اتّباع الرسول ما بين الفئ والغنيمة

سامح عسكر في الأحد ٢٥ - نوفمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

أزعم أن القرآن لم يتعرض لاختلاف تأويلي وانحراف أتباعه منهجيا بقدر ما تعرضت له الآية رقم 7 في سورة الحشر ، حيث وظفت الآية في بيان صحة الاحتكام للمرويات والإيمان بحجتها التشريعية، وقد مثّل ذلك انقلابا في العقل المسلم ما زال يعاني منه إلى الآن، حدثا لم يخلق أزمة فقط بين المسلمين وأنفسهم بل بينهم وبين العالم تأثرا بروايات الجهاد والحرب والكراهية في المرويات التي اعتبرت تحت هذا التأويل شريعة إسلامية.

الآية نزلت في توزيع غنائم الحرب (الفئ) بقوله تعالى.." ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"..[الحشر : 7] فجرى إسقاط الآية على أحاديث الكتب التسعة والمرويات التاريخية وسير السابقين دون تمييز، ونزعت تماما من سياقها الحربي..

فكلما قالوا بحجية الحديث استدلوا بهذه الآية، على اعتبار أن ما أمر به الرسول في الآية هو ما قاله البخاري ، رغم الفارق الزمني الكبير بينهم 200 عام..والمثير أن بعض التفاسير القديمة للقرآن نفت ذلك وشهدت أن الآية نزلت في توزيع الغنائم، وسأعرض شهادة أربعة من أوائل مفسري القرآن عند السنة بأن المقصود من الاتباع هو الطاعة في التوزيع:

1- قال مقاتل.." وما آتاكم الرسول، يقول ما أعطاكم الرسول من الفيء فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"..(تفسير مقاتل بن سليمان 4/279)

2- قال الزجاج "وَمَا آتَاكَم الرسُولُ فَخُذوهُ أي من الفيء ، وَمَا نَهَاكمْ عَنْهُ أي عن أخذه فَانْتَهوا"..(معاني القرآن 5/146)

3- قال الماتوريدي: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).
يعني: ما أعطاكم رسول اللَّه من هذه الغنيمة فخذوه ولا تظنوا به ظنًّا مكروهًا وما نهاكم عنه فانتهوا، ليس نهي زجر وشريعة، ولكن نهي منع، وما منع منكم من هذا الفيء فانتهوا عنه."..(تفسير الماتوريدي 9/587)

4- قال السمرقندي: "وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، يعني: ما أعطاكم النبيّ من الغنيمة فخذوه، وما أمركم الرسول فاعملوا به، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا يعني: فامتنعوا عنه. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصاه" (تفسير السمرقندي 3/428)

وغيرها

السبب أن هؤلاء لم يفسروا أمر الاتباع بحجية السنة، لأن الحديث عن تلك الحجية لم يكن موجودا حتى نهاية القرن الرابع الهجري، كل هؤلاء عاشوا ما بين القرنين (الثاني والرابع الهجريين) والكلام على حجية الأحاديث واعتبارها مصادر تشريع ظهر متأخرا على التدوين بقرنين من الزمان على الأقل ، ويلاحظ ذلك من مدونات المفسرين والفقهاء والمؤرخين الكبار كالطبري والغزالي والبغدادي..وغيرهم في هذا الزمن، كانوا غير مهتمين بتصحيح الأحاديث واعتمادها، وكتب هؤلاء في ميزان الحديث 95% منها ضعيف بمعايير المحدثين ، وخصوصا عند الحنابلة.

أذكر أن أول ظهور لربط تلك الآية بما يعرف ب (حجية السنة) كان عند الماوردي في تفسيره المشهور بالنكت العيون، قال : "وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فيه أربعة أوجه: أحدها: يعني ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه , وما منعكم منه فلا تطلبوه , قاله السدي. الثاني: ما آتاكم الله من مال الغنيمة فخذوه , وما نهاكم عنه من الغلو فلا تفعلوه , قاله الحسن. الثالث: وما آتاكم من طاعتي فافعلوه , وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه , قاله ابن جريج. الرابع: أنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه لأنه لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد"..(تفسير الماوردي 5/ 504)

ويلاحظ التفسيرين الأول والثاني يؤكدان رؤية الأربعة السابقين بأن أمر الاتباع ظرفي بتوزيع الغنائم ، وأما التفسيرين الثالث والرابع أراهما عمدة القائلين بحجية السنة في التشريع، مع العلم أن الماوردي توفى سنة 450 هـ أي ظل الحديث عن حجية السنة مجهولا لأواسط القرن الخامس، مع حفظ عدم تصريح الماوردي بتلك الحجية أو التنظير لها في كتبه، على اعتبار أن زمن الماوردي كان زمن تصنيف وتحقيق وتعديل روائي حوى أصحاب الكتب التسعة إضافة للطبراني وابن خزيمة والبيهقي والدراقطني وابن بطة والأصبهاني والحاكم وغيرهم..

فلم يكن مقبولا في ذلك الزمن أن يُنظّروا لحجية السنة في عز التصنيف، كون التنظير يلزمه تحديا معرفيا وسياسيا لم يوجد في هذا الزمان بالقدر الذي يهدد سلطة المحدثين، ومن المنطقي أنه حين تستقر الأفكار تبدأ أولى تحدياتها بجهل جوانبها الحياتية، فيلجأ المفكرون والواعظون (للشروح والردود) فتم التصنيف أولا في مشاكل الحديث بالتوازي مع التصنيف أعقبه الشرح بعد ذلك، ظلت هذه الحقبة حوالي 300 عام تقريبا وانتهت مع ابن الجوزي بكتابه "كشف المشكل من حديث الصحيحين"

نأتي الآن للشق الثاني من تلك الدراسة وهي مناقشة مفهوم الغنائم وعلاقتها بالفئ، فقد قُسّمت الغنائم على ستة أسهم كي لا يتربح منها الأغنياء (كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم)..كون السائد وقتها بين العرب أن غنائم الحرب من نصيب الأحرار والذكور المقاتلين فقط، وبالتالي المرأة والعبيد والقاعدين ليس لهم نصيب..حتى لو كانوا محتاجين، الآية نزلت لعلاج ذلك..والأغرب أن الإمام مالك قال بنفس ما كان يفعله العرب بتوزيع الغنائم على الأحرار المقاتلين (موطأ مالك 1301)..ولا تسأل كيف حدث ذلك..!

فحسب الآية تم تقسيم الغنائم على ستة أسهم كالتالي..

الأول: الله ..وهذه تعني الصدقات والهبات التي يمنحها الخليفة أو العلماء للمحتاجين وذوي العسرة، ولها مصارف أخرى في البناء والعمران، ومقدار هذا المصرف ثابت ب (خُمس الغنائم) 

الثاني: الرسول..وهو الإنفاق على نفسه وأهل بيته بالخصوص والهاشميين بالعموم، ومقدار هذا السهم ثابت أيضا (بخُمس) ما تبقى بعد اقتطاع السهم الأول..وحكمته لعدم قبول تلك الفئة للصدقات فوهبوها نصيبا من الفئ.

الثالث: ذوي القربى..والأشهر تفسيرا هم آل البيت..لكن ولأنه تفسير مشابه للسهم الثاني بعض المذاهب أنكرته وضمته لأسهم أخرى كالأحناف..

الرابع: اليتامي..وهم الأطفال الذين فقدوا آبائهم في سن صغيرة.

الخامس: المساكين..وهم الفقراء والمحتاجين

السادس: ابن السبيل..وهم الأغراب الذين غلبتهم الشدة في سفرهم

حدث خلاف بين المذاهب على هذا التقسيم رغم أنه قرآني، فالسنة ألغوا سهم الله باعتباره لا يحتاجه منا، وذكره في الآية كان عَرَضا وأمرا بوجوب التقسيم على الباقي، وأن ما ينفق على سهم الله في الحقيقة هو من بيت المال الذي يشمل موارد أخرى كالزكاه والغنائم والخراج والركاز وغيرها..

بمناسبة الركاز..توجد فتوى قديمة للشيخ محمد حسان يقول فيها بجواز الحفر عن الآثار وبيعها باعتبارها (ركاز) لكن إذا بلغت حد نصاب الزكاه يجب دفعه، فالركاز إذن هي الكنوز والأموال المدفونة، وفتوى الشيخ تمثل أزمة بين العقل الأصولي الغير مؤمن بالدولة الحديثة ولا بقيم العصر الحديث، وطبعا اضطر للتراجع عنها خشية السجن..

كذلك ألغى السنة السهم الأول، وبعضهم ألغى السهم الثاني بحجة وفاة الرسول، فأصبح لدينا أربعة أسهم ، منهم من ضيق أكثر وجعلهم ثلاثة عن طريق ضم ذوي القربى للفقراء، وعقلا لا يجوز إعطاء الصدقات والأموال لأغنياء، أما فقه الشيعة فتوزع نصف الغنائم على فقراء الأشراف، والنصف الثاني للإمام ينفقه على الدولة.

معلومة: يوجد رأي بأن الفئ لا يعني الغنائم..وهذا غير صحيح، الفئ كلفظ يعني الإكرام والهبة، ما أفاء الله..يعني ما أعطى الله، لكن سياق الآيات في سورة الحشر (عسكري) فتم اعتبار الغنائم من المهزوم هبة وإكرام من الله بتوفيقه للمسلمين على النصر، واختلط ذلك على بعض المفسرين الذين قالوا بنسخ آية الفئ بآية الغنائم في سورة الأنفال رقم 41، على أن الفئ هبة في الأخير، أي وصلوا للمعنى الصحيح ولكن بوسيلة خاطئة وهي النسخ، وما كان هذا ليحدث لو ضعف اجتهادهم وخشيتهم من التقوّل البدعي..!

وأما معنى الفئ المختلف وهو المال غير المغتصب..فالغنيمة تؤخذ قهرا أما الفئ يُؤخذ صلحا..ولو دققوا في هذا التفسير فالصلح بدايته معركة، أي ما أخذوه فيئا هو عن تنازل المجبور، وهو نفس معنى الجزية لولا أنها بنصيب معلوم، لكن الفئ لا حدود فيه، وهذا المعنى اشتبه على معمر بن راشد الذي فسر الفئ بالجزية (تفسير عبدالرزاق الصنعاني 3191) وأصله في روايته عن عمَر بن الخطاب في الطبري، أي أنه تفسير عُمَر في الأخير، وبالتالي أسقط تعريف الشافعي للفئ بأنه لم يأت بخيل ولا ركاب..أي لم يأت بحرب ولا غزو، فالجزية مرحلة متقدمة لما بعد التمكين العسكري.

والغريب أن الآية رقم 6 في سورة الحشر تؤكد هذا المعنى أن الفئ والغنيمة واحدة ، قال تعالى " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء" [الحشر : 6] فالتسلط ليس دعوة سلم أو صلح ، ولفظ (أوجفتم) كان مدار تفريقهم بين الفئ والغنيمة، ومعناه تسارع الخيل على الأرض في المعارك، فاستقر في أذهانهم أن الفئ ليس عن معركة..وهو صحيح، لكن هناك ما يعرف (بالاستسلام) أن يُسلّم طرف ما سلاحه وأمواله للآخر دون قتال، وبالتالي أصبحت تلك الأموال غنائم.

هم اعتبروا الصلح وما يكسبه المسلمون عنه ماليا مختلف عن تقديرات الحرب، لكن بدا أننا أمام لفظ عام خصصه اهول بالغنيمة، فالمصالحات العسكرية تؤدي لتنازلات يجري اعتبار ما ينتج عنها غنائم وانتصارات أحيانا..

بالعموم: أرى أن مبحث التفريق بين الفئ والغنيمة ليس هذا زمنه، أو إذا اعتبرناه مهم عند الدواعش فمؤداه واحد بتطبيق واحد..مع حفظ القليل من الخلاف حول توزيع الأسهم خلافا لا يضر أو يُحدث فتنة في المجتمع، لكن طرحه من باب العلم بالشئ وثقافات الأقدمين، والأهم أن هذا العرض يكشف أساليب تناول الفقهاء مع القرآن التي لا تتجاوز دائرة التقليد المفرغة، فلم يُكلف أحد منهم أن يسأل نفسه تلك الأسئلة هنا، ذلك أن القرآن لديهم مقيد بالحديث وفتاوى الأئمة، فلا مجال لتفسيره خارج تلك الدائرة ..أو الاجتهاد فيه للمصلحة العامة.

اجمالي القراءات 8419