النشر فى فى جريدة ( العالم اليوم ) من ف 1 من كتاب : (جهادنا ضد الوهابية )

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٢٨ - يناير - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

 

النشر فى فى جريدة ( العالم اليوم ) من ف 1 من كتاب : (جهادنا ضد الوهابية )

 مقدمة :

1 ـ ( العالم اليوم ) جريدة يومية إقتصادية أسسها الأستاذ / عماد الدين أديب فى عام 1991. ونجحت من بداية صدورها ، إذ إستقطبت الكفاءات الصحفية المصرية ، وكان لها خطُ ليبرالى بالاضافة الى أنها كانت تلبّى الحاجة الى جريدة تعبر عن التحول الاقتصادى فى مصر نحو الانفتاح وإقتصاد السوق ( الحُرّ ) وظهور قوى رأسمالية جديدة مصرية وعربية وأجنبية . على أنها لم تقتصر على المجال الاقتصادى وحده ، بل حرصت على التنويع فى الفن والرياضة والثقافة والتراث .

2 ـ  والتراث هو الجانب الذى أتخصص فيه . إذ كان لجريدة العالم اليوم رؤية سبّاقة هى تجسير الفجوة أو تقليل الفجوة بين الفقه التراثى فى ( المعاملات التجارية ) وعلوم الاقتصاد. وهى فجوة واسعة شاسعة ، إذ أنه برغم كل ما قيل عن ( الاقتصاد الاسلامى ) وتبريرات ( توظيف المال ) فإن الاقتصاديين ظلوا لا يفهمون الكتابات الفقهية ، بينما ظل الفقهاء فى كليات الشريعة عاكفين على تراث الفقه المكتوب فى العصور الوسطى ، والذى يعبر عنها ، ولا شأن له بظروف عصرنا ومستجداته . الشيخ صالح كامل البليونير السعودى كان من مؤسسى العالم اليوم ـ حسبما أعلم ـ وكان مهتما بتجسير الفجوة بين الفقهاء والاقتصاديين ، وأنشأ لذلك مركزا فى جامعة الأزهر . ويبدو أن هذا المركز لم يقدم شيئا سوى المزيد من المكافآت المالية للشيوخ المستفيدين منه . لذا كان الاقتراح أن تكون هناك صفحة فى العالم اليوم بعنوان ( معاملات إسلامية ) تعقد الصلح بين الفقه التراثى وعلم الاقتصاد المعاصر ، ويجتهد من يكتب فيها فى إنتاج رؤية فقهية معاصرة تعايش العصر .

3 ـ  إلتقيت بالاستاذ الكاتب الصحفى ( ماجد عطية ) فى مكتب الراحل فرج فودة . الاستاذ ماجد عطية من مواليد عام 1928 ، وهو واحد من أكبر الصحفيين المصريين المتخصصين فى الاقتصاد . بدأ حياته الصحفية فى السنة التى وُلدتُ فيها أى عام 1949 ، ورأس تحرير جريدة ( وطنى القبطية ) ، ووصل الى نائب رئيس تحرير مجلة المصور ، وأسهم فى تأسيس ( العالم اليوم ) ، ثم أسس جريدة ( الراية المصرية ) عام 1998 ، ورأس تحريرها عام 2001 .  كان ماركسيا فتعرض للسجن والتشريد فى عصر عبد الناصر ، وقال لى إنه بعد الإفراج عنه قابل عبد الناصر لعدة دقائق . مع إخلاصه للماركسية فقد كان مخلصا لعقيدته القبطية ، ومع إخلاصه لعقيدته القبطية فلم يكن على وفاق مع البابا شنودة. ماجد عطية ليس طائفيا متعصبا ، بل عهدته شهما يساعد الناس بغض النظر عن الدين ، هو من  نفس النوعية القبطية النبيلة الذين عرفتهم فى مصر : د يونان لبيب رزق ، ووجيه خير وكمال بولس والقس ابراهيم عبد السيد ود مارلين تادرس . بمثل هؤلاء تحلو الحياة .!

4 ـ كانت لماجد عطية حملات صحفية ضد شركات توظيف الأموال ، وكان هذا من عوامل تقاربه مع الراحل فرج فودة ، الذى قام بحملة موازية ، واصدر كتابه ( الملعوب ) فى الهجوم على قراصنة توظيف الأموال ، وقد شاركته فيها بمقالين فى الأخبار ، وتمت إحالتنا الى نيابة أمن الدولة العليا ببلاغ من شيخ الأزهر وقتها الشيخ جاد الحق .

5 ـ حاول ماجد عطية العثور علىّ إذ رشحنى للإشراف على صفحة ( معاملات إسلامية ) فى جريدة العالم اليوم . لم يكن لدىّ تليفون وقتها ، وكان الاتصال بى صعبا . وإتصل ماجد عطية بالراحل فرج فودة فلم يتمكن من العثور علىّ . كنت أذهب الى مكتب فرج فودة بلا موعد ، لأستريح نفسيا . وقد زرته مرة فأخبرنى بأن ماجد عطية تعب من محاولة العثور علىّ ، وأعطانى تليفونه . إتصلت بماجد عطية فقال لى حزينا إنه كانت هناك فرصة لأن أشرف على صفحة معاملات إسلامية فى جريدة اليوم ، ولكنها ضاعت ، إذ أسندوا المهمة لصحفى شاب تخرج فى الأزهر إسمه عبد الرسول الزرقانى . قلت له : لا بأس ، لا مانع عندى من الكتابة فى الصفحة وليس مهما أن أتولى الاشراف عليها . وبهذا اصبحت كاتبا فى ( العالم اليوم ).

6 ـ حضرت جلسة للتحرير ، وسمعت الاستاذ عماد الدين أديب ينبّه على عدم الخوض فى الاختلافات الدينية ، وكانت رسالة موجهة لى بالطبع . كان هناك تدقيق لما أكتبه قبل النشر ، يقوم به الاستاذ ( كمال ) ( نسيت مع الأسف بقية إسمه ) سكرتير التحرير ، والذى كان يراجع بكل دقة كتاباتى ، ويطلب من الكتابة فى موضوعات معينة تخدم رسالة الصفحة ( معاملات اسلامية ).

7 ــ وقد إتخذت منهجا لما أكتب لأتفادى النفوذ السعودى فى الجريدة ، هو أن أكتب فى الإقتصاد برؤية قرآنية فى الأساس . وحاز هذا المنهج القبول من إدارة التحرير ، وأفادنى علما ، إذ كان بابا جديدا من التدبر القرآنى فيما ينفع الناس فى الحياة الاقتصادية ، كما كان ردا غير مباشر على عقم الوهابية وعجزها عن الاجتهاد فيما ينفع الناس ، وعلى هجر الوهابية للقرآن تمسكا بتفاهات الحديث والسُّنّة . ولكن ضاق النفوذ السعودى بما أكتب ، وحرصا على إستمرارى كاتبا جاءتنى النصيحة بأن أكتب فى التراث وتاريخ المسلمين الاقتصادى . فكتبت تحت عنوان  ( التراث ) مقالات هامة عن الجانب الاقتصادى فى تاريخ الخلفاء . وهذا أيضا لم يُعجب النفوذ السعودى فقاموا بإلغاء الصفحة بأكملها حتى يتخلصوا منى . !! . وتركت العمل فى العالم اليوم ، ومع ذلك إستعانوا بى فى تزويدهم بمقالات فى الصفحة الرمضانية ـ دون ذكر إسمى .

ونعيد هنا نشر بعض المقالات وتتنوع الى :

أولا :

مقالات تعطى معارف مجهولة من التاريخ :

( " المطالب " علم احترفه الدجالون) :

عناوين : ( "طلب "  العثور على الكنوز القديمة : آثار إسلامية كادت تتعرض للتدمير بسبب البحث عن الذهب المدفون. ) جريدة العالم اليوم فى 6/12/1991

1 ـ منذ أسابيع اكتشفت الشرطة المصرية أن جماعة عملوا سرا في حفر سرداب في حلوان بحثا عن كنز واستخدموا الديناميت ، وانهار السرداب فمات بعضهم وهرب الآخرون ، ونشطت الشرطة في البحث عنهم.

2 ـ ما فعله أولئك هو البحث عن المطالب ، والذي كان عملا مهما ترددت عنه قصص في التراث وأصبح له علم قائم بذاته باسم علم " المطالب ". وتحكي الروايات التاريخية أن عميد أسرة بني بويه الذي تحكم في الخلافة العباسية كان السبب في ظهور قوته هو عثوره على كنز استطاع أن يجمع به الأنصار والأعوان والجنود . وما أسهل  أن تروج هذه الروايات ، وما أسرع أن يصدقها الناس . وهكذا كان العثور على ( مطلب ) هو الأمنية التي تراود أحلام الباحثين عن الثراء السريع ، وأصبح ذلك " مطلبا" لكل الناس ، ومن هنا جاءت كلمة " مطلب " و " مطالب ".

3 ـ وقد تحدث ابن خلدون في المقدمة عن أوجه تحصيل المعاش، ثم عقد فصلا عن المطالب جعل عنوانه " فصل في أن ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي" وقال فيه : (إعلم أن كثيرا من ضعفاء العقول في الأمصار يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض ، ويبتغون الكسب من ذلك ، ويعتقدون أن أموال الأمم السالفة مختزنة كلها تحت الأرض مختوم عليها كلها بطلاسم سحرية لا يفض ختمها إلا من عثر على علمه. ) . وتحدث عن الأساطير المرتبطة بتلك الكنوز المدفونة في  المشرق وفي المغرب من الأمم السابقة من الفرس والروم والمصريين القدماء، وكيف احترف بعضهم صناعة الكشف  عن المطالب بالأحجبة وادعاء علم الغيب ورسم الخرائط والخطوط والنقوش الغامضة ليقنع الناس بأن لديه مفاتيح تلك الكنوز المطلسمة ، وإن أولئك النصابين ينجحون دائما مع ضعاف العقول والسفهاء. ويعلل ابن خلدون هذا المسلك بأنهم عجزوا عن تحصيل المعاش بالوجوه الطبيعية من الزراعة والتجارة والصناعة فطلبوا الرزق بتلك الوجوه المنحرفة بدون تعب ، ويذكر ابن خلدون أن المغاربة احترفوا هذه الصناعة ، ووجدوا ضحاياهم بين المصريين في عصر ابن خلدون ، وقد كانوا شغوفين بالبحث عن الكنوز الفرعونية في  المعابد القديمة .

الآثار الفرعونية

1 ـ وقبيل العهد الذي جاء فيه ابن خلدون إلى مصر كان البحث عن المطالب هو الشغل الشاغل للمصريين وحضر ابن خلدون فشاهد طرفا من ذلك وقال عن الباحثين عن المطالب : ( ووجدوا لهم سوقا رائجة في مصر حيث  إن قبور الفراعنة منذ آلاف السنين مظنة لوجود توابيت الذهب فيها ، لذلك عنى أهل مصر بالبحث عن المطالب حتى أنهم ضربوا المكوس – أي الضرائب – على أهل المطالب وصدرت ضريبة على من يشتغل بذلك من الحمقى والمتهوسين ) . كان التنقيب عن الآثار الفرعونية قائما في ذلك الوقت على قدم وساق ، وكان الذهب هو المقصود الأعظم ، وتركت لهم الدولة حرية التنقيب في مقابل الضرائب،  ولم تهتم بالتخريب الذي كان يحدث في الآثار القديمة بسبب المطالب .

2 ـ على أن هذا التخريب في الآثار كان مستمرا قبل ابن خلدون بقرنين من الزمان ، وقد شهده الطبيب الفيلسوف عبداللطيف البغدادي حين زار مصر في السلطنة الأيوبية سنة 595 وكتب ما شاهده فيها في كتاب " الإفادة والاعتبار " وفيه يقول عن أثر المطالب في تخريب الآثار الفرعونية : ( ما زالت الملوك تراعي بقاء هذه الآثار وتمنع من العبث فيها .. وأما في زمننا هذا فترك الناس سدي وسرحوا هملا .. فلما رأوا آثارها هائلة راعهم منظرها وظنوا ظن السوء .. وكان جل انصراف ظنونهم إلى معشوقهم .. وهو الدينار .. فهم يحسبون كل علم يلوح لهم أنه علم " مطلب " ، وكل شيء منظور في جبل أنه يفضي إلى كنز ، وكل صنم عظيم أنه حاصل لمال تحت قدميه .. فصاروا يعملون الحيلة في تخريبه ويبالغون في تهديمه .. ومن كان من هؤلاء له مال أضاعه في ذلك ، ومن كان فقيرا قصد بعض المياسير وقوى طعمه وقرب أمله بإيمان يحلفها له وعلوم يزعم أنه استأثر بها دونه وعلامات يدعي أنه شاهدها .

3 ـ وكي نتيقن من أثر البحث عن المطالب في تخريب الآثار الفرعونية يمكن أن نقارن بين وصف عبداللطيف البغدادي لها وبين حالتها الراهنة ، فالفرق شاسع بين الحالين .

4 ـ وقد أشارت مصادر التاريخ الوسيط إلى بعض ما ذكره ابن خلدون والبغدادي فذكرت اهتمام بعض المشاهير  بالبحث عن المطالب ، فيذكر ابن حجر في تاريخه ( الدرر الكامنة) أن القرماني ت749 كان مهووسا بالمطالب مع كثرة أمواله ، ويذكر ابن إياس في تاريخ ( بدائع الزهور ) أن السلطان الغوري سار للنزهة عند الأهرام فأشاع الناس أنه ذهب هناك للبحث عن مطلب ، وكان ذلك سنة 918، وروي السخاوي في تاريخه ( التبر المسبوك) حكاية طويلة عن أحدهم مضمونها أنه عثر على كنز ذهبي بجوار الأهرام . وتذكر المصادر التاريخية أن بعضهم أضاع أمواله في البحث عن المطالب دون جدوى مثل الشيخ شمس الدين الصالحي ت843هـ وقد قال عنه ابن حجر أنه " كان مولعا بالمطالب ينفق عليها مع التقتير على نفسه " وقال أيضا عن الشيخ ابن قاسم العاجلي ت 835هـ أنه " غلب عليه حب المطالب فمات ولم يظفر بطائل " وقال السخاوي نفس الكلام في تاريخه ( الضوء اللامع ) عن الشيخ أبي البقاء الشيبانى ت 835هـ .

كنوز الحاكم بأمر الله

وبالإضافة إلى الآثار الفرعونية وجاذبيتها للباحثين عن المطالب كان جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي مقصدا مُهمّا لهم ، وربما أسهمت الأساطير الغامضة حول الحاكم بأمر الله الفاطمي وإشاعات الدروز عنه في إضفاء أساطير أخرى عن وجود مطالب وأسرار وكنوز في داخل جامع الحاكم. ولا تزال البيئة الشعبية المصرية تحتفظ بتلك الأساطير لذلك الجامع حتى اليوم ، ونتتبع ما جاء في  المصادر التاريخية بهذا الشأن :

1 ـ ففي سنة 841 اقنع بعضهم السلطان برسباي بأن أحد الأعمدة في جامع الحاكم مملوء ذهبا ، وركب السلطان برسباي إلى الجامع فعلم عجزه عن البحث عن الذهب فيه وقال : إن الذي نصرفه على الهدم وعلى عمارة ما انهدم يفوق ما سنأخذه من الذهب " ولا ينوبنا إلا تعب السر " .

2 ـ وفي 857 أمر السلطان جقمق بهدم مكان مبني على يمين محراب جامع الحاكم لأن أحدهم وسوس للسلطان بأن في ذلك الموضع صندوق بللور فيه أوراق تدل على كنز في الجامع ، يقول المؤرخ أبو المحاسن : فأمر السلطان بهدمه .. فلم يجدوا إلا التعب وانتشار القالة .."

3 ـ وفي 871 أخبر أحد المغاربة ممن يسكنون بجوار الجامع أن به كنزا عظيما وعلامة ذلك أن يجدوا بعد الحفر قبة كبيرة، وذكر أنهم وجدوا القبة وتحتها ما يشبه القاعة ولكن لم يجدوا الكنز ،

4 ـ  وفي 914 حدث – كما يذكر ابن إياس في تاريخه – أن بواب جامع الحاكم صعد للسلطان الغوري وذكر له أنه رأى في المنام هاتفا يقول له : قل للسلطان إن في جامع الحاكم دنانير ذهب لا ينحصر عندها تحت إحدى الدعائم ، فمال السلطان إلى تصديقه وأرسل الخازندار والمحتسب والمهندسين وسألوا عن الدعامة فلم يحددها البواب واقترحوا هدم كل الدعائم والأعمدة أي هدم الجامع ، واجتمع الناس وكثرت الأقاويل وفي النهاية لم يوافق السلطان على هدم الجامع .

الكلب الأجرب

1 ـ ومن الطبيعي أن تذكر المصادر التاريخية وقائع أخرى للتحايل وأكل أموال الناس بحجة المطالب،  فابن إياس يذكر في تاريخه أن تاجرا اسمه ابن القماح احتال على تاجر آخر صاحب قيسارية وأوهمه أن كنزا يوجد في بئر أسفلها ، واستطاع بذلك أن يسرق القيسارية وما فيها .. وأكثر من ذلك ما اعتاده آخرون مع بعض السذج ، وكان أولئك المحتالون ممن يحترف الصلاح ويدعي المشيخة ، وقد فضح الشعراني أعمالهم في كتابه لواقح الأنوار ، وقال الشعراني إن الفقراء الصادقين ــ  يقصد الصوفية ــ ليسوا محتاجين إلى عمل الكيمياء وفتح المطالب .. وذكر في معرض الاحتجاج على زملائه كيف أن بعض الأشياخ خدع السلطان الغوري وجاء به إلى آثار الفراعنة في عين شمس وأوهمه أن فيها مطلبا .. وكانت فضيحة ..

2 ـ ولا يزال التحايل على الناس بالمطالب موجودا في الريف والبيئات الشعبية .. ويقوم بها دجالون محترفون وتدور حولهم الأساطير ودعاوى الكرامات .. والمثل الشعبي يقول عن نتيجة المطالب " كل مطلب وعليه مهلك .." ويقول المثل الشعبي فيمن جاءته ثروة لا يستحقها " كلب أجرب وانفتح له مطلب ..".!!

ثانيا :

مقالات تنتقد الدين السُّنّى بطريق غير مباشر ، وتحت عنوان ( الرقي الحضاري في التشريع القرآنى )، وأهمية كلمة ( التشريع القرآنى ) أنها توحى بإختلاف التشريع القرآنى ( الاسلام ) عن ( التشريع السُنّى ) المبنى على الأحاديث وكتب الفقه . من هذه المقالات :

(الرقي الحضاري في التشريع القرآنى ) (الحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن )  العالم اليوم فى  22 / 3 / 199     

1 ـ ابتدع الغرب في العصور الوسطى سلاح الحرمان الكنسي ضد المخالفين في الرأي وابتداع محاكم التفتيش التي تحرق المؤلفات وتصادرها وتصادر حرية الإنسان في الاعتقاد وتلقي بخصومها في الرأي في المحارق وعلى أعواد المشانق ، هذا في الوقت الذي نزل فيه القرآن بالتسامح الديني وآداب الحوار العقلي الراقي وأعظم درجات الرقي الحضاري في التعامل مع الخصوم في الرأي والعقيدة .

2 ـ فالمبدأ القرآني في الحوار يقوم على الحكمة والموعظة الحسنة والرد على إساءات الخصم بالتي هي أحسن وليس بالحسنى فقط : (  ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ : النحل : 125  ) ،  فالله تعالى يأمر رسوله الكريم بأن يدعو إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن . وإذا كان ذلك فرضا على النبي صاحب المقام الرفيع فغيره من المسلمين أولى بأن يتحمل السيئة في الجدال وان يرد عليها دون أن تأخذه العزة بالمنصب الدنيوي أو الجاه الزائل .

2 ـ على أن القرآن الكريم لم يكتف بأمر النبي ( ص) بذلك وإنما جعلها فريضة عامة على كل داعية للحق ، وجاء الأمر بذلك  في صيغة مؤثرة محببة كأن يقول تعالى "  وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ  .فصلت : 33 : 35 " أي أن أحسن الناس قولا هو الذي يدعو لله تعالى ويكون هو قدوة صالحة لغيره وهو الذي يدفع السيئة بالتي هي أحسن بحيث يرغم خصومه على الاعتذار إليه .

3 ـ وكانت تلك هي المبادئ العامة في الحوار الإسلامي الحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن . وتأتي تفصيلات القرآن لتزيد من توضيح ذلك المبدأ ..

3 / 1 : وأولها ألا نقع في سب الخصم وسب معتقداته بقوله تعالى "  وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ : الأنعام : 108 " .

3 / 2 : ثم إذا أصر الخصم على معتقداته اعرضنا عنه وتركناه وشأنه بعد أن قدمنا العذر فيه لله تعالى وانتظرنا حكم الله تعالى فيه وفينا يوم القيامة، يقول تعالى " وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ:هود 121 : 122

3 / 3 : وحين نعرض عنه ونتركه يكون إعراضنا عنه بالتي هي أحسن ، وهذا ما نتعلمه من القرآن الذي يقرر لنا ما نقوله في هذا الموقف " وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ : سبأ 24 : 26 " . أي إننا لا نقول له اذهب إلى الجحيم أيها الضال وإنما نقول له نحن أو أنت أحدنا على هدى والأخر على ضلال " ولست أنت مسئولا عن جرائمنا ولسنا نحن مسئولين عن أعمالك. وكان القياس يتطلب أن يقال " قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تجرمون " . ولكن الرقي الحضاري في الحوار القرآني يأبى ذلك ويقول "  قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ " ثم في النهاية يكون الاحتكام إلى الله تعالى يوم الدين حيث تظهر الحقائق ويفوز الفائزون ويخيب الضالون " قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ .. " . !!

3 / 4 : وبعد أن نتركه ونعرض عنه بالتي هي أحسن يأمرنا القرآن بأن نصفح عنه وأن نغفر له فيكفيه ما ينتظره من غضب الله يوم القيامة ، وبذلك جاءت أوامر القرآن صريحة تأمر بالعفو عن الضالين ما لم يرفعوا سلاحا ، وليس مجرد العفو بل الصفح الجميل " وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ  : الحجر 85 " . ويقول تعالى للنبي " وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ : الزخرف 88 : 89 " . ويأمر الله تعالى المؤمنين بالصفح والغفران عنهم " قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ  : الجاثية 14 : 15 " . أي أن كل إنسان مسئول عن عقيدته أمام الله يوم القيامة ،  وليس المؤمن مسئولا عن غيره بعد أن دعاه بالحسنى ، فليس عليه بعدها إلا أن يصفح عنه ويغفر له . ويكفيه ما ينتظره يوم الحساب . وذلك هو أروع الآداب الراقية في الحوار مع الخصوم . وتتجلى روعته أكثر حين نتخيل العصر الذي شهد نزول القرآن حيث المحاكمات الدينية والاتهامات بالكفر وحرق الخصوم ومصادرة حقهم في الاعتقاد وإعلان حرمانهم من الجنة ..

4 ـ ومهما ارتقت حضارة الغرب فلن تصل إلى الرقي الحضاري في الحوار القرآني . )

انتهى المقال .

  ( الرقى الحضارى فى التشريع القرآنى )

 (الإسلام يحارب التعصب بكل أشكاله ) العالم اليوم بتاريخ 23 / 3 / 1992

1 ـ حين نزل القرآن الكريم في القرن السابع الميلادي كان التعصب هو أهم ما يميز علاقة المجتمعات بعضها البعض ، وهكذا كان التعصب القبلي سمة العلاقات بين العرب ، وكان التعصب الديني والجنسي سمة العلاقات السائدة خارج الجزيرة العربية .. ونزل القرآن الكريم يحارب هذا التعصب ويقول للبشر جميعا "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " الحجرات: 13 . فأصل البشرية واحد من أب واحد وأم واحدة، وقد جعلهم الله شعوبا وقبائل ليتعارفوا لا ليتصارعوا، وأكرمهم عند الله ليس أقواهم ولا أغناهم، ولكن أكثرهم لله تعالى تقوى وخشوع، والله تعالى لا يأبه باللون وبالمال وبالمظهر وبالمكانة الدنيوية وإنما بما يعمر في القلب من تقوى وإخلاص.

2 ـ  وحين نزل القرآن كانت جماعات اليهود في المدينة تعتبر نفسها أرقى من العرب الأميين، وبعضهم يعتقد أن مجرد كونه من أهل الكتاب يعطيه الحق في التعالي على العرب الأميين الذين لم يكن لديهم كتاب بعد، بل ويعطيهم الحق في أن يخدعوهم ويسرقوا أموالهم. وبعضهم وجد في النصوص الموضوعة في التوراة ما يؤكد وجهة نظره ومنها ما جاء في سفر التثنية " لا تقرض أخاك بربا.. لأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يبارك لك الرب " تثنية 19: 20 ولا شك أن ذلك يخالف التشريع الحقيقي للتوراة الذي أنزله الله، ولا شك أيضا أنه تحريف يعبر عن نفسية اليهود ونظرتهم للاميين أو غيرهم من الناس.

3 ـ ولأنها نصوص اكتسبت قدسية منسوبة لله تعالى فقد نزل القرآن الكريم يوضح الحق وينفي الباطل والظلم ، وذلك في سورة آل عمران " وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ".

3 / 1 : وفي البداية يقول تعالى " وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا " أي أن أهل الكتاب من حيث التعامل فريقان، منهم صاحب الأمانة والخلق المستقيم الذي إذا ائتمنته عل قنطار أداه إليك، ومنهم الذي يخونك في الدينار الواحد إذا لم تقم على رأسه تطالبه برد الدينار، ثم يذكر القرآن المسوغ التشريعي لدى ذلك الصنف الخائن فيقول (   ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) أي أن الحجة لديهم أنه ليس عليهم ذنب إذا ظلموا غيرهم ويشير رب العزة إلى اعتمادهم على نصوص دينية مزيفة فيقول تعالى " وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ".

3 / 2 : ثم يؤكد القرآن على أن الوفاء بالعهد وتقوى الله في التعامل هو التشريع الإلهي الحقيقي الذي نزل في كل الكتب السماوية "   بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ". أي إذا تعاملت مع أي إنسان من أي دين ومن أي جنس فعليك بالالتزام بالوفاء والعدل والتقوى إذا أردت أن يحبك الله، فالله لا يحب إلا المتقين.. وهي بالضرورة دعوة للمؤمنين حتى لا يقعوا فيما وقع فيه اليهود من ظلم غيرهم من أهل الأديان الأخرى ثم نسبة ذلك إلى التشريع الإسلامي ظلما وعدوانا.

3 / 3 :  وتأتي الآية التالية تؤكد على التحذير من الزج باسم الله ودينه وتشريعه في التحايل على الناس بالباطل يقول تعالى " إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ".  عهد الله هو أوامره ودينه وتشريعه، والأيمان جمع يمين وهو القسم أو الحلف، والمقصود هو القسم بالله أو أن يحلف المرء بالله، والمعنى العام هو من يخدع الناس ويتحايل عليهم بالتزوير والكذب على الله يكون رب العزة خصما له يوم القيامة فلا يكلمه ولا ينظر إليه ولا يزكيه ويعذبه عذابا أليما. وتلك حالة فريدة بين المغضوب عليهم يوم القيامة، لأن الله تعالى يوم الحساب هو القاضي الذي يقضي بالحق "   وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ "غافر.  والله تعالى هو القاضي يوم الدين سيكون خصما لأولئك الذين زيفوا دينه وكذبوا عليه وخدعوا الناس باسم الله تعالى ظلما وافتراء. ويكفيهم أن القاضي سيكون لهم خصما.

3 / 4 : ثم تأتي الآية الأخيرة في الموضوع تتحدث عن الكذب على الله تعالى " وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ".

4 :  وإن كانت الآية الكريمة تتحدث عن بعض أهل الكتاب على وجه الخصوص فإن الله تعالى تحدث محذرا جميع الذين يتحايلون بالدين ليأكلوا أموال الناس بالباطل ويكتمون الحق القرآني الذي يعارض طموحهم، يقول تعالى " إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) البقرة 174: 175. فالله تعالى يتعجب من صبرهم على النار ! )

انتهى المقال .

( الرقى الحضارى فى التشريع القرآنى ) :

(  قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي)( الكهف110). جريدة العالم اليوم فى : 5/2/1995  

1- حين نزل القرآن الكريم كان من السائد والذي لا سبيل إلي تغييره هو الفوارق الراسخة بين الناس في المجتمع الواحد، وحيث يتمتع النبلاء والأمراء بكل الامتيازات لمجرد كونهم نبلاء أو بالحسب والنسب، وذلك علي حساب الفقراء من أكثرية المجتمع .

2 ـ ونزل القرآن بتشريع راق في هذه القرون الوسطي المظلمة، فأعطي أمثلة في المساواة التشريعية بين البشر ، صحيح أن الأنبياء هم صفوة البشر والله تعالي أعلم حيث يجعل رسالته ، ولكنهم – بعد الوحي – مثل سائر البشر جميعا في المسئولية والحساب .

3 ـ يقول تعالي عن ملمح من ملامح يوم القيامة والحساب " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين : الأعراف 6". فالمساءلة أو حساب الآخرة سيكون للجميع . الرسل والأمم . والآية تضع حساب الأمم في كفة وحساب الرسل في كفة أخري ، والنظرة السريعة تتحكم بالمساواة ، أي التساوي في الحساب والمسئولية أمام الله تعالي يوم القيامة ، ولكن التدبر في الآية يعطي أكثر من ذلك ، لأن الرسل والأنبياء عددهم قليل – ولا يذكر – بالنسبة لأعداد البشر، وفي ذلك تأكيد أكبر علي حساب الأنبياء يوم القيامة ، وهو تأكيد قرآني يحمل في طياته برهانا لمواجهة دعاوى ستأتي بعد نزول القرآن تنفي هذه الحقائق القرآنية .

4 ـ والقرآن الكريم يساوي بين خاتم النبيين ـ عليه الصلاة والسلام – وبين قومه في المسئولية وفي الحساب ،يقول تعالي له" وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون : الزخرف 44" فالمسئولية علي النبي وعلي قومه ، والمسألة يوم القيامة للجميع، والقرآن يوجه الخطاب للنبي مباشرة ولقومه في الكفة الأخرى دليلا علي مسئوليته العظيمة في إبلاغ الدعوة.

5 ـ ويقول تعالي للنبي الخاتم عن أعدائه " إنك ميت وإنهم ميتون، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون : الزمر 30" فتوجيه الخطاب المباشر للنبي بالموت" إنك ميت" وهو لا يزال يحيا فيه تأكيد علي موته مثل أعدائه . ثم بعد هذه المساواة  في استحقاق الموت بين النبي وأعدائه ، يقول تعالي إنهم سيتخاصمون أمام الله . وذلك يعني أن الفرصة ستكون متاحة لأعداء النبي كي يدافعوا عن أنفسهم بالباطل، إذ أن من حق كل نفس بشرية أن تدافع عن نفسها أمام الله تعالي يوم القيامة : " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفي كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون : النحل111"

6 ـ  إن المساواة في العبودية أمام الله تعالي من أبرز ملامح المساواة في التشريع القرآني. وإذا كان البشر لا يلتزمون بأوامر القرآن في الدنيا فإن الآخرة تتجلي فيها المساواة بأروع معانيها ، حيث يقف الخلق جميعا عبيدا أمام الواحد القهار، فيقول تعالي" إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا: مريم 93 "

ثالثا : فى المعاملات الاسلامية ( عن الاقتصاد والتجارة من وجهة نظر قرآنية )

أنشر أربع مقالات  ممّا سبق نشره فى ( العالم اليوم ).

مقال ( التشريع القرآني يحرم الاكتناز ويشجع التنمية ) . فى  السبت 1/ 4 /1995  : معاملات إسلامية .  

  1 ـ  إن القرآن الكريم يحرم اكتناز الأموال ، أي يدعو لتشغيلها ودورانها في الحركة الاقتصادية ، أي يدعو لتنميتها اقتصادياً ، فالمال المكنوز قد يبقى كما هو على أحس الأحوال ـ إذ لم تنخفض قيمته بالتضخم ـ فإذا دار مع الحركة الاقتصادية للمجتمع أسهم في التنمية الاقتصادية وفي سرعة حركتها وحقق لنفسه فائضاً ونجا من التضخم الذي يقلص حجمه يوماً بعد يوم .

 2 ـ وكما يحرم القرآن اكتناز المال فإنه في المقابل يحرم أيضاً الإسراف على المستوى الفردي والمستوى الجماعي ، وقد يبدو أن الإسراف يشجع على زيادة الاستهلاك ، وينعش الأسواق ويحقق التنمية الاقتصادية ، ولكن النظرة المتعمقة تؤكد أن الاستهلاك الترفي القائم على عادة الإسراف يقضي على الطاقة الإنتاجية للمجتمع ويبدد ثروة المجتمع في النهاية.

   إن المسرف حين يشتري ما لا يحتاج ما إليه فإنه يجمد  أمواله فيما لا نفع فيه ، أي أنه يقوم بعملية اكتناز عيني لأمواله ، وتلك السلع الاستهلاكية غير الضرورية التي أسرف بشرائها تتناقص قيمتها سريعاً أو تصبح عديمة القيمة وتنتهي فيضيع فيها المال، هذا بينما يستهلك الفرد المسرف غير المحتاج حصة أخ له معدم كان في حاجة قد تكون ضرورية لنفس السلعة.

 3 ـ وهذا التوجه القرآني في تحريم الإسراف والاكتناز بالغ الأهمية للتنمية الاقتصادية . وإذا أنفق كل فرد ما لديه من فائض في شراء ما لا يحتاج إليه كان ذلك إسرافاً والإسراف حرام، وإذا أخفى الفائض لديه تحت البلاطة كان اكتنازاً للمال ، وذلك أيضاً حرام ، إذن فليس أمامه ــ  إذا أطاع الله تعالى ورسوله ــ إلا أن ينمّى أمواله بالحلال عن طريق الأوعية الادخارية المشروعة أو في مشروعات إنتاجية تنمي ماله وتحقق التنمية  الاقتصادية للمجتمع ، وبذلك تدور عجلة التنمية سريعاً بطاقة استثمارية ضخمة .

4 ــ  وفضلاً عن ذلك فإن تشريعات الزكاة والصدقات عظيمة الأثر في دفع عجلة التنمية الاقتصادية ، لأنها ــ بالإضافة إلى تشريعات قرآنية أخرى ــ تحث على إعطاء الفقراء والمحرومين حقوقهم ، وتمنع الأغنياء من أن يأخذوا شيئاً من الفئ ، أو ما يفئ إلى بيت المال ، يقول الله جل وعلا : (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) الحشر ) ، (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ  ) أي حتى لا يتركز المال بين الأغنياء فقط فتتعاظم الفجوة بين الأغنياء المترفين المتخمين والفقراء الجوعى المحرومين ، فيتفجّر المجتمع من الداخل وتضيع معه التنمية الاقتصادية .

5 ـ ولكن خطوات التنمية الاقتصادية تتسارع حركتها إذا أخذ الفقراء حقوقهم في الزكاة والصدقات والفئ ، لأن الفقير ينفق ما يأتي إليه في إشباع حاجاته الأساسية اليومية من غذاء وملبس ، أي هو بطبيعته كائن مستهلك ، وكل ما يأتي إليه من مال يعود إلى السوق سريعاً في حركة شراء مستمرة ، أي أن الأغنياء من أصحاب المصانع والمزارع والمتاجر حين يعطون الفقراء حقوقهم فسرعان ما تعود إليهم هذه الأموال في ازدهار حركة الشراء  وتتحقق التنمية الاقتصادية.  وقد فطنت الرأسمالية الغربية إلى هذا الحل الذي سبق أن أشار إليه القرآن ، فقد اقتنعت أوروبا وأمريكا واليابان بأهمية إعطاء العالم الثالث الفقير قروضاً ومساعدات وحين تتخطى هذه الشعوب أزماتها تكون قادرة على شراء منتجات الغرب واليابان فتنتعش الرأسمالية ويصبح العالم الثالث أسواقاً مفتوحة لها .

6 ــ  وتشريعات القرآن ـ حين نطبقها بإخلاص ـ لا تحقق التنمية الاقتصادية فحسب بل وتخلق أيضاً طبقة من الاقتصاديين الشرفاء الذين يتنافسون فيما بينهم في إنتاج أفضل سلعة وفي تقديم أكمل خدمة للمجتمع وبأرخص الأسعار ، وعلى أسس من الوضوح والشفافية يتنافسون في تحقيق أفضل استثمار ممكن لثروة المجتمع المالية والبشرية والاقتصادية .

 7 ــ   هؤلاء هم الذين يفهمون أن قوله تعالى "الذين آمنوا وعملوا الصالحات" لا يعني مجرد الإيمان والعبادات ولكن عمل الصالحات يضم كل عمل نافع للمجتمع من صناعة وزراعة وتجارة وتنمية اقتصادية يؤديها المؤمن لينفع بها قومه والناس جميعاً وابتغاء أجر الله تعالى له في الدنيا والآخرة .  )

 انتهى المقال .

 

  مقال : ( التجار والمستهلكون بين رؤية القرآن والتراث )

1 ـ للقرآن الكريم نظرة متوازنة ، لا يقف مع المستهلك " المشتري " على طول الخط ، كما لا يقف مع البائع دائما ، وإنما يقف مع العدل والقسط ، فالقرآن حين يتوعد المطففين لا يقصد بهم الباعة فقط ، وإنما يقصد المستهلكين أيضا ، فالمستهلك الذي يريد أن يأخذ من البائع فوق حقه فهو مطفف ، والبائع الذي يتلاعب بالميزان هو أيضا مطفف ، وكلاهما له الويل : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) ( المطففين ) .

2 ـ لقد كانت " مدين " في العصور القديمة تتوسط الطريق التجاري في الشام ،وكان أهلها ذوي قوة وبأس شديد ، وقد استخدموا موقعهم الجغرافي وقوتهم في احتراف التجارة بمنطق السلب والنهب ، فأرسل الله لهم النبي شعيب عليه السلام وكان محور رسالته يدور حول التوحيد والقسط في البيع والشراء : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) (هود ) . كانوا إذا باعوا بخسوا الكيل والميزان ، وكانوا إذا اشتروا بخسوا السلع حقها في السعر ، فاستحقوا مقت الرحمن ، وأبادهم الله تعالى .

3 ــ على أن المفهوم من القرآن في قصة النبي شعيب وقومه التي ترددت في مواضع كثيرة أن القوة أو النفوذ والسلطة هي التي تمكن القوم من تحويل التجارة إلى سلب ونهب. وهذه حقيقة اقتصادية تنبه إليها العالم العلامة ابن خلدون وأكد عليها في مقدمته المشهورة ، حين حذّر من احتراف الحاكم للتجارة وتدخله فيها ، لأنه بذلك يفسد السوق ويقع في استغلال النفوذ والاحتكار . وحتى حين تعرض ابن خلدون لموضوع التجارة فإنه أكد تحت عنوان " الجاه مفيد للمال " إن صاحب الجاه يتقرب إليه الناس بالخدمة والعمل فإذا كان صاحب الجاه والنفوذ تاجرا اتسعت تجارته ، وإذا كان معدوم النفوذ كانت ثروته بقدر سعيه . لذلك ينصح ابن خلدون التاجر الذي لا جاه له بأن يتجنب احتراف التجارة لأنه سيعرض ماله للضياع .   وصحيح أن ابن خلدون لم يتكلم عن المستهلك مباشرة ، ولكن نفهم بين سطوره أن التاجر صاحب النفوذ يستخدم نفوذه في ظلم المستهلك سواء بالاحتكار أو بالغش في الميزان ، وهذا في حماية أولي الأمر ، وهو آمن من سطوة المحتسب الذي يضبط حركة الأسواق أو يفرض السعر الذي يريده . وفي كل الأحوال فالمستهلك هو الذي يدفع فاتورة النفوذ والقوة لدى التاجر الجشع .

4 ـ ويؤكد ابن خلدون في عنوانين أن أخلاق التجار : ( نازلة عن خلق الأشراف ، لأنهم يمارسون البيع والشراء على أساس المساومة ، وكثيرا ما يلجأون إلى الغش والحيل والأيمان الكاذبة والخداع ، وكل ذلك بعيد عن الشرف والمروءة وقريب من الذل والخسة ، ولذلك يتحاشى ذوو النفوذ والمروءة والشرف العمل بالتجارة. ).! ، ومن الطبيعي حينئذ أن يكون المستهلك في أسوء حال إذا وقع في براثن تجار ذوي نفوذ ، وذلك ما حذر منه القرآن العزيز حين نهى عن أكل أموال الناس بالباطل عن طريق الرشوة واستغلال النفوذ ، قال جل وعلا : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) ( البقرة ).

5 ـ إن من أشد أنواع الفساد إيلاما أن يعمل ذوو النفوذ بالتجارة أو أن يظاهروا التجار ويؤيدوهم بالجاه والنفوذ ليزدادوا تسلطا على المستهلك العاجز . فإذا كانت وظيفة الدولة هي العدل والقسط وإقرار الأمن فإنه إذا استغل أصحاب السلطة نفوذهم في التجارة فقد أصبحوا قطاع طرق ينهبون الشعوب التي ائتمنتهم على حياتها وأموالها . ولذلك نفهم الحكمة من ترديد القرآن لقصة أهل مدين والنبي شعيب عليه السلام ، والذي كرر القرآن مقالته لقومه بإقامة القسط في البيع والشراء ، ويظل مصير أهل مدين عبرة لكل المفسدين ، فإذا عجز البشر عن عقاب المفسدين فإن رب البشر تعالى لا يعجزه شيء ، والعادة أن يتسلط المفسدون بعضهم على بعض لتكون نهايتهم عبرة مثل نهاية قوم شعيب ، وصدق الله العظيم حين يقول :( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)( يوسف  ).     

 

أخيرا :

1 ــ واقع تاريخ المحمديين أن الخليفة يملك الأرض ومن عليها وما عليها . التاريخ يعترف بذلك حين كان يطلق على الدولة إسم منشئها ، أو إسم أسرته ، فيقال ( الدولة الأموية ، العباسية ، الأخشيدية ، الطولونية ، الصفارية ، الصفوية ، العثمانية ، المملوكية ..الخ ). الشريعة التى نبتت فى ظل هذه الدول الدينية حرصت على حق السلطان فى أن يقتل من يشاء بسيف الشرع ، وأن ينهب ما يشاء من أموال الرعية لأنه الذى يملك الرعية ، ولا رقيب عليه ولا حسيب ، وهو ينفق من تلك الأموال كيف شاء ، والمؤرخون يشيدون بكرمه ، ويسجلون هذا مدحا متناسين أنه أموال منهوبة من الشعوب المقهورة . لم يكن هناك فارق بين أموال السلطان وأموال الدولة ، كانا فى جيب السلطان ، وهو الذى يوزع هذا وذاك حسب مشيئته . والبيعة للسلطان تعنى عقد إسترقاق يوجب الطاعة المطلقة على من يبايع السلطان ، وما يتضمنه هذا من حق السلطان فى قتل من يشاء دون إبداء الأسباب .

2 ــ  هذا مخالف لتشريع الرحمن جل وعلا القائم على العدل والحرية والديمقراطية المباشرة ( الشورى الاسلامية الحقيقية ) . وفى الصحوة الأوربية بدأت الدولة الحديثة وبناء الديمقراطية ومحاسبة الحكام وإعتبارهم خدما للشعب ، بما يقترب من شريعة الاسلام الحقيقية . وبدأت تباشير هذا تزحف اى مصر فى عصر الخديوى اسماعيل ، لولا...

3 ــ لولا أن الدولة السعودية الأولى كانت قد بدأت ( صحوة عكسية ) فى تاريخ المحمديين ، هو الرجوع الى ثقافة الخلافة والسلطان الذى يملك الأرض ومن عليها ، وتسمّت الدولة بإسم الأسرة السعودية ، وحتى بعد تكوين الدولة السعودية الثالثة الراهنة عام 1932 ، فقد حملت إسم الأسرة السعودية ، وحملت معه نفس الإرث من أن السلطان السعودى يملك الأرض ومن عليها ، وأن أموال الدولة فى جيبه ، يعطى منه الرعية وفقا ( للمكرمة الملكية ) ، أى يتكرّم بمنحهم بعض الفُتات ، ويمُنُّ عليهم  بهذا الفتات ، وعليهم التسبيح بحمده . وفى هذا المناخ لا نتصور مساءلة الملك السعودى عن ميزانية الدولة ، هو الذى يصدر الميزانية ، وهو الذى يقرر ما ينفق على نفسه وأسرته ، وما ينفقه على الدولة . وهذا بلا رقيب ولا حسيب .

4 ـ هذه مقدمة ضرورية لموضوعنا . إستثقل النفوذ السعودى ما أكتبه من إجتهاد قرآنى فى الموضوعات الاقتصادية ، لأن هذا الاجتهاد لا يفضح جهل شيوخهم فقط ، بل هو يثبت ظلم دولتهم ، لأن شريعة القرآن الكريم مؤسسة على العدل والقسط ، وهذا يتنافى وإحتكار الأسرة السعودية للأرض ومن عليها . لذا جاء التوجيه بأن أكتب فى التراث التاريخى الإقتصادى . وبدأت بكتابة نوعية جديدة من الكتابة التاريخية الإقتصادية ، تعتمد على الأرقام بما يناسب جريدة العالم اليوم الاقتصادية من الناحية الظاهرية ، ولكنه يحوى فى باطنه ــ لمن يفهم ـ طعنا فى الدولة السعودية ، فالخلفاء من سلفهم الصالح ـ إحتكروا الثروة والسلطة . وعلى سُنّتهم يسير السعوديون .

5 ــ ولم يتحملوا المزيد من المقالات فكان قرارهم بإلغاء صفحة المعاملات الاسلامية كى يتخلصوا منى . ولا أعرف بعد أن تركتهم هل أعادوها أم لا . فلم تكن إمكاناتى المالية تسمح لى بشراء جريدة العالم اليوم ، وكانت من أغلى الجرائد ثمنا .

6 ــ أنشر هنا مقالين من هذه النوعية .

أولا مقال : أرقام في تاريخ الخليفة المأمون العباسي           

1 ـ توفى المأمون على نهر البدندون في أسيا الصغرى في يوم الخميس وقت الظهر ( 18 رجب 218) وكان عمره ( سبعا وأربعين سنة ) وكانت خلافته ( عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين عاما ) وكان له ( ثمان عشرا ذكرا وتسع بنات).

2 ـ في سنة 204 أمر المأمون بمقاسمة أهل السواد في العراق على ( خُمس ) إيرادهم فقط ، وكانوا من قبل يدفعون للدولة العباسية  ( نصف) الإيراد .

فى سنة 205  بعث المأمون واليا على مصر ، وهو بشر بن داود على أن يحمل له فى كل سنة (ألف ألف) درهم .

في سنة 206 : أعطى  المأمون ( خراج) مصر لعبد الله بن طاهر لمدة ( عام).

وفى سنة 210 ثار عبيد الله بن السري في مصر فحاربه عبد الله بن طاهر وهزمه، وفر بن السري، إلى الفسطاط وحاصره فيها ابن طاهر ، فأرسل له ابن السري ليلا ( ألف وصيف ووصيفة) ومع كل وصيف ( ألف دينار ) في كيس حرير . ورفض ابن طاهر هديته ، فأضطر ابن السري للتسليم.

في سنة 210 أيضا ثار أهل مدينة ( قُم ) ومنعوا الخراج ، وكان خراجهم المفروض عليهم (2) مليون درهم ، وكان قد استكثروا المفروض عليهم  ، وطمعوا في أن يعفيهم الخليفة المأمون من بعضه بعد أن حط عن أهل الري  جملة من الخراج،  ولكن المأمون رفض ، فثاروا ،فبعث لهم الخليفة جيشا يقوده على بن هشام وعجيف بن عنبسة، وانهزموا وعاقبهم المأمون بأن جعل الخراج عليهم (4) مليون درهم..

3 ــ أورد ابن خلدون في المقدمة بيانا تفصيلا بجباية الخراج في عهد الخليفة المأمون ولم يحدد السنة التي جبى فيها ذلك الخراج .. وهو كالأتي :ـ

سواد العراق : (27.8) مليون درهم ، (2000) من الحلل النجرانية ،(240) رطلا من طين الخثم .

كسكر : (11.6) مليون درهم.

كور دجلة : (20.8) مليون .

حلوان في العراق (4.8) مليون درهم .

الأهواز (25) مليون درهم ، (30) ألف رطلا من السكر .

فارس : (27)  مليون درهم ، (30) ألف قارورة من ماء الورد، (20) ألف قارورة من الزيت الأسود .

كرمان : (4.2) مليون درهم ، (500) ثوب يماني ، (20) ألف رطل من التمر .

مكران : (400) ألف درهم .

السند وما يليها ( 11.5) مليون درهم ، (150) رطلا من العود الهندي ) .

سجستان (4) مليون درهم ، ( 300) ثوب ،(20) رطلا من الفانيذ .

خراسان : (28) مليون درهم ، (2000) من الفضة النقرة، (4) آلاف برذون وألف من الرقيق، (20) ألفا من الثياب ،(30) من الأهلج .

جرجان (2) مليون درهم ، (وألف) شقة أبريم.

قرمس (1.5) مليون درهم ،(ألف) من الفضة النقرة

طبرستان و الرويان (6.3 ) مليون درهم ،(600) قطعة من الفرش الطبري ،(200) من الأكسية والدوماوند و (500) ثوب ، (300) منديل ،(300) جام .

الري (12 مليون) درهم ،( 20) ألف رطل من العسل .

همذان (11.3) مليون درهم ، و(ألف) درهم رطل من رب الرمائين، (12) ألف رطل عسل .

البصرة والكوفة (10.7) مليون درهم.

ماسندان والريان (4) مليون درهم .

شهرزور (9.7) مليون درهم.

الموصل وما يليها (24)مليون درهم ، (200) ألف رطل من العسل.

أذربيجان (4) مليون درهم.

الجزيرة وما يليها (34) مليون درهم ، (ألف) من الرقيق ، (12)ألف زق عسل و(عشر ) من البزاة (أي طيور الباز )، (30) من الكساء .

أرمينية (13) مليون درهم ، (20) درهما من القسط المحضور ، (530) رطلا من الرقم ،(10) آلاف رطلا من المسايح السورماهى، (10)ألاف رطلا من الصونج ،(200) بغل ،(30) مهرا .

برقة : مليون درهم .

شمال أفريقيا (13) مليون درهم ،(120) بساطا

والمجموع بالدرهم = (318.6) مليون درهم

ثم يأتي باقي الخراج بالدينار وهو كالأتي :

*قنسرين (400)ألف دينار ، (ألف) حمل زيت

*دمشق (420)ألف دينار

الأردن (97) ألف دينار

فلسطين :  (310) ألف دينار ، (300) ألف رطل زيت

مصر (2.92) مليون دينار

اليمن  (370)ألف دينار

الحجاز  (300) ألف دينار

والمجموع الكلى بالدينار (4.817) مليون دينار وبتحويلها إلى دراهم ، والدرهم يساوى (15) درهما يكون مجموعها (72.255) مليون درهم ..بإضافة الجباية السابقة إليها يكون المجموع النهائي (390.855) مليون درهم . وهذا عدا خراج الكرخ وهو (300) ألف درهم  وجيلان وخراجها (5) مليون درهم . إذن مجموع الخراج للدولة العباسية في عهد المأمون (400) مليون درهم مع الغلات الأخرى .

خراج خاص (الضياع الخاصة)

ثم يضاف إلى ذلك الأموال التي تأتى من ضياع الخليفة وأسرته وولى عهده .

ويذكر المؤرخ أبن طباطبا أن المأمون أشتكى إلى أخيه المعتصم ولى العهد ضائقة مالية وكانا بدمشق فوعده المعتصم بأن المال سيأتي بعد أسبوع ، فوصلت أموال للمعتصم من ضياعه ، وكانت ( ثلاثين ألف ألف ألف ) درهم أي (30) مليار درهم ، وخرج المأمون ومعه القاضي يحيى بن أكثم والمعتصم ينظرون ذلك المال المحمول ، وقد أستعظم الناس ذلك واستبشروا به وتعشموا أن ينالوا منه ، فقال المأمون : (إن انصرفنا إلى منازلنا بهذا المال وأنصرف الناس خائبين لؤم ..) . فأخذ في تفريق الأموال على الناس ، حتى بلغ مجموع ما فرّقه (24) ألف ألف ألف درهم ... وكان لا يزال راكبا ورجله في الركاب ثم حول الباقي على مصالح الجند . والناس هنا هم اتباع الخليفة الموظفون الفاسدون المترفون.

ثروات الموظفين وفسادهم :.

1 ـ وقد كان معين بن عون متوليا لخراج الري في عصر المأمون، وقد مات وترك لأبنه ثروة تقدر (بألف ألف وخمسين ألف ) درهم مما يدل على أن القائمين على الخراج كانوا يتكسبون من وظائفهم الشيء الكثير . وكانت الدولة على علم بذلك ، وربما تباركه أحيانا  ،فقد قيل للمأمون أن عمرو ابن سعده (وهو أحد كتاب المأمون ) قد مات وترك ثروة مقدارها ( ثمانون ألف ألف درهم ) فكتب المأمون يقول : هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا فبارك الله لولده فيه "!!!

2 ـ على أن المأمون كان يضيق إذا وصل الفساد إلى القضاء ،خصوصا إذ كان القاضي قد جمع بين الرشوة والكذب  . وكان المأمون لا يطيق أن يكذب عليه أحد ولا يحتمل آفة الكذب ، وفى حوار دار بين المأمون وبين القاضي بشر بن الوليد كان يلوم فيه ذلك القاضي لأنه كلما أشار عليه بتولية أحدهم وتزكيته لمنصب القضاء فما يلبث أن يظهر فساده ، فيقول المأمون " ولينا رجلا أشرت به علينا قضاء الأبله وأجرينا عليه (ألف ) درهم ولا له ضيعة ولا عقار ولا مال ، فرجع صاحب الخبر بالناحية أن نفقته في الشهر ( أربعة آلاف ) درهم فمن أين هذه الثلاثة آلاف دراهم ؟ " .. وولينا رجل أشار به محمد بن سماعه دمشق وأجرينا عليه (ألفى) درهم في الشهر فأقام بها أربعة عشر شهرا ووجهنا من يتتبع أمواله ويرجع إلينا بخبرة فصح عنه أن يملك قيمة ( ثلاثة عشر ) ألف دينار من دابة وبغل وخادم وجارية وغير ذلك ، وولينا رجلا أشار به غيركما  نهاوند  فأقام بعد عشرين شهرا من دخول يده في العمل سبعين بحينا (بيتا ) وعشرين بحينا وفى منزله أربعة خدم خصيان قيمتهم ألف وخمسمائة دينار ... وفى النهاية يقول " أن أهم الأمور كلها إلىَّ أمور الحكام ، إذ كنا قد ألزمناهم النظر في الدماء والأموال والفروج والأحكام ووددت أن يتأتى مائة قاض مرضيين وأنى أجوع يوما وأشبع يوما ...." . ومما سبق نفهم أن مرتب القاضي كان يتراوح بين (ألف )و (ألفى) درهم شهريا وأن عيون الدولة كانت تراقب القضاة وأحوالهم المادية .وربما لم يعلم المأمون ان السمكة تفسد من رأسها .!!

بذخ كبار الدولة وثرواتهم

1 ـ ونجا أصحاب السلطان من تلك الرقابة ، فكانت الأموال تجرى في أيديهم خصوصا من أشتهر منهم بالكرم مثل طاهر بن الحسين أحد القواد الكبار للمأمون والذي قضى على الأمين وهزمه . وقد أعطى طاهر بن الحسين أموالا للشعراء وغيرهم بلغت في يوم واحد (1.7) مليون درهم . وذلك القائد خشي من أن يتغير عليه الخليفة المأمون بسبب أنه الذي قتل الأمين أخاه ، وقد دس إلى المأمون من يسبر غوره ليستشف نواياه ، فدفع إلى حسين الخادم ( مائتي ألف ) درهم والى الكاتب محمد بن هارون ( مائة ألف) درهم فعرف منهما أن المأمون يبيت النية على الغدر به فأنقذ نفسه منه .. ولولا تلك الأموال ما نجا بنفسه ..

2 ـ وثراء المأمون والطبقة الحاكمة ظهر في زفاف المأمون وبوران بنت الحسن بن سهل الذي كان والى الحرب والخراج في بغداد ، حين كان المأمون في المشرق لم يأت بعد إلى العراق . وبعد أن وصل للعراق ووطد سلطانه ظل الحسن بن سهل محتفظا بمكانته. وزفت ابنته بوران إلى الخليفة في 3 رمضان سنه 210هـ وقد نثرت علية جدة بوران (ألف درة ) كانت في (صينية من ذهب ) . وأقام المأمون مع أتباعه عند الحسن بن سهل سبع عشرة ليلة ، كان الحسن يعد له كل يوم والجميع ما معه جميع ما يحتاجون إليه ، وأعطى هدايا عينية ونقدية لكل الضيوف ، وبلغت جملة النفقة التي تكلفها ( خمسين ألف ألف ) درهم ، فأمر المأمون بأن يأخذ الحسن بن سهل (10 مليون ) درهم من خراج فارس وأخذ الحسن ذلك المال وفرقه على أصحابه . وفى ليله الدخلة فرش الحسن بن سهل للمأمون حصيرا من ( ذهب ) ونثر عليه حين دخل البيت الجواهر، فكان بياض الجواهر يغطى صفرة الحصير الذهبي.  ولم يمس أحد ذلك الجوهر فقال: الحسن بن سهل للمأمون : هذا النثار نحب أن نلتقطه ، فقال المأمون لمن حوله من بنات الخلفاء :( شرفن أبا محمد )،  فمدت كل واحدة منهن يدها فأخذت درة ، وبقى باقي الدرر يلوح على الحصير . ونثر الحسن بن سهل على المأمون ـ في رواية الخطيب البغدادي ( ألف حبة ) جوهر ، وأشعل بين يديه شمعة عنبر وزنها ( مائة رطل ) ، ونثرا على القواد رقاعا فيها أسماء ضياع ، فمن وقعت في يده ضيعة كانت له ، ويقول الخطيب أن المأمون أمر للحسن بن سهل بعد انتهاء الضيافة ( بألف ألف دينار ) وأمر له بإقطاع في فم الصلح ...

3 ـ وقبل ذلك الحفل الأسطوري بثلاث سنوات وفى سنه 207هـ كان هناك غلاء في بغداد ..وصل ثمن قفيز الحنطة إلى 40 درهما وقبل عصر المأمون كان يكفى الرجل وزوجته ( 300) درهم في السنة للمعيشة ..

4 ــ وكان المأمون سخيا في عطائه كريما في أخلاقه . مدحه أعرابي فأعطاه خلعة وفرسا بكامل عدته ثم أعطاه ألف درهم وألف دينار وجارية حسناء وغلاما خادما ، ومدحه الشاعر العباسي بن الأحنف فأمر له بعشرة آلاف درهم ...!! وطمع في كرمه خادمه رشد الأسود فأخذ يسرق أباريقه والأواني ، وكان ذلك الخادم موكلا بوضوئه ، فعاتبه المأمون فقال له الخادم : " رزقي يقصر عنى " . فجعل رزقه مضاعفا ثم عاد الغلام للسرقة ، فقال له المأمون إذا أردت أن تسرق شيئا فبعه لي ، فقال له الخادم : فأشتر منى هذا الطست وهذا الإبريق قال : بكم ؟  قال بخمسة دنانير .. فقال المأمون أدفعوها له : فقال الخادم : بقى والله هذان ما بقى الزمان .

5 ــ وكان ذكيا سريع البديهة . يقولون : كان في مجلس علم حضرة العلماء والناس فجاءت امرأة فقالت : ( يا أمير المؤمنين مات أخي وخلف ستمائة دينار فأعطوني دينارا واحدا : وقالوا هذا نصيبك ) ، فقال لها المأمون : هكذا نصيبك : فقالوا له : كيف يا أمير المؤمنين ؟ قال هذا الرجل خلف أربع بنات : فقالت المرأة نعم ، قال المأمون فلهما الثلثان أي أربعمائة دينار ، وخلف والدة فلها السدس أي مائة دينار ، وخلف زوجة فلها الثمن أي خمسة وسبعون دينارا ، وقال للمرأة بالله ألك اثنا عشر أخا ؟ قالت نعم قال : أصابهم ديناران وأصابك دينار .....!!! )

إنتهى المقال .

ثانيا : جريدة العالم اليوم بتاريخ 18/2/1994

أرقام في تاريخ الخليفة المقتدر بالله العباسي

1 ـ تولي الخليفة المقتدر بالله العباسي سنة 295 هـ ومات مقتولا سنة 320 هـ . وكانت خلافته أربعا وعشرين سنة واحد عشر شهرا وأربعة عشر يوما ، من جملتها يومان وثلاث ليال خلعوه فيها من الخلافة ثم أعيد .  وكان عمره يوم مقتله ثمانية وثلاثين عاما وشهرا واحدا وخمسة أيام . بلغ الحلم في شهر شعبان قبل جلوسه في الخلافة بثلاثة أشهر .

وقتها كان في بيت المال الخاص (15) مليون دينار ، وفي بيت المال العام (600) ألف دينار ، وعملات أخري تصل بالمبلغ إلي(20) مليون دينار ، وكانت الجواهر والأثاث تزيد علي ذلك .

2 ـ  اشتهر المقتدر بالتوسع في الطعام والكرم في العطاء. بدأ خلافته بتفرقة عشرة آلاف دينار في بني هاشم وعشرة آلاف أخري في سائر الناس ، وأمر بمضاعفة مرتبات بني هاشم ، وفرق يوم التروية ويوم عرفة(30) ألف رأس من البقر وألف رأس من الإبل. وكان يصرف نفقات في الحجاز ومكة والمدينة مابين (315) ألف دينار إلي(426) ألف دينار سنويا. وكانت مرتبات القضاة في الدولة العباسية في خلافته (56569) دينارا سنويا .والمرتبات السنوية للمحتسبين وأعوانهم ( 430439)دينار .  ومرتبات أصحاب البريد (79400) دينار .ويقول فيه ابن الجوزي " وكان يصوم كثيرا ويتنفل بالصلاة كثيرا ، وكان في داره عشرة آلاف خادم وخص غير الصقالبة (السلاف ) والروم والسودان ، وكان تجمله وافرا"

3 ــ وفي سنة 305 قدم بغداد رسول ملك الروم لفداء الأسري والهدنة  ، وكان الرسول الرومي غلاما حدث السن وكان معه شيخ وعشرون غلاما ، فأقيمت لهم المنازل الواسعة للإقامة فيها ، ثم أحضروا بعد أيام إلي دار الخلافة والسلطان ، وقد عبأ لهم العسكر بالأسلحة التامة ، وكان عدد العسكر 160 ألفا مابين فارس وراجل ، وبعدهم الغلمان الحجرية والخدم والخواص بملابسهم الظاهرة ، وكان عددهم 7 آلاف خادم ، منهم 4 آلاف أبيض   و3آلاف أسود ، وكان الحجاب 700 حاجب ، وكان في نهر دجلة أنواع من السفن والمراكب من الطيارات والزبازب والسميريات في أفضل زينة ، وسار الرسول فمضي علي دار نصر القشوري الحاجب فرأي منظرا عظيما فظنه الخليفة ، فدخلته له هيبة حتى قيل له إنه الحاجب ، وحمل إلي دار الوزير فرأي أكثر مما رأي ولم يشك أنه الخليفة ، فقيل له : هذا الوزير ، وزينت له دار الخليفة فطيف بالرسول فيها فشاهد ما هاله ، وكانت الستور38 ألف ستر ، والديباج المذهب منها 12500 ، وكان عدد الأبسطة 22 ألف بساط . وكان في الدار قطعان من الوحوش قد استؤنست ، وأصبحت تأنس بالناس وتأكل من أيديهم ،وكان هناك 100 من السباع لكل واحد منها حارس . ثم أدخلوا الرسول إلي دار الشجرة ، وفيها شجرة في وسط بركة ، والشجرة فيها 18 غصنا لكل غصن منها فروع كثيرة عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة ، وأكثر قضبان الشجر فضة وبعضها بالذهب ، وهي تتمايل ، ولها ورق مختلف الألوان ، وكل شيء من هذه الطيور يصفر . ثم أدخلوه إلي الفردوس وكان فيه من الفرس والآلات مالا يحصي ، وفي دهاليزه 10 آلاف جوش مذهبة معلقة ، ويطول شرح ما شاهده الرسول من العجائب إلي أن وصل إلي الخليفة المقتدر وهو جالس علي سرير من أبنوس قد فرش بالديبقي المطرز وعن يمين السرير تسعة عقود معلقة وعن يسرته تسعة أخري من أفخر الجواهر يعلو ضوؤها علي ضوء النهار ، فلما وصل الرسول الرومي إلي الخليفة وقف عنده علي نحو مائة ذراع ، والوزير ابن الفرات قائم بين يديه والترجمان واقف يخاطب ابن الفرات وابن الفرات يخاطب الخليفة ، ثم بعد انتهاء المباحثات ، خرج الرسول ومن معه وطافوا بالدار ثم خرج في موكب في المدينة إلي دجلة ، وقد أقيمت علي الشواطي العنبلة مزينة والزرافة والسباع والفهود ، ثم أهدي للرسول وللشيخ الذي معه 50 بدرة ، في كل بدرة عشرة آلاف درهم  . ) هذا ما جاء في تاريخ المنتظم لابن الجوزي .

4 ــ ويقول ابن الجوزي : " وكان جواهر الأكاسرة وغيرهم من الملوك قد صارت إلي بني أمية ، ثم صارت إلي السفاح ، ثم إلي المنصور ، واشتري المهدي الفص المعروف بالجبل بثلاثة مائة ألف دينار ، واشتري الرشيد جوهرة  بألف ألف دينار.  ولم يزل الخلفاء يحفظون ذلك إلي أن آلت الخلافة إلي المقتدر ، وهناك ما لم ير مثله ، وفيه الدرة اليتيمة زنتها ثلاثة مثاقيل ، فبسط المقتدر فيه يده ، ووهب بعضه لصافي الخرمي،  ووجه منه إلي وزيره العباسي فرده وقال : ( هذا الجوهر عدة الخلافة ولا يصلح أن يفرق ) ، وكانت زيدان الكهرمانة متمكنة من الجوهر ، فأخذت سبحة لم ير مثلها وكان يضرب بها المثل ، فيقال : سبحة زيدان ، فلما تولي الوزارة علي بن عيسي قال للمقتدر : ما فعلت بسبحة جوهر قيمتها ثلاثون ألف دينار أخذت من ابن الجصاص ؟ قالت : في الخزانة ، فقال: تطلب ، فطلبت ، فلم توجد، فأخرجها الوزير من كمه وقال الخليفة : إذا كانت خزانة الجوهر لا تحفظ الجوهر فما الذي يحفظ ؟ وقال للمقتدر : إنها عرضت علي فاشتريتها،  فاشتد ذلك علي المقتدر .. وعرف أن الأيدي امتدت إلي خزانة الجوهر . )

5 ـ وفي سنة 320 حدث خلاف بين المقتدر ومؤنس الخادم ، فثار الجنود علي الخليفة ، ففرق عليهم أموالا كثيرة وخرج بهم لحرب مؤنس ، ولكنهم تسللوا من عنده وانضموا إلي مؤنس ، فانهزم الخليفة وضربه جندي فأوقعه، فقال المقتدر للجندي : أنا الخليفة ، فقال له : أنت ما أطلب ، ثم أضجعه وذبحه ، وأخذ رأسه لمؤنس ، وترك جسده مسجي حتى دفنت  جثته بدون رأسه ..

6 ـ ويقول ابن الجوزي :" وكان المقتدر قد أتلف نيفا وسبعين ألف ألف دينار، وذلك أكثر مما جمعه هارون الرشيد" !!

7 ـ ومستوي المعيشة في هذا العصر نتعرف عليه من خلال ذلك الخبر الذي رواه التنوخي في كتابه " الفرج بعد الشدة ".. يقول : ( إن بعضهم أضاع ثروته علي المغنيات ثم مات خادم كل مولي لأبيه ومات ابن عم له في وقت واحد ، وورثهما وكانت تركتهما 40 ألف دينار ، فعمر دارا بألف دينار ، واشتري ألات وفراشا وثيابا وجواري ثلاث بسبعة آلاف دينار ، وسلم ألفي دينار لتاجر ليتاجر له فيها ، وأودع في باطن الأرض عشرة آلاف دينار للشدائد ، وابتاع ضيعة تغل له في كل سنة ما يزيد علي مقدار نفقته . )

انتهى المقال .

اجمالي القراءات 3860