المتحولون عن التنوير (1)

سامح عسكر في الأربعاء ٠٦ - مارس - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

من أحد الكوارث التي أنتجها الربيع العربي ليس فقط داعش والنصرة وتوحّش الإخوان، إنما في بروز تيار تنويري قاصر عن الإلمام بمتطلبات وطُرق الاستنارة، ويتم اختزال هذه المطالب في ادعاء رفض الإسلاميين والكهنة فحسب، على أن يظل في هذا المنوال دون تطوير..فإذا فكّر في التطوير نظر أولا لمن هم في نفس مهمته التنويرية، أي يحدث صراع واستعداء تام لكل مقومات وعناصر الاستنارة كُفراً بالتعددية..وإيمانا بالصراع الأزلي بين الإنسان حتى لو في ظل ارتدائهم ثيابا نظيفة..

كنت ولا زلت أؤمن بأن التنوير يلزمه تعددية وطُرق للوصول إلى العامة ومؤسسات الدولة، فالمستنير المؤيد للحكومة ليس شرا بالنسبة لي كمعارض..إنما هو حالة عقلية تغزو مؤسسات الدولة أو تنتشر بين رواد ومتابعي إعلامها، فالرئيس ليس مجرد شخص يحكم..هذا عندي ممثلا لتيار وطريقة تفكير راسخة في المجتمع شئنا أم أبينا، لذا فعندما أعارض الرئيس فليس لشخصه ولكن لطريقة تفكيره التي تمثل صُلب ومحتوى أنصاره الذهني.

كتبت قبل ذلك عن ما أسميه بالعلمانية الإصلاحية والعلمانية المحافظة، في إشارة مني إلى وجود تيار علماني لا يؤمن بقيم الدولة الحديثة..ويرى الحريات الليبرالية والشخصية كُفرا بالمجتمع الشرقي وعاداته، وانقسم هؤلاء المحافظين إلى فريقين: الأول: يرى أن الحريات الشخصية تساهم في بروز نماذج وعناصر قبيحة منحلة مما يسبب أكبر الضرر على مسيرة التنوير، فالمستنير برأيهم هو على طريقة تشبه طريقتهم وعلى المخالف أن يفصل بينه وبين هذه الادعاء العقلي الذي غزا مجتمع السوشال ميديا بعد ثورة يونيو، بينما يرى الفريق الثاني: أن الرفض لهذا النوع من الحريات ليس موائمة أو انشغالاً بالخصوم الذين نعرف قوتهم جيدا ونعمل على محاصرتهم فيها..إنما نرفضهم لمساسهم بقيمهم الخاصة، أي يعيشون مع العامة والمجتمع المتشدد في نفس الرؤية..!

والفريقان في نظري ليسوا انعكاسا لقيم تنويرية بالأساس، بل رد فعل على حالات خاصة جدا بنوا عليها موقفهم الحديث..أحد تلك الحالات في صعود كاتبة صحفية تعمل في نشاط التنوير بعد يناير 2011 كما أسلفنا، وصديقة معي أسسنا مع آخرين "الجمعية الشعبية للتنوير" الذي كان مؤتمرها التأسيسي في سنة 2014 تقريبا، لكنها تتميز بالجرأة والمبادرة معززين بوضع اجتماعي متمرد على السيطرة الذكورية، فمن عشقها لأبيها إلى كراهيتها لطليقها إلى خوفها على أبنائها..كلها عناصر سيكولوجية شكلت وعيا ومقاومة في ذات الوقت، كأنها انتفاضة أنثوية متأخرة لها أسبابها الاجتماعية المتفاعلة مع طلبات التنوير بعد يونيو..فخاضت غمار المعركة بطريقتها الخاصة التي أجملها في ضرورة عودة الإناث لطبيعتهم الأنثوية ورفض أي شكل من أشكال السيطرة الذكورية.

نوع من الفكر سواء اتفقنا أو اختلفنا معه لكنه ممثلا ليس في هذه الكاتبة التي أكن لها ولخصومها كل الاحترام، وقد تعمدت بألا أذكر أسماء لعدم شخصنة المقال، فهذا التمرد الأنثوي ليس وليد اللحظة بالمناسبة..ويحدث مع كل حركة انفتاح كما حدث في الخمسينات نهاية بالسبعينات، مثلا بغزو السينما أفكارا تحررية أنثوية ساوت بين المرأة والرجل في الحقوق، أذكر من ضمن هذه الأعمال السينمائية أفلام فاتن حمامة "الأستاذة فاطمة ودعاء الكروان وأريد حلا" كذلك في فيلم "مراتي مدير عام" الذي كان يمثل نقلة نوعية أنثوية في إدارة مجتمع ذكوري ، وهو إحياء لفيلم "الأفوكاتو مديحة" الذي كان فلتة زمانه أيضا باقتحام الإناث مجالا قضائيا يعد حكرا على الذكور في المجتمع الشرقي.

كذلك مثّلت الكاتبة تحررا في الزي لمعايشة واقعها الأنثوي كما حصل في أفلام الستينات مع بدء ظهور نجمات الإغراء الجدد كسهير رمزي وشمس البارودي ونجلاء فتحي وميرفت أمين..فما صنعته أولئك النجمات أكبر بكثير مما تدعو إليه هذه الكاتبة، لذا عندما انتفض ضدها المحافظون – بأنواعهم كما ذكرنا – لم يجدوا تبريرا لدعوتهم بالانتفاضة على التشدد والفكر الوهابي الذي رافق هذا الانفتاح، فكل دعاويهم ثورة على السلفية والإخوان الذين نشطوا في حقبة السادات..لكن لم يعالجوا واقع الانفتاح وقتها الذي رافق تحولا ليس فقط مصريا بل عالميا وصل لعواصم إسلامية ككابول والرياض يُضرب بهم المثل الآن على التحضر في هذا الزمن..ثم تخلفهم السلفي الآني.

وقد توقعت في حواري مع أحد الكتاب إلى جنوح الكاتبة إلى الغرق في ردود الأفعال وانتهاجها سلوكا شخصيا مستفزا لخصومها ، وهو ما قد يمثل تحولا عن مقصدها التي جهرت به صراحة في حزب التجمع إبان تأسيسنا للحملة الشعبية للتنوير برفقة أسماء متنوعة في مجال الفكر والمجتمع...وللأسف أرى أن هذا حصل بالفعل..فاستفزت خصومها بألفاظ استعلائية وخطاب كراهية مضاد أخطأ الهدف أخيرا بازدراء الفقراء والتباهي بالثراء..وهي رؤية طبقية ثار عليها المجتمع المصري بعد يوليو 52، وطبيعي أن تحدث ضدها ردود أفعال بحجم إيمان المصريين بهذه الثورة على الأغنياء ورفض استعباد الفقراء بعودة إلى خطابات عبدالناصر في هذا الشأن.

وصلت كراهيتها لشن الإعلام المصري حملة ممنهجة ضدها شارك فيها سلفيون وأزهريون، لكن ظل أساس الحملة علماني يُعجب مؤسسيها الذين يظنون أن نجاحهم في تلك الحملة لاغتيال الكاتبة - ومن يفكر مثلها – إلى إثبات أن العلمانية والتنوير ليس مصادما لقيم المجتمع، وهي رؤية سياسية بالأصل تظن أن التنوير حزبا عليه الدخول في معترك السلطة..بينما التنوير كان ويظل حالة مرافقة لتغير فكري متنوع ..بل شديد التنوع لدرجة التناقض، وهذا ما قلته لأحد قرائي في محاضرة لي منذ أعوام في دار ابن رشد، أن إجبار الناس على طريقة واحدة للتنوير سيمثل ردة عن الاستنارة بالأساس ينشق بسببها رواد هذا المجال..وهو ما يحدث الآن في مارس 2019 بتصرفات جاوزت أزمة الكاتبة مع خصومها..بل وصل الأمر لعراك وكراهية متبادلة بين التنويريين على مواقع التواصل يرفقه اتهاما بالنصب والاحتيال تارة..وبالمؤامرة وتشكيل عصابات ألكترونية وذباب لإغلاق الصفحات تارة أخرى..

كذلك وصل الأمر بدعوات قتل صريحة على الفيس بوك ودعوات حِسبة لنزع حضانة أطفالها، والمؤسف أن أصحاب هذه الدعوات علمانيون..وهذا غريب..!..لكن ليس غريبا بالنسبة لي، فالانسياق منذ البداية في وحل ردود الأفعال والتركيز على إقصاء الآخرين واغتيالهم معنويا هو حالة فوضوية ستنتج فوضى أكثر، وما هذه الدعوات العلمانية إلا جنوحا نفسيا لميول جهادية وسلفية ترى أن الآخر منزوع الحقوق، وهذا كان أحد خواطري لتعريف العلمانية المعاصر بأنه (إيمان بحقوق الإنسان) فالعلماني بدون حقوق إنسان هو داعشي مستتر، ويفترض أن كل من يتبنى خطابا علمانيا أن يراجع "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" سنة 48 ففيه لخص البشر أزمتهم مع الحروب ..ووقفوا على أغلب أسباب الصراعات العبثية التي تحدث.

وما كان هذا التحول عن التنوير إلا رديفا للتحول الذي حدث للربيع العربي ، فمن بداية سلمية وقيمية ومنهجية إلى الغرق في وحل الأفعال وردودها..ثم التيه عن مقصد التنوير والعدل المصاحب لحركة التغيير المعاصرة، في حين كان يمكن تجنب ذلك في الإيمان بحق الكاتبة كإنسانة وفقا للقانون، فالقانون المصري لم يحظر تحررها الشكلي والسلوكي..فلما الغضب وهم ينادون بدولة قانون بالأساس..!..وهل على تلك الدولة المرجوّة أن تلزم خط هؤلاء؟..فماذا لو اتهمت بالاستبداد والقمع من الليبراليين ودعاة الحرية؟..وماذا لو أرضت المحافظين وقتيا لحين تمكن المحافظين وانقلابهم على هؤلاء العلمانيين الذين يشاركونهم وجهة النظر؟..فالثابت من التاريخ أن أي حلف بين طرفين ينقلب لعراك داخلي ينتصر فيه الأكثر تشددا ووضوحا في الرؤية واتساقا مع النفس، بينما أزعم أن هؤلاء العلمانيون المحافظون ليسوا متسقين في الحقيقة ورؤيتهم غامضة تشبه رؤى الإخوان في برنامجهم قبل يناير 2011.

وقد كانت من إحدى ملاحظاتي أن من بين خصوم تلك الكاتبة صحفية أخرى وإذاعية اشتهرت بحب الحيوانات والرفق بهم وإنقاذهم من الشوارع، مبدأ إنساني راقي كان سيكون أرقى لو آمنت هذه الإذاعية بالرحمة لخصومها كما آمنت بها للحيوان..فالمبادئ لا تتجزأ، وقد حاولت إيصال هذه الحقيقة لها باتصال تليفوني ومراسلات لم تؤدي إلى شئ، ولولا ثقتي بأنها ستسمع- كرائدة من رواد التنوير المعاصر - ما حدثتها عن هذه الأزمة، وسادت مواقفها بعض التناقضات التي أنتجت تحوّلا عن الاستنارة كغيرها..ويبقى أي كتابة لها في المستقبل عن التنوير ليست صادقة مع احترامي لها..وإن وصلها هذا النقد وعرفت أنها المقصودة فلتعذرني أن الحق أحق أن يتبع.

لم يقف الأمر عند هذه الإذاعية بل وصل التحول لكبير من كبراء العلمانية المصريين وهو د . سيد القمني الذي شارك في الحملة المتشددة ضد حرية الكاتبات وخالعات الحجاب بل وصل به الأمر لشنه هجوما خاصا على المسيحيين في منابره، وهو الإسم الوحيد الذي أذكره في هذا المقال ليس تشهيرا بالأستاذ..بل عتاب عن رفضه للحرية الذي ظل ينادي بها طوال سنوات عمره ال 72 وبوصفه أحد رموز التنوير في عصر مبارك وما بعد الثورة، إنما لغزارة إنتاج القمني ونشاطه ودقته ما زلت أعتبره أستاذا مع هذا الخلاف..شأنه كشأن "مراد وهبة " الذي نحى هو الآخر ناحية السلطة غير مبالي بمبدأ حياد الفيلسوف عن صراعات السياسة وعدم شخصنة برامج التنوير.

أؤمن أن للدكتور القمني الحق في تقييم الخطر الذي يتهدد العلمانية أو يتهدده هو شخصيا بصفته رائدا لها، لكن منذ ثورته على العبودية في الأديان وقلب صفحات التراث والتاريخ لم يكن يدعو فيهم إلى نوع من المحافظة الاجتماعية والتقيد بما أملاه العامة والدهماء، بل كان يثور دائما على هذه القيود الذي أنتج بعد ذلك تكفيره وتهديد حياته ثم شكواه بضرورة وجود حراس لحمايته من الخطر السلفي، هنا حنين بالعودة إلى الماضي بضرورة الاتساق مع النفس ليس إلا، فالمجرم الذي قتل فرج فودة وفرّق بين أبو زيد وزوجته وطعن نجيب محفوظ لم يكن متحررا في اللباس..ولم يكن مسيحيا محافظا أو عبداً لكنائس وقساوسة..بل كانوا من نفس خصوم المتحررين والمسيحيين.

هنا لا تستطيع أن تنكر الإرهاب ضد المفكرين ثم تؤيده ضد مفكر آخر يختلف في تحرره عن السابقين، وكانت إحدى دعواتي لضبط النفس والأقلام أن تعف أقلام التنويريين نفسها عن الاندفاع والتورط في حملات مقصودة – أو تلقائية – لصناعة فوضى مدمرة لتيار التنوير المصري حتى يتساوى مع تيار الكهنة على اختلافاتهم، فالكاهن الذي يُكفّر آخر بدعوى الدين والمذهب لا يختلف عن العلماني الذي يكره ويزدري علمانيا آخر بدعوى المجتمع والعادة، فما ذلك إلا تسويغا وتبريرا لجرائم قد تُرتكب ضد الخصوم المسالمين، وهنا أزمة أخرى في التحول التنويري..وهي عدم التفريق بين الرأي السلمي والرأي العنيف، فالرأي السلمي يظل كما هو سلمي مهما كان مخالفا في مقصده وغاياته، أما العنف فلم يجن ثماره التنويريون زهرا..بل عانوا منه أشد المعاناه..وفي غمار تلك المعاناه يعلنون التوبة (الضمنية) على أمل استرضاء المتطرفين عسى أن يغفروا لهم ما قد سلف..

لنا عودة

اجمالي القراءات 3308