نعيد نشره للتذكرة :
الصلاة فى القرآن الكريم : الباب الأول

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٦ - سبتمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

نعيد نشره للتذكرة :

الصلاة فى القرآن الكريم : الباب الأول

            

                                              الفصل الأول

الصلاة قبل نزول القرآن

في الرسالات السماوية السابقة وفى حياة العرب الجاهلية

  

أولا:

وحدة الدين - وحدة الوحي - وحدة الشرع - ووحدة الحساب في الآخرة.

 

1- مهما اختلفت الأديان وتنوعت ففي النهاية تنقسم إلى نوعين: دين الحق الذي أنزله الله تعالى على الأنبياء، ودين الباطل وهو ما يخترعه البشر من أديان أرضية أو نوعيات التدين العملي الناتج عن تحريف البشر في وحى الله تعالى ودينه الحق.

ومهما اختلفت لغات البشر فدين الله الذي انزله وحيا على الأنبياء يعنى الإسلام "(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ)( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).آل عمران  19؛85" وهذا الإسلام يعنى في كل اللغات التي نزل بها الوحي الإلهي التسليم لله تعالى وحده وطاعته وحده فيما يخص التعامل مع الله تعالى، والسلام في التعامل مع البشر، إلا انه تحول عندنا إلى دين بشرى محلي في صناعة بشرية تمتلئ بالتعصب والإرهاب ناطقة باللغة العربية .

2- لقد نزل كل وحى على كل نبي بلسان قومه " وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ - إبراهيم 4" وكل وحى عبّر عن إسلام المؤمن قلبه وحواسه لله تعالى وحده وتمسكه بالسلام مع الناس. وهكذا كان أتباع الأنبياء في كل عصر مسالمين في التعامل مع غيرهم ومسلمين لله وحده صلاتهم وحياتهم ومماتهم، وهذه ما ورثته ملة إبراهيم من تاريخ السابقين من الأنبياء، وما أمر الله تعالى خاتم النبيين محمد – عليهم جميعا السلام – أن يعلن الالتزام به واتباعه:" قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ  "  الأنعام -163" 

3- وفى القرآن تأكيد على وحدة الوحي الإلهى الذي نزل على كل الأنبياء من نوح إلى محمد عليهم السلام "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ. النساء 163" 

الشورى 13"أيضا تأكيد على وحدة التشريع الكلي في الرسالات السماوية: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. الشورى  13"

فإقامة الدين وعدم التفرق فيه شرع واحد في كل الرسالات، وإقامة الصلاة أهم مظهر في إقامة الدين، ومعناه أن الصلاة طريقة واحدة في كل الرسالات التي نزلت على نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام.  

 

4-وهكذا فالله واحد أحد، ودينه للبشر جميعا واحد هو الإسلام بالمعنى الذي ذكرناه مهما اختلف الزمان والمكان، وقد نزل به الوحي الالهى بمختلف اللغات. يقول: تعالى لخاتم النبيين محمد عليهم جميعا السلام "مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ. فصلت 43 " فالذي قيل له في الوحي الالهى واحد، وما قيل ضده من تجريح واضطهاد من المشركين واحد أيضا مهما اختلفت اللغات والزمان والمكان. وفى قصص الأنبياء في القرآن تقرأ نفس الكلام في  دعوة كل نبي لقومه مهما اختلفت اللغات والأقوام؛ كل نبي يأمرقومه بالتقوى . والتقوى هي تلخيص معجز لمعنى الإسلام الذي يعنى طاعة الله تعالى في العقيدة والسلوك.

ويقول تعالى لخاتم الأنبياء ينبه على وحدة العقيدة الإسلامية في كل العصور وفى كل الوحي الذي نزل على كل الأنبياء ومسئولية كل نبي في طاعة هذا الوحي وإلا أضاع نفسه وكان من الخاسرين: " وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ. الزمر65-66 )

والشرع الذي يعبد الناس به ربهم الواحد هو أيضا واحد في أساسياته، ومنه إقامة الصلاة، وكل نبي يقول " بسم الله الر حمن الرحيم " باللغة التي يتكلمها قومه - ليس في الصلاة فقط - ولكن في ابتداء كل أمر،  كما فعل نوح عليه السلام حين ركب السفينة " وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ.هود 41 " لم يقلها نوح باللغة العربية التي لم تكن موجودة وقتها، قالها بلغة قومه التي اندثرت ولا نعرف شيئا عنها.  النبي سليمان عليه السلام حين كتب رسالة إلى بلقيس يدعوها إلى الإسلام وليس إلى غيره قال في مطلع خطابه لها:" إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. النمل 30-31 " اى كتب البسملة ودعا للإسلام باللغة العبرية- وليس العربية - وأعلنت بلقيس إسلامها بلغة اليمن العربية الجنوبية " قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ:النمل 44 "

والقرآن الكريم نقل آيات من الوحي الذي نزل على إبراهيم وموسى في الأمر بالصلاة وإيثار الآخرة:" قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى  بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى." الأعلى 14 -"  وتكرر ذلك في سورة النجم "36 –"

ولان الوحي واحد والشرع واحد انزله الإله الواحد جل وعلا فان أوامر القرآن – وهو آخر وحى إلاهيللبشر - تأتى عامة للبشر بالعدل وإقامة الصلاة في كل مسجد مع إخلاص العبادة لله وحده ومنه قوله تعالى في سياق حديثه لكل بنى آدم وعنهم:" قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.الأعراف" 29 - 31"

المؤمنون في كل زمان ومكان يلتزمون بالوحي الصحيح الذي نزل باللغة التي يتكلمونها، والله تعالى أوجب عليهم الصلاة فرضا يتكرر في أوقات معلومة " إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا. النساء 103" الآية هنا عامة تتحدث عن كل المؤمنين قبل نزول القرآن وبعده في تقرير إلاهي مؤكد مكتوب أي مفروض.

5- وليس المؤمنون هم أتباع الرسالة الخاتمة فحسب بل المؤمنين هم أتباع كل رسالة سماوية وأتباع كل نبي، لأن الحساب يوم القيامة يوم عام لجميع الناس ولكل الأمم " ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ.هود103 ".

وفي نفس الوقت فذلك الحساب العام حساب موحد بشرع واحد في أساسياته، أنزله الإله الواحد.  ومهما اختلف اللغات التي يصلى بها البشر للرب الواحد الأحد جل وعلا فالعبرة بالخشوع في الصلاة وفى المحافظة عليها بالخلق السامي والسلوك القويم في التعامل مع الناس، وتلك أمور قلبية وسلوكية تسرى على كل مجتمع و على كل إنسان.

وفى هذا الحساب الموحد العام لكل البشر تأتى الصلاة فيه بندا أساسيا، والخاسرون في كل زمان ومكان هم الذين أضاعواالصلاة ولم يصدقوا بكتاب الله " وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ  فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى. القيامة 29 -"

وبعد أن يدخلوا جهنم يعترفون بالذنب، إذ أضاعوا الصلاة بالعصيان " مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ.المدثر 42 -"

إذن هي صلاة واحدة لإله واحد في دين إلاه واحد، ويوم الحساب واحد للجميع.

 

 الصلاة في الرسالات السماوية السابقة.

الأمم السابقة أمم بائدة وأمم استمر وجودها وتراثها:

 

لا نعرف عدد الأنبياء (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) النساء 164 مع أن الله تعالى أخبر انه بعث في كل أمة نذيرا (وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) فاطر 24) والأمة في المصطلح القرآني تعنى هنا اى مجتمع في زمان معين.لم يقص علينا القرآن إلا ما بعض من بعثهم الله تعالى في منطقة الشرق الأوسط. ومن خلال قصص الأنبياء جاء تاريخ بعض الأمم السابقة التي عاصرت أولئك الأنبياء.

تنقسم الأمم السابقة إلى قسمين: قسم أهلكه الله تعالى وأباده مثل قوم نوح وغيرهم.

استمرت ذرية نوح بعد هلاك قومه المعاندين، وكان من هذه الذرية من عاند الأنبياء اللاحقين فعوقبوا بالابادة مثل قوم وعاد وثمود ومدين في منطقة الشرق الأوسط.

قال تعالى عن البشر بعد طوفان نوح ": وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ "الصافات 77"،. يقول تعالى عن البائدين من ذرية نوح كقوم عاد وثمود " فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ؟؟ الحاقة (8) ويقول تعالى " وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى  وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ". النجم (50 -)

وقسم استمر وجوده متمتعا بالرسالات السماوية المشهورة في فروعه، ومنهم في الشرق الأوسط ذرية إبراهيم المتمثلة في العرب المستعربة وبنى إسرائيل، يقول  تعالى عن إبراهيم: "قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) البقرة  (124)  إذن له ذرية سيكون إماما للمسلمين  منهم . ويقول تعالى عن ذرية نوح وإبراهيم:" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) الحديد26"

في الأمم البائدة كانت الصلاة موجودة يحافظ عليها المؤمنون مع النبي، وقد اندثر تاريخ هذه الأمم لكن القرآن يذكر طرفا منه،  فقوم شعيب يتهكمون عليه وعلى صلاته " قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ "هود:87) وبينما اندثر تاريخ الأمم السابقة فإن تراث إبراهيم استمر مع ذريته صحفا سماوية وأنبياء من ذريته مع تحريفات وضعتها الذرية، واختلافات، واتباع بالحق وزيغ بالباطل، وكانت الصلاة احد المعالم الأساسية التي توارثناها عن إبراهيم فلحقها كل ذلك.

 

ثانيا:

ملة إبراهيم الحنيفة بين تشريع السماء وتحريف الذرية

 

1 -كانت الكعبة أول بيت وضعه الله تعالى للبشر قبل إبراهيم "قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ َ  إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ - فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينََ " آل عمران 95".

كان بيت الله مهجورا قبل إبراهيم ثم أوضح الله لإبراهيم مكان البيت." وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. الحج (26-)   

وجعل الله تعالى من إبراهيم إماما للناس يقيم الصلاة حول البيت بعد أن رفع قواعده، و يساعده في ذلك ابنه إسماعيل الجد الأكبر للعرب المستعربة" وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ".. البقرة (124-) 

2- إذن توافد الناس على إبراهيم بعد أن أتم بناء البيت الحرام يتعلمون مناسك الحج والاعتكاف والصلاة عند البيت بنفس الطريقة التي أراها الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل، وهى نفس طريقة العبادة التي كانت من قبل للأمم السابقة البائدة حيث كان البيت الحرام أول بيت لله تعالى وضعه للناس منذ أن كان على هذا الكوكب ناس. وهي نفس الطريقة التي حافظت الذرية على حركاتها وأعدادها ومواقيتها حتى جاء خاتم النبيين محمد عليهم جميعا السلام. هذه الطريقة في العبادة من صلاة وصدقة وصيام وصلاة تسمى في مصطلح القرآن الكريم " ملة إبراهيم ".

وقد كان إبراهيم وهو يرفع القواعد من البيت مع ابنه إسماعيل يدعوان الله أن يريهما ويعلمهما مناسك الصلاة والحج وان يجعل من ذريتهما امة مسلمة تحافظ على مناسك الإسلام وان يبعث الله فيهم رسولا يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). البقرة (127-)   

والحكمة المذكورة في قوله تعالى:  "ويعلمهم الكتاب والحكمة " ليست شيئا خارجا عن الكتاب بل هي آيات التشريع والأحكام التي بداخل الكتاب، ولذا تأتى الحكمة مرادفة للكتاب معطوفة عليه عطف بيان أو تأتى بديلا عن الكتاب لأنها صفة له ومن أهم أساسياته.

وأسلوب العطف في القرآن من مظاهر التفصيل والتوضيح. وفى كل كتاب سماوي كانت الحكمة أهم ما يوصف به الكتاب وأهم ما يتضمنه، فمثلا يقول تعالى يصف الإنجيل الذي تعلمه عيسى: "وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ " آل عمران 48) فوصف الإنجيل بالكتاب والحكمة، والإنجيل بالطبع مصدق للتوراة. وفى موضع آخر يصف رب العزة الإنجيل بوصف واحد وهو الحكمة " وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ " الزخرف 63)

والقرآن هو الحكمة حيث "أحكم " الله تعالى آياته، أو هو(كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ). هود 1) لأن الذي أنزله هو الحكيم الخبير.

 وفى سورة الإسراء جاء تفصيل للتشريع من أول قوله تعالى " وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " إلى أن يقول تعالى " وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " الاسراء23 – 39 )فالحكمة في داخل القرآن وليست شيئا خارجا عنه.

والحكمة –كوصف للكتاب الإلهي جاءت وصفا للرسلات السماوية التي تتابعت في ذرية إبراهيم، فهي –أي الحكمة – وصف لملة إبراهيم، وهنا نقرأ قوله تعالى " فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ "النساء 54 )

3- وبإبراهيم وابنه إسماعيل تكون مجتمع جديد يقيم الصلاة ويؤدى مناسك الحج إلى بيت الله الحرام.  وحرص إبراهيم على أن تستمر إقامة شعائر الصلاة في ذريته فكان يدعو الله بذلك:"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ " –" رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ " – " رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ". إبراهيم 35 -40)

وحرص إبراهيم ثم الأنبياء من ذريته على أن يوصى كل نبي ذريته - وهو على فراش الموت - بالتمسك بالإسلام وبالصلاة وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) البقرة 132 -

4- وتلك هي ملة إبراهيم التي نزل القرآن الكريم يأمر خاتم النبيين محمدا باتباعها وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) النساء 125)" قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ. الأنعام 162/163) وبذلك تحققت دعوة إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت،  فجاء خاتم النبيين متبعا لملة جده إبراهيم في الصلاة وليس مخترعا لها.

 الأنبياء من ذرية إبراهيم والمحافظة على ملة إبراهيم :.

1- أنجب إبراهيم ولدين كلاهما صار نبيا لله تعالى وهما:  إسماعيل في مكة واسحق في الشام، وفرح بهما إبراهيم في شيخوخته " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء " ودعا الله تعالى لذريته بأن يهديهم لإقامة الصلاة:" رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء). إبراهيم 39 -

وصارت لإسحق ذرية كبرى من ابنه يعقوب.إذ أنجب يعقوب النبي واسمه إسرائيل وأنجب يعقوب أو إسرائيل الأسباط وهم اثنا عشر ذكرا كان يوسف هو النبي منهم، وتناسل أبناء يعقوب أو أبناء إسرائيل الاثنا عشرة فصاروا اثني عشرة قبيلة سكنوا مصر بعد أن استقدم يوسف والديه و إخوته من الشام إلى مصر.

ثم تكاثر أبناء إسرائيل في مصر أبان حكم الهكسوس، وبعد أن طرد المصريون الهكسوس تولى الفراعنة الحكم فأسرفوا في اضطهاد بنى إسرائيل لأنهم كانوا أعوان الهكسوس. فبعث الله تعالى موسى لينقذ بنى إسرائيل من الاضطهاد. وبعد غرق فرعون موسى يذكر القرآن الكريم انتشار بنى إسرائيل بين مصر والشام والحجاز ( الأعراف137 – القصص 48 الشعراء 57 /59 – الدخان25/ 28 ) ثم ما لبث أن أقاموا لهم ملكا في فلسطين بلغ الذروة في عهد النبيين داود وسليمان عليهما السلام.وتتابع فيهم الملك والرسالة ( النساء 54 ) إلى أن دمّر بختنصر البابلي ملكهم، ولكن وجودهم البشرى استمر ومعه الرسالات السماوية إلى أن كان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام آخر النبيين من بنى إسرائيل. 

وأولئك الأنبياء من ذرية اسحق بن إبراهيم حافظوا على الصلاة التي تعلموها من ملة إبراهيم وأقاموا هذه الصلاة بين العراق والشام ومصر بمختلف اللهجات واللغات، وكان كل نبي يوصى بها قومه كما ذكر القرآن عن احتضار إبراهيم ويعقوب ووصيتهما عند الموت. على أن الذرية كانت في اغلبها تضيع الصلاة بالوقوع في الشرك وفى المعاصي.

يقول تعالى عن إبراهيم ولوط واسحق ويعقوب "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ. الأنبياء 73) أي كانوا أئمة للناس في عصرهم يهدون للحق ويقيمون الصلاة التي تعلموها من ملة إبراهيم ويؤتون الزكاة ويعبدون الله جل وعلا.

2- بل انه حين بدأ الوحي لموسى وهو في طريق عودته إلى مصر قال له ربه جل وعلا مؤكدا على عدم تضييع الصلاة بالوقوع في الشرك:" إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. طة 14-) إذ قد يصلى المؤمن لله تعالى ولكن يذكر في صلاته – على سبيل التعظيم – أسماء مخلوقات من الأنبياء وغيرهم، مخالفا بذلك إخلاص العبادة لله تعالى وحده، وهذا ما كانت العرب في الجاهلية تفعل ونزل قوله تعالى لخاتم النبيين: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) الزمر 2- &11- )

هنا يكون التضييع للصلاة والذي حذّر الله تعالى موسى منه حين أمره أن يقيم الصلاة لذكر الله تعالى وحده. وهذا هو معنى افتتاح الصلاة ب( الله أكبر) وطالما تقول إن الله تعالى هو الأكبر في الصلاة والأذان فلا تذكر معه غيره.

وحين اشتد أذى فرعون ببني إسرائيل أمرهم موسى عليه السلام بالتوكل على الله إن كانوا حقا مسلمين "وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ " وأوحى الله تعالى لموسى وهارون بأن يقيموا الصلاة في بيوت سرية خوفا من أذى فرعون وبشرهم بقرب الخلاص: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.. يونس 84؛87)  فنظرا لاضطهاد فرعون فلن يتمكنوا من صلاة الجماعة والجمعة علنيا ،فكان ذلك التشريع  استثنائيا كصلاة الخوف . 

وبعد أن أنجى الله بنى إسرائيل اخذ عليهم الميثاق ورفع فوقهم جبل الطور، وكانت إقامة الصلاة أهم شروط الميثاق: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ)المائدة 12).

لقد قال الله تعالى لبنى إسرائيل في عهد نزول القرآن: " وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ. البقرة 45 ) ولأنها نفس الصلاة التي يصليها المسلمون الذين يقرءون القرآن فأن القرآن يكرر نفس الأمر للمسلمين في نفس السورة:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. البقرة 153). لو كانت الصلاة شيئا مختلفا بين الفريقين لنزل في القرآن ما يفيد ذلك حين توجيهه الحديث لبنى إسرائيل ولاتباع القرآن الكريم، ولكن على العكس جاء الخطاب واحدا يدعو الجميع إلى اتباع ملة إبراهيم حنيفا - أي بدون الوقوع في الشرك والمعاصي-و ملة إبراهيم هي الأصل في العبادات  للجميع.

إن الصلاة علاقة مستمرة وعهد بين الله تعالى وبين المؤمن. هي ذكر منظم ومقنن ومحدد وموقن – أي بتوقيت - خمس مرات كل يوم، فإذا أقام المؤمنون عهدهم مع الله تعالى أقام الله عهده معهم، أي إذا ذكروه بصلاتهم ذكرهم بمغفرته وعونه ورضوانه وجنته، وكانت صلاتهم لله تعالى – مع فضيلة الصبر - عونا لهم على شدائد الحياة، وطريقا يستعينون به في مواجهة الصعاب. هذا ما نستفيده من قوله تعالى للمؤمنين في عصر الوحي: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة 152- )

ونقض اغلب اليهود الميثاق فحرفوا في الكتاب وأضاعوا الصلاة وزعموا إنهم مغفور لهم، ولكن بقيت أقلية من بنى إسرائيل تتمسك بالكتاب وتقيم الصلاة متبعة ملة أبيهم إبراهيم بلا وقوع في شرك أو عصيان. يقول تعالى عنهم" وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الأعراف 168)أي كان منهم الصالحون والمفسدون من خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وتعرضوا للابتلاء والاختبار.

تقول الآية الثالثة:" فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ. الأعراف 169 - ) أي جاء جيل آخر من بنى إسرائيل معتقدين أن الله تعالى سيغفر لهم مهما فعلوا من ذنوب وآثام معتمدين على عروض وهمية من أساطير مزيفة تؤكد لهم دخول الجنة مهما ارتكبوا من خطايا. وان جاءهم عرض جديد بنفس التوجه والافتراء تمسكوا به. ونسوا العهد والميثاق الذي أخذه الله تعالى على أسلافهم حين رفع الطور فوقهم. وقد تمثل هذا العهد في ألا يفتروا على الله تعالى كذبا. ولكنهم افتروا الكذب على الله تعالى مع دراستهم للكتاب السماوي. ونسوا أن الدار الآخرة هي لمن اتقى. وفى مقابل هذا الضلال والإضلال كان هناك من بنى إسرائيل من تمسك بالحق المنزل في كتاب الله تعالى وحافظ على صلاته دون تضييعها، يقول تعالى فيهم: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) الأعراف 170 ) أي توارثوا الكتاب السماوىفالتمسك بالكتاب وحده وإقامة الصلاة أهم مظاهر الصلاح في كل زمان ومكان.

 ويلاحظ أننا وقعنا فيما وقع فيه أغلبية بنى إسرائيل من التحريف والافتراء وتضييع الصلاة، كما ظل فريق منهم ومنا يتبع الحق ويتمسك بالكتاب وحده ويحافظ على صلاته بالتقوى وعدم الوقوع في الشرك بالمولى عز وجل. ولذلك تكرر القصص القرآني عن بنى إسرائيل لهدايتهم وهدايتنا، وللتنبيه على انتمائنا لملة واحدة هي ملة إبراهيم، وتضييع معظمنا لها وثبات الأقلية منا عليها. والغريب أن بعض الضالين يشكك في القرآن متسائلا لماذا لم يذكر أوقات الصلاة وكيفيتها ليثبت نقص كتاب الله تعالى وليكذّب تأكيد الله تعالى بأنه ما فرّط في الكتاب من شيء وانه أنزل القرآن تبيانا لكل شيء.

نعود إلى حديث رب العزة عن بنى إسرائيل والذي جاء في الآيات السابقة والذي ختمها الله تعالى بالإشارة إلى العهد والميثاق الذي أخذه على بنى إسرائيل في عهد موسى حين رفع فوقهم جبل الطور في سيناء المصرية وكانوا ينظرون إليه في رعب يخشون أن يقع عليهم: " وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ  ) الأعراف 171 )

 3-وفى سياق القصص القرآني عن بنى إسرائيل أشار القرآن لصلاة الأنبياء من بنى اسرئيل، فهناك قصة الخصمين اللذين تسورا المحراب على النبي داود عليه السلام وهو يصلى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ  إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ  قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ  )  ص 20-24)

ويفهم من ذلك أن المحراب كان المكان المفضل لنبي الله داود. وإذا تمثلت القصة وجدتها طبيعية تنطبق في عصرنا على أي مسلم صالح يصلى في المحراب ويقصده الناس ليحكم بينهم في خلافاتهم، وشأن نبي الله تعالى داود عليه السلام فانه حين شكّ في احتمال وقوعه في الخطأ بادر بالاستغفار والركوع والصلاة في خشوع وإنابة.

ومثله زكريا عليه السلام فقد بشرته الملائكة بمولد ابنه يحيى وهو قائم يصلى في المحراب (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) أل عمران 39) وجاءت تفصيلات أخرى في سورة مريم " فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) مريم 11)

وقد كفل زكريا عليه السلام الطفلة النقية مريم بنت عمران فعاشت معه في المسجد، في بيئة غاية من الطهر لا نجد تعبيرا أفضل مما حكاه رب العزة في سورتي آل عمران ومريم. في تلك البيئة النقية كانت الملائكة تكلم الطفلة العذراء الطاهرة المطهرة تنصحها بالصلاة:" وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)آل عمران 43) فاعتادت مريم الاعتكاف عن الناس في المحراب فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ) آل عمران 37)

وحين ولدت العذراء المطهرة عيسى عليه السلام معجزة حية بدون أب نطق المولود عيسى في المهد قائلا " وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا )  مريم 31)

وقبل ذلك كان لقمان ينصح ابنه قائلا " يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) لقمان 17)

هذا فيما يخص ذرية فرع اسحق بن إبراهيم، فماذا عن فرع إسماعيل بن إبراهيم الذي جاء فيه خاتم النبيين عليهم سلام الله تعالى ؟

 

تواتر الصلاة في العرب أبناء إسماعيل:   

 

1-رأينا كيف كان أبناء إسماعيل وأحفاده من أنبياء بنى إسرائيل يوصى احدهم أبناءه بالمحافظة على الإسلام وشرائعه وبذلك كان لقمان يعظ ابنة يحذره من الشرك يأمره بالصلاة وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " -..( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) لقمان 13  - 17)

وعلى أساس هذا التواتر سار العرب من أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.

كان أول نبي نعلمه في العرب - وهو إسماعيل عليه السلام- يأمر أهله بالصلاة والزكاة. وكان حفيده محمد عليه السلام - آخر نبي في العرب وفى العالم- يأمر أهله بنفس الأمر.

يقول تعالى عن إسماعيل: " وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا.  مريم 54-) وتواترت الصلاة بكيفيتها إلى عصر محمد الذي كان ينفذ أوامر ربه جل وعلا ووصية جده إسماعيل وهى: " وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا. طه 132)   والمحافظة على الصلاة في السلوك والقلب هو معنى الاصطبار عليها.

وبين إسماعيل ومحمد عرف العرب الصلاة بنفس الكيفية التي علّمها الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل حين سألا الله  تعالى - وهما يبنيان الكعبة- قائلين له جل وعلا :" رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا " البقرة 128 ) والصلاة أهم المناسك .

 

2-إلا أن الصلاة ليست كيفية فقط من حركات قيام وركوع وسجود ولكنها أيضا وفى الأهم خشوع ومراعاة للتقوى بحيث يظهر أثر الصلاة في سلوكنا وأخلاقنا، أي المحافظة على الصلاة. والذين خلفوا الأنبياء أساءوا فهم الصلاة كما نسئ نحن الآن فهمها أيضا؛ اهتموا بالحركات والكيفية والمواعيد ونسوا الهدف من الصلاة وهو التقوى وتطهير القلب والسلوك من الشرك والرياء والمعاصي.

 ونعود للقرآن في سورة  مريم ، فبعد أن تحدث رب العزة جل وعلا عن إبراهيم وذريته اسحق ويعقوب  وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس قال عنهم " أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا  " ثم يقول عن الخلف  الذين جاءوا من نسل يعقوب أي بنى إسرائيل ومن نسل إسماعيل أي العرب " فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) مريم 58-59)

مشكلتنا الكبرى هي إضاعة الصلاة مع أننا نؤديها. نصلى ولكن لا نحافظ على الصلاة. نركع ونسجد ونقوم ونقعد ونسبح ونفعل كل حركات الصلاة ونقرأ الفاتحة ونسبح ولكن أداء تلك الحركات بدون المحافظة على الصلاة يصبح كما قال تعالى " مكاء وتصدية". باختصار إننا نصلى ولكن لا نقيم الصلاة، فإقامة الصلاة شيء آخر غير تأدية الصلاة. إن أقامة الصلاة أو المحافظة على الصلاة هي نقيض إضاعة الصلاة. ونحن – في الأغلب – قد أضعنا الصلاة مثلما فعل الخلف.

بين إضاعة الصلاة وإقامة الصلاة

 

الصلاة ليست هدفا في حد ذاتها وكذلك كل العبادات، فهي جميعا وسائل للتقوى، يقول تعالى للبشر "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. البقرة 21" فالتقوى هي الهدف وسائر العبادات وسائل لتنمية مشاعر التقوى والخوف من الله.

فالصيام وسيلة إلى التقوى يقول تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. البقرة 183) 

والصلاة أيضا وسيلة للتقوى، والذي يحافظ على صلاته أومن يقيم الصلاة هو الذي تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر فيكون  متقيا لله تعالى " وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ " العنكبوت 45)

أما الذي يضيع صلاته فهو ذلك المصلى الذي يقع في المعاصي. قد يكون مؤمنا ولكنه لن يكون مؤمنا من المفلحين أصحاب الجنة. لقد بدأت سورة "المؤمنون" بتحديد المؤمنين المفلحين، وجاء التحديد مرتبطا بإقامة الصلاة والخشوع فيها ليؤكد إن بعض المؤمنين وبعض من يصلى منهم لن يكون من أصحاب الجنة لأنه لم يخشع في صلاته ولم يقم بالمحافظة عليها بالتزام السلوك الحميد. يقول تعالى:" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ"

" لم يعط القرآن الكريم صفة الفلاح لكل المؤمنين بل توالت الآيات تحدد من هم المفلحون من المؤمنين، فقالت:" الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ " أي حين يصلى أحدهم لا بد أن يخشع في صلاته حين يناجى ربه مبتهلا له يدعوه رغبة ورهبة دون أن يسمعه أحد، ودون أن يكون هناك وسيط بينه وبين ربه جل وعلا. إنها علاقة مباشرة بينه وبين مولاه يشكو له جل وعلا ما يلاقيه في المحنة ويشكر له عند المنحة والنعمة. بعد الخشوع في الصلاة تأتى صفات أخلاقية أخرى يتصف بها المؤمن ويلتزم بها بين صلواته،  هي الاعرض عن اللغو ثم التزام الزكاة أي السمو في أفعالهم والابتعاد عن الزنا ثم مراعاة العهود والأمانات وبالتزام تلك الأخلاق يكون الحفاظ الفعلي على الصلاة " وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ".

هذا هو معنى المحافظة على الصلاة. وهو نفس معنى إقامة الصلاة.

هو أيضا معنى إيتاء الزكاة.

وهذا يستحق توضيحا.

 

معنى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة

 

التطبيق العملي لإقامة الصلاة هو الجمع بين الخشوع في الصلاة والمحافظة عليها.

فالصلاة تستلزم أثناء تأديتها خشوعا كما تستلزم تقوى ومحافظة على السلوك القويم فيما بين الصلوات الخمسة. أي أن يوم المؤمن المصلى ينقسم إلى قسمين: قسم أصغر هو الدقائق التي يؤدى فيها الخمس صلوات الموزعة على أوقات اليقظة في اليوم. والقسم الأكبر هو بقية الوقت الواقع بين تـأدية الصلوات الخمس، وفى تلك الأوقات يجب المحافظة على الصلوات بالتقوى والالتزام الخلقي القويم.

وهناك علاقة وثيقة بين الخشوع أثناء تأدية الصلاة والمحافظة على الصلاة بعد تأديتها بعدم الوقوع في المعاصي بين الصلوات الخمس. فالخشوع أن يِؤكد المؤمن على إخلاصه في كل كلمة يناجى بها ربه جل وعلا في صلاته خصوصا وهو يقول في كل ركعة في الفاتحة " اهدنا الصراط المستقيم "، الخشوع هو الصدق في مخاطبة رب العزة والإخلاص التام في دعائه وعبادته. ولا يمكن أن تخشع في صلاتك بهذا الشكل وأنت تفعل الفحشاء وترتكب المعاصي بعد الصلاة وتصمم عليها أثناء الصلاة وبعدها و تصلى لربك وتقول له جل وعلا: اهدنا الصراط المستقيم. إذا فعلت هذه فإنما ترائي الناس ولا تخدع سوى نفسك.

إقامة الصلاة هو المصطلح القرآني الذي يعنى الخشوع في الصلاة والمحافظة عليها معا. وهذا يؤكد أن الصلاة مجرد وسيلة لغاية أسمى هي التقوى، أو الابتعاد عن الفحشاء والمنكر. على هذا الأساس نستطيع أن نقرأ معا الآيات الأولى من سورة المؤمنون في ضوء ما سبق قوله عن الصلاة؛ الخشوع فيها والمحافظة عليها.( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)المؤمنون "1إلى 9"

 وتكرر ذلك المعنى وفى سورة المعارج (22-34)

ومن اجل ذلك تقول الآية توضح معنى إضاعة الصلاة عند الخلف الذي جاء بعد الأنبياء "فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ) مريم59  - 60  (

 هم أضاعوا الصلاة حين اتبعوا الشهوات والمعاصي ومن تاب منهم وآمن إيمانا حقيقيا وعمل صالحا أصبح محافظا على صلاته غير مضيع لها واستحق بذلك دخول الجنة. ينطبق هذا على الخلف الماضين كما ينطبق علينا الذين خلفنا اللاحقين، ولذلك ذكر الله تعالى لنا هذه الحقائق في آخر رسالة سماوية كي نعتبر ونهتدي.

في اللغة العربية والمصطلح القرآني تجد مفهوم " قام على الشيء" بمعنى حافظ عليه ورعاه.

الله تعالى وصف ذاته باسم من أسمائه الحسنى هو " القيوم" الذي لا تدركه سنة ولا نوم:" اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) البقرة 255 )

الآية الكريمة تشرح معنى القيوم، أي القائم على كل شيء ولا يغفل عن شيء، ويصف تعالى ذاته كقيوم يحفظ أعمال كل إنسان وأقواله ليحاسبه عليها يوم القيامة: " أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) الرعد 33) القيوم هنا بمعنى الذي يحفظ أعمال كل إنسان، يتم ذلك عن طريق ملائكة الحفظ (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) الرعد 11 ) (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ  يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) الانفطار 10 -) ( أيضا سورة ق :16 - )

لذلك يأمرنا ربنا جل وعلا أن نكون ( قوامين بالقسط ) أي قائمين على رعاية العدل والقسط:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ  ) النساء 135 ).

ولأن العرب في الجاهلية وقريش في عهد النبوة كانت تصلى وتعرف الصلاة ولكن لا تقيم الصلاة لذا نزلت الأوامر لهم في مكة بإقامة الصلاة، أي بالمحافظة عليها بعدم الوقوع في الشرك والمعاصي والخشوع أثناء تأديتها. على سبيل المثال جاء الأمر بإقامة الصلاة في الفترة المكية في السور الآتية ( فاطر 18 ، 29 ) الشورى 38) (الروم 31).

 لم تعلمهم الصلاة لأنهم كانوا فعلا يعرفونها ويؤدونها. أمرتهم فقط بفعل ما لم يكونوا يفعلون وهو إقامةالصلاة بالخشوع فيها والمحافظة عليها لكي تقوم الصلاة بدورها في سمو السلوك الخلقي وتهذيبه.

إيتاء الزكاة هي نفسها إقامة الصلاة

 

للقرآن الكريم مصطلحاته الخاصة المخالفة لمفاهيم التراث الذي صنعه المسلمون بعد نزول القرآن بعدة قرون.

إقامة الصلاة في مصطلحات القرآن تعنى الخشوع في أثناء الصلاة والتزام التقوى والسمو الخلقي بين الصلوات. لكن إقامة الصلاة في حياتنا الدينية التراثية تعنى رفع الأذان للمصلين في المسجد بأداء الصلاة بعد الأذان العام للصلاة.

ويفهم معظم المسلمين – تبعا للفقه التراثي – أن إيتاء الزكاة هو إعطاء الصدقة فقط، وبذلك يفهمون الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على انه أمر بشيئين مختلفين هما الصلاة وإعطاء الزكاة وهى عندهم لا تعنى سوى شيء واحد فقط هو إعطاء الصدقة للفقراء والمستحقين.

طبقا لمفاهيم القرآن الكريم ومصطلحاته فان إقامة الصلاة هي نفسها إيتاء الزكاة، أي أنه أمر واحد بشيء واحد هو التطهر والسمو الخلقي والتقوى. الخلاف الوحيد هو أن وسيلة إقامة الصلاة تتركز في الخشوع في الصلاة أثناء تأديتها - ثم بعد تأديتها تكون المحافظة عليها بالتزام السلوك القويم. أما الزكاة فهي تزكية النفس وتطهيرها والسمو بها بوسائل كثيرة من الصلاة والذكر لله تعالى وإعطاء الصدقات وكل فعل صالح مقصود به وجه الله تعالى.

 

نبدأ توضيح ذلك باختصار.

1- إن الإسلام باختصار هو تزكية النفس بالعقيدة الصحيحة والسلوك القويم، لذلك فان موسى حين دعا فرعون للإسلام قال له كلمة واحدة: ( هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى) النازعات 18 ) بل إن رب العزة قد أوجز مفهوم المشرك بأنه الذي لم يقم بتزكية نفسه: (وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصلت 6-7 ) فالمشرك يضع كل همه في الدنيا ويبيع من أجلها الآخرة. يرتكب كل المعاصي في دنياه غافلا عن تزكية نفسه بالتقوى لذا ينتهي إلى الجحيم.

لقد خلق الله تعالى النفس الإنسانية على أساس الفجور والتقوى، تقبل أن تكون تقية أو فاجرة، ثم يختار الإنسان بإرادته طريقه، إن أراد الهداية قام بتزكية نفسه، وان أراد الفجور سقط بنفسه إلى مستنقع الغواية. إذن فالإنسان يختار بين اثنين: تزكية نفسه أي تطهيرها والسمو بها، أو الهبوط بنفسه إلى حضيض الرذيلة. وليس هناك من طريق وسط. المهم هنا أن الزكاة للنفس تعنى السمو بها. اقرأ هذا المعنى في قوله تعالى:" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا  فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا7- )الشمس.

2- ولذلك فان الهداية للحق من معاني الزكاة. والهداية هي اختيار شخصي يبدأ باختيار الإنسان لنفسه طريق الهداية ثم تأتيه هداية الله له تؤكد ما اختاره لنفسه. والهداية كالزكاة هي عملية تطهير للنفس من الأحقاد والشرور وتقديس غير الله تعالى. ومن اهتدى فقد اهتدى لنفسه حسبما قال رب العزة:" مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) الإسراء 15 ) وبالمثل فان من يتزكى أي يتطهر فإنما يتزكى لنفسه (وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) فاطر 18 )

وفى النهاية فان الجنة هي مكافأة من تزكى وتطهر في الدنيا أو اهتدى، يقول تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى) طه 76 )

 إن وظيفة النبي هي أن يزكى قومه بالكتاب السماوي الذي يدعوهم إليه، أو يهديهم إليه (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ. ) البقرة 151 ) وتكررت التزكية كوظيفة للنبوة القائمة على الكتاب في مواضع أخرى في القرآن الكريم: (البقرة 129 – آل عمران 164 – الجمعة 2 )

ولارتباط الهداية بالزكاة فقد وصف الله تعالى عيسى وعن يحيى عليهما السلام بالطهر والعفاف والسمو الخلقي، أي  كان "غلاما زكيا " أو كان "زكيا" ( مريم: 19 ، 13 ) .

 

3- هناك وسائل للزكاة، بمعنى إن إيتاء الزكاة يعنى اختيار "أزكى " أو أطهر أو أسمى الخيارات وهى التشريعات القرآنية، ومنها الإحسان في التعامل مع الزوجة المطلقة( البقرة 232 ) وفى الاستئذان وفى غض البصر والعفاف الخلقي ( النور 28، 30 ) وتلك وسائل للوصول إلى " إيتاء الزكاة " أو تزكية النفس التي هي الهدف الأعلى للمؤمن.

وهناك وسائل أخرى أشار إليها القرآن مثل الصلاة وذكر الله تعالى، ومعروف أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر- أو يجب أن تكون كذلك – وكذلك ذكر الله تعالى بمعنى تعظيمه وتقواه. (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) العنكبوت 45) وكذلك من وسائل التزكية – أو إيتاء الزكاة - الصلاة وذكر الله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) الأعلى 14-15 ) ومنها خشية الله تعالى وإقامة الصلاة (إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُُ) فاطر 18 )

وأخيرا منها إعطاء الصدقة المالية فالمؤمن المفلح في الآخرة هو (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ) الليل 18 ) ولذلك أمر الله تعالى خاتم النبيين بأن يأخذ صدقة من المؤمنين ليتطهروا ويتزكوا:( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) التوبة 103 )

إذن فإيتاء الصدقة هي مجرد وسيلة من وسائل إيتاء الزكاة، لأن الزكاة هي التطهر القلبي والسلوكي الذي يجعل المؤمن طاهرا مستحقا للجنة.

 

4- أكثر من ذلك فان تشريع الصدقة في القرآن لم يرد فيه مطلقا لفظ الزكاة، وإنما جاء بلفظ الإنفاق وإيتاء الأموال و الصدقات.

وتراث المسلمين الفقهي يخالف ذلك كله.

 ليس فقط في اختيارهم لمصطلح الزكاة بمعنى مخالف للقرآن ولكن أيضا في تشريعات الصدقة ذاتها.

ونعطى لمحة سريعة عاجلة:

فعندهم وطبقا لمصطلحاتهم فان الزكاة:

(ا)- تجب بالحول - أي إخراج الزكاة بعد مرور عام وليس قبل ذلك، أي على الجائع أن ينتظر عاما ليأخذ حقه.

الخ.وليس إخراج الزكاة عن كل ما يملك الإنسان بل على أصناف محددة مثل الذهب والفضة – أي لا زكاة عندهم على بقية المعادن مثل النحاس والقصدير والبلاتين.. الخ . ..ولا زكاة عندهم على الجواهر والمعادن الثمينة مثل الماس واللؤلؤ والياقوت - وعروض التجارة – وليس على البيوت والإيجارات -والزراع والمواشي – وليس على مزارع الدواجن مثلا.

(ج)- وبشرط أن يبلغ ما يمتلكه الإنسان حد النصاب.

( د )- ثم قرروا إخراج الزكاة فيما يزيد عن النصاب – زكاة بنسبة محددة - تتراوح بين ربع العشر ونصف العشر.

 

هذا كله يتناقض مع القرآن الكريم.

 

 فليس في القرآن الكريم مصطلح زكاة بمعنى الصدقة، بل إيتاء المال أو الصدقة أو الإنفاق بالمال. وقد حددت تشريعات القرآن كل التفاصيل المطلوبة بما يخالف التشريع الفقهي بدون استعمال مصطلح الزكاة.

 ا - فالصدقة واجبة عليك بمجرد ان يأتيك رزق من الله – عندها يجب إخراج حق الله تعالى فيه دون انتظار لمرور عام أو الحول كما يقول الفقهاء بل بمجرد الحصول عليه، أو بالتعبير القرآني (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) الأنعام 141 ) فالحصاد ليس فقط في الزرع  وإنما يشمل مجيء الرزق من مرتب أو مكسب تجارى أو ريع آت من تأجير عقار وغيره. ولقد تكرر في القرآن كلمة " ومما رزقناهم ينفقون " للتأكيد على ذلك ( البقرة 3 – الأنفال 3 – الحج 35 – السجادة 6 – القصص 54 الشورى 38 )

ب - بل وصف القرآن الكريم المتقين الصالحين بالأنفاق باستمرار سرا وعلانية ليلا ونهارا (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) البقرة 274 ) وأنهم ينفقون من أحب ما يملكون – هذا من حيث الجودة (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ) البقرة 177 ) (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) الإنسان 8 )

 ومن حيث الكمية فهم ينفقون حتى وهم ليملكون الفائض، أي يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ( الحشر 9 )

وفى كل الأحوال لا ينفقون إلا من الكسب الحلال الطاهر الذي لم يدخله سحت أو سرقة أو اختلاس أو ظلم أو جور كما هو السائد في عصرنا. إن الله تعالى يقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) البقرة 267 )

ولا بد لمن يتصدق أن يبتغى وجه الله تعالى وحده  وأن يعطى الفقير والمستحق لأنه فقير ومستحق بغض النظر عن دينه أو صلاحه أو عصيانه فليس المتصدق مسئولا عن هداية أحد سوى نفسه وعليه إعطاء الصدقة لمستحقها وكفى (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) البقرة 272 ) ثم عليه وهو يعطى أن يتذكر إنما يعطى المحتاج (حقه ) فليس له أن يمتن عليه أو أن يجرح شعوره ( البقرة 264) ، يقول تعالى في التأكيد على حق مستحق الصدقة: " فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ) الروم 38 ) (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا)( الإسراء 26 )

ج - وخلافا لما قاله الفقهاء فان الله تعالى لم يحدد نسبة معينة لإخراج الصدقة، لأن الأساس فيها هو التنافس في الخير والسعي لتزكية النفس والتعامل المباشر مع الله تعالى. فالذي يسارع في الخير هو المتقى الذي ينفق في السراء والضراء ( آل عمران 133- 134 ) وكل المتقين مدعون للتنافس في هذا المضمار ن وللقرآن الكريم نداء شديد الوقع يجعل المتصدق كمن يقرض الله تعالى قرضا حسنا، والله تعالى سيرد له الأجر مضاعفا.( البقرة 145) ( الحديد 11 )( التغابن 17 ) (المرمل 20)

ومع ذلك فان الله تعالى جعل للمؤمن مقياسا يتصرف على أساسه هو الاعتدال في الإنفاق العادي، والاعتدال في الإنفاق في سبيل الله تعالى بالصدقة، أي ينفق المؤمن معتدلا على حاجاته دون إسراف، ثم ما يزيد عن حاجته فهو لله تعالى صدقة.لقد سألوا النبي محمدا عن المقدار الذي ينبغي أن ينفقوه صدقة فنزل الوحي يقول انه "العفو ". والعفو في مصطلح القرآن هو الفضل والزائد عن الحاجة.( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) البقرة 219 ) . وقبلها في مكة نزل تشريع القرآن يؤكد على ذلك التوسط في الإنفاق العادي وفى إخراج الصدقة بحيث لا يقع المؤمن في التبذير أو الإسراف (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) الفرقان 67 ) (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا) (----وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) الإسراء 26 – 29 )

وفى كل الأحوال فالمؤمن هو الذي يجعل بينه وبين نفسه حقا محددا معلوما لديه للصدقة يلتزم بإخراجه ابتغاء وجه الله تعالى عن كل مال يصل إليه، وهذه صفة من صفات المتقين: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) المعارج 24 -25 ) (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) الذاريات 19 )

د - والصدقة لها نوعان من المستحقين تبعا لنوعيتها. هناك صدقة يعطيها المؤمن للدولة، وهى تقوم بجمع الصدقات وتوزيعها على مستحقيها المذكورين في قوله تعالى:( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة 60 ) الدولة هنا هي التي تحدد وتعين مستوى الفقير، والمسكين، والغارم، و المؤلفة قلوبهم، والعاملين عليها وابن السبيل أي الأجنبي الغريب السائح الزائر الذي يجب إكرامه وليس تكفيره وقتله - وعتق الرقيق – أي إذا كان هناك من لا يزالون رقيقا – ولا يزال الرق موجودا بصفة غير رسمية في بعض دول الخليج برغم إلغائه رسميا من السعودية سنة 1962 – أولئك هم مستحقو الصدقة الرسمية من الدولة.

 وهناك مستحقون للصدقة الفردية، وهم أقارب المؤمن المتصدق ومن يعرفهم من المحيطين به من اليتامى والمساكين وابن السبيل المار ببيته، وقد سئل النبي محمد عليه السلام في هذا الموضوع فلم يفت كعادته وإنما انتظر الإجابة من الوحي فنزل قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ  ) البقرة 215 )

ه - لقد جعل الله تعالى من صفات المتقين الأبرار الصادقين إنهم ليسوا فقط الذين يراءون الناس بالتوجه للصلاة صوب المشرق والمغرب ، ولكنهم الذين يؤمنون أيمانا حقيقيا  بالله تعالى واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، ثم يعطون المال صدقة لمستحقي الصدقة من  الأقارب واليتامى والمساكين وابن السبيل ومن يسأل الناس إحسانا ، ويقومون بإطلاق سراح المستعبدين – إذا كان ثمة استرقاق لا يزال موجودا ، وهم الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة والذين يوفون بالعهد والصابرين في الشدائد والمصائب وفى الجهاد ،.( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ  ) البقرة 177 )

الملاحظ هنا إن الآية الكريمة قامت بالفصل بين الصدقة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، إذ تكلمت على إيتاء المال صدقة للمستحقين بعد صفة الأيمان مباشرة، ثم بعد الصدقة ذكرت إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصفات أخرى كريمة لتجعل فاصلا بين إيتاء الصدقة ومفهوم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

 وقد تكرر هذا الفصل بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة  وبين تشريع الصدقة في موضعين آخرين في القرآن الكريم :

ففي الحديث عن الميثاق الذي أخذه رب العزة على بنى إسرائيل في عهد موسى جاء الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ثم الأيمان بالرسل وتأييدهم ، ثم إعطاء الصدقة ، ولو كانت إعطاء الصدقة هو نفسه الزكاة ما جاء هذا الفصل بينهما  (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) المائدة 12 )

وجاء الإقراض أيضا بمعنى الصدقة تاليا للعبادة وقراءة القرآن وقيام الليل وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في خطاب للنبي محمد عليه السلام وأصحابه في بداية أقامتهم في المدينة  :(فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) المزمل 20 ).

 

إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بين مفهوم الإسلام ومفهوم الشرك والكفر

 

إن المشركين في الجاهلية كانوا يؤدون الصلاة ولكن لم يقيموا الصلاة، وكانوا مشهورين بالكرم ولكن دون أن يؤتوا الزكاة بمعنى التطهر والسمو الخلقي، لذلك ظلوا يغير بعضهم على بعض ، وينتهكون الحرمات ويسبون ويسلبون ويشربون الخمر ويرتكبون النسىء اى يستحلون القتال حتى في الأشهر الحرم بعد إعلان عدم حرمتها أو تأجيل حرمتها (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) التوبة 37 ).

ومعناه أنه يمكننا أن نتعرف على من لا يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة طبقا لسلوكياته وظلمه وفجوره، فكل من يرتكب علنا كل الفجور والفساد لا يمكن أن يكون مؤتيا للزكاة مقيما للصلاة حتى لو اشتهر بدخول المساجد وعمارتها.

وبعضهم كان يقوم بعمارة المسجد الحرام وخدمة الحجاج ويقرن ذلك بارتكاب المعاصي وعبادة الأولياء والقبور المقدسة. وقد رد عليهم رب العزة جل وعلا معتبرا أن ذلك لا شأن له بالتعمير الحقيقي لمساجد الله تعالى أو لدينه، ولا شأن له بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّه شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) التوبة 17- 18 )

وفى عصر نزول القرآن في الفترة الأخيرة من حياة النبي ظل أئمة الكفر يواصلون الاعتداء على المسلمين ونكث العهود التي كانوا يعطونها للمسلمين- وهى حقائق تاريخية أغفلتها روايات السيرة بينما أشارت إليها سورة التوبة في نصفها الأول – لذلك نزلت سورة براءة بإعلان البراءة منهم وإعطائهم مهلة للتوبة. شرط التوبة الكف عن الاعتداء الحربي والمسلح، والكف عن الغدر ونقض العهود. كان انتهاء المهلة هو انقضاء الأشهر الحرم.واعتبر رب العزة كفهم وتوبتهم عن الاعتداء إقامة للصلاة وإيتاء للزكاة: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) التوبة 4-5 ).. (لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) التوبة 10 -11 )

إن إقلاعهم عن الاعتداء والظلم هو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وهذا هو المقياس البشرى الذي نستطيع الحكم عليه. فلا نستطيع مثلا أن نعرف إن كان الله تعالى سيقبل صلاتهم وصدقاتهم أم لا، ولا نستطيع أن نعرف إذا كانوا يخشعون في صلاتهم أم يراءون الناس. ليس ذلك لنا ولا نملكه. الذي نملك الحكم عليه فقط هو سلوكهم الخارجي، هل هم مسالمون أم معتدون، هل هم أبرياء أم مجرمون. فالمسالم الذي لا يظلم أحدا – في رؤيتنا البشرية الظاهرية - هو المقيم للصلاة والذي يؤتى الزكاة. والفاجر الظالم عندنا هو الذي يضيع الصلاة مهما كان مصليا. ونفس الحال فى التعرف على المسلم والكافر أو المشرك. فالمسالم هو المسلم بغض النظر عن عقيدته ، والكافر أو المشرك هو المجرم المعتدى الارهابى بغض النظر عن الدين الذى يزعم الانتماء اليه.

وفى كل الأحوال ، لا شأن لإعطاء الصدقة هنا بإيتاء الزكاة المذكور في الآيتين الكريمتين من سورة التوبة، فإيتاء الزكاة هو التطهر والسمو الخلقي . الدليل أن الدولة الإسلامية ليس لها أن تفرض على الناس تأدية الصلوات الخمس، وليس لها أن تجمع الصدقات من الناس بالقوة والإرغام، إذ لا إكراه في الدين – أي لا إكراه في دخول الدين أو في الخروج منه، كما لا إكراه في تأدية شعائره من صلاة وصيام وحج وصدقات وقراءة للقرآن وقيام لليل وتسبيح للمولى عز وجل. كل ذلك هي حقوق الله تعالى علينا، وعلينا بدافع من التقوى أن نفعلها ابتغاء مرضاة الله تعالى وليس خوفا من السلطان أو مراءاة للناس.

وقد كان المنافقون في عهد النبي عليه السلام يؤدون الصلاة ولا يقيمونها ، أي يتظاهرون بالصلاة رياء ونفاقا، لذا لم يقبلها الله تعالى منهم واعتبرها خداعا ليس لله تعالى وإنما لأنفسهم (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً 142 )النساء.

 أولئك المنافقون أيضا كانوا يعطون الصدقات متطوعين لستر حالهم،  ولكن مع حقد شديد، ولأن الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور فقد أخبر عن مكنون قلوبهم ومنع النبي أن يأخذ منهم صدقاتهم: (قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ) التوبة 53 – 54 )

في ضوء هذا التوضيح القرآني فان النبي محمدا عليه السلام لم يرغم الناس على إعطاء الصدقات ولم يرغمهم على تأدية الصلوات وسائر حقوق الرحمن. أما حقوق العباد – أو حقوق الإنسان – فلا بد من حفظها وإلزام الناس باحترامها، لذا هناك عقوبات للقتل والزنا والقذف وقطع الطريق.

ولذلك فان المشركين المعتدين حين نقضوا العهود وأغاروا على المسلمين المسالمين أوجب الله تعالى قتالهم حفظا للحقوق البشرية، وجعل مقياس الاسلام الظاهرى هو التزام السلام.

 

ووفقا لمصطلحات القرآن التي غفل عنها أئمة التراث فان الإسلام له معنيان:

1- " السلام " أو المسالمة، وهو هنا معنى سلوكي يستطيع أن يحكم عليه البشر حسب الظاهر في التعامل مع الناس، فكل إنسان مسالم فهو مسلم بغض النظر عن عقيدته ودينه، وليس لأحد أن يحكم على عقيدة أحد أو درجة ما في قلبه من إخلاص أو رياء أو نفاق أو إشراك. مرجع ذلك لله تعالى وحده يوم القيامة.

2- الاستسلام لله تعالى والانقياد له وحده: هذا هو الإسلام في معناه القلبي العقيد في التعامل مع الله تعالى. انه استسلام لله جل وعلا في العقيدة فلا اله إلا الله، وفى السلوك بالطاعة المطلقة له تعالى وبتقواه وحده لا شريك له. وهذا ما سيظهر فيه الحكم على كل منا يوم القيامة حيث سيحكم علينا الواحد القهار الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض والسماء.

وطبقا لمعنى الإسلام الظاهري فان الذي يقيم الصلاة ويؤتى الزكاة هو كل إنسان مسالم لا يعتدي على أحد ولا يظلم أحدا بغض النظر عن عقيدته أو صلاته. المهم ألا يعتدي على أحد أو لا يظلم أحدا.

الشرك أو الكفر معناهما واحد في المصطلح القرآني ( التوبة 1-2 -17 )( غافر 42 ) ولهنا أيضا معنيان:

1-- سلوكي ظاهري في التعامل مع البشر ويستطيع أن يحكم عليه البشر، والكفر والشرك هنا يعنيان الاعتداء والظلم للبشر, ولذا تأتى من مرادفاتهما في القرآن مصطلحات مماثلة مثل الظلم – الفسق – الإجرام – الاعتداء. كل من يرتكب جرائم القتل ويظلم الناس ويستحل دماءهم فهو مشرك كافر حسب سلوكه ، ولا شأن هنا بعقيدته. وعلى هذا الأساس تأتى تشريعات القرآن الكريم في التعامل الظاهري مع المشركين في الزواج وفى الموالاة مثلا، فلا تتحدث عن شركهم العقيد وإنما السلوكي الذي يمكن لنا أن نحكم عليه حسب تصرفاتهم العدوانية.( البقرة221 ) ( الممتحنة 1- 13 ) من المكن أن تصف بالكفر والشرك أسامة بن لادن ومن هم على شاكلته ممن يقتلون الأبرياء ويعتدون على من لم يعتدي عليهم– طالما لم يتوبوا.

2- الشرك بالمعنى العقيد أي اتخاذ أولياء وآلهة مع الله تعالى وتقديس البشر والشجر والحجر. وهذه عادة سيئة يقع فيها المسلمون وغيرهم، مع ادعاء معظمهم بالإيمان القويم، لذلك فان الذي سيحكم على الناس جميعا هو الله تعالى يوم القيامة, إذ أنه ليس لهذا الشرك العقيدي عقوبة في الدنيا اكتفاء بالخلود في النار يوم القيامة. الله تعالى – وهو الأعلم بالقلوب – أكد في القرآن أن أغلبية البشر يقعون في الشرك العقيدي وإنهم لا يؤمنون بالله تعالى إلا وهم مشركون. ( يوسف 103- 106 ) لذا فان الفصل في هذا الموضوع هو لله تعالى يوم القيامة، وذلك ما تردد في عشرات الآيات القرآنية. عندها – يوم القيامة – سيدخل الجنة الذين أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة في سلوكهم السامي الظاهري وفى عقيدتهم الصحيحة معا.

المشركون العرب وإضاعة الصلاة:.

 

1- -ضياع الشيء لا يعنى زواله نهائيا ولكن يعنى وجوده الفعلي بعيدا عنك. حين تضيع منك حافظة نقودك فلا يعنى هذا أنها قد اختفت نهائيا من الوجود ولكن المعنى أنها ضاعت منك أنت وضاع عليك الانتفاع منها. وهكذا المعنى في ضياع الصلاة أو تضييع الجاهليين للصلاة، إنهم أضاعوا ثمرتها، وأضاعوا الهدف الأساسي منها وهو التقوى والسمو الخلقي.

معروف أن الله تعالى يحبط العمل الصالح للمشرك يوم القيامة، فالمشرك قد يأتي بصلاة وصيام وسائر العبادات ولكن الله تعالى يحبط عمله الصالح أي يضيع ثمرته فلا ينجيه من النار ولا يغنى عنه شيئا. وهذا ما حذر منه رب العالمين جل وعلا كل الأنبياء؛ حذرهم من الوقوع في الشرك الذي يحبط الأعمال الصالحة ويضيع أثرها. اقرأ قوله تعالى لخاتم الأنبياء :" وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الزمر65)

ينطبق على العرب في الجاهلية من أبناء إسماعيل قوله تعالى " فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ..)  إذ كانوا يؤدون الصلاة مجرد حركات شكلية من ركوع وسجود وقيام دون إخلاص في العبادة لله ودون سلوك ملتزم بطاعة الله .

ولذلك لم يأت الأمر في القرآن بأن يؤدوا الصلاة مجرد تأدية لأنهم كانوا يؤدونها، ولكن جاء الأمر بإقامة الصلاة، وإقامتك للصلاة يعنى محافظتك عليها واهتمامك بها فالمصلى القائم على صلاته هو الذي يخشع أثناء الصلاة ويتقى الله في غير أوقات الصلاة يقيمها في نفسه سلوكه حميدا وتقوى لله وإخلاصا في عبادته لله وحده دون شريك للمولى عز وجل.

وقوله تعالى لهم " أقيموا الصلاة" يعنى الصلاة المعهودة المعروفة لكم فاللام في كلمة (الصلاة ) تسمى" لام العهد" التي تأتى لوصف الشيء المعهود المعروف للسامع والذي لا يحتاج إلى إيضاح.

 

2-العرب في الجاهلية أضاعوا صلاتهم حين اكتفوا بتأديتها شكلا فقط بينما وقعوا في الشرك والفحشاء. وذكر القرآن أن العرب كانوا يؤمنون بان الله هو خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر وانه مالك الأرض ومن فيها وأن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه (المؤمنون 84؛89" العنكبوت  61 " الزمر 38) ولكنهم مع ذلك لم يخلصوا لله تعالى عبادتهم إذ اتخذوا أولياء أقاموا لهم الأنصاب أي الأضرحة – كما نفعل اليوم -  وحجوا إليهم – كما نفعل نحن في الموالد الصوفية - وعكفوا على قبورهم المقدسة بزعم أنها تقربهم لله زلفى – كما نفعل في ضريح الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة والإمام الشافعي والمرسى أبى العباس والسيد البدوي وغيرهم -وذلك ينافى الإخلاص في عبادة الله وحده، يقول الله تعالى لهم – ولنا أيضا - " أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ الزمر 2-3)

 

3- والمصلي الذي يعبد الله ويشرك بعبادته مع الله تقديس ولي أو ضريح جزاؤه عند الله أن يحبط الله عمله ( الزمر 65-) وإحباط العمل يعنى تضيع ثوابه، فذلك المصلى المشرك بالله أضاع صلاته بالشرك وهذا هو السبب الأول في إضاعة العرب لثواب صلاتهم عند الله.

والسبب الثاني وقوعهم في المعاصي وتعودهم عليها بل الفخر بها واعتبارها جزءا من الدين عندهم حتى لقد نسبوها لأمر لله تعالى، وقد احتج رب العزة على هذا التزوير الديني الذي وقعوا فيه فقال تعالى يسجل ذلك عليهم:" وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ). الأعراف 28")

المخزي أن بعض الصوفية بعد نزول القرآن بعدة قرون جعل للزنا والشذوذ وسائر المعاصي مسوغا دينيا بأن أسندها لأمر الله تعالى فيما يعرف عندهم بوحدة الفاعل – أي الله تعالى – وهو ترديد مخجل لأقاويل الجاهلية تؤكد عظمة الإعجاز القرآني الذي سيكون حكما على الجاهليين و على المسلمين الضالين وكلاهما أضاع الصلاة بالمعاصي والشرك مع قيامه بتأدية حركاتها وفى مواقيتها. لقد ذكر الله تعالى أفعال الجاهليين ورد عليها في القرآن في سورة الأعراف التي ذكر فيها من قبل أن الشيطان سيظل يمارس مهمته إلى قيام الساعة (قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ )الأعراف 15 – 17 )

 

إن من يقع في الشرك وفى المعصية ومع ذلك يصلى فلا عبرة بصلاته طالما لم يحافظ عليها بسلوكه وبقلبه، بمعنى آخر هو قد غفل وسها عن الهدف الحقيقي للصلاة، فالصلاة ليست مجرد حركات بل لا بد أن تثمر تقوى وسموا خلقيا في التعامل مع الناس يعبر عن إيمان حقيقي. إذا اكتفى بعضهم بمجرد تأدية حركات الصلاة واعتبر الصلاة هدفا في حد ذاته فقد وقع في تكذيب دين الله تعالى لأن صلاته ستتحول إلى مسوغ له لارتكاب المعاصي معتقدا أنه طالما قد صلى فقد أصبح مغفورا له مهما فعل لأن مجرد صلاته ستمحو ذنوبه. هنا تكون الصلاة وسيلة للعصيان وليست وسيلة للتقوى، وهذا هو التكذيب لدين الله تعالى.

 

وقع في هذا التكذيب لدين الله تعالى بعض الجاهليين المتدينين الذين كانوا يصلون الصلاة في مواعيدها معتبرين إياها هدفا في حد ذاتها، ولذا اقترنت صلاتهم بارتكاب المعاصي والرياء. نفهم هذا من قوله تعالى في سورة مكية:" أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ) سورة الماعون)

فالخطاب في السورة للرسول بالتعجب من ذلك المشرك الذي يكذب بالدين ويزجر اليتم ولا يهتم بطعام المسكين ومع ذلك يؤدى الصلاة وهو ساه عنها وعن معاصيه بل يرائي بهذه الصلاة ولا خير فيه للناس، وهكذا كان حال مشركي مكة وهو حال أغلب محترفي التدين من المسلمين اليوم، حيث يقترن تدينهم وصلاتهم بالغلظة والقسوة والجبروت والرياء والنفاق والتناقض بين الظاهر والباطن واستحلال أموال الناس بالباطل، أو بما تسميه العامة في مصر ( بقلة الدين).

 

وكانت للعرب المشركين مساجد يؤدون فيها الصلاة ولكنهم لوقوعهم في الشرك كانوا يسمون هذه المساجد بأسماء الأولياء الذين يعبدونهم كما نفعل نحن الآن، وحين دعا النبي إلى أن تكون هذه المساجد لله تعالى وحدة تكالبوا عليه يريدون إيذاءه، واقرأ معنى ذلك في قوله تعالى " وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا الجن 18-19).

وقد أمر الله تعالى رسوله محمدا أن يوجه خطابا محددا لأولئك العرب الذين يقدسون أضرحة الأولياء المدفونة في مساجد الله تعالى، والذين يقرنون أسماء البشر المقدسين مع اسم الله تعالى في الأذان للصلاة وفى تأديتهم للصلاة. الخطاب المحدد هو أيضا موجه لنا حيث يذكر المسلمون اسم محمد نفسه مع اسم الله تعالى في الأذان وفى الصلاة ويكتبون اسم محمد مع الله تعالى بما يعنى تقديسا لمحمد وهو الذي أرسله الله تعالى لمحو تقديس البشر والحجر والشجر. ولذلك فان الله تعالى أمر محمدا رسوله الكريم أن يعلن ويحدد مهمته فى أن يدعو ربه – أي يقدسه – فقط ولا يجعل لله تعالى شريكا في التقديس، وأنه لا يملك هدايتهم لأن الهداية مسئولية كل إنسان فمن شاء الهداية هداه الله تعالى، ومن شاء الضلال تركه الله تعالى للشيطان يضله، فمن اهتدى فإنما يهتد لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. أما النبي فلا يملك أن يهدى من أحب طالما أن من يحرص النبي على هدايته يرفض الهداية،  وأنه عليه السلام لن ينجيه من ربه إلا تبليغ الرسالة القرآنية، أي أنه سيحاسبه الله تعالى على تبليغ الرسالة، والحساب على قدر المسئولية، ومن يعرض من الناس عن قبول الحق فان جهنم تنتظره: (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلاَّ بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) الجن 20 -23 )

وقد اعتبر القرآن صلاة مشركي العرب في المساجد صلاة ضائعة غير مقبولة طالما استمروا في شركهم يقول تعالى " مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّه شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ)

أما الذي يقبل الله صلاته فهو المؤمن بالله مخلصا لله قلبه وعمله المتقى الذي لا يخشى إلا الله المصلى الذي يقيم الصلاة في قلبه وسلوكه وليس مؤديا لحركات الصلاة فقط (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّه شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ. إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) التوبة 17- 18 )

ومن أسف أن الأقلية فقط هي التي تنطبق عليها الآية سواء في عصرنا الراهن أو في العصر الجاهلي.

إذن عرف العرب قبل الإسلام الصلاة في المساجد وان كانوا قد لوثوها بعبادة أولياء مع الله وكانوا جميعا بعد نزول القرآن مشركين ومسلمين يؤدون الصلاة في نفس المساجد وبعد أن هاجر المسلمون من مكة.

دور قريش

 

قريش كانت أشهر وأقوى قبيلة عربية بسبب سيطرتها على الكعبة – بيت الله تعالى الحرام – وسيطرتها على موسم الحج الذي كان يفد إليه العرب في الأشهر الحرم. سيطرت قريش على الحياة الدينية لكل العرب إذ كان لكل قبيلة صنمها الخاص الموضوع في الحرم المكي، وتقوم قريش على رعايته. استغلت قريش سلطتها الدينية في تأكيد سلطتها السياسية والاقتصادية فنعمت بالإيلاف وهو حصانة قوافلها التجارية – رحلة الشتاء والصيف – من النهب والاعتداء، و لعبت قريش دور الوسيط في نقل تجارة الهند الآتية إلى اليمن فحملتها إلى الشام لتصل إلى أوربا وروما، وبالعكس حملت تجارة روما إلى اليمن لتسافر بحرا إلى الهند وآسيا.

وازدادت قريش ثراء وأمنا في الوقت الذي عانت فيه القبائل الأخرى من الفقر والتقاتل والسلب والنهب. هذه التجارة بالدين استلزمت من قريش أن تحافظ على طقوس الشرك الديني والظلم الاجتماعي في مجتمعها الرأسمالي القائم على وجود فجوة هائلة بين المترفين الأثرياء والجوعى من الرقيق والفقراء. تم عبور هذه الفجوة وتسويغها بالتدين السطحي الذي يحرص على أداء العبادات من صلاة وصوم وحج وصدقات، مع الحفاظ في نفس الوقت على الظلم والبغي والعصيان والانحلال الخلقي.

ابتدع هذا التدين السطحي تبريرات للمعصية تزعم أن هذا ما وجدنا عليه آباءنا وان الله تعالى أمرهم بها ( الأعراف 28)، كما استخدم تأدية الصلاة ومناسك الحج والصدقة كمكفرات للذنوب، أي طالما تصلي فلا حرج عليك مهما ارتكبت من معاصي، وطالما تحج فقد تم غفران ذنوبك. أي أصبح أداء العبادات ليس للسمو الخلقي والتقوى ولكن لتبرير المعصية والتشجيع عليها، والغنى المترف يستطيع بماله أن يشترى الجنة بما ينفقه في عمارة لبيت الحرام ورعاية الحجاج. علاوة على شفاعة الأولياء والتي ساد الاعتقاد الراسخ فيها في العصر الجاهلي مما استوجب من القرآن أن يرد عليهم مؤكدا أن الله تعالى وحده هو الولي المقدس وهو الشفيع وهو الناصر يوم القيامة.

ومن أسف أن تلك الثقافة القرشية ما لبث أن عادت رويدا رويدا بعد موت النبى محمد عليه السلام. ثم أصبحت سائدة حتى عصرنا. وبتلك الثقافة يتميز المتدين فى عصرنا عن الشخص العلمانى.

جاء الإسلام ليهدد كهنوت قريش وتدينها السطحي الذي أضاع ملة إبراهيم.

 

قريش اعترفت بان ما جاء به القرآن هو الهدى ولكنهم لو اتبعوا ذلك الهدى لفقدوا الأمن والثراء: وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) القصص 57 )

لذلك أعلنها القرآن صريحة: أنهم يكذبون بالقرآن حماية لمصالحهم الاقتصادية  (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ َ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) الواقعة 81-82 )

اختارت قريش أن تصلى دون أن تقيم الصلاة وتؤتى الزكاة، لأن إقامة الصلاة تعنى تدمير مكانتها التي قامت على الظلم والفجور والتدين الفاسد القائم على استغلال الدين في السحت والاحتراف الديني.

 اضطهدت قريش المسلمين فاضطرت معظمهم إلى الهجرة إلى المدينة، وبقى بعض المؤمنين في مكة وحاولوا أن يصلوا في نفس المساجد ولكن المشركين القرشيين المعتدين منعوهم من دخولها فنزلت آية في المدينة تقول " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ  - البقرة 114)

وعوضا عن ذلك أقيمت المساجد في المدينة لذكر الله وحدة مصداقا لقوله تعالى " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ. النور 36-)

بل كان من أسباب تشريع القتال للمؤمنين وهم في المدينة أن تكون المساجد لله تعالى وحده ليذكر فيها اسمه كثيرا دون غيره وان تقام الصلاة كيفية وسلوكا وتقوى دليلا على تمكن المسلمين في أرضهم يقول تعالى " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ". الحج39-41

إن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تعنى التفاعل بالخير والمعروف مع المجتمع، أو بالتعبير القرآني: " الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر" والمعروف هي القيم العليا المتعارف عليها من الصدق والإحسان والعدل والأمانة والإخاء والسلام والشجاعة والمروءة والمحبة والكرم والتسامح..الخ. والنهى عن المنكر يعن النهى عن كل الخصائص المذمومة من الظلم والبغي والبخل والأنانية والعصيان. وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تثمر مجتمعا تسود فيه هذه الفضائل، وهذا ما كان عليه – في الأغلب – مجتمع المدينة في عهد النبي محمد عليه السلام حين كانت إقامة الصلاة تظهر واضحة في تعامل الناس فيما بينهم.

نقول في الأغلب  لأن ضمان الإسلام للحرية المطلقة في العقيدة والسلوك السلمي  اتاح للمنافقين حرية الحركة في الدعوة للمنكر والنهى عن المعروف بمثل ما كان المؤمنون والمؤمنات يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ولذلك انتشرت في المدينة حركتان متناقضتان في جو من الحرية الدينية لا مثيل له حتى في عصرنا. المنافقون والمنافقات يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف – علانية – بينما المؤمنون والمؤمنات يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر –علانية – يقول تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) التوبة 67 )

أي كانوا يقبضون أيديهم بخلا ويقترفون المعاصي فسقا في المقابل يقول تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة 71) جاء هنا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع طاعة الله تعالى ورسوله – أي طاعة القرآن – توضيحا لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وقد سبق القول بان المنافقين كانوا يفعلون حركات الصلاة خداعا ومراءاة للناس ( النساء 142) أي أن المشكلة لدى المشركين والمنافقين لم تكن على الإطلاق هو أداء حركات الصلاة في مواقيتها ولكن إقامتها بالحفاظ عليها والخشوع فيها.

وإذا كان للمشركين مساجد في مكة يؤدون فيها الصلاة فان المنافقين في المدينة أيضا حين أرادوا إنشاء مركز في المدينة لمقاومة الإسلام أسرعوا بإقامة مسجد يكرر سيرة المشركين ومساجدهم الشركية وقال تعالى فيهم وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ  )" التوبة 107" أي اتخذوا المسجد حربا للمسلمين في عقر دارهم ، وكان المسلمون العاديين يأتون للمسجد للصلاة فيه غير مدركين لما يجرى فيه من تآمر، بل المستفاد من الآية التالية أن النبي محمدا عليه السلام كان مخدوعا في هذا المسجد وكان يأتي أيضا للصلاة فيه إلى أن نزل الوحي يخبر بحقيقة المسجد وينهى النبي عن الإقامة فيه (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)

ثم يقول تعالى يقارن بين مساجد المؤمنين ومساجد المشركين (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين)َ   التوبة – 109)

فالمساجد موجودة للصلاة في العصر الجاهلي وبعد ظهور الإسلام. والصلاة يؤديها المسلمون والمشركون والمنافقون بنفس الكيفية وفى نفس المواقيت، وليست هناك مشكلة في عدد الركعات وكيفية الصلوات ومواعيدها، ولو كان هناك خلاف في هذا لجعل منه المشركون والمنافقون قضية كبرى يتهمون فيها محمدا بالابتداع في الدين وهجر الصلاة المتوارثة بكيفيتها ومواعيدها وهيئاتها منذ عهد إبراهيم.

لم تكن حركات الصلاة وأعدادها ومواقيتها مشكلة على الإطلاق. المشكلة كانت – ولا تزال – هي تضييع الصلاة بالشرك العقيد والعصيان والفجور. المشكلة كانت – ولا تزال – في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة – بمعنى أن تثمر الصلاة زكاة وتطهيرا للنفس وسموا في الخلق، وليس أن تصبح رياء ووسيلة لخداع الناس والإسراف في العصيان.

5- وهكذا لم تستفد المشركون من صلاتهم في هذه المساجد إلا الضياع والخسران، بل إن القرآن سخر من تأديتهم للصلاة بمجرد الركوع والسجود وهم على ما هم عليه من تكذيب للقرآن واستمرار على العصيان فوصف هذه الصلاة بحركات اللعب واللهو التي تبعث على السخرية والاستهزاء، وهو وصف دقيق لمن يصلى قائما راكعا ساجدا بمجرد حركات دون وعى ودون معنى، يقول تعالى " وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ). الانفال 35)

وقبل هذه الآية الكريمة أوضح القرآن أنهم كانوا يستغفرون الله وأن الله تعالى سينجيهم بهذا الاستغفار من الهلاك في الدنيا طالما لم يخرجوا النبي من مكة " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ). الأنفال 33) ولكن العذاب ينتظرهم في الآخرة مهما صلوا ودعوا الله تعالى طالما لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة ولا يتقون الله تعالى" قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ).. الفرقان 77)

وهكذا ضاعت صلاتهم كما ضاع دعاؤهم لله تعالى واستغفارهم إياه بسبب عصيانهم وتمسكهم بعبادة الأولياء والأنصاب وعصيانهم وتكذبيهم للقرآن.

 

مؤمنو أهل الكتاب ومؤمنو العرب المتمسكون بأصول ملة إبراهيم الحقيقية

وصراعهم مع المشركين الذين لم يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة

 

وفى وسط هذه الظلمة الحالكة كان بصيص نور من الإيمان عند بعض أهل الكتاب ومن بقى متمسكا بالحنفية ملة إبراهيم من العرب.

1-يقول تعالى عن أهل الكتاب " لَيْسُواْ سَوَاء " أي أنهم جميعا ليسوا في التدين مثل بعضهم وان كانوا جميعا أتباع دين واحد هو الكتاب المقدس الحق الذي نزل القرآن الكريم يؤيده ويصدقه. لكنهم في التدين أو تطبيق الدين لم يكونوا سواء، وتطبيق الدين بصدق يعنى التقوى أو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهنا يختلف الناس حسب الإيمان والسلوك برغم الشعارات المرفوعة؛ بعضهم سابق في الخير وبعضهم توسط، وبعضهم ضل وفسد، وتتحدث الآية عن الصنف المفلح من أهل الكتاب فتقول عنهم بصيغة الجملة الاسمية التي تفيد الثبوت والدوام في كل عصر وأوان: (مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) أي قائمة بالدين إيمانا وشعائر وسلوكا أو بمعنى آخر هي أمة تقيم الصلاة وتؤتى الزكاة، ولذلك فإنهم كما قال تعالى: " يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) ولذلك فان الله تعالى لن يضيع أجرهم، فالمتقون هم أصحاب الجنة: (وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ) آل عمران 113-115)

2-وأكد القرآن الكريم على إقامتهم الصلاة وإيتاء الزكاة بالمفهوم القرآني أي بإخلاص العقيدة لله تعالى وحده وسمو السلوك وتطهر القلب والجوارح، فبعد أن ذكر الله تعالى الصنف السيئ منهم وذكر بعض سيئاتهم ومنها: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) النساء " 161".

 قال مستدركا يصف الصنف المفلح السامي منهم : (لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا  )"النساء 162" وصفهم بإقامة الصلاة وليس مجرد التأدية الشكلية للصلاة وهى تفيد تزكية النفس أو إيتاء الزكاة وتؤكد إيمانهم الصحيح بالله تعالى وحده إلها لا شريك له ، والإيمان الصحيح باليوم الآخر الذي لا مجال فيه لشفاعة بشر أو حجر. هذا الإيمان الصحيح بالله تعالى واليوم الآخر يعتبر أيمانا بكل الكتب السماوية، لذا فهم مؤمنون بالقرآن الذي يصدق بما سبقه من كتاب سماوي. وبعدها يتحدث القرآن عن وحدة الوحي الذي نزل على محمد وعلى الأنبياء السابقين فيقول تعالى " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا " النساء 163-) ولاحظ أن الآية تفصل بين نوح ومن بعده من الأنبياء الذين دمر الله أقوامهم فلم تعد لهم باقية -وبين إبراهيم وذريته التي استمرت وجاء منها الأنبياء إسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وغيرهم إلى خاتم النبيين محمد عليهم جميعا السلام.. أن الوحي واحد للجميع والصلاة أيضا، كما أن موقف الجميع واحد في تدينه، منهم من أقام الصلاة وآتى الزكاة بالمفهوم الذي عرفناه، ومنهم من أضاع صلاته وسقط في حضيض الكفر والعصيان. 

هذا ما حدث من الأكثرية من الخلف في عدم إخلاص القلب والعبادة لله وحده مع أن ذلك ما جاء به الوحي لكل نبي. وبسبب العصيان وعدم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تفرقوا من بعد ما جاءهم الوحي الإله بالبينة  " وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )  . البينة 4-) رفضوا ملة إبراهيم الحنفية فلم يخلصوا العقيدة واكتفوا بمجرد تأدية حركات الصلاة إذا صلوا - دون إقامة حقيقية لها في القلب والحواس والسلوك.

 3-على أن هناك من العرب من ظل متمسكا بالحنفية مقيما للصلاة مؤتيا للزكاة تاركا الظلم والعصيان وعبادة الأصنام وهم الحنفاء، ذكر منهم تاريخ العرب شخصيات كثيرة منهم مثل زيد بن عمر بن نفيل وقس بن ساعدة الايادى وورقة بن نوفل، وأولئك اخلصوا لله تعالى صلاتهم فقاموا بالصلاة وفق ما أمر الله وكانت لهم مع قومهم صرا عات دارت حول المساجد التي حولها المشركون إلى معابد يذكر فيها اسم الله تعالى ويذكرون معه الأولياء وقبورهم المقدسة بمثل ما نفعل اليوم. يقول الله تعالى " الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الحج 40 "

وهذه القاعدة التاريخية الاجتماعية تنطبق على تاريخ الصراع الديني في التاريخ الإنساني ومنه تاريخ العرب قبل وأثناء ظهور الإسلام ونزول القرآن. نفهم من هذه القاعدة التاريخية الاجتماعية إن أماكن العبادة للعرب وأهل الكتاب مثل الصوامع والبيع والمساجد شهدت صراعات شتى بين أتباع الحق وأتباع الباطل ليس حول كيفية الصلاة، وإنما حول الاستخدام السيئ لبيوت العبادة في التجارة بالدين والاسترزاق منها. وذكر القرآن).الكريم طرفا من ذلك في قصة أهل الكهف وكيف أن السادة أقاموا على جثثهم مسجدا للتبرك بهم.( الكهف 21 )  .

إن العادة أن أصحاب السلطة والنفوذ هم الذين يسيطرون على المساجد لنهم هم الذين يشيدونها تكفيرا عن مالهم السحت وامتصاصهم عرق الضعفاء، وقد يؤدون الصلاة إلا أنهم لا يقيمونها، بل يستخدمون سلطتهم على المساجد في منع الضعفاء ممن يخالفهم في الرأي والتدين، حتى لو كان أولئك الضعفاء متمسكين بالحق العقيدي والصالحات من الأعمال. وهكذا فعلت قريش بمن بقى في مكة من المسلمين بعد هجرة أغلب المسلمين إلى المدينة فمنعهم المشركون من دخول المساجد " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )البقرة 114)

وذلك ما حدث مع النبي محمد نفسه حين منعوه من الصلاة في البيت طالما يكفر بالأصنام " أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى) ويبين الله تعالى أن ذلك الكافر أضاع نفسه بالمعاصي والضلال:( أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ) إلى أن يقول تعالى لرسوله الكريم: (كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) العلق 9؛ 19)

فقد تزعمت قريش حزب الشرك، وبما لها من سيطرة على الكعبة أحاطتها بالأصنام والأنصاب ليكون لأولئك الأولياء نصيب في الصلاة التي تؤدى لله في بيت الله الحرام، ومن لا يستحب لذلك كانوا يمنعونه من دخول الحرم ومن الصلاة فيه، فقال رب العزة يتوعدهم وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) الأنفال 34.

أي أن المتقين فقط هم الأحق بولاية بيت الله تعالى الحرام. فالمتقون هم الذين كانوا في ذلك الوقت يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة في قلوبهم وحواسهم وسلوكهم، أما أولئك الذين يؤدون حركات الصلاة من سجود وركوع دون خشوع ودون تقوى - بل وصد عن سبيل الله - فصلاتهم لهو ولعب يستحقون عليها العذاب، ولذلك تقول الآية التالية تسخر من صلاتهم – وهى مجرد حركات عجلى بدون خشوع أو تقوى: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ) الانفال -35 ) أي لم تردهم تلك الصلاة إلا عذابا يوم القيامة.

 

خاتم النبيين (محمد ) متبع لملة إبراهيم حنيفا وليس بدعا من الرسل وليس منشئا لدين جديد

 

1- من الأخطاء الكبرى أن يعتقد المسلمون إن محمدا خاتم النبيين قد جاء بدين جديد أو كان بدعا بين الرسل. لقد أمره ربه جل وعلا أن يعلن أنه ليس متميزا عن الرسل السابقين وانه حتى لا يعلم الغيب مثل بعض الرسل السابقين – نقصد رسل الله تعالى بالطبع. اقرأ قوله تعالى: (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) الأحقاف 9 )

وأمره ربه جل وعلا أن يقتد بالهدى الذي جاء به من سبقه من الأنبياء عليهم جميعا السلام. أقرأ قوله تعالى للنبي محمد بعد أن قص الله تعالى قصة هداية إبراهيم وذريته: (  أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) الأنعام 90 )

 

2- وأهم الهدى هو ما تعلق بطريقة العبادة أو ما يعرف بالملة. وإذا كانت الأمم السابقة في المنطقة قد فنيت ولم يعد لها بقاء فقد بقيت أمم أخرى تكاثرت وانتشرت في كل أنحاء العالم، منها في الشرق الأوسط ذرية إبراهيم وهو أبو الأنبياء وأبو شعبين هما ينو إسرائيل والعرب المستعربة، وفيهما توارثت الذرية ملة إبراهيم من صلاة وصوم وصدقة وحج وتلاوة للكتاب الإلهي.

ولكن تمسك أغلب الخلف بالحركات والتدين السطحي الظاهري المنافق المرائي دون إخلاص الدين لله تعالى فتحولت الطاعة إلى عصيان، ولهذا تعاقب الأنبياء في بنى إسرائيل كلهم يدعو إلى العودة إلى الأصل المضيء لملة إبراهيم، أو " ملة إبراهيم الحنيفية" التي تعنى إخلاص العقيدة لله تعالى وحده وطهارة السلوك، أو بمعنى آخر هو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

ثم جاء خاتم الأنبياء جميعا من ذرية إسماعيل بن إبراهيم رسولا للبشر جميعا إلى قيام الساعة ينادى بنفس المهمة وهى اتباع ملة إبراهيم حنيفا. أي باختصار هي دعوة لإصلاح الدين الأصلي – الإسلام – الذي جاء به جده الأكبر أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام.

نزل الوحي عليه يأمره بالتباع ملة أبيه إبراهيم في إن تكون صلاته بل وحياته ومماته  لله وحده لا شريك له، وأمره ربه أن يعلن ذلك لقومه وللعالم :" قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) وفى كلمات موجزة بليغة تشرح الآيتان  التاليتان  معنى الإسلام وإخلاص العقيدة في ملة إبراهيم (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ). الانعام162/163 -) إذن أصبح خاتم النبيين إماما للمسلمين في التباع ملة أبيه إبراهيم الحنيف، وداعية للعالم كله إلى التباع ملة إبراهيم الحقيقية: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ) النساء 125 )

ودائما تقترن كلمة (ملة إبراهيم )بوصف (حنيفا) أي حال كونه مخلصا في عبادة الله وحده لا شريك له، ذلك أن العرب كانوا يدعون التمسك بملة إبراهيموهم مقيمون على الشرك، وكما قلنا فان الملة هي طريقة العبادة وقد تمسك العرب بطريقة الصلاة المتوارثة من ركوع وسجود ومواقيت ولكن وقعوا في الشرك وأدمنوا البغي والعصيان، وظنوا كما نظن الآن أن مجرد الشكل يكفى، وتناسوا – كما نتناسى نحن الآن أيضا – معنى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة الذي أضاعوه وأضعناه.

 

3- لقد مدح رب العزة في القرآن إبراهيم عليه السلام وقال فيه ما لم يقله في أي نبي آخر.

 فهو النبي الوحيد الذي عندما عاتبه ربه قرن العتاب بالمدح، فعندما جاءت الملائكة لتبشر إبراهيم بابنه اسحق ثم يعقوب، وتخبره بأنها ستدمر قوم لوط – أخذ إبراهيم يجادل ويدافع عن قوم لوط خوفا على المسلمين في داخل القرية، دون أن يعرف أن الأمر الإلهي قد صدر فعلا وأن الله تعالى لا يبدل القول. اقرأ قوله تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) وجاء تعليق رب العزة يمدح إبراهيم عليه السلام قائلا: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ)  هود 74 – 75 )

وإبراهيم هو النبي الوحيد الموصوف بأنه ( وفّى ) أي أوفى ونجح في كل الاختبارات التي امتحنه الله تعالى بها :{ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) النجم 37  ). جاءه الاختبار كلمات تقول له اذبح ابنك الوحيد، اتركه غريبا في صحراء الحجاز عند البيت الحرام..الخ وأتم إبراهيم تنفيذ كل تلك الكلمات فقال تعالى عنه:( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) البقرة 124 ) أي جعله الله تعالى إماما لكل المتقين إلى قيام الساعة سواء كان أولئك المتقون من ذريته أو لم يكونوا. وفى كل عصر وفى كل مكان بعد إبراهيم فان من يرفض ملة إبراهيم فقد ضل سواء السبيل، يقول تعالى عنه:( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينََ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ  ) البقرة 130- 131 )

وهو النبي الوحيد الذي تتالت الآيات تمدحه بما لم تقله في نبي آخر، ثم تختتم بتقرير إن خاتم النبيين تابع له متبع لملته ومأمور بذلك، يقول تعالى عنه: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) أي كان وحده يعادل "أمة "أو مجتمعا من الخير، وكان يداوم العبادة مخلصا لربه ولم يقع في الشرك.( شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)( وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) إلى أن يقول تعالى لخاتم النبيين: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) النحل 120-123) وهذا الإصرار على وصف ملة إبراهيم بالحنفية التي تعنى عدم الوقوع في الشرك يعنى الرد على أولئك الذين زعموا من العرب أن ملة إبراهيم عندهم هي مجرد التمسك بكيفية الصلاة المتوارثة عن جدهم إبراهيم دون التمسك بالإخلاص في العبادة لله وحده وإسلام الرجة لله تعالى وحده.

4- وهو نفس الرد على أهل أبناء عم العرب ومن نسل إبراهيم الذين اعتقدوا أن اليهودية أو النصرانية هي استمرار لملة إبراهيم فقال لهم المولى عز وجل " وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينََ. البقرة135) أي يدعوهم إلى الرجوع لملة إبراهيم الحنيفية.

وكان بعض أهل الكتاب في المدينة يعتقدون أنهم على الحق فى اتباع ملة إبراهيم ورد القرآن عليهم " مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)آل عمران 67-68 ) أي أحق الناس بملة إبراهيم هو خاتم النبيين والذين اتبعوا هذه الملة من المؤمنين في كل زمان ومكان. أي أن الأمر ليس شعارا يرفع وإنما هو إتباع صادق للدين الحنيف الذي جاء به أبو الأنبياء وأبو المسلمين:إبراهيم عليه السلام، لذا قال تعالى للمؤمنين " وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا ) الحج78 -)

فملة إبراهيم هي إقامة الصلاة لله وحده والجهاد في سبيله تعالى وعبادته وحده دون ولي أو شريك...وقد تتالت الأوامر والنواهي على النبي بإخلاص العبادة لله وحده وعدم اتخاذ أولياء مع الله لاستعادة نقاء ملة إبراهيم. قال له ربه: "وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). يونس 105) . أي كانت دعوة محمد خاتم النبيين تتركز في إتباع ملة إبراهيم حنيفا بإخلاص العبادة والصلاة لله وحده وفق ما كان إبراهيم يفعل في عبادته وفى صلاته.

 

موقف االمشركين من الرسول محمد بعد إن دعا للحنيفية :.

 

1-قام الكهنوت القرشي على أساس الإكراه في الدين، واستعملوا نفس الأسلوب مع خاتم النبيين ، لم يقبلوا أن يصلى لله تعالى دون أن يصلى للأولياء فأمروه بأن يجعل من صلاته جزءا للأولياء وأمره الله تعالى بالرفض تاركا لهم حرية الخيار في عبادة غير الله تعالى حيث لا إكراه في الإسلام اقرأ هذا المعنى في قوله تعالى" قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي  فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ "- " قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ). الزمر 13؛14؛15؛64؛)

2-لقد امتن الله تعالى على خاتم النبيين بأنه هداه إلى الحق بعد أن كان يعيش في نفس الضلال الذي عاشته قريش، يقول تعالى له في أوائل ما نزل في القرآن الكريم: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ) الفجر 7 )

هداه الله تعالى إلى الحق بالحق القرآني، وما كان قبله يدرى ما الكتاب ولا الأيمان:( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) الشورى 52 ) بالوحي القرآني ترك محمد عبادة الأولياء والأنصاب وأخلص لله تعالى عقيدته وفقا لملة أبيه إبراهيم، فاشتد الضغط عليه من قريش ليعود إلى ما كان عليه من الشرك فى العقيدة.

 ومع كثرة ضغطهم عليه بأن يعود إلى ما كان عليه قبل النبوة والهداية أمره ربه أن يعلن أن الله نهاه عن ذلك، وأنه تعالى أمره في القرآن بعدم العودة إلى الشرك الذى كان فيه قبل الوحي :" قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) غافر 66) أي أمره ربه جل وعلا أن يعلن لهم أنه جل وعلا قد نهاه عن عبادة غير الله تعالى، فقد جاءه الهدى في القرآن، وأمره ربه جل وعلا أن يسلم وجهه لله تعالى وفق ملة إبراهيم.

وتكرر الضغط القرشي عليه بالعودة لعبادة الأوثان والأضرحة فتكرر نفس الرد(  قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) الأنعام 56).

وتكرر نفس الموقف وجاءت آيات القرآن تحث النبي على التمسك بإخلاص عقيدته لربه وألا يكون من المشركين مناصرا للكافرين (وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص 86 – 88 )

وكانوا يخوفونه من غضب الأولياء المقدسة لأنه ترك عبادتها فقال له ربه جل وعلا: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ)الزمر 36 ).

 واتخذ التخويف حربا نفسية ضد النبي ليعود إلى عبادة الأولياء مع عبادة الله تعالى فطمأنه ربه جل وعلا قائلا له: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يونس 107 )    

وتناوله المشركون بدعاية مضادة تشكك في الإسلام فجاءه الرد الذي يجب أن يواجههم به: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي بصراحة انه لن يعبد آلهتهم المزعومة بل سيعبد الله تعالى وحده، وجاءت الآية التالية تؤكد على أن تكون العبادة لله وحده وفقا لملة إبراهيم: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ) يونس 104-106 )

ومنذ البداية تمسك النبي محمد عليه السلام بأوامر ربه فامتنع عن عبادة أوثان المشركين المنتشرة في الكعبة، فحاول المشركون منعه من الصلاة في الحرم ونزل ذلك في سورة العلق أول ما نزل من القرآن " أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ) إلى أن يقول تعالى للنبي محمد: (كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ).العلق.

الخلاصة

 

عرفنا أن ذرية إبراهيم من العرب وأهل الكتاب توارثوا كيفية الصلاة ومواقيتها ضمن ما توارثوه من ملة إبراهيم ولكنهم اكتفوا بالشكل الذي يؤدون به الصلاة وتركوا القلب والجسد مرتعا يحيله الشيطان كفرا ومعصية.

ونزل القرآن يدعو للإتباع الصحيح لملة إبراهيم ويحذر من الشرك والمعاصي ويأمر بالمحافظة على الصلاة وليس مجرد تأدية الشكل دون المضمون.ويلفت النظر أن الأوامر الخاصة بالصلاة كانت بلفظ " أقيموا الصلاة " أي أقيموها في قلوبكم خشوعا وفى جوارحكم طاعة وتقوى.والألف واللام في "الصلاة " تفيد العهد أي الصلاة المعهودة المعروفة لديكم أقيموها وحافظوا عليها.

وقد تكرر الأمر بإقامة الصلاة في أكثر من أربعين موضعا بالإضافة إلى أوصاف أخرى تفيد نفس المعنى مثل " حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ.... البقرة 238) والاستعانة على كل شيء بالصلاة والصبر (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)... البقرة 45)

وأولئك الذين كانوا يؤدون الصلاة دون إقامتها والمحافظة عليها كالمنافقين وصف القرآن طريقتهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) النساء 142 " فهم لم يقيموا الصلاة وإنما يتكاسلون في أدائها في الظاهر ويراءون الناس بينما لا يذكرون الله تعالى في قلوبهم وفى سلوكهم ولو فعلوا لكانوا متقين مقيمي الصلاة. والله تعالى لن يقبل منهم هذه الصلاة التي يؤدونها رياء وهم كسالى: (وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى. التوبة 54) فلن تغنى عنهم شيئا فهم في الدرك الأسفل من النار مهما ركعوا وسجدوا.

إن فريضة الصلاة صلة متجددة بين المسلم وربه، ولذلك تتوزع طيلة النهار منذ بداية اليقظة في الفجر حتى بداية النوم في العشاء، وفيما بين أوقات الصلاة يظل المؤمن محافظا على صلت بربه إذا أقدم على معصية بعد فريضة الظهر أدرك انه سيصلى العصر لله تعالى فكيف يخشع في صلاته والله اعلم بإصراره على المعصية ؟ إذن فالصلاة الحقيقية التي يحافظ عليها صاحبها أو التي يقيمها صاحبها هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.

وهذا هو جوهر الحنيفية التي تعلمها الناس من إمامهم إبراهيم ولكن ما لبث الشيطان أن أغرقهم في الشكل والحركات وعبث بالقلب والجوارح فأحدث فجوة بين الصلاة والسلوك. وهكذا كان العرب حين نزل القرآن يعرفون حركات الصلاة ومواقيتها ويؤدونها مجرد تأدية ولكن لا يقيمونها في سلوكهم ولا في قلوبهم فنزل القرآن يصحح الوضع لتكون الصلاة صلة متجددة بالمولى عز وجل ووسيلة لتقواه وإخلاص الدين له تعالى وحده.لو كان هناك تقصير آخر أو جهل بمواقيت الصلاة وحركاتها وكيفية تأديتها لأوضحه رب العزة ولكن كان حال العرب في الجاهلية كالمثل الذي نقوله الآن " هذه نقرة وهذه نقرة". وهذا مثل شعبي مصري عن الانفصال بين الصلاة والسلوك السيئ، إذ أن الشيطان فعل بنا مثلما فعل مع السابقين، فالشيطان لم يقدم استقالته.

أخيرا نقول إن محمدا عليه السلام كان متبعا لملة إبراهيم، ونزل عليه القرآن بالدعوة لإصلاحها في تشريعاتها، ولم يكن مبعوثا بدين جديد لا يعرفه العرب. ومن هنا فانه ليس منتظرا منه الإتيان بصلاة جديدة أو تشريعات جديدة بالكامل وإنما نزل القرآن ليتعامل مع مجتمع تم فيه تحريف ملة إبراهيم فجاء القرآن لتصحيح ما تم تحريفه وإقرار ما لم يتم تحريفه، أما التشريعات الجديدة في سياق ملة إبراهيم فقد نزل القرآن يفصل ويشرح بنودها.

هذا ما نتوقف معه بالشرح في الفصل التالي.

 

 

                      

 

 

 

                              الفصل الثاني

                                     

                       الصلاة ونزول القرآن

 

 معنى بيان القرآن:

 

1- لو كان العرب حين نزل القرآن يجهلون صلاة المغرب وعدد ركعاتها وصلاة الجمعة وكيفيتها لجاءت تفصيلات القرآن تعلم الناس ما يجهلون من عدد ركعات الصلاة وكيفيتها ومواقيتها وكل شيء عنها. ولكن العرب توارثوا حركات الصلاة جيلا بعد جيل مثلنا الآن، وكانوا يؤدون الصلاة دون أن يقيموها أو يحافظوا عليها- مثلنا الآن أيضا- فجاء القرآن يخاطبهم- ويخاطبنا أيضا- بعلاج هذا الخلل الخطير في القلب وفى السلوك. 

وللناس عادة سيئة مع آيات الله فلا يحاولون التدبر فيها بل يقرأون القرآن باللسان فقط، وبالتعود تفقد الألفاظ مدلولها وتصبح الآيات مجرد كلمات منظومة يتغنى بها المنشدون في حفلات السمر ومناسبات العزاء..

 

2- يقول تعالى:( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ)الأنعام 38 " فلكل شيء اصل في القرآن، وإذا لم يكن له تداخل في إحدى قواعد القرآن فله صله في إحدى تفصيلات القرآن، إذ لا تفريط في كتاب الله. ومعنى أن القرآن ما فرّط في شيء أنه لم يترك شيئا ـ يحتاج الناس لتوضيحه ويكون تركه تفريطا ـ إلا أوضحه وأبانه. أما من يتهم كتاب الله تعالى بالتفريط والنقصان والاحتياج للبشر فانه يخلق مسائل ومشاكل ويتوجه بها لكتاب الله تعالى معاجزا يبحث عن إجابة لما اخترعه من مشاكل ومسائل ليثبت لنفسه والآخرين نقصان كتاب الله تعالى وتفريطه، وليثبت أن كتاب الله تعالى قد فرّط في شيء وأشياء، وليتهم رب العزة بالكذب حين قال " مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ".

العجيب أنه مع اختلاف المسلمين طوال تاريخهم في كل شيء فقد اتفقوا على عدد الصلوات وكيفيتها ولم تكن لهم بشأنها مشكلة على الإطلاق، إلا حين ظهرت الدعوة للاكتفاء بالقرآن وحده فتكاثرت الاتهامات للقرآن الكريم والتكذيب له ومحاولة معاجزته بأسئلة عن عدد ركعات الصلاة وكيفياتها ومواقيتها، وطالما لم تكن موجودة في القرآن فالله تعالى يكون عندهم كاذبا في قوله: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ). تناسوا أن المجال متاح لمن يكذّب بالقرآن ولمن يتهم رب العزة بالكذب بدلا من أن يقول "صدق الله العظيم "، بل تناسوا أن الله تعالى قد أنبأ سلفا في القرآن بأنهم سيفعلون ذلك. وهاهم يحققون فيهم أعجاز القرآن الكريم.

 

3- إن تفصيلات القرآن لا تغطى كل ما لا داعي له،  والا تكاثرت آيات القرآن بحيث لا تكفيها البحار مدادا ولا الأشجار أقلاما، وهذا وجه من أوجه الإعجاز في تفصيلات القرآن، فليست تفصيلات القرآن ثرثرة - حاش لله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - ولكن تفصيلات القرآن جاءت بإحكام دقيق " كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود 2" أي جاءت من لدن الحكيم الخبير جل وعلا، فتعالى الله تعالى أن تكون تطويلا لا فائدة منه، بل جاءت على أساس منهجية علمية دقيقة " وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ).. الأعراف 52" أي أن الذي يفهم الأسس العلمية للتفصيلات القرآنية ليس كل الناس وإنما هم فقط أولئك الذين يؤمنون به، ولذا تكون لهم هدى ورحمة...

4- ويسيء الناس فهم البيان القرآني حين يسعون في آيات الله معاجزين يطالبون بتوضيح كل تفصيلات الحياة ومفرداتها. فالبيان لا يكون إلا للغامض الذي يتطلب التبيين والتوضيح. يقول تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ). النحل 89"

فبيان القرآن الكريم – مثل تفصيلات القرآن – هي أيضا هدى ورحمة لمن يستحقها وهم المسلمون الحقيقيون وليس أولئك الذين يسعون في آيات الله تعالى معاجزين.

أولئك المكذبون للقرآن يشترطون للإيمان بالقرآن وأنه نزل تبيانا لكل شيء أن ترد فيه تفصيلات الصلاة وعدد ركعاتها ومواقيتها وهيئاتها. هم لا يفهمون أن البيان إنما يكون فقط للغامض المستحق التوضيح، أما الواضح الظاهر البائن بنفسه فلا يتطلب توضيحا والا كان إهانة  للقارىء واتهاما له بالغباء والجنون، علاوة على أنها ثرثرة لا تليق بكتاب بشرى عادى فكيف بكتاب الله تعالى الذي نزلت تفصيلاته على علم وحكمة . وإذا كان العرب يؤدون صلاة المغرب ثلاث ركعات فان من العبث ومن السخرية بهم أن يأمرهم القرآن بان يصلوا المغرب ثلاث ركعات.

المؤمن بالقرآن الكريم لا يسارع باتهام الله تعالى بالكذب حين قال:(مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ) وحين يؤكد: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) ولا يقول معاجزا لرب العزة فأين كذا وكذا في القرآن متحديا ربه جل وعلا، بل يقول: صدق الله العظيم، ويسجد مؤمنا بقوله تعالى، ثم يبحث متدبرا في القرآن متفهما لمصطلحاته طالبا من ربه جل وعلا الهداية بإخلاص. عندها سيكرمه ربه جل وعلا بالهداية ويفتح له من كنوز القرآن ما لم يكن يتخيل، وعندها يعرف أن تفاصيل القرآن قد جاءت فعلا عن علم، وأنها هدى ورحمة لمن يستحقها.

حينئذ يعرف أن للقرآن منهجا في تفصيلاتة التشريعية.

على أن الشيطان لم يقدم استقالته وسيظل له أتباع من أكثرية البشر وبين من ينتسب للإسلام. وأولئك لن يكفوا عن التكذيب بالقرآن واتهامه بالتفريط وحاجته للبشر كي يكملوه ويوضحوه، وفى سبيل ذلك سيظلون يسعون في آيات الله تعالى معاجزين، وستظل تلكك مهمتهم ومهنتهم إلى قيام الساعة.

هذا ما أشار إليه رب العزة في القرآن الكريم نفسه:

اقرأ قوله تعالى يخبر عن ذلك سلفا:

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)الحج 51 

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ. وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ) سبأ  5

(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) سبأ  5؛6؛38)

ولسنا هنا في معرض الرد عليهم وإنما لإنصاف القرآن الكريم من اتهاماتهم، وذلك بالتعرف علي منهج القرآن الكريم في تفصيلاته التشريعية حتى لا ينخدع بعض السطحيين باتهاماتهم ويبادر باتهام الله تعالى بأنه فرط في كتابه حين لم يذكر عدد ركعات الصلاة وبأنه ما فصل في القرآن كيفية الصلاة أو أنه ما أبان في القرآن فرائض الصلاة من الفجر للعشاء.

وحتى بدون الحاجة إلى التعرف على هذا المنهج يمكن لأحدهم إذا كان سليم النية أن يسأل نفسه بصدق: هل قرأ في صغره كتب الحديث والفقه وتعلم منها كيفية الصلاة وركعاتها ؟ أم قد تعلم ذلك من الصغر بالتوراث والمشاهدة ؟ .

لم يقرأ أي واحد منهم كتب البخارى ومسلم وابن حنبل وغيرهم وتعلم منها الصلاة. ولو كانت تلك الكتب مرجعية للصلاة فكيف كان الناس قبل أولئك الأئمة بقرنين من الزمان يؤدون الصلاة ؟

منهج القرآن الكريم في تفصيلات التشريع.

 

يلفت النظر أن معظم تشريعات القرآن لم تأت في سياق موضوعي واحد، أو في سياق زماني واحد، وإنما تناثرت بين السور في إيجاز أحيانا وفى تفصيل أحيانا أخرى.

لو كان القرآن قد نزل بشريعة جديدة ليست معروفة من قبل لكان منتظرا أن تأتى التشريعات منتظمة متتابعة متتالية في سياق موضوعي وزمني واحد. إلا أن القرآن نزل على قوم يؤدون الصلاة والصدقة والحج والصيام، ولكن طال عليهم الأمد فقست قلوبهم فبدلوا وحرفوا فاختلطت حياتهم الدينية بأصول حقيقية من ملة إبراهيم مع تحريفات قديمة وأخرى حديثة، اختلط التطبيق الصحيح بالتطبيق الفاسد، فنزل القرآن الكريم يعالج ما تم تحريفه قديما وما استجد تحريفه وما تم نسيانه وما يساء تطبيقه.

وهناك ما هو أهم.

أن الوحي القرآني لم ينزل في فراغ بل في بيئة متحركة حية تطبق ملة إبراهيم وتحريفاتها في نفس الوقت، ولهذه التحريفات أنصار، وقد نشأت عليها مصالح تتمثل في قريش وحمايتها للأنصاب والأصنام والظلم والاستغلال. ودفع المسلمون الثمن اضطهادا وتعذيبا، ثم هجرة وحروبا فرضها المشركون المعتدون عليهم.  وكان لا بد أن ينعكس هذا الصراع على الوحي فكان يأتي مستجيبا أحيانا للأحداث بالتعليق والتصحيح وبالحوار، لذا كان يتكرر التشريع الواحد يفصل ما سبق إيجازه ويشرح ما سبق الإشارة إليه، ويؤكد ما سبق قوله، وانعكس هذا على ما يخص العبادات أي ملة إبراهيم والتدين السائد بما فيه من صحيح وتحريف. فنزل الوحي يصحح ويعلق ويجيب الأسئلة.

 نزل القرآن على قوم يزعمون التمسك بملة إبراهيم ومنهم من كان يقرأ صحف إبراهيم وتوراة موسى حتى لقد اتخذ القرآن من صحف إبراهيم وموسى الموجودة عندهم حجة عليهم   يقول عن بعضهم " أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) النجم 36 -37 ) وكان منهم علماء تخصصوا في السفسطة والجدال في آيات الله تعالى فنهى الله تعالى عن جدالهم ( الأنعام 121 ) ( غافر 4 ـ 35 ـ 56 ) ( الشورى 16 ـ 35 ) وقال عنهم في إحدى مجادلاتهم (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) الزخرف 58 )

وقد كان في حياتهم الدينية الصحيح والفاسد، كان منها ما بقى من ملة إبراهيم دون تغير وما ادخلوه من تخريف وتحريف، ونزل القرآن بتفصيلاته التشريعية لا يتعرض لتوضيح التشريع الواضح الذي لا تغيير فيه ـ مثل هيئة الصلاة ومواقيتها ـ بل تركزت تفصيلاته على علاج التحريف الحادث، ثم إذا جاء تشريع جديد نزل مفصلا واضحا.

 وهذا هو منهج التفصيل في تشريعات القرآن:

الواضحالذي لم يلحقه تغيير لا يحتاج بيانا.

أما التحريف في القديم والتشريع الجديد فلابد لهما من التفصيل الذي يعالج التحريف ويفصل في التشريع الجيد.

ونعطى أمثلة.

 في تشريع جديد جاء لأول مرة:

( الميراث)

 

من العادات السيئة للبشر ـ حتى في داخل الأسرة الواحدة ـ أن يستأثر الأكبر بكل ما يستطيع من ثروة العائلة آكلا حقوق أهله وأقرب الناس إليه. والمرأة هي الأكثر تضررا إذا كانت أختا أو بنتا أو عمة أو أمّا. تستوي في ذلك المجتمعات الصحراوية والمجتمعات الزراعية. إلا أن الظلم الذي يقع على المرأة في المجتمعات الزراعية أخف وطأة، بسبب الدور الذي تلعبه الدولة والمرأة في البيئة الزراعية المستقرة بما يخفف من مسئولية الرجل وسطوته أيضا.  ومع ذلك يظل ظلم المرأة قائما، وتظل مساواتها بالعدل مع الرجل قضية تستحق النضال، هكذا كانت ولا تزال في الغرب والشرق على السواء.

يتجلى هذا في قضية الميراث بالذات.

أنصف الإسلام المرأة ولكن تدين المسلمين ما لبث أن ظلم المرأة ومنعها حقوقها . حتى الآن فمن النادر أن تأخذ المرأة المصرية ميراثها كاملا من الأرض الزراعية أو من العقارات. وهى في الأغلب ترضى بهذا الظلم خصوصا في الريف والصعيد. أما في البيئة الصحراوية فالمشكلة أعقد، نلمحه من تردى وضع المرأة السعودية في عصرنا الحالي، وهى تعانى من نير الثقافة الصحراوية ونار الفقه السلفي المتزمت الذي أعاد ظلم وظلام الرؤية الصحراوية للمرأة وجعلها تشريعا سنيّا وهابيا.

 في البيئة الزراعية تقوم الدولة بمعظم الأعباء المفروضة على الرجل، يقوم جيشها بحماية الوطن من العدو الخارجي وتقوم شرطتها بحماية الأسرة من الخطر الداخلي، كما تقوم على أمور الري والصرف والسماد وتيسير ومساعدة الفلاح في عمله. فى البيئة الصحراوية التقليدية القديمة انعدم دور الدولة ووقع على كاهل رجال القبيلة أن يكونوا الجيش والشرطة فأصبح رجل الأسرة هو المكلف بكل الأعباء من حماية الأسرة وحراستها ورعايتها والسعي وراء الكلأ بالإبل والإغارة على الآخرين ليقوم بواجب كفالة الأسرة. المرأة هنا أصبحت ضمن المتاع المملوك للرجل سواء كانت ابنته أو زوجته. وتنتقل ملكيتها للأقوى الذي يغير على القبيلة ويهزم رجالها وينهب متاعها ( الصامت والناطق ) من نساء وأطفال وابل ومال. والمرأة تستسلم للأقوى المغير و ليست ملومة على ذلك، إنما يقع اللوم على الذي فرّط في حريمه ومتاعه. طبقا لهذه الثقافة كان إعطاء المهر في الزواج إنما يكون للأب أو ولى أمر المرأة وليس للمرأة. وكان يحدث توارث المرأة في الزواج فالابن الأكبر يرث زوجة أبيه وتؤل إليه، وهذا ما حرّمه القرآن الكريم ( النساء 22) ويرث الأخ أرملة أخيه ويتم إكراهها على الزواج منه، وقد حرّم الله تعالى هذا الإكراه في الزواج، وان كان زواج الأخ بأرملة أخيه صحيحا في حد ذاته إلا أن الإكراه حرام، يقول تعالى وقد جعلها قضية عامة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ.. ) النساء 19 ) والعضل هو منع النساء من الزواج اذ كان أخو الزوج المتوفى يمارس حق وراثة أرملة أخيه فيمنعها من الزواج إلا بعد أن تدفع له مالا قد يكون هو المهر الذي ستحصل عليه من العريس القادم. بعد نزول القرآن اخترعت البيئة الصحراوية والفقه السني نوعا آخر من الزواج أعاد ثقافة استعباد المرأة تحت اسم " زواج الشغار"، وبه يتفق رجل مع رجل آخر أن يتزوج كل منهما ابنة الآخر بدون صداق، أو بأن يتبادلا الصداق ليأخذه كل منهما بدلا من العروس، ويستمتع كل منهما بابنة الآخر وشبابها بدون دفع صداق حقيقي.

 تلك لمحة عن الظروف التي نزل فيها لأول مرة تشريع الميراث في بيئة صحراوية قوية التأثير إلى درجة أنها أعادت إنتاج نفس الثقافة المضادة للإسلام بعد الإسلام ونسبتها للإسلام تحت اسم السنة. نزل القرآن الكريم في تلك البيئة الظالمة، وفى أشد العصور الوسطى ظلاما وإظلاما، أي ظلمة الزمان وظلمة المكان، ومع ذلك جاء بأروع التشريعات وأكثرها تقدمية وعدلا، لولا ما فعله به أتباعه المسلمون السنيون وغيرهم.

ونتوقف الآن مع منهج القرآن في تشريع الميراث باعتباره تشريعا نزل لأول مرة.

هنا نلاحظ الآتي:

  • إن التشريع جاءت تفصيلاته متتابعة في سياق واحد، لأنه تشريع جديد ينزل لأول مرة، بدأ بالآية السابعة من سورة النساء واستمر إلى الآية الرابعة عشر من نفس السورة.
  • بدأ هذا السياق المتتابع بتمهيد يلخص تشريع الميراث بحسم وحزم يقرر أنّه (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) النساء "7". الآية تؤكد من البداية العدل بين الرجال والنساء فيما يرثونه من تركة الوالدين والأقربين . تأكيد العدل جاء واضحا بقول نفس العبارة للرجال  (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ) ثم تكرارها بنفس الألفاظ للنساء وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ) ثم التأكيد على أن ذلك يسرى على كل التركة بغض النظر عن قيمتها قليلة فقيرة ، أو ثمينة غزيرة(مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ). إذن هو عدل على مستوى الورثة وعدل على مستوى التركة، أو قل على المستوى الأشخاص والموضوع معا.
  • حرصا على الالتزام بتطبيق تشريع الميراث جاء في سياق التشريع جاءت نصيحتان، الأولى لكل إنسان يتوقع الموت بأنه إذا كان قلقا على ذريته من الصغار والضعاف من بعده فعليه بتقوى الله تعالى والتزام الحق: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا
  • ). يعنى إذا خاف على مستقبل ذريته من بعده فليتق الله تعالى وليقل الحق وحينئذ سيتكفل بهم الرحمن الرحيم جل وعلا. وقد ذكر القرآن في موضع آخر قصة الغلامين اليتيمين في المدينة، وقد كان أبوهما صالحا، وقد ترك لهما كنزا، وقد عاشا في رعاية الله تعالى وكنفه بسبب صلاح أبيهما المتوفى ( الكهف 82 ). الآية التالية جاءت تحذيرا شديدا لمن يأكل أموال اليتامى أو ميراثهم، إذ سيتحول هذا المال الحرام إلى نار في بطونهم وهم يذوقون عذاب السعير. (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا )
  • بعد التمهيد الذي يؤكد على العدل، وبعد النصح والتحذير حتى يكون التطبيق على أكمل مستوى جاءت تفاصيل تشريع الميراث في آيتين (النساء 11، 12)
  • بعد إيراد تفصيلات تشريع الميراث في الآيتين المشار اليهما جاء تحذير آخر صارم لمن يبغى على حدود الله تعالى. مصطلح الحدود في القرآن الكريم لا يعنى العقوبة وإنما يعنى الحق والشرع الالهى. وتشريع الميراث أحد حدود الله تعالى ومن ينتهك هذه الحدود ويتعداها عاصيا لله تعالى فجزاؤه الخلود في النار يتجرع فيها العذاب المهين. ومن يطع الله تعالى ورسوله ـ الرسول هنا فى مصطلح القرآن يعنى الرسالة أي القرآن ـ فجزاؤه الخلود في الجنة. وذلك هو الفوز العظيم. (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم. وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ُ) أي تخيل انك حرمت أخاك أو أختك من بعض ارثه، وكان هذا الميراث قليلا تافها لا يتعدى بعض المواشي أو بعض النقود، فان مصيرك إلى النار مهما عملت من طاعات، هذا هو منطق الآية، و لا نجاة لك إلا إذا أديت الحق لأصحابه قبل موتك وتبت توبة نصوحا عن انتهاكك لحدود الله تعالى.

بعد تشريع الميراث وردت للنبي محمد أسئلة تتعلق بمواضع لم يرد ذكرها بالتحديد. ولأن النبي محمدا عليه السلام ليس مفوضا بالإجابة ولا يملك إعطاء الفتوى حتى لو كان قادرا على الفتيا وعالما بالإجابة، فانه عليه السلام انتظر أن تأتى الإجابة من الله تعالى وحيا قرآنيا. وهكذا استفتوا النبي محمدا فانتظر الفتوى من الوحي: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَاوَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ٌ ) النساء 176 )

بهذا اكتمل تشريع الميراث في القرآن الكريم، ومن السهل بعدها استخلاص خطوات توزيع الميراث كالآتي:

أولا:

قبل البدء بقسمة الميراث يجب الآتي:

1 ـ إذا حضر القسمة الأقارب ـ غير الورثة ـ واليتامى والمساكين فيجب إعطاؤهم بعضا منه معالإحسان لهم في القول. (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا)

2 ـ ولا بد من تنفيذ الوصية وسداد الديون:

 عن الوصية نقول:

تفصيلات تشريع الميراث في سورة النساء ( 11، 12 ) تردد فيها تنفيذ الوصية وسداد الديون قبل القسمة: (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (ْ مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ )

معنى ذلك إن تفصيلات الميراث في هذه السورة تحيل إلى تشريع الوصية الوارد في سورة البقرة، والذي يجعل الوصية واجبة على كل مسلم يترك ميراثا ولا بد أن يترك وصية قبل موته. والوصية تكون تحت رعاية ومسئولية المجتمع في إقرارها وفى تطبيقها حتى ترتبط بالعدل ولا يلحق ظلم في إقرارها أو في تنفيذها.

تشريع الوصية في سورة البقرة يقول:ً ُكتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) البقرة 180 ـ 182 )

الملاحظ أن الفقه السني قام بإلغاء هذا التشريع القرآني الكريم بحديث كاذب هو في الأصل قاعدة فقهية تقول: "لا وصية لوارث". وقد جعلوا تلك الفتوى تصادر التشريع القرآني الذي يأمر بالوصية لبعض الورثة ويجعل ذلك فرضاً على الإنسان حين يشرف على الموت. إن الله تعالى يقول ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة 180). فالآية تفرض الوصية عند الموت للوالدين إذا كانا معا أو أحدهما على قيد الحياة، وتفرض الوصية للأقربين ، وهم الورثة. ومعروف أن للوالدين نصيباً مفروضاً في الميراث إلى جانب الوصية، يقول تعالى عن حق الوالدين في الميراث ﴿ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ ﴾ (النساء 11). إذن للوالدين نصيب مفروض في الميراث ولهما أيضاً نصًيب مفروض في الوصية، ولكن ذلك كله لم يغن شيئاً أمام حديث منسوب زوراً للنبي يقول "لا وصية لوارث"، فأسرعوا بإلغاء الحكم في قوله تعالى ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴾.

لقد فرضوا تشريعا مناقضا لتشريع الإسلام تحت اسم السنة، وتناسوا ما في الآية من عبارات الإلزام والتأكيد مثل " كُتِبَ عَلَيْكُمْ " " حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ". وتناسوا التفصيل القرآني الحكيم الذي جاء بشأن الوصية أن من يبدل وصية الموت عقابه شديد عند الله ﴿ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾. وتأتى الآية التالية لتبيح التدخل في إصلاح الوصية إن كان فيها ظلم ليستقيم العدل، يقول تعالى ﴿ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. وتناسوا أن آيات الميراث في القرآن جعلت تنفيذ الوصية وسداد الديون قبل توزيع الميراث. وتناسوا أن كلام القرآن عن الوصية جاء بصيغة مطلقة تدل على حق الإنسان في أن يوصى بوارث أو غير وارث فتقول آية الميراث ﴿ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾.. وتناسوا حكمة التشريع القرآني في الميراث والوصية، فقواعد الميراث تقوم على أنصبة محددة لا مجال فيها للتعديل أو التبديل، وفيها يتم توزيع التركة بالنصف وبالربع وبالثمن والسدس والثلث هكذا بالتحديد، ومصير من يتعدى تلك الحدود أن يكون خالداً في النار ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ (النساء 13،14). ولكن الوصية يمكن أن يراعى بها الإنسان الظروف الاستثنائية والحقوق الطارئة، يمكن بها إعطاء ابنته المحتاجة بالوصية ما يجعلها تعادل أو تفوق أخاها لأنه وجد العدل يحبذ ذلك، ومن الممكن طبعا أن يستخدم الوصية ليظلم ويوصى لمن لا يستحق، وهنا يتدخل المجتمع لاقرارالحق.

ثانيا : توزيع التركة:

وهذا يتم طبقا لما جاء في آيات سورة النساء (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ)( النساء 11،12.)

:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) النساء 176 )

وهنا نلاحظ الآتي أن قاعدة "للذكر مثل حظ الأنثيين" تسرى فقط على الأبناء وبعض الأخوة والزوج دون الوالدين وإخوة الزوج المتوفى في ميراث الكلالة، فلكل من الوالدين نصيب مساو للآخر هو ثلث التركة إذا لم يكن للمتوفى ذرية أو أخوة، ولكل واحد منهما السدس إذا كان للمتوفى ولد أو أخ. كما أن للأقارب غير المذكورين نصيب غير محدد ليس فقط في إطار الوصية ولكن أيضا إذا حضروا القسمة.

لسنا في موضع التفصيل لتشريع الميراث وما أحدثه الفقه من اختلافات عن تفصيلات القرآن هنا، ولكن جئنا بتشريع القرآن في الميراث في وقفة سريعة تتناوله من حيث المنهج القرآني في بيان تشريع يأتي لأول مرة.

 

 في تشريع متوارث لحقه التحريف:

 

 * في الزواج والطلاق والأحوال الشخصية:

 

 لم يتعرض القرآن لكيفية عقد الزواج لأنهم قبل الإسلام كانوا يتزوجون بنكاح صحيح فوالدا رسول الله (عبد الله وآمنة ) تزوجا بنكاح صحيح، والشاب محمد بن عبد الله قبل أن يكون نبيا تزوج خديجة بنكاح صحيح بنفس التراث الذي كان سائدا في عقد الزواج. ولأنه تراث صحيح فلا حاجة لتوضيحه فهو معروف في كل زمان ومكان.

ولم يذكر القرآن الكريم وجوب وجود شاهدين في عقد الزواج لأن ذلك كان ولا يزال عرفا يميز الزواج عن العلاقات السرية غير المشروعة، لكن التحريف في تشريع الطلاق وجعله كلمة ينطق بها الزوج ويطرد بها الزوجة من بيته ومن حياته جعلت تفصيلات القرآن تترى في موضوع الطلاق ومنها اشهاد شاهدي عدل. ومن أسف أن تحريفات الجاهلية في تشريع الطلاق أعادها الفقه السني، ولا زلنا نطبقها حتى الآن مع وضوح التشريعات القرآنية.

عرف الزواج الجاهلي بعض التحريف مثل نكاح زوجة الأب أو الجمع بين الأختين ونزل القرآن بتفصيلات واضحة في المحرمات في الزواج فيها التوصيف الكامل وفيها الاستثناءات الواضحة مثل قوله تعالى " وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) (وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) (وَرَبَائِبُكُمُ الَّلاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّلاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) (وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) " النساء 22-)

وتجاهلت الجاهلية عدة المرأة المطلقة والمتوفى عنها زوجها فأنزل الله تعالى تفصيلات لكل حالة:{ البقرة  228 234 }{الطلاق 4}{الأحزاب 49} وجعل عدة المرأة مرحلة هامة هامة في الطلاق والزواج منعا لاختلاط الأنساب. ومنع عضل النساء أي منع المرأة من الزواج أو أن يتزوج الرجل أمرأة أخيه دون رضاها "النساء 19 ". وكان الطلاق مجالا خصبا لرجال الجاهلية في ظلم المرأة فدخل فيه كثير من الزيف فجاء القرآن بتفصيلاته توضح كل شيء: البقرة 226:241) (الطلاق 1-7).  النساء 34 ؛ 35؛ 138 ؛139 ؛140). 

وهكذا يعالج تشريع القرآن الخلل في الزواج والطلاق ويسكت عن التراث الصحيح المتعارف عليه.

 

* في الحج

 

1 ـ الحج أبرز معالم ملة إبراهيم.ولم ينزل القرآن يشرح مناسك الحج من البداية للنهاية لأن العرب كانت تحج وتؤدى المناسك منذ الجيل الأول من ذرية إبراهيم وإسماعيل،  ولكن حديث القرآن الكريم عن الحج والبيت الحرام جاء مزيجا من التاريخ القديم لإبراهيم وإسماعيل، وتعليقا على الصراع الحربي بين قريش والمسلمين وانعكاس ذلك على منع المسلمين من الحج والقتال في البيت الحرام أو في الأشهر الحرم، وما استجد من أمور احتاجت إلى تصحيح أو تشريع جديد في فريضة الحج.

 ونعطى بعض التفاصيل:.

 

إبراهيم والبيت الحرام والحج

فالبيت الحرام هو البيت العتيق أو أول بيت وضعه الله تعالى للناس، وأوجب الله تعالى الحج إليه فرضا على كل مستطيع من الناس، وفى مقدمتهم أهل الكتاب الذين توارثوا ملة إبراهيم.

اقرأ في ذلك قوله تعالى لأهل الكتاب على وجه الخصوص:

{ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) { آل عمران 95ـ  97}

إبراهيم عليه السلام هو الذي أرشده الله تعالى إلى مكان البيت الحرام، وأمره بإعداده لاستقبال الحجيج، وأمره بدعوة كل البشر للحج ليأتوا إليه من كل فج عميق مهما اختلفت عقائدهم ومللهم وأديانهم طالما كانوا مسالمين غير معتدين:

"{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ }{ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } الحج 26 ـ29

وقام إبراهيم مع ابنه إسماعيل ببناء البيت ( الكعبة )

إقرأ قوله تعالى :

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) البقرة 125 ـ 130 )

 

واضح هنا أن ـ البيت الحرام بيت الله تعالى  ـ عام لكل الناس باعتبارهم عباد الله تعالى،وليس مقصورا على المسلمين وحدهم . وإن إبراهيم وإسماعيل عندما كانا يرفعان قواعده كانا يدعوان الله تعالى بأن يمنّ بالخير والبركة على سكان مكة باعتبارهم أهل البلد القائم على رعاية البيت ورعاية ضيوف الرحمن جل وعلا.  وقد دعوا الله تعالى بان يهديهما وذريتهما للتمسك بالإسلام فالإسلام هو دين الله تعالى لكل البشر مهما اختلفت اللغات والرسالات والأقوام والزمان والمكان، وهو باختصار إسلام الوجه والقلب لله تعالى وحده ومسالمة الناس.

أما كيفية العبادة فقد دعى إبراهيم وإسماعيل أن يمن الله تعالى عليهما بأن يريهما مناسكها، وتلك المناسك شملت الحج وغيره وأطلق عليها "ملة إبراهيم ". ودعا إبراهيم وإسماعيل الله تعالى أن يبعث من ذرية إسماعيل نبيا يقوم على تعليمهم وتزكيتهم وإرجاعهم إلى حقيقة ملة إبراهيم التي قال تعالى عنها في نفس السياق:" . وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ".

وجاء محمد خاتما للنبيين ليجد قومه قد توارثوا ملة إبراهيم وحرفوا فيها وخلطوا الصحيح بالفاسد  فنزل القرآن الكريم يعالج الوضع ويأتي ببعض الجديد من التشريعات ويرد على بعض التساؤلات.

قريش توارثت الحج من ملة إبراهيم وأفسدته

 

الكفر أساس البلاء لدى قريش وغيرها:

 

الكفر هو نفسه الشرك، ويجمعهما معنى الظلم. فالكفرالعقيدى بالله تعالى والشرك به ظلم له تعالى، والكفر أو الشرك في السلوك هو الاعتداء على الناس والبغي عليهم في حق الحياة والمال والعرض. وقد مارست قريش الكفر العقيدي باتخاذ أولياء وإقامة أوثان وأنصاب وأصنام لها حتى داخل الحرم، ومارست الكفر السلوكي بالظلم للبشر والاعتداء عليهم بالقتل والاسترقاق حتى في الأشهر الحرم. وكانوا يفخرون بالكفر السلوكي والكفر العقدي معا ، كما كانوا يفخرون برعايتهم لبيت الله الحرام والقيام على رعاية الحجيج وعمارته وتعميره. ورد الله تعالى عليهم بأن ما يقدمونه من عمل صالح  سيضيع وسيحبطه الله تعالى لأنه صدر من عقيدة ظالمة كافرة واقترن بكفر سلوكي معتد أثيم.

يقول تعالى في قاعدة عامة: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّه شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ. إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } ثم يقول لهم موبخا: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } التوبة17ـ 19 }

 

الصد عن البيت الحرام عند قريش وغيرها :

 

بهذا الكفر العقيدي والسلوكي واجهت قريش النبي محمدا وأصحابه المسالمين المستضعفين.وبسبب الاضطهاد والتعذيب هاجر بعض المسلمين مرتين للحبشة ثم هاجروا إلى المدينة ومعهم خاتم النبيين عليه وعليهم السلام. تابعت قريش المسلمين في المدينة بالقتال والاعتداء بعد هجرتهم ومنعت المسلمين من الحج إلى البيت الحرام وهم أحق الناس ببيت الله الحرام، مما استوجب تهديد الله تعالى للقرشيين بالعذاب، فقال: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } الأنفال 34}

 ويؤكد رب العزة على حقيقة هامة أغفلتها قريش وتغفلها الآن المملكة السعودية وهى أن بيت الله تعالى والحج إليه حق لكل الناس يستوي في ذلك أهل مكة والقادمون إليها من كل بنى البشر ، لا فرق بين هؤلاء وهؤلاء في استحقاق الحج:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } الحج 25 )

أى بغض النظر عن الدين والمذهب والمعتقد والجنس واللون والغنى والفقر طالما كان القادم للحج مسالما لا يحمل سلاحا. هو مسلم حسب سلوكه ولا شأن لنا بعقيدته ، وليس لنا أن نقيم محاكم تفتيش واختبارات فى عقيدة كل قادم للحج، وليس لنا أن نشق على قلب كل حاج لنعرف اخلاصه أو تقواه أو سريرته. المطلوب فقط أن يكون مسالما حسب الظاهر ليكون مسلما.

المشركون باعتدائهم وتسلطهم على الآمنين هم ما نعرفهم اليوم باسم الارهابيين ، وهم الذين لا يتورعون عن تفجير بيوت العبادة ، وفى مقدمتها المساجد، ولا يتورعون عن قتل المارة و الأبرياء والنساء والأطفال ، وفى مقدمة ضحاياهم المسلمون فى مصر والجزائر والعراق وباكستان وتركيا وافغانستان وغيرها من بلاد تعيش فيها أكثرية مسلمة. هم الذين احتلوا المسجد الحرام فى حركة جهيمان العتيبى فى مطلع عام 1400 سنة 1997.هؤلاء الوهابيون المعتدون هم فقط الممنوعون من الحج للبيت الحرام الذى جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا ، وجعل من تشريعه أن كل من دخله كان آمنا. ومن أسف أنهم هم الذين يسيبطرون على المسجد الحرام ، وما كانوا أولياءه ، إن أولياءه إلا المتقون.!!

إنها نفس قصة قريش الطاغية تتكرر. قصة الصد عن بيت الله الحرام لاعتبارات سياسية ودنيوية، وقصة استغلال الاسلام مطية للحكم ، إما للوصول اليه أو للاحتفاظ به.

وبعد فتح مكة لم يخضع أئمة الكفر من قريش فاستأنفوا اعتداءهم ، فأعطاهم الله تعالى مهلة للتوبة ، ومنعهم من دخول البيت الحرام أو الاقتراب منه ( التوبة 28 ). وظلوا كذلك الى أن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وفق ما حدده رب العزة فى سورة التوبة التى حفلت باشارات تاريخية غفل عن التعقيب عليها رواة السيرة.

وقبل فتح مكة رأى النبي محمد عليه السلام  مناما أنه يحج البيت، فبادر بالذهاب مع عدة آلاف من أصحابه للحج مسالمين بدون نية حرب ولكن قريشا منعتهم من الدخول. وبعد  ومفاوضات تم عقد صلح الحديبية ، ونزلت في هذا الموضوع سورة الفتح وفيها يقول تعالى عن المشركين القرشيين  (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ  ) ويقول عن النبي محمد عليه السلام : " لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ   } الفتح  25 ـ 27 }.

تشريع الاحصار فى الحج

هذه ملامح قرآنية تدخل في تاريخ العلاقات بين المسلمين الأوائل وقريش، إلا أن ذلك الصد عن بيت الله تعالى ومنع المسلمين من الحج أوجد وضعا جديدا في تشريع الحج الذي توارثته قريش والعرب ضمن معالم ملة إبراهيم. هذا الوضع الجديد كان يستلزم تشريعا جديدا يعطى الفتوى الإلهية فيمن يريد الحج واستعد له ولكن حاصرته ظروف تمنعه من الحج، فماذا يفعل.

هنا جاء التشريع القرآني الجديد ليعالج بالتفصيل هذه الحالة وهى "الاحصار: فقال تعالى في تشريع جديد هنا: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ  } البقرة 196 )

تشريع القتال في البيت الحرام وفى الأشهر الحرم

واستلزم الاعتداء القرشي على المسلمين في المدينة نزول الإذن للمسلمين بالقتال، ثم تطورت المعارك لتتشابك مع نوعين من الحرمات: الحرمة الزمانية وهى الأشهر الحرم، والحرمة المكانية وهى البيت الحرام، وثارت أسئلة عن القتال الدفاعي للمسلمين: هل يجوز في الأشهر الحرم ؟ وهل يجوز في البيت الحرام ؟ ونزلت الإجابة في الوحي القرآني بالتفصيل.

نزلت القاعدة الأساسية وهى أن يكون القتال دفاعيا فقط وليس هجوميا معتديا:{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } وعليه فالمعتدون لا يحبهم الله تعالى لهم.

وهذا ينطبق على ما يسمى بالفتوحات الاسلامية التى كانت اعتداء على شعوب وأمم لم تعتد على العرب المسلمين. كانت احتلالا واستعبادا لبلاد لم يسبق لها ان رأت الجزيرة العربية. وتلك الجريمة الكبرى فى حق الاسلام والتى ارتكبها الخلفاء الراشدون ثم الخلفاء الأمويون  كانت استمرارا لقصة الطغيان القرشى قبل وبعد نزول القرآن الكريم. وهذا الطغيان هو الذى أضاع الصلاة قبل وبعد نزول القرآن الكريم.

وعن القتال عند المسجد الحرام قال تعالى :ِ(وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } أي هو قتال دفاعي فقط إذا هاجمهم العدو داخل المسجد الحرام.

وهو نفس الفتوى الإلهية في القتال في الشهر الحرام، أي رد الاعتداء إذا حدث في الأشهر الحرم: { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }

ولم يكتف بعضهم بهذا التوضيح فسأل النبي محمدا عليه السلام نفس السؤال، ولأنه عليه السلام لا يملك أن يفتى في الدين طالما ينزل الوحي فقد انتظر الإجابة من الله تعالى، وهذه إحدى معالم التشريع القرآني الإسلامي:أن النبي لا يملك الإفتاء وإنما ينتظر مجيء الفتوى من الله تعالى، حتى لو كان السؤال قد سبقت الإجابة عليه، وحينئذ ينزل قوله تعالى ( يسألونك عن ) كذا ( قل ) كذا. وهذا ما حدث هنا.

بعد نزول الآية السابقة قاعدة عامة تؤكد أن الشهر الحرام بالشهر الحرام وأن الحرمات قصاص لم يقتنع بعض الصحابة وسأل نفس السؤال عن القتال في الأشهر الحرم، وانتظر النبي الإجابة، وكان يمكنه أن يحيله إلى الآية السابقة، لكنه لا يملك حتى الإحالة إلى ما نزل من القرآن، ونزل قوله تعالى بالتوضيح والتحليل والتعليل: (  يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )

وفى كل الأحوال فإذا كفوا عن الاعتداء فلا مجال للحرب:{ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ }

( البقرة 190 ـ 194 & 217 )

 

التحريف ونزول القرآن للتوضيح

 

1 ـ كان النسيء من معالم التحريف في ملة إبراهيم، ويعنى استحلال القتال في بعض الأشهر الحرم وتأجيل التحريم إلى شهر آخر أو عام آخر. وقد اعتبره رب العزة جل وعلا زيادة في الكفر، فقال:

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } التوبة  ـ37 }

قبل هذه الآية الكريمة أوضح الله تعالى عدة أشهر العام وأن منها أربعة حرم يحرم فيها الظلم { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } التوبة 36}

2 ـ وكان من الاعتداء وانتهاك حرمة البيت الحرام قتل الصيد أثناء الإحرام واستحلال الشعائر والمشاعر الحرام وقطع الطريق على قوافل الحجاج ونهبهم وقتلهم ونهب الهدى من الإبل والأنعام التي تساق لتنحر هديا لإطعام ضيوف البيت الحرام. والاستمرار على ذلك أنسى العرب أن ذلك انتهاك لحرمة الكعبة ومناسك الإحرام. بعد فتح مكة كان  لا بد من منع هذه الانتهاكات وتأكيد التشريع الذي يخصها والذي نسيه العرب في حمأة عصيانهم وضلالهم،  فنزلت سورة المائدة ـ وهى أواخر ما نزل من القرآن ـ بافتتاحية تقول للمؤمنين مباشرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ } المائدة 1ـ 2 }

إلا انه كان اختبارا عسيرا ـ فيما يبدو ـ أن يكف الناس عن الصيد في الحرم وهم في الإحرام، فأنزل الله تعالى لهم هذه الآية تحذيرا وإنذارا يؤكد لهم انه سيجعل حيوان الصيد ( من غزال ووعول وظباء) يدخل الحرم ليكون في متناول أيدي الناس ورماحهم، فهل سيقتلونه وهو في ضيافة الرحمن أم لا ؟ وهنا اختبار شخصي للتقوى، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)

ثم جعل الله تعالى عقوبة فدية على من يقتل الصيد وهو في حالة إحرام. وجعل تنفيذ الفدية مرتبطا بضمير الحاج نفسه، يقول تعالى:(  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ   ) .. و كلمة (مُّتَعَمِّدًا) في الآية الكريمة تجعل الأمر موكولا إلى نية الحاج وضميره، فهو وحده الذي يحكم هل قتل الصيد متعمدا قاصدا أم ناسيا ساهيا.

ثم تؤكد الآية التالية بإيجاز وإعجاز أن كل لحم البحر حلال، بينما يحرم صيد البر في حالة الإحرام فقط، يقول تعالى  (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) وفى النهاية يقول رب العزة عن الكعبة بيت الله تعالى الحرام : (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } المائدة  94 ـ 97 }

الرد على الأسئلة والاستفسار

3 ـ كانت قريش تجعل لنفسها أفضلية في تأدية مناسك الحج فيما يعرف ب ( الحمس ) فكانوا عند الإحرام لا يدخلون بيوتهم من أبوابها ولكن من ظهورها، ويجعلون ذلك من التقوى في أداء المناسك، فقال تعالى لهم: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

وأباح لهم التجارة وتبادل المنافع مع التركيز على عدم تميزهم في طواف الإفاضة على بقية الناس، فلا بد أن يفيضوا من حيث أفاض الناس {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ }{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}

4 ـ واعتاد العرب الفخر بالشعر في أسواق عكاظ وغيرها وامتد ذلك إلى اجتماعهم في الحج الذي هو في الأصل لتعظيم الله تعالى وحده وليس للفخر بالأسلاف وتمجيد الآباء، لذا أرشدهم الله تعالى إلى ما هو أفضل؛ الدعاء لله تعالى بأفضل صيغة للدعاء في الحرم وخارجه: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } البقرة 189 ـ202 }

 5 ـ وسأل بعضهم عن وجوب الطواف بين الصفا والمروة فنزلت الإجابة الإلهية بأنه مباح و لا حرج فيه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ  } البقرة 158}

هذه لمحات قرآنية توضح منهج القرآن الكريم التصحيح في تشريع العبادات المتوارثة من ملة إبراهيم، ومنها الحج. ..فماذا عن الصيام ؟

في الصيام

1 ـ ونزل تشريع الصيام على العرب الذين كانوا يصومون شهر رمضان.

نزل في المدينة.  وكان شهر رمضان معروفا للمسلمين بأنه شهر القرآن فهو الذي نزل فيه القرآن مرة واحدة على قلب النبي محمد حين كان في مكة.

أول آية في تشريع الصوم قالت :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) لم تشرح ألآية الأولى في تشريع الصوم معنى الصوم وأنه الامتناع عن الطعام والشراب واللقاء الجنسي بالزوجة – كما تفعل كتب الفقه . والسبب بسيط هو أن العرب كانوا يصومون رمضان، بل وكانوا يتخذون منه عادة اجتماعية للهو واللعب بدون مراعاة للتقوى كما نفعل نحن الآن. لذا تخبر الآية الأولى في التشريع القاعدة الأولى وهى تأدية الصوم كما اعتادوه بنفس ما كان في ملة إبراهيم (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) من الامتناع عن الأكل والشرب واللقاء الجنسي، وهوالذى كانوا يفعلونه أنفسهم في مكة قبل أن ينزل التشريع القرآني بهذا التصحيح والتنقيح.

ثم تختم آية التشريع الأولى بتقرير أقامة الصوم في سلوك المؤمن عقيدة وسلوكا أي أن يكون هدف الصوم هو التقوى. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

2 ـ بعد تقرير أن الصوم عبادة متوارثة ولا بد من مراعاة التقوى فيها تأتى الآيتان التاليتان بتشريع جديد لم يكن موجودا من قبل وهو عن الأعذار المبيحة للفطر في رمضان، ولأنه تشريع جديد فقد جاءت تفصيلاته واضحة،  بل وتكررت في آيتين متتاليتين توضحان بالتفصيل السماح للمريض والمسافر وعدم القادر على الصوم بالإفطار ومجال دفع الفدية أو قضاء الصوم (البقرة 183- 185).

3 ـ وكان الصوم المعروف المتوارث وقتها قبل نزول التشريع القرآني الجديد يبدأ بعد العشاء ويستمر طيلة الليل والنهار حتى مغرب اليوم التالي ليكون الإفطار مرحلة قصيرة هي ما بين المغرب والعشاء فقط. وكانت هذه الفترة القصيرة لا تكفى إلا للطعام فحسب، ويأتي الليل فيضطر أحدهم لمباشرة زوجته في وقت يجب أن يكون فيه صائما. ونزل التخفيف تشريعا جديدا مفصلا في قوله تعالى " أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ) أي جاء التشريح الجديد بأن مباشرة الزوجة مباح في ليلة الصيام (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ) وهنا يخبر الله تعالى عن وقوع بعضهم في مباشرة الزوجة في ليلة الصيام حين كان واجبا الصوم فيه، ويبشر الله تعالى بأنه عفا عنهم وتاب عليهم، وأنزل هذا التخفيف عليهم، لذا جاء التشريع الجديد يقول للمؤمنين  (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) يأتي هنا تفصيل التشريع الجديد لوقت الإفطار في رمضان حيث يباح الأكل والشرب واللقاء الجنسي بالزوجة من مغرب الشمس إلى طلوع الفجر، وظهور أول تباشير الضوء حين تتمكن العين المجردة من تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود . توضيح مفصل في تشريع جديد يعقبه تشريع جديد آخر يتضمن تصحيحا لتشريع قديم هو الاعتكاف في ليالي رمضان في المساجد (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ )... البقرة 187-) كانوا يعتكفون في المساجد رجالا ونساء، وكان الزوج يعتكف مع زوجته في المسجد في ليالي رمضان، وكان يحدث لقاء جنسي بينهما وقت الاعتكاف، لذا نزل التشريع الجديد يحرم ذلك اللقاء الجنسي بالزوجة أثناء الاعتكاف الرمضاني في المسجد.

4 ـ ذلكم هو بيان القرآن لما يحتاج فعلا إلى بيان من تشريع جديد يعرفه الناس لأول مرة أو يوضح وجه الحق في تحريف أدخله الناس في تشريع سائد. لذا اختتمت الآية بتقرير أن ذلك هو بيان القرآن للناس لعلهم يتقون:  (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ]

 وبالفعل فان بيان القرآن الكريم في تلك الآيات احتوى على كل ما يلزم المؤمن في تشريعات الصوم. وما أحدثه الفقهاء بعدها من ثرثرة وفتاوى وأحكام فقهية كلها هراء لا طائل من ورائه، لذا اختلفوا فيه وانشغلوا بهذا الاختلاف قرونا وكتبوا فيه آلاف الصفحات عبثا.

وبنفس المنهج القرآني جاءت تفصيلات القرآن عن فريضة الصلاة التي أثبتنا أن العرب كانوا يعرفونها شكلا ويؤدونها ركعات وفرائض ولكن دون خشوع وإيمان وإخلاص في القلب ودون تقوى وطاعة في الجوارح.

 

منهج القرآن في تفصيلات فريضة الصلاة:.

 

1-كما كان عقد الزواج تراثا معروفا لا اختلاف حوله فلم يتعرض له القرآن وهكذا كان معنى الصوم معروفا ومتوارثا، و كانت مناسك الحج وترتيبها تراثا معروفا فلم يتعرض القرآن لتوضيح الواضح الشائع. وكذلك كانت ـ  ولا تزال ـ  ركعات الصلاة ومواقيتها تراثا معروفا واضحا فليس لها نصيب في تبيين القرآن ، فالشيء المبين لا يحتاج إلى بيان إلا كان إعجاز القرآن عبثا وتعالى الله عن العبث والهزل. يقول تعالى عن القرآن الكريم : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) الطارق 13؛14)

2- كان الخلل في صلاة المشركين متمثلا ليس في الشكل ولكن في المضمون، أي عدم إقامة الصلاة، لذا تركز حديث القرآن حول إقامة الصلاة والمحافظة عليها بالتقوى والتحذير من الشك والعصيان وذلك في التشريع المكي خصوصا، وفيها يأمرهم الله تعالى بالمحافظة على الصلاة وإقامتها، ذاكرا "الصلاة " بالألف واللام ( أل) التي تفيد العهد، أي الصلاة المعهودة لديكم، بما يؤكد أن الصلاة معروفة لديهم.يقول تعالى يوجب إقامة الصلاة طالما ظل الإنسان مستيقظا غير نائم: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) هود 114 ) طرفا النهار وبعض الليل يشمل كل وقت اليقظة للإنسان، وعليه في هذا الوقت أن يؤدى الصلاة في مواقيتها وأن يحافظ على صلاته بالتقوى فيما بين أوقات الصلاة طالما ظل يقظا، فإذا نام فلا مسئولية عليه، وبهذا يكون قد أقام الصلاة كل يومه. ويقول تعالى في سورة مكية أخرى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا. وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ) الإسراء 78 ـ79 ) هنا أمر آخر للنبي وللمؤمنين بإقامة الصلاة طيلة وقت اليقظة، مع إضافة قيام الليل وقرآن الفجر لمن أراد أن يكون من السابقين المقربين يوم القيامة. المقام المحمود هنا هو الجنة وليس الشفاعة كما يعتقد المكذبون للقرآن الكريم. اقرأ قوله تعالى عن السابقين ممن ورثوا القرآن وعملوا بمقتضاه (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) فاطر 32 ـ ) فمن أوصاف الجنة هنا أنها المقام المحمود.

3- وقد نزلت آيات تعالج نواحي الخلل ويظهر من أسلوب القرآن فيها أنه يكلم أناسا يعرفون الصلاة ويمارسونها قبل نزول الآيات ولكن حدث خلل من ناحية ما فجاءت الآيات تنبه على الخلل ولا تشرع شيئا جديدا بالنسبة للصلاة. 

* فالآذان للصلاة كان معروفا وحدث أن المشركين كانوا يستهزئون ويتلاعبون وقت الآذان فنزل قوله تعالى " وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ) المائدة 58) فليس هنا تشريع للآذان عند الصلاة وإنما احتجاج على خلل أحدثه المشركين عند الآذان.

* ومنذ عهد إسماعيل وأبيه إبراهيم عرف العرب يوم الجمعة الذي يجتمعون فيه لأداء صلاة جماعية أسبوعية، ومنها اشتق اسم يوم الجمعة. وكان اهتمام المشركين قبيل صلاة الجمعة ينصب على البيع والتجارة. وبعد الهجرة لم يتخلص بعض المسلمين من هذه العادة السيئة، وحدث إن أقبلت قافلة تجارية للمدينة في يوم الجمعة أثناء وقوف النبي للخطبة، وكان وقتا عصيبا فسارع بعضهم للخروج من المسجد وترك النبي قائما يخطب الجمعة، فنزل قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ).  الجمعة 9-)

لم تنزل هذه الآيات الكريمة لتشريع صلاة جديدة هي صلاة الجمعة، وإنما لتنبه على خلل وقع فيها ولا يزال يقع، إذ ينبغي أن يبادر المسلم للذهاب إلى المسجد حين يؤدى صلاة الجمعة وأن يترك البيع ثم إذا انتهت الصلاة يعود إلى بيعه وتجارته كالمعتاد في بقية أيام الأسبوع فليس يوم الجمعة أجازة من العمل، المهم ألا يفتر المسلم عن ذكر الله. ثم يأتي اللوم لأولئك الذين انفصلوا عن الرسول وتركوه في المسجد قائما يخطب.

4- وبمناسبة ذكر القرآن ليوم الجمعة نقول لأولئك الذين لا يفهمون معنى تبيين القرآن أن أيام الأسبوع من الجمعة للسبت معروفة ولم يحدث أن اختلف الناس في يوم ما هل هو يوم الأربعاء أم الخميس، ولأن أيام الأسبوع شيء بين واضح فلم يأت عدد أيام الأسبوع في القرآن لان تبيين القرآن يكون لما يستلزم التبيين من الأشياء الغامضة، وتخيل جدلا- ونستغفر الله- لو جاءت أيام الأسبوع في القرآن لكان الأمر مدعاة للاستهزاء بآيات الله تعالى وكتابه، ونستغفر الله العظيم.

وهكذا كان العرب يعرفون أيام الأسبوع ويعرفون عدد ركعات الصلاة ومواقيتها فلم يأت ذكر لبعض الفرائض إلا في سياق الحديث عن خلل ما أو في سياق تشريع أخر...

لم يأت ذكر لأيام الأسبوع إلا يوم الجمعة في مناسبة خلل حدث في صلاة الجمعة، وذكر القرآن الكريم يوم السبت بمناسبة الخلل الذي أحدثه اليهود في يوم السبت يقول تعالى: (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ) النحل 124) (وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ) (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ)النساء 154؛47) . لم يذكر القرآن من أيام الأسبوع إلا يوم الجمعة والسبت فهل معنى ذلك أن نلغى باقي الأيام ؟  أو نجعل الأسبوع يومين فقط. أو أن نتهم الله تعالى بالكذب والتفريط لأنه لم يعرفنا أيام الأسبوع ؟

5ـ ونفس الحال بالنسبة للأشهر وعدتها في السنة. لم يذكر القرآن الحكيم ذلك إلا بمناسبة النسيء الذي كان يرتكبه العرب الجاهليون ({إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ..}( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } التوبة 36  ـ37 }

 وذكر القرآن الكريم شهر رمضان لارتباطه بتشريع الصيام، فهل معناه أن بقية الأشهر غير معروفة أو غير معترف بها ؟ أو يدور خلاف هائل حولها أو حول ترتيبها ؟

لقد سئل خاتم النبيين محمد عليه وعليهم السلام عن سؤال يعرف إجابته يقينا، وكالعادة لم يرد بما يعرف وانتظر الإجابة من الوحي ونزل الوحي يقول " (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) البقرة 189 ). أي كانوا يعرفون الأهلة ( جمع هلال ) ويتخذون منها تقويما قمريا للحج ولبقية الأغراض التي يحتاجها الناس. والإجابة القرآنية لم تأت بجديد لا يعرفه العرب، ولكن الجديد فيها لنا هو أن نعرف ونؤمن بأن النبي محمدا لم يكن له أن يفتى في الدين حتى فيما كان يعرفه، وأن نؤمن أن تفصيلات القرآن لم تترك شيئا يحتاج إلى تبيين بدون توضيح،  وأن كل سؤال وجّهه الناس للنبي جاءت إجابته في القرآن الكريم، حتى الأسئلة المكررة جاءت الإجابات القرآنية عليها مكررة ولكن تحمل نفس المعنى وبتفصيلات أخرى في نفس الموضوع. وللمزيد لمن يريد: ارجع إلى المصحف المفهرس وراجع كلمة " يَسْأَلُونَكَ " وَ " يَسْتَفْتُونَكَ ".

6- ولأن فرائض الصلاة وركعاتها معروفة للعرب مثل معرفتهم لأيام الأسبوع فإن القرآن يذكر بعض الفرائض مثل الفجر والظهر والعشاء ليس لتشريع جديد يفرض صلاة الفجر والعشاء ولكن في سياق حديثه عن تشريع أخر هو تشريع الاستئذان، يقول تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). النور 58)

لم يخترع المسلمون ساعة زمنية يعرفون بها الوقت، ولأنهم يقيمون الصلاة في أوقاتها ويحافظون عليها في غير أوقاتها فإن مواعيد الصلاة كانت مقياس الوقت لديهم، لا يقولون الساعة الثالثة مثلا وإنما يقومون قبل صلاة الظهر أو بعد صلاة العصر، وهذه لغة خاصة بمن يقيم الصلاة في قلبه وجوارحه وحياته. وهذه اللغة لا تزال حتى الآن بين المحافظين على الصلاة في مواعيدها.

لذا يتحدث القرآن إليهم بلغتهم هذه حين يشرع آداب الاستئذان، وعليه فالأطفال والموالى عليهم الاستئذان عند الدخول على البالغين في أوقات الراحة بعد صلاة العشاء وقبل صلاة الفجر، إذ أن عادة المسلمين هي الراحة بعد صلاة العشاء ثم الاستيقاظ لصلاة الفجر، والقيلولة بعد صلاة الظهر، وهذا التشريع ليوجب استئذان الأطفال والخدم عند الدخول على الآباء والأمهات والكبار في أوقات الراحة والنوم. أما الكبار البالغون فعليهم الاستئذان في كل وقت وفقا لما جاء في الآية التالية: (وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) النور 59 )

هذا بيان الله تعالى لاستئذان الصغار والكبار، وقد جاء بالتفصيل، وهو مسألة اجتماعية ليست في منزلة الصلاة، فهل يا ترى يهمل الله تعالى كيفية الصلاة ومواقيتها بينما يشرح "آداب الاستئذان" داخل البيوت ؟ القضية أن العرب كانوا لا يعرفون هذه الآداب الراقية الحضارية فنزل تعليمهم لها بالتفصيل في سورة النور وغيرها. أما الصلاة فقد كانوا يعرفونها ويؤدونها بنفس الكيفية والعدد ، لذا كان عبثا توضيح ما هو واضح لهم.

إن الآية لم تنزل لتشريع صلاة الفجر أو صلاة العشاء وإنما لتشريع الاستئذان قبل صلاة الفجر وبعد صلاة العشاء وبعد صلاة الظهر، ومعناه الواضح أن المسلمين قبل نزول الآية كانوا يعرفون صلاة الفجر وصلاة العشاء، بل كانوا يضبطون إيقاع الحياة على أوقات الصلاة. ولأن معرفة أوقات الصلاة وركعاتها من البديهيات لم يتعرض لها بيان القرآن، ويكفى أن الآية ختمت بقوله تعالى " كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). النور 58) . فهذا تبيين الله العليم الحكيم لما ينبغي تبيينه وتوضيحه، أما الواضح المبين البيّن فلا يوضحه أو يبينه القرآن الكريم. وهذا ما ينبغي أن نفهمه قبل أن نبادر باتهام المولى عز وجل بأنه فرط في كتابه.

7-  ولم يأت التشريع القرآني بجديد خاص بالصلاة في مكة وإنما جاء في المدينة وحين نزل ذلك التشريع الجديد نزل مفصلا يوضح كل شيء في هذا التشريع الجديد .

* وأول تشريع جديد في الصلاة هو الخاص بالقبلة، وكان في حقيقته اختبارا في الطاعة،  فالعرب كانوا يتوجهون في الصلاة إلى الكعبة، وبتوالي القرون بعد أبيهم إسماعيل ترسب فيهم الشعور بتقديس بناء الكعبة، وزاد ذلك وقوعهم في الشرك وعبادة الأضرحة والأنصاب والأصنام وزرعها حول الكعبة، فإذا كانوا يقدسون حجارة القبور والأنصاب والأوثان والأضرحة والأصنام فحجارة الكعبة أولى بالتقديس. وبمجيء النبي محمد خاتما للنبيين ورجوع  كثيرين إلى الحنيفية الإبراهيمية الحقيقية تم تنظيف قلوبهم من الاعتقاد في الأوثان والأنصاب والأصنام والقبور المقدسة. لكن لا يزال هناك تقديس في داخلهم لبناء الكعبة خصوصا وهم يتجهون إليها في صلاتهم اليومية. وازداد الأمر بعد هجرتهم من مكة إلى المدينة إذ اختلط لديهم الحنين للوطن ( مكة ) وبيت الله تعالى الحرام بمشاعر التقديس للكعبة. وكان لا بد لهم من مواجهة مع النفس بامتحان يتضح لهم فيه أن التوجه للكعبة لا يعنى تقديسا لها على الإطلاق وإنما هو طاعة للآمر رب العزة جل وعلا. تماما مثلما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم ، فلم يكن تقديسا لأدم ، بل كان اختبارا للطاعة. نفس الحال هنا؛ امتحنهم الله تعالى بأن أمرهم بالتوجه إلى مكان آخر. وأطاع النبي والمؤمنون معه وصبروا على أقاويل السفهاء بتغيير القبلة، وبعد أن نجح النبي والمؤمنون في الاختبار نزل الوحي يجيب رجاء الرسول لله بالعودة إلى التوجه للبيت الحرام، فقد تعلموا الدرس.

وتفصيلات الموضوع جاءت في سورة البقرة(142؛150)

* ثم نزل تشريع الوضوء والطهارة والغسل والتيمم، ولم يكن معروفا من قبل، وجاء بيانه في آيتين في المدينة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ }.   النساء 43)  ومع هذا البيان المحكم المفصل فقد تكرر في سورة المائدة وبتفصيلات جديدة عن الوضوء يقول تعالى . " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ.  المائدة 6) وتأمل كلمة الصلاة في " لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ " " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ " أي الصلاة المعروفة لديكم وعليكم قبل أن تقومون لها أن تتطهروا لها، أو بالمصطلح الفقهي "الوضوء " فالصلاة معروفه أما الغسل والطهارة قبل الصلاة فهو شيء جديد نزل تشريعه لأول مرة.

*  وفرض الله تعالى القتال على المؤمنين في المدينة بعد الهجرة.

والهجرة نفسها نوع من الجهاد، إذ أنه سفر فيه مطاردة وضرب في الأرض شديد، والمؤمن في حال الهجرة والقتال مطالب بالصلاة لأن الصلاة كانت على المؤمنين ـ قديما وحديثا ت كتابا موقوتا أي فرضا يؤدى بتوقيته كل يوم. وعليه كان لابد أن ينزل تشريع خاص للصلاة في وقت الخوف أثناء الهجرة والقتال. 

وحين نزل تشريع صلاة الخوف نزل مفصلا يتحدث لأناس يعرفون الصلاة معرفة اليقين، وجاء الحديث عن صلاة الخوف في سورة النساء (100؛103) ويبدأ بالهجرة وما فيها من مشاق وإمكانية الموت أثناءها  { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا  }.

 ثم يتحدث المولى تعالى عن نوعية السفر التي تستلزم قصر الصلاة { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا) ثم توضح الآيات التالية طريقة الصلاة في الركعة الواحدة والتعديل الذي يلازم ظروف المواجهة مع العدو حين الصلاة " وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا " النساء 100، 101، 103، 102.

واضح في الآيات أن قصر الصلاة يكون فقط في حالة السفر المرتبط بالخوف " إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ "  وان القصر من الصلاة الكاملة المعتادة المعروفة، وأن مقدار الركعات التي تقصر من الصلاة متروك حسب ظروف المواجهة . والتفصيلات كافية هنا في توضيح ذلك التشريع الجديد بحيث لا يحتاج إلى إضافة أو استفهام، فمثلا لا بد من كتبية حراسة تحمل السلاح وتحمى الفريق الذي يصلى خصوصا عند السجود، وبعد أن تنهى صلاة القصر يتبادلون المواقع فيصلى الحراس ويقوم الآخرون بالحراسة، ولابد من التمسك بالسلاح إلا في حالة الضرورة في المطر أو المرض. وبعد انتهاء صلاة القصر هذه ينبغي أن يعوض القصر فيها بالاستمرار في ذكر الله قياما وقعودا ونياما، ثم إذا زالت حالة الخوف تقام الصلاة الكاملة في أوقاتها المعروفة.  

ثم تأتى آية أخرى في سورة البقرة تضيف تفصيلا آخر  لصلاة الخوف " حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } البقرة 238)

ففي حالة الخوف من العدو أو الخوف من ضياع وقت الصلاة أو عندما تتعذر الصلاة بالطريقة المعتادة وأنت راكب على بعير أو طائرة أو سيارة ـ يأتي تشريع جديد آخر بالتفصيل، فتصلى كيفما اتفق مترجلا أو راكبا، فإذا ذهب الخوف فلابد من ذكر الله قياما وقعوا ونياما وإقامة الصلاة لذكره تعالى فالله تعالى هو الذي علمهم ذلك التشريع الجديد الذي لم يكونوا يعلمونه.

8 ـ لقد شملت تفصيلات القرآن كل شيء يحتاجه المؤمن في حياته حتى من الآداب الراقية الحضارية أو ما يعرف الآن بالاتيكيت.من آداب الكلام و التحية والسلام إلى آداب المشي أو السير والطعام.

في آداب الطعام

قال تعالى : (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون  ) النور 61 )

وفى آداب دخول البيوت قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ) النور 27 ـ 29 )

 وفى آداب الكلام والاستماع والحديث مع الغير

تجد تفصيلات سامية الخلق: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا) البقرة 83 ) (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) الاسراء 36 & 53 ) (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) القصص 55 )  (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) الفرقان 72 ) (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) المؤمنون 3 )

 وحتى في رفع الصوت أو خفوته تأتى التفصيلات في العبادة والدعاء:

 فلا بد أن يكون الدعاء خفيا بدون صوت مسموع مثلما فعل زكريا عليه السلام: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا) مريم 3 ) أما نحن فلا يقنصر الأمر على الصياح بالدعاء بل يتعداه الى السخرية بالله تعالى فبدلا من أن يكون الدعاء بكاءا وتضرعا نجعله غناء ورقصا، أي نتعدى على جلال الله تعالى بتحويل عبادة الدعاء إلى لهو ولعب متناسين قوله تعالى في تشريع الدعاء: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) وفى تشريع ذكر الله تعالى  (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ) الأعراف 55 & 205 ) أما الصلاة فلا مجال فيها للجهر كما نفعل باستخدام الميكروفونات ، يقول تعالى : (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ) الإسراء 110 )

 وحتى في الحديث العادي لا يصح أن ترفع صوتك: (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) لقمان 19 )

وفى المشي والسير هناك آداب قرآنية:

فلا يصح التعاظم والسير بخيلاء، ومصطلح المرح يعنى تلك النوعية من الاستكبار في السير والغرور في الحركة كان يقول تعالى: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) الإسراء 37 ) وقال تعالى عن بعض المستكبرين من مدعى العلم: (ثَانِيَ عِطْفِهِ) الحج 9 ) وهو وصف حركي يصور الذي يتحدث مع الناس متعاليا عليهم. ونحوها قوله تعالى: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) لقمان 18 )

أما شان المؤمن فهو السير على الأرض هونا معرضا عن الجاهلين محسنا لهم ما استطاع : (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) الفرقان 63 ) او أن يمشى بقصد أي باعتدال عارفا أين يذهب محتسبا خطاه في سبيل مولاه جل وعلا : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) لقمان 19 )

آداب التحية

لا تقتصر على المحسن من الناس بل تشمل أيضا الرد على صاحب اللغو بإلقاء كلمة السلام وهى تحية الإسلام. على أنه إذا حياك احد بأي لغة أو أي مصطلح فالواجب عليك رد التحية بأحسن منها سواء كان الذي حياك مسلما أم غير مسلم، تعرفه أو لا تعرفه. : (وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ) النساء 86 )

والتحية ليست فقط من القادم الواقف على الجالس القاعد بل هي أيضا يقولها الجالس للقادم عليه ن وهذا أمر وجهه الله تعالى للنبي محمد عليه السلام في تعامله مع المؤمنين: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الأنعام 54 )

9 ـ ما سبق هو مجرد أمثلة لتفصيلات القرآن الكريم في الآداب العامة في الحياة الاجتماعية، لم يكن للعرب معرفة بها فجاءت تفصيلاتها واضحة، والصلاة أعظم فريضة إسلامية، يكفى في بيان قدرها أن يقال عن الخاسر يوم القيامة: (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) القيامة 31 ) فالتصديق هو الإيمان، أما العمل الصالح فقد جاء التعبير عنه بالصلاة.

 إذا كانت الصلاة بهذه الأهمية فهل تتناساها تفصيلات القرآن وتذكر الآداب الاجتماعية في السير والحديث والتحية والاستئذان ؟

وهكذا تأتى تفصيلات القرآن تشرح التشريع الجديد وتنبه على ما يحدث من خلل في أداء الصلاة. أما ما هو واضح من ركعات الصلاة وأوقاتها فمن الهزل تشريعه لمن يعرفونه ويؤدونه. أما أولئك الذين يحاولون تكذيب المولى عز وجل في قوله تعالى مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ " فلن تنفع معهم حجة ولا برهان لأنهم يسعون في آيات الله معاجزين وموعدنا معهم أمام الله تعالى يوم القيامة:" وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ...  سبأ 38) .

اجمالي القراءات 11454