نظرات في العبودية

سامح عسكر في الأحد ٢٣ - ديسمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

لم يخطئ الإنسان في تصور ما بقدر خطأه في تصور معنى الحرية، فقديما كان ينظر للأحرار على أنهم ليسوا أرقاء وعبيد عند الغير، ولم يكن العقل الإنساني قد نضج بعد ليرى العبودية شئ بشع، بل كان ينسجم معها ومن أعظم الفلاسفة كعقلاء الإغريق وعصر النهضة الأوروبي..

نعم معظم الفلاسفة القدماء وفي العصور الوسطى إلى عصر النهضة لم يكونوا ضد (العبودية) كما نفهما أنها استعباد ورق واستغلال، بل أٌقروها لأسباب اجتماعية أو اقتصادية، وهذا يفسر عدم تعرض رسائل الأنبياء صراحة لتحرير العبيد كون هذا التحرير لم يكن مطروحا أصلا كمطلب إنساني، لكن التاريخ يشهد أن بعض الحكومات طورت مفهوم العبودية إلى (جندية) بمعنى استغلال العبيد في حروبهم مثلما فعل الأيوبيون والمماليك ثم العثمانيين بعد ذلك في كتائبهم المشهورة ب "الإنكشارية" 

ولتفسير كيف حدث ذلك

فالحرية ليست لها معنى واحدا..هذا يتطور مفهومه عبر الزمن، فالحرية في زمن العبيد كانت حرية إقرار المصير لدوافع دينية أو قومية أو سياسية، أما قضية الرق هذه قضية اجتماعية لم تطرح على جدول الحريات، وساد اعتقاد إلى وقت قريب أن الله خلق البشر فريقين الأول ميزه بالحرية، والثاني قضى عليه بالرق، وهو اعتقاد طبقي دخل معظم الديانات، ما زالت آثاره حتى الآن في الهندوسية حيث يعتقدون أن طبقة العمال والكادحين (الشودرا) هي أحقر الطبقات لعقاب الرب لهم بما فعلوه في حياتهم السابقة طبقا لإيمانهم بالتناسخ.

وأما كيف تخلص الإنسان من العبودية فهذا كان على مرحلتين:

الأولى: الاستعمار الغربي لشعوب العالم بدءا من القرن 16 مع ظهور الاكتشافات والقارات الجديدة.

الثاني: الثورة على الأديان في القرن 19

فالاستعمار ساهم في شحن العبيد والأرقاء لأوروبا وأمريكا، والتمييز ضدهم كشعوب وصل لحد الظاهرة وليس مجرد كونه عملية تربح أو كفالة، ثم وعندما ثار الإنسان على المعتقدات في عصر الصناعة وشيوع الأفكار المادية تخلص بالتبعية من هذا التقسيم الإلهي –المشار إليه عاليا – وفطن القادة والمفكرين لأول مرة أن هذا التمييز ظلم لا يجب أن يستمر، فشرعوا في مكافحته إلى أن كللت ثورة الأمريكيين ضدها بالنجاح.

وهذا تأصيل لكيفية ورود الرق في القرآن – مثلا – دون إنكار، لكونه وجودا متسقا مع طبيعة البشرية وقتها، لكن بالقراءة الجيدة للقرآن يلمح أنه شجع على تحرير العبيد بطرق منها الكفارات والمنح الإنسانية مثلما سيقت في قصص تحرير عبيد لأبي بكر الصديق، بخلاف بعض فلاسفة الغرب الذين (نصروا) العبودية صراحة كهيجل وكانط وهوبز وماركس وهيوم..فينسى البعض هذه الفعل منهم ويشنون هجوما على القرآن لإقراره الطبقية في الأحكام، مع أن هناك فارقا بين الإقرار والنُصرة، الأولى أقرب لموائمة الظرف دون إبداء رأي، أما الثاني فتعني الانحياز وربما التأصيل الفكري.

وأما لماذا تأخر المسلمون في تحرير عبيدهم عن الغرب فلأن معتقدهم الديني منعهم من ذلك، وطوال حقبة سيادة هذا المعتقد أصبح المبرر موجودا للعبيد، ويمكن القول أنهم تخلصوا من العبودية ليس إقرارا منهم بحُرمة ذلك في الدين أو تعارضه مع العدل والإنسانية، بل لأنهم يوائمون ظرفا عالميا أصبحوا جزء منه بعد تشكيل عصبة الأمم ثم مجلس الأمن والأمم المتحدة المنبثق عنها مجالس حقوق الإنسان، فالذهنية الإسلامية كانت – ولا زالت – تخلط بين الدين وكل شئ..بما فيها الاجتماع، والعبودية شأن اجتماعي فأصّل الفقهاء لها بابا في الفقه يدعى بفقه ملكات اليمين، ثم تناولوا الرقيق كشأن ديني مما ساهم في تعطيل التخلص من هذه الآفة لوقت متأخر بل لا زالت تمارس خارج القانون في دول مثل موريتانيا والسودان واليمن.

ولأن المسلمين كانوا متخلفين فكريا للحد الذي منعهم من النظر في دينهم بشكل نراه الآن في الفضائيات ونقد الموروث وكتب الأحاديث والتفاسير وغيرها، فهذا الجهد التنويري في الإعلام والإنترنت استهدف علاج العمى الإدراكي الذي منعهم من اكتشاف حقيقة العبودية بالأساس، بدليل أن خصوم هذا الجهد لا زال البعض منهم يؤمن بالعبودية في شكلها القديم، ويستحدث أنواعا جديدة منها بالتمييز الديني والقومي ضد الأقليات والمخالفين بشكل عام، بل وفي بعض الدول يبررون للحكومة منعها لكافة صور المناصب والثروة عن تلك الأقليات.

فإذا كان هذا موقف الأصوليين مفهوما فكيف نفهم موقف بعض اللادينيين الذين يرون أن أي جهد للمساواه في الغرب مع المسلمين هو في ذاته ضعفا وغباءا وقلة حيلة، مثلما ينتقدون إيمان الأوروبيين بحقوق المسلمين، وصعود مسلمين لعضوية الكونجرس..هنا بقايا العبودية والعيش في كنف الدين القديم عدة قرون، وكأن لادينيو العرب هم أصوليين في الحقيقة، ومثلما ينتقدون أصولية المسلمين (وعبوديتهم) لدينهم هم يعانون أيضا من شكل آخر للعبودية وهو (عبودية الذات) ليس تعميما ولكنها مقاربة، فالاتجاهات اللادينية متعددة في رؤيتها لقضايا العبودية، ومثلما يؤمن البعض منهم بضرورة قهر المسلمين، يرى البعض الآخر بضرورة مساواتهم كبشر، ولا ذنب لهم في عقائد موروثة يمكن حل مشاكلها بالقانون وجهود التنويريين معا.

ومفهوم عبودية الذات هذا لا أراه منسحبا فقط على الشخصية والسلوك والأهواء، بل يتعداه للأفكار، فالمؤمن بالفلسفة المادية مثلا ويستغرق فيها لحد إنكار كل الفلسفات الأخرى أو عدم احترامها هو (سجين) أفكاره ، ولا يملك الإرادة لكي يكسر أهواءه تلك بمراجعة نقدية، فالبشر على كافة انتماءاتهم يكرهون النقد كطبيعة.. ولا يشذ عن ذلك إلا الإصلاحيين وأصحاب النفوس المسالمة روحيا، في حين يحتاج الآخرون لجهدا عظيما للانتقال إلى سلامهم الروحي والإيمان بالآخر، وفي ظني أن هذا الانتقال يحدث غالبا بالصدمات والتجارب..فلا فارق إذا بين عاقل وجاهل..الجميع يتغير بالصدمات.

أختم بأن لفظ "العبودية" كانت له دلالة دينية عند المسلمين، بمعنى أن عبودية الإنسان لله لا تتحقق إلا بشروط منها كذا وكذا، وقد فصل ذلك الشيخ ابن تيمية في كتابه "العبودية" ولإيقاع هذا اللفظ الآن سلبيا فقد يستغرب البعض أن ابن تيمية كتب عنه سائلا هل كان يوافق أو يعارض، وفي الحقيقة ابن تيمية لم يتكلم عن الرقيق في هذا الكتاب، ولكنه فصل أحكام العبادة وشرائطها كما يراها فقهيا وعقائديا وسلوكيا، وبرغم أنه أقر عبودية الإنسان للإنسان في كتاباته – وهذا طبيعي بحكم زمنه – فقد أسهب في تحقيق العبودية لله – وهذا طبيعي لكونه فقيها 

ومبعث الاستغراب هنا أن لفظ "عبد وعبيد" كان يطلق على الرقيق منذ قديم الأزل، بما فيهم طبعا زمن ابن تيمية، فعندما يتناولوه إلهيا فهو بمعنى "العبادة"، أما اجتماعيا فهو بمعنى "الخدمة والتملك" هنا أصبح منطوق اللفظ واحد بمعنيين في النفوس متناقضين تماما، وهذا يؤكد تطور الألفاظ واللغات والعقائد حسب الزمن، بدليل ما سقناه عن إيمان الفلاسفة بالعبودية، وكأن شيئا مشتركا جمع فقهاء الأصولية وفلاسفة التنوير في موقفهم من الرق وهو (الزمن)

اجمالي القراءات 4144