والشك، الأولى حالة نفسية غالبا بينما الشك حالة عقلية..وعدم التفريق بينهما يؤدي للبعض أن يظن بنفسه مفكرا شكاكا وهو في الحقيقة رافضا متمردا ليس إلا، وهذا يصاحبه في العادة غياب المنهج العلمي وحصر تيار الملحدين كرد فعل على وجود إسلامي وجهادي ليس إلا..بمعنى أن عدم وجود الجهاديين والكهنوت سيختفي هؤلاء لغياب المنهج، وحين يتعرض للاختبار يسقط بسرعة.

لكن ما يجعلني أتفهم قوة الملحدين الآن أن العالم بات يدرك خطر تنامي الجماعات الأصولية الدينية عموما والمسلمة بالخصوص، وأنهم يهددون الحضارة الإنسانية بالفناء إذا لم يتحدوا ضد هذا الخطر التاريخي، وهذا يعطي الفرصة للتيار الإلحادي بغزو العالم مدعما بطفرة معلومات وتطور تكنولوجي يساعد على المعرفة التي تشكل في مضمونها دحض لكل أنواع وأشكال الخرافة، ولن أبحث في تاريخ نشوء هذا التيار كرد فعل على صعود الأصوليين مطلع القرن العشرين الذي أعقبه قيام دولة إسرائيل بعدها على أساس ديني مما ساهم في نشر الأصولية أكثر بتنوع..فليس هذا مقام البحث لكن عرضه الآن في سياق التحول عن التنوير لإلقاء الضوء على أن بعض أشكال الاستنارة التي تحدث ليست حقيقية..بل مجرد رد فعل على أحداث عالمية وتوافق دولي وشعبي هذه المرحلة.

ولست بوارد الانتقاص من علم ورغبة الملحدين عامة فمنهم العارفون المدققون..ولكن نقدي للخاصة منهم الذين لا يكلفون أنفسهم بالاطلاع والاجتهاد ، وقد سبق التعليق على مناظرات الصديق "أحمد سامي" ضد تيار المؤمنين على أن حالته قد تمثل تطورا جيدا للفكر اللاديني من الناحية المنطقية والنفسية، أما النواحي العلمية والنصية أحسب أنها المسيطرة على غالب تيارات الإلحاد الآن برغم أن الدين ليست حالة علمية والاستغراق في إثباته أو نفيه علميا هو خطأ استراتيجي يرتكبه التيار الآن.

مناظرات أحمد سامي قد ترفع المستوى العقلي والعلمي للادينيين أو بالأخص متابعيه منهم، لذا رأيت مناظراته – كمؤمن – ليست هدما للدين بل تشجيعا على البحث والنظر بطريقة سليمة، في حين ينتهج بعض اللادينيين الآخرين طرقا شائكة لإثبات أنفسهم منها الرفض التام لكل شكل من أشكال التدين واعتباره بذرة داعشية حسب وصفهم..وهذا خطير وتحوّل عن الاستنارة قد تؤدي بصاحبها إلى تكوين فرق وجماعات انتقامية من المؤمنين، فيُفترض أن صاحب الفكري التنويري مُسالم ومُتسامح لا عدواني مقاتل، التنوير يعني سلام وعدل لا حرب وظلم..وهذا ما أكسبه قيمته التاريخية التي أظن أن أمثال هؤلاء وجدوا سابقا كتوجه فاشي يهيمن على الشخصية الإنسانية المستبدة عموما..

أذكر من المرات التي تعرضت فيها لاختبار من هؤلاء صديقة لادينية من السودان كانت تتبعني دائما في كل مقال تدعوني فيه لترك الإسلام..هكذا دون نقاش، لها رأي تريد نشره كشيوخ الدعوة السلفية..بل تعتقد أن رسالتها في دعوة الناس لترك الإيمان أولى من البحث في تبرير عقائدها واكتساب المعارف بالأساس، فكنت أرد عليها ردا طيبا إلى أن جاءت مظاهرات السودان وبطريقة مجازية مدحت الشعب السوداني وصموده ضد آلة القتل البشيرية..فورا تحوّلت لشخص آخر ولم تفهم هذا (المجاز) الأدبي واعتقدت أنني أبرر للبشير قتل المتظاهرين، لم تكتفي بذلك بل سلطت عليّ إبنتها لتشتمني على العام والخاص، وأرسلت إليّ قطعانها للقيام بمهمة مقدسة وهي إثبات تهمة أنا برئ منها..وبرغم أن صداقتنا ظلت على مدار 5 سنوات نموذج في التفاهم والرقي ، لكن منذ أن بدأت تدعوني لترك الإيمان وقد تحولت عن خطها المستنير الذي قبلتها عليه كإنسانة لها حقوق قبل كل شئ.

عدم قدرة هذه الصديقة على فهم المجاز يشبه طريقة السلفيين أيضا على عدم فهم المجاز، واعتبار طرق الكناية والاستعارة حقائق لغوية لا وسائل للتقريب والشرح الأدبي، هذه مفكرة لا تفهم المجاز واختارت اللادينية مثلها كالسلفي الذي لا يفهم المجاز واختار التشبيه والتجسيم السلفي أو اعتبار أي كناية ظاهرة هي حقيقة ظاهرة، فأقدمت على الربط بين دعوتها (السلفية) لنشر اللادينية وبين هذا القصور العقلي وتمنيت أن لا ينخدع به الكثير من المؤمنين واللادينيين معا، فوسط هذه الحالة التي نعيشها في ظل الفوضى والإرهاب والاستبداد يصبح أي خطاب مضاد للشيوخ والكهنوت خطابا صحيحا يكتسب كل مزايا العاطفة والمنطق دون تفصيل.

تمنيت أن لا ينشغل كل إنسان بنشر عقائده والاكتفاء فقط بالدعوة للتعايش والحوار، فليس من المنطق أن تدعو لشئ تجهله، هذا كان اعتقادي الأولي عن الصديقة السودانية ، فقد دار الحوار بيننا كثيرا عن نقد الموروث الإسلامي..في وقت كانت لا تتفاعل فيه مع مقالاتي الفلسفية والتأملّية والعلمية التي تثبت ولو جزء بسيط من الإيمان، ثم فجأة يتحول هذا التوافق حول الموروث إلى دعوة لترك الدين دون مناقشة حرف واحد مما كتبته، ورحم الله تشارلز داروين صاحب كتاب "أصل الأنواع" الذي اختصر كتابه الحمقى من المؤمنين في أن "الإنسان أصله قرد" ولم يناقشوا حرفا واحدا مما كتبه أو التطور الذي شاب نظريته على مدار 140 عام، أو حتى الردود ونتائج المؤتمرات والبحوث العلمية في فهم التطور..!

هكذا عقل الإنسان الاختزالي يوصله لمرحلة يظن فيها أنه مسئول ومكلف لمهمة مقدسة هي أنه رسول لنشر عقائده ولو بالجبر أو التحايل أو التتبع، في حين لا ينقد نفسه ذاتيا ويقرأ في كتب ومقالات الأغبياء فيصبح أكثر غباء، ثم حتى لو فرضنا أن إنسانا ما مخطئا في أفكاره إذن فالواجب أن يتعامل معه المفكر كما يتعامل الطبيب مع المريض، وأولى أخلاقيات مهنة الطب هي إقناع المريض على أنه متضرر إذا لم يلزم دواءه المطلوب، وأنا أتساءل..ما هو المرض؟..إنسان متسامح مُسالم يكتب في تنوير العقول والشك وتنمية الإدراك...هل هذا إنسان ضار؟..كيف تقنعه أن سلامه وتسامحه شئ ضار إلا إذا كنت تنوي تحويله لتيار آخر داعشي لم نعهده ولم نصفه بالإيمان بعد..

لنا عودة

اجمالي القراءات 3779