الدولة تستبدل العامية بالفصحـىَ
اليوم انتصر الاستعمار على الضاد!

محمد عبد المجيد في الأحد ٢٧ - يناير - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

اليوم انتصر الاستعمار على الضاد!

لغةُ أيّ بلدٍ هي عنوانُ حضارتِها، وتعبيراتُ مثقفيها، والخطُّ البياني لسياسييها، والحرفُ المقدَّس في جهاز العدالة، وصِلة الوصل بين معابدها و.. السماء في الصلوات والتراتيل.
لغةُ أيّ بلدٍ تحفظ أرشيفَها التاريخيَ وأدبياتــِها وشِعْرَها ونثْرَها وخُطب زعمائِها والسباحة الماهرة في أثيرها.
لغةُ أيّ بلدٍ هي صلة الوصل الحقيقية بين اللسان والفكرة بعيدًا عن حِوارات الشوارع والحواري والأزقة والمقاهي والغُرَز.
لغةُ أيِّ بلدٍ كلما زادتْ رونقـًا وقوة ومَنـَـعة وثراءًا في مفرداتِها وتوسعة في معاجمِها، خشيَ خصومُها أن تصبح اللغةُ خطَّ الدفاعِ الأولِ إذا تهاون السلاحُ أو ضعف، جاءتْ اللغةُ والموسيقىَ والمارشات لتعضدد وتشدّ من أزر الوطن حتى يقوم علىَ قدميه ويدافع عن هويتــِه.

 

 

حدّْثني عن قوة وسلامة وصحة لسان أمة قبل أن تتباهىَ بعدد الفرقاطات والغواصات والمقاتلات، فالأولىَ تشتريها بجهدك في تحصيل العلوم والآداب، والثانية بأموال تكون قد اقترضتها ويُسدّد أحفادك القرض و.. فوائدَه.
إذا نظرتَ إلىَ زعيمٍ فابحث عن الكتاب في يده قبل أنْ تفغر فاك لبساط أحمر يمشي عليه هو أو عجلات سيارته الفارهة.
إذا أردتَ بقومٍ سوءًا فاستبدل بلغةِ الكتاب لغةَ الشارع، واجعل أنفاسَك في النرجيلة أوجاعَ لسانــِك، واهجر تاريخَ وطنــِك لتتعلمه من جديد على الشاشة الصغيرة بواسطة أعداء الكتاب.

إذا تمكنتَ من جعل زعيم بلدٍ يتباهىَ بلغة الجهلاء، ولا يكترث لجمال وعظمة وقوة وثراء ألسنة مرؤوسيه فيطلب منهم أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير فاذهب إلىَ المقابر لتسمع الموتىَ لعل عظامَهم تكون أفصح من الأحياء.
استمعت اليوم إلى كلمة وزيرة التعاون الدولي والاستثمار المصرية سحر نصر وهي تتحدث أمام قيادات الدولة بلغة عامية مُشوشة، مهلهلة، ممزقة، ومقطّعة تعادل أسلوبَ تلميذ في الثانية الإعدادية، فتأملتُ في الحاضرين وكدت أسمع صرخات حروف اللغة العربية تتوجع، فكل قيادات مصر من رئيس الدولة ورئيس مجلس النواب والإعلاميين والوزراء والقضاة والمستشارين والفنانين خصومٌ للكتاب والفُصحىَ!

ما أحزن بكاء لغة قومية، وفي حديث الوزيرة اليوم سمعت أنين طه حسين والرافعي وخيري شلبي وبنت الشاطيء والعقاد وميّ زيادة والبابا شنودة والشيخ محمد الغزالي والمازني وجلال معوض وفاروق شوشة وأحلام مستغانمي!
اليوم كان سرادق عزاء لمن أراد أن ينعي لغة الضاد فقد جاءتْ الدولة بقصرها وكوخها، بمعلميها ومثقفيها، بإعلامييها ومسؤولين لتبلغ أمة العرب أن مصر قررت الانتصار للغة العامية بحجة أن المصريين لا يفهمون لغة أبي تمام و.. أن المعلقات السبع لوغارتمات؛ وأن ضبط الكلمات طلاسم دخلت معاجم العربية عنوة.
كانت قيادات الدولة كلها جالسة تصغي إلى لغة ابتدائية أو إعدادية تكاتفت وسائل الإعلام لرفعها فوق هوية وطن.

كان الاجتماع عن صندوق تحيا مصر، ولم يكن مناسبــًا أنْ تحيا مصر وخنجر العامية الهشّة يطعنها أمام كل المسؤولين ولم يعترض واحد على أوجاعها وآلامها.
اليوم حقق الاستعمار والاستدمار نجاحا باهرًا على الأرض وفوق أغشية اللسان.
الخطوة القادمة ستكون توجيهات بكتابة القرآن الكريم والكتاب المقدس باللغة العامية تسهيلًا للشعب في الاتصال مع السماء.

محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 27 يناير 2019

 
 

 

 
 

 

 
اجمالي القراءات 3605