حوار مع جريدة الدستور المصرية

آحمد صبحي منصور في السبت ٢٥ - أغسطس - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

 

https://www.dostor.org/2288352

https://www.dostor.org/2295972

أجرت الحوار : حنان عقيل

القبلة

 الأربعاء 15/أغسطس/2018 - 07:22 م

مرشد القرآنيين.. أحمد صبحى منصور: شادية حبى الأول.. وزوجة عمى عقدة حياتى


 dostor.org/2288352

- هربت من الفقر واليتم بأحلام اليقظة وأعيش أروع قصة حب منذ 41 سنة
- كنت من أوائل الجمهورية وأذهب لجمع «لُطع القطن» فى الإجازة
- ذاكرت لأخى المزارع الإعدادية ثلاث سنوات فتولى منصبًا مرموقًا


مسيرة من المشاكسة للمؤسسات الدينية وأفكارها الجامدة بدأها زعيم التيار القرآنى الدكتور أحمد صبحى منصور منذ السبعينيات، ولقى على إثرها ضربات متتالية من الاعتقال والمطاردة والتكفير.

سيرة قلقة ومشوار صعب للأزهرى الشرقاوى تابعنا بعض فصولها المُعلنة منذ أن أشهر أفكاره فى مواجهة المجتمع ورجال الفقه، إلا أن هذه الفصول السابقة- والتى ربما كان لها التأثير الأكبر على مسار حياته واختياراته- غير معروفة بشكل كبير.

فى هذا الحوار مع «الدستور»، يروى «منصور» فصولًا من مسيرة طفولته ومراهقته وشبابه، نشأته يتيمًا فقيرًا فى ظل سيطرة من قِبل العم الأكبر وزوجته على مجريات حياته، وزوجته الأولى وإهانتها له، ويتطرق للحديث عن ظروف زواجه وأبنائه وإخوته.

ولدت فى قرية بمحافظة الشرقية فى أواخر الأربعينيات.. ما الذكريات التى تحملها من طفولتك؟ 
- طفولتى تأثرت بما حدث لجدى الشيخ محمد على إبراهيم الذى مات قبل ميلادى بربع قرن، كان ميسورًا وكريمًا وشيخ الطريقة الرفاعية الصوفية فى المنطقة وفى بلدنا «أبوحريز» مركز كفرصقر شرقية. تزوج أربع زوجات أنجب منهن ١٤ ولدًا وبنتًا. كان أبى الابن الأصغر للزوجة الأولى التى أنجب منها جدى: عمى الأكبر أحمد وعدة بنات ثم أبى منصور
كانت أملاك جدى تُجاور أملاك إقطاعى فى بلدة «بنى حسن» المُجاورة، احترف هذا الإقطاعى الربا واستغلال المحاكم للاستيلاء على الأراضى، وصار له ألف فدان بهذه الطريقة، كان جدى أبرز ضحاياه
هذا المُرابى أعطى سُلفة لشيخ البلد فى قريتنا وطلب أن يضمنه جدى، ووافق جدى، وسرعان ما أعلن الرجل عجزه عن السداد وتعين على جدى أن يدفع الدين بدلا منه. وفوجئ بعد عشر سنوات بقضية ضده للحجز على أراضيه لصالح هذا الرجل. أسرع والدى لتوكيل محام، ولم يكن يعرف أن هذا المحامى عميل لهذا الإقطاعى. خسر جدى معظم أرضه، ومات كمدًا.
بعدها خرج أبى منصور محمد على من التعليم الأزهرى وأرغموه على العمل فى الزراعة، وجرى تقسيم ما بقى من التركة، لكن عمى الأكبر، شقيق أبى، سيطر على ميراث أبى وأخواته، واستغله فى الزراعة وفرض تقتيرًا فى المصاريف حتى استعاد ثمانية أفدنة من أرض جدى، وكتبها باسمه واسم زوجته.
إثر ذلك وقع أبى مريضا فاعتزل الزراعة وتزوج وعمل مأذونًا شرعيًا، وافتتح مكتبًا لتعليم الأولاد وإلحاقهم بالأزهر. وعلى يديه انتشر التعليم الأزهرى فى المنطقة. بيوت جدى تقاسمها الورثة، كانت هناك حجرة كبيرة «مضيفة» مخصصة للغرباء، هذه الحجرة صارت من نصيب أبى، بناها بيتًا نشأت فيه أنا وإخوتى الأشقاء.
ما تأثير معاناة والدك على حياتك فيما بعد؟
- مات أبى وأنا فى الصف الثالث الإعدادى فى معهد أبوكبير بالشرقية عام ١٩٦٣، وكان هذا تحولًا جذريًا فى حياتى، وبدأت معاناتى يتيما بوفاة أبى. لم يكن لنا مورد، واضطر عمى الأكبر إلى أن ينفق علىّ فى التعليم، ولكن أمى وإخوتى كانوا يحتاجون الإعالة. كانت زوجة عمى الأكبر مسيطرة عليه. أنجبت أمى أربعة ذكور وبنتا، وحظيت بحب أعمامى فتسبب هذا فى غيرة وكراهية زوجة عمى الأكبر لأمى، ودفعت أنا وإخوتى الثمن بعد وفاة أبى.
كنت أعمل فى الإجازة الصيفية فى جمع القطن ومقاومة دودته. وكان عمى أحيانا يقبض مكافأتى من الجمعية التعاونية فأشعر بالسعادة. ورغم الشعور بالقلق وعدم الأمان كان ترتيبى الثانى على الجمهورية فى الإعدادية الأزهرية، وانتقلت من معهد «أبوكبير» إلى معهد «الزقازيق» لأعيش مع ابن عمى «عبدالحميد» الذى يكبرنى بست سنوات والذى كان يحلو له أن يقدمنى إلى زملائه بأننى ابن عمه الشقيق الذى ينفقون عليه.
ألم تفكر فى أى طريقة للخلاص من هذا الوضع؟
- نعم، لم أتحمل الإهانة وهربت إلى القاهرة، وهناك ذهبت إلى جريدة «الأخبار» وطلبت مقابلة الأستاذ محمد زكى عبدالقادر ليبحث لى عن وظيفة، أو من يشترى القصص التى كنت أؤلفها. قابلنى موظف فى الاستقبال وسمع منى ونصحنى بأن أرجع إلى ابن عمى وأتحمل، ورجعت وتحملت.
فجأة توفى عمى الحاج أحمد بأزمة قلبية عام ١٩٦٩. كنت الوحيد معه حين فاجأته الأزمة القلبية. بعث يستدعى ابنه «عبدالحميد» وأوصاه بأن لنا نحن أولاد عمه منصور حقًا عنده، وأن عليه أن يُتم الإنفاق علينا من حقنا عندهم
حين مات عمى أصبحت تحت السيطرة المباشرة لزوجته، كان هذا قبيل امتحان الثانوية الأزهرية بخمسة أسابيع عشتها فى قلق، ودخلت الامتحان، وكان ترتيبى الرابع على الجمهورية فى الثانوية الأزهرية القسم الأدبى عام ١٩٦٩. وبدأت عهدًا من الاستقلال إذ تقررت لى مكافأة تفوّق قدرها ١٢٠ جنيهًا فى العام الأول، وحافظت على التفوق فكنت أحصل على نفس المبلغ سنويا طيلة سنوات الدراسة بالكلية إلى أن تم تعيينى معيدا عام ١٩٧٣.
كيف كان دور زوجة عمك فيما بعد.. خصوصًا مع هذا الاستقلال المادى النسبى؟
- فرضت زوجة عمى علىّ زواجى الأول. بنت بنت عمى الأكبر كانت مخطوبة لابن عمها الذى فسخ الخطوبة. وحلًّا للمشكلة قررت زوجة عمى أن أتزوجها. رضيت اعترافًا بالجميل. كان هذا بعد أن أصبحت مُستقلًا أنفق على نفسى وإخوتى. الزواج لم ينجح لأنها كانت تنظر لى على أننى من كان ينفق عليه جدها والد والدتها، قابلت هذا بمعاملتها بمنتهى العنف. تركت البيت بعد شهرين، وحدث انقسام فى العائلة، فريق معى وفريق مع زوجة عمى.
رفضت بإصرار كل محاولات الصلح، فقد شعرت بإهانة شديدة عوملت بها منها ومن أهلها، وحين تراجعوا كنت قد صممت على الانفصال النهائى عنها. كنت فى السنة الأولى بقسم التاريخ والحضارة بكلية اللغة العربية بالقاهرة. وقد تم الزواج فى الإجازة الصيفية، وبعده بشهرين تركت هى البيت، وانشغلت العائلة بالشقاق والخلاف.
ومتى تخلصت من كل هذا؟
- جاءت فرصة لى للعمل مدرسًا للغة العربية فى مدرسة إعدادية خاصة فى مدينة ههيا، فقبلتها لأبتعد عن صداع محاولات الصلح، وكان راتبى ٨ جنيهات، بالإضافة إلى ١٢٠ جنيهًا مكافأة سنوية بعد نجاحى بتقدير جيد جدا فى السنة الأولى. ساعدنى هذا على تحمل مسئولية إخوتى، وصرت أذهب كل شهر إلى الكلية أستطلع الأحوال وأشترى الكتب المقررة. واجتزت الامتحان فى السنة الثانية بتقدير جيد جدا. خلال هذا العام طلّقت زوجتى غيابيا، وكان وقع تسلمهم ورقة الطلاق مؤلمًا.
إلى أين كانت خطوتك بعدما أغلقت هذه الصفحة من حياتك؟
- رجعت للعيش فى البلد لأن ابن عمى الحاج عبدالعزيز أشرف على بناء معهد أزهرى ابتدائى فى البلد بأموال سيدة كانت تفعل الخير، وكان وكيل أعمالها فى البلد. عملت مدرسا فى هذا المعهد بلا أجر منتظرًا أن يقوم الأزهر بضمّه. وهو ما حدث وأصبحت قائما بأعمال الناظر وأنا فى السنة الثالثة بالكلية إلى أن تخرجت عام ١٩٧٣ بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، وتم تعيينى معيدا فى ديسمبر من نفس العام
وماذا عن سنوات مراهقتك فى ظل هذه الظروف؟
- نشأتى يتيما فقيرا جعلتنى أهرب من الواقع المرير إلى دنيا أحلام اليقظة، أصوغ فيها عالما خاصا بى أحقق فيه ما أتمناه من أحلام مستحيلة فى الواقع.. قبل زوجتى لم أقع فى الحب. ليس معنى هذا أننى لم أعرف مطلقا الحُبّ، عرفته فى أحلام اليقظة التى كنت أمارس من خلالها حريتى كما أشاء. فى أحلام يقظتى هذه أحببت الفنانة شادية، كانت فى أوج شهرتها وسطوعها. شاهدت كل أفلامها، وتتبعت ما استطعت كل أخبارها. وكنت عندما أخرج من السينما بعد رؤية فيلم لها أصطحبها معى فى أحلامى، وأدخل بها مسكنى وسرير نومى أتحدث معها وتتحدث معى. لم يحدث بيننا مطلقا، فى أحلام اليقظة، ما يسميه الفقهاء «الفحشاء» أو ما تسميه الرقابة «الفعل الفاضح»، مع أننى كنت أقاسى من حرمان جنسى لكنها لم تكن ممن أتخيلهن جنسيا. كنت أحبها حبا عُذريا أفلاطونيا روحيا، وشغلنى هذا الحب عن الواقع الذى كان وقتها خصمًا لى. لم ولن أخجل من هذا الحب، بل حكيته لزوجتى، وما زلنا نتندر عليه حين نشاهد أفلامها القديمة، ولا يزال أولادى وزوجتى يتندرون حين يسمعون أغنيتها «لأ يا سى أحمد لأ يا حمادة.. أنا حبيتك حب عبادة» وأبتسم. وأذيع سرا أقوله لأول مرة: إننى فى أحلام يقظتى عاتبتها عتابًا شديدًا على قولها «أنا حبيتك حب عبادة»، وقد اعتذرت وقالت إنه ذنب المؤلف
كيف سار زواجك فيما بعد؟
- من عام ١٩٧٧ وحتى الآن عشت أروع قصة حب مع زوجتى التى تصغرنى بحوالى ١١ سنة، وأثمرت علاقتنا ستة من الأولاد. تزوجتها نقية القلب، فى فترة الخطوبة كانت تنفر منى وتخاف، وتعلمت أن أصبر عليها حتى نتزوج. بعد الزواج حدث ما كنت أتمناه. أعظم السعادة الدنيوية أن تجد الزوجة زوجًا يحبها وأن يجد الزوج زوجة تحبه. تقاسمت مع زوجتى منيرة محمد أحمد حسين الباز حلاوة الدنيا ومرارتها.
فى أى شىء استغللت فترة وجودك فى القرية بجانب عملك بالمعهد؟
- إقامتى فى البلد أحدثت تغييرا هاما، أخرجت أخى السيد رفعت من العمل بالزراعة، والذى لم يتمكن من إكمال دراسته بسبب الظروف المادية وتعنت زوجة عمى، وذاكرت له الإعدادية الأزهرية نظام ثلاث سنوات، وأدخلت أخى الأصغر عبدالرزاق فى التعليم الأزهرى الإعدادى، وفيما بعد وصلا لمناصب مرموقة. أما أخى الثالث محمد علاء الدين منصور الذى تعلم رغم أنف زوجة عمى فصار من الأوائل فى الثانوية العامة على مستوى الشرقية وكرّمه المحافظ. والتحق بقسم اللغات الشرقية بكلية آداب القاهرة، وتخرج بتقدير جيد جدا، وأصبح أكبر خبير فى اللغة الفارسية فى مصر.

 


لا يمكن لمصر أن تنهض وهي تحمل على كاهلها الأزهر
لا زلت أحمل مصر جُرحا نازفا في قلبي.. وأتمنى أن أزورها بلا أي رتوش سياسية أو جدل ديني
عقليتي الأدبية الدرامية جعلتني أنظر إلى الشخصيات التاريخية كبشر وليس ككائنات مقدسة
لابد من إلغاء التعليم الأزهري ما قبل الجامعي وإلحاقه بالتعليم العام وإلغاء بقية مؤسسات الأزهر
لا أريد أن أعود لأستقر في مصر وتتكرر معي قصة الاضطهاد وأنا أقترب من السبعين




يعيش المفكر المصري أحمد صبحي منصور زعيم التيار القرآني منذ عقود في أمريكا بعدما عانى من التكفير والاضطهاد جراء نقده لكُتب الأحاديث ومخالفته للمنهج السائد في الأزهر. ورغم سنوات البُعد لا تزال ذاكرته حافظة وبدقة كل ما مرّ به طيلة حياته في مصر بدءًا من سنوات الطفولة البعيدة وحتى سنوات ما قبل الهجرة. يتمنى منصور أن يرى أحبته في مصر، أن يزورها زيارة خاطفة قبل أن يحين الأجل دون أن يواجه بالاتهامات ويحاصر بالاضطهادات. 
في الجزء الثاني من حواره مع "الدستور" يكشف منصور عن تأثير سنوات النشأة الأولى على تحديد مساره الفكري وتفاصيل علاقته بمدير مركز ابن خلدون سعد الدين إبراهيم وعمله معه في المركز في سنواته الأولى، متطرقّا لأبرز المشاكل والصراعات التي مرّ بها على مدار حياته في مصر التي يرى أنها لن تنجح في التخلص من مشاكلها مالم تتخلص من هيمنة الأزهر ونفوذه. 
§كيف جاءت بداية تمردك على المبادئ والقناعات الراسخة لدى مؤسسة الأزهر التي نشأت وانتميت لها؟ 
قدمت ندوة في الجمعية المصرية للتنوير عام 1994، وأذكر أنني تحدثت عن هذه المسألة. كانت بعنوان "الأزهر والتنوير" وكانت بداية التعارف بيني وبين سعد الدين ابراهيم والذي عبّر عن تأثره الشديد بما سمع. قلت فيها إن الأزهر تخرّج فيه أئمة التنوير من الطهطاوي ومحمد عبده ومدرسته من طه حسين إلى علي ومصطفى عبد الرازق الذين كانوا استثناءات في محيط من التقليد، وأرجعت السبب إلى المناهج الأزهرية والقرآن الكريم، فالذي ينحاز إلى القرآن يجد نفسه ضد معسكر التقليد ويواجه الانتقاد والاضطهاد. بدأت التنوير في الأزهر معقل التقليد شابًا ومبكرًا، وجاء هذا الصدام في عصر نفوذ الأزهر، والذي لم يكن موجودا في الفترة الليبرالية من عام 1860إلى النصف الأول من القرن العشرين. 
كان لنشأتي أيضًا دور في المسألة، كانت "خلافة الطريقة الرفاعية" في بلدتي رسميا مع جدي محمد علي إبراهيم، ولكن كانت الشهرة والنفوذ لعائلة أخرى اتبعت الطريقة الخلوتية الشبراوية، ولم تكن مسجلة رسميا في الطرق الصوفية. عميدها سيطر على البلد وامتدت شهرته إلى خارج مديرية الشرقية، وجنى هو وأبناؤه الثراء والتسلط على الناس. وتمتع الأولياء من هذه الأسرة بالتقديس، وكان معظم أهل البلد يخشون سطوتهم ونفوذهم. نشأت طفلاً في هذا المناخ، أرى والدي الشيخ منصور محمد علي مثلاً أعلى في العبادة والتقوى والكرم، يحبه الناس ولكن لا يقدسونه كما يقدسون أسرة الشيخ الصوفي الآخر. بدأت في طفولتي أتساءل: هل هذا يتمشى مع العدل؟ هل يستوي الصالح والعاصي؟ لم أقتنع في طفولتي أن هذا هو الإسلام لأن الله لا يظلم ولا يحب الظلم.
§هل كانت هذه الأحداث هي الدافع وراء اهتمامك بدراسة التصوف فيما بعد؟
نعم، كانت هذه الخلفية سببًا في تصميمي على أن تكون رسالتي للدكتوراة عن التصوف في مصر في العصر المملوكي بحثا لأثر التصوف في الحياة المصرية. كنت لا أرى بأسًا في التصوف ولكن أمامي نموذجان مختلفان من التصوف: نموذج كان يمثله جدي.. نموذج الكرم والعطاء، ونموذج آخر فيه التجارة بالدين والتسلط على الناس، وهو الأشهر. بعد عامين من موت والدي أعلنت أن الأضرحة "القبور المقدسة" في بلدنا ليست من الإسلام. ارتجّت البلدة من هذا، ونصحني تلاميذ أبي الكبار، وكانوا ممن يخدمون الشيخ الصوفي، ألا أتعرض لهذا الموضوع، وضربوا لي عدة أمثلة من عسف هذه العائلة بمن يجرؤ على مناقشتهم فكيف بمن يعلن كفرهم. 
دخلت في صراع وأنا مدرس مساعد ضد كبير الصوفية وقتها الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر ونجحت وطعنت التصوف في مقتل، ثم دخلت في السُنّة وكانت الكارثة التي انتهت بالخروج من الأزهر والسجن ثم استمرار النضال طلباً للإصلاح الديني، وانتهى الأمر باللجوء لأمريكا.
§هل من كتب قرأتها في طفولتك كانت مؤثرة على حياتك واختياراتك؟ 
نعم. ورثت عن والدي مكتبة تراثية ضخمة، كان هو قد ورثها من أخيه الراحل. قرأت منها عيون التراث الأدبي العباسي، وأحببت مبكرًا الأدب والقصص التراثية بقدر ما كرهت الخرافات التي امتلأت بها كتب الحديث والتفسير والفقه المقررة علينا في التعليم الأزهري. كنت أقرأها فرضا واتفوق فيها كُرها. أمنيتي كانت صياغة القصص وخصوصا من التراث وتحويلها إلى دراما. 
لم تتحقق أمنيتي لأن أتكسب من هذا المجال لأسباب كثيرة، ولكن هذه الرغبة هي التي جعلتني أدخل قسم التاريخ لأنه الأقرب إلى الدراما. كما أن هذه العقلية الأدبية الدرامية جعلتني أنظر إلى الشخصيات التاريخية كبشر وليس ككائنات مقدسة، فلم يكن عندي تقديس للخلفاء أو الشيوخ أو العلماء، ثم تأكد لي صحة موقفي عندما تعمقت في تدبر القرآن الكريم واحتكمت إليه في أبحاثي التاريخية عن الأئمة والشيوخ والخلفاء وحتى الأنبياء، وكانت محاكمتي عام 1985 بسبب التأكيد على بشرية الأنبياء في الكتب الخمس التي قررتها على الطلبة في ذلك العام. 
§ألم تراودك لحظات شك أو ضعف تدفعك للعدول عن أفكارك ومُجاراة السائد؟
كان اختلافي عن الآخرين واضحًا. في كلية اللغة العربية كان الأمر محيرا في أعوام محاكمتي داخل جامعة الأزهر. حيرتهم في المقارنة بيني وبين ابن عمي الشقيق عبد الحميد الأستاذ بنفس الكلية. كان التشابه بيننا ملحوظًا والتناقض أيضا ملحوظًا. تعين هو معيدا في نفس العام الذي دخلت فيه نفس الكلية طالبا. التناقض بيننا كان في العقلية وفي الشخصية، كان أزهريا تقليديا وصوفيا مؤمنا بكل خرافات التصوف خاضعا خانعا لتلك الأسرة الصوفية في البلد. برغم التناقض بيني وبينه إلا أنه نأى بنفسه عني في صراعي مع الأزهر. 
عندما قدمت رسالتي مكتوبة بخط يدي للحصول على درجة الدكتوراة عام 1977، فوجئت بالشيوخ كلهم ينتفضون ضدي ثائرين. سألت نفسي: هل أنا وحدي على الحق وكلهم على الباطل؟ للإجابة على هذا السؤال كان لا بد أن أتثبت من موقفي حتى أستمر أو أن أخضع للشيوخ الذين يكبرونني بعشرات السنين.ـ قلت أنا أومن بالله جل وعلا، واستشهد بالقرآن. إذن لا بد أن أستوثق أن هذا القرآن هو فعلا من عند الله. إذا لم يكن من عند الله فهو من تأليف محمد بن عبد الله. قلت لنفسي: إنني في رسالة الدكتوراة انتقدت الكتب المقدسة للأئمة، وأظهرت تناقضها. فهل في القرآن الكريم تناقض؟ إذا كان من تأليف محمد بن عبد الله فلا بد أن يقع المؤلف في تناقض. وقلت إنني أكثر علما من محمد بن عبد الله. فهو رجل عربي عاش في القرن السابع الميلادي في بيئة غير حضارية. بينما أنا أعيش بعده بأربعة عشر قرنا وقد حدث تراكم علمي أكون به متفوقا عليه بالمستوى العلمي. تفرغت عاما كاملا بحثت فيه القرآن الكريم آية آية، المكسب الأكبر هو أنني عرفت بالقرآن الكريم طريقي وتعلمت أن الإيمان يعني الدخول في الاختبار والفتنة. 
كنت وحيدا مظلوما في مواجهة قوي ضخمة فكان لا بد أن استعين بالقوي العزيز. ولابد من الإيمان باليوم الآخر، حيث لقاء الرحمن جل وعلا في يوم الحساب أو يوم التغابن أي رفع الغبن والظلم عن المغبونين المظلومين، وأستشعره قريبا كما أكّد رب العزة في القرآن، ولا بد من الصبر، وأتذكر دائما قوله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) البقرة ). بالصبر وبالصلاة يستعين المؤمن على كل شيء. 
§ما تأثير الحملات التي شُنت ضدك والفتاوى التكفيرية على حياتك؟ إلى أي مدى تسببت في اضطرابها؟
بعد خروجي من السجن نهاية عام 1987 تعرضت لحملة صحفية وفتاوى تكفير هددت حياتي فقررت الهرب لأمريكا. في يناير 1088 لم أتحمل الابتعاد عن زوجتي وأولادي فعدت في أكتوبر 1088، وبعد ليلتين رهيبتين واستجواب في أمن الدولة أطلقوا سراحي. بعدها عملت مع التيار العلماني إيمانا مني بأن الاسلام القرآني دين علماني ليس فيه كهنوت ولا مؤسسة دينية ولا دولة دينية ولا استغلال للدين في السياسة والطموحات الدنيوية. زاملت فرج فودة وأنشأت معه مشروع حزب المستقبل، وصدرت الفتوى الأزهرية بتكفيره وتكفيري، وبناء عليها اغتالوه في يونية 1992 بعد صدور هذه الفتوى ونشرها في جريدة "النور" بأقل من أسبوع. 
هاجمت الشيخ الغزالي بقسوة بسبب موقفه في محاكمة قاتل فرج فودة، وألفت كتاب "حد الردة" أنفي فيه هذه الأكذوبة، وحوّلنا مكتب فرج فودة إلى "الجمعية المصرية للتنوير"، وتعرضت مصر لموجة إرهاب فكوّنّا الجبهة المصرية لمواجهة الارهاب، وكنت المقرر الفكري لها، وحظيت الجبهة وقتها برعاية الدولة، وعملت مع المنظمة المصرية لحقوق الانسان وصرت ضمن أمنائها، وهذا مع استمرار النشر في الصحف المصرية الحكومية والحزبية والمستقلة. ومعظم هذا كان جهدا تطوعيا مع أنني كنت أعاني فقرا مؤلما ومعي أولادي وزوجتي وعائلتي.
§عملت في مركز ابن خلدون مع سعد الدين إبراهيم.. ما هي ذكرياتك عن هذه الفترة وعلاقتك بسعد الدين إبراهيم؟ وما رأيك فيما يتردد عن علاقته باسرائيل وخدمته لكيانهم من خلال المركز؟ 
بعد فترة من العمل التطوعي والمعاناة من الفقر، بدأت العمل في مركز ابن خلدون، وكان فرصة للتخلص من الفقر إذ تقرر لي مرتب لأول مرة بدأ ببضع مئات من الجنيهات، وانتهى بحوالي ألف جنيه شهريا. كنت المشرف على الدورية التي يصدرها المركز "المجتمع المدني" وعلى تقاريره السنوية بالمراجعة والتصحيح والكتابة، ثم توليت إدارة رواق ابن خلدون. وبدأ هذا بيوم الثلاثاء الأول من عام 1996 واستمر بلا توقف حتى إغلاق المركز عام 2000. وشاركت رائدًا في أهم مشروعين تسببا في إغلاق المركز وهما "تعليم المصريين الديمقراطية وحقوقهم الانتخابية" و "إصلاح التعليم المصري".
كان من يتعامل مع سعد الدين إبراهيم يساومه ويقتنص منه ما يريد. ليس من طبعي المساومة في الأجر، بل أرضى بما يقال. ولذا كنت ضحية مناسبة له. أذكر أنه كلفني ببحث عن "مقدمة ابن خلدون" استغرق مني شهورا ورضيت بالأجر الذي قاله "خمسة آلاف جنيه" وهو منشور الآن في موقعنا. وقدمت له البحث قبيل الموعد وهو احتفال مركز ابن خلدون بالعشرية وبمرور 8 قرون على وفاة العلامة ابن خلدون. فوجئت بسعد الدين إبراهيم يخصم من أجري 20% ضرائب، قلت له إن أجري 5 آلاف صافية وعلى المركز أن يدفع الضرائب. قال بكل جفاء "المسألة عرض وطلب" يعني "إذا كان عاجبك". هذا في الوقت الذي كان يمنح فيه أضعاف أضعاف هذا المبلغ لكتابات تافهة لأحبائه العلمانيين. أذكر أنني احتجت لشراء شقة قريبة من شقتي القديمة، وكان صندوق مركز ابن خلدون يعطي قروضا بربح 15 %. وطلبت منه قرضا بثلاثين ألف جنيه، فاشترط أن يكون عقد الشقة باسم مركز ابن خلدون لضمان السداد. أحسست بالإهانة ورفضت. 
الله رزقني من حيث لا أحتسب. قدمت ثلاثة سيناريوهات للمنتج المخرج كريم جمال الدين ـ وهو صاحب شركة "الإكسير" وبعدها صاحب "استوديو مصر"، انبهر بالسيناريوهات الثلاثة، وعمل معي عقدا لإنتاج أولها وهو "الجمل والجمّال" ثم جاءت هوجة محمد هنيدي بعد فيلم "اسماعيلية رايح جاي" ورأى كريم جمال الدين ذلك قد أثر على أول افلامه "قضية أمن دولة" فأجّل مشروعاته الإنتاجية، ومنها سيناريو "الجمل والجمّال" وإرضاء لي دفع لي بقية ثمن السيناريو واشتريت الشقة. 
مع هذا أحتفظ لدكتور سعد الدين بالمودة، وحين يأتي لأمريكا أستقبله في بيتي. وتشاركنا في أنشطة سياسية معارضة لمبارك، وهو صاحب مبادرات سياسية، وسيذكره تاريخ مصر ضمن مؤسسي ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة والمجتمع المدني. لا أعيب عليه علاقته بإسرائيل؛ لها علاقات حميمة بمصر الآن، فلماذا يلومون سعد الدين وحده؟ 
§هل أنت متفائل بشأن دعوات تجديد الخطاب الديني التي يُطالب بها في مصر منذ سنوات؟ هل هي ممكنة أو المسارات المتخذة لها حاليا صحيحة؟
من وجهة نظر إسلامية قرآنية أقول: لا بد من إقرار الحرية الدينية المطلقة لكل مقيم في مصر، فالهداية مسئولية شخصية ومن اهتدي فلنفسه ومن ضل فعليها، وليس من وظيفة الدولة إدخال الناس للجنة بل خدمة المواطنين. هذا الاصلاح الديني يبدأ بإعادة الأزهر إلى ما كان عليه في عصر محمد علي والخديوي اسماعيل، مجرد هيئة أو جمعية أهلية من بضعة أفراد لا نفوذ لها، تعيش على التبرعات ويكون مستقرها غرفة في الجامع الأزهر. 
لابد من إلغاء التعليم الأزهري ما قبل الجامعي وإلحاقه بالتعليم العام، وإلغاء بقية مؤسسات الأزهر. أما جامعة الأزهر وفروعها فتلحق بالتعليم العالي مع إلغاء كليات أصول الدين والدعوة والدراسات الاسلامية ومواد الفقه من كلية الشريعة. لا يمكن لمصر أن تنهض وهي تحمل على كاهلها الأزهر بحالته الراهنة يجرها الى القاع.
عشت في حي المطرية بالقاهرة يحوط مسكني عدة مساجد متطرفة، ويقوم روادها بمظاهرات استعراض قوة في الشارع لإرهابي، كنت أراهم من نافذة شقتي ولا آبه بهم. فتاوي التكفير كانت تأتي من هذه المساجد وغيرها ومن الأزهر والإخوان والسلفيين. تغلبت على محاولتين لاغتيالي في طنطا وفي حي العجوزة بالقاهرة إلى أن جاءت الهجمة الثانية على أهل القرآن فهربت بحياتي إلى أمريكا لأن إدخالي في السجن يعني تشجيع المتطرفين على قتلي ليدخلوا، بزعمهم، الجنة. 
§هل ثمة أسماء فكرية وثقافية من مصر تدين لها بالفضل في تدعيمك ونصرتك والوقوف إلى جوارك حينما وجهت السهام لك؟ وهل هناك أسماء تذكرها قد خذلتك ووقفت ضدك؟
هناك من نبلاء المصريين من وقف إلى جانبي في محنتي في مصر، منهم المهندس محمد خير الخطيب والأستاذ وجيه خير والدكتور يونان لبيب رزق رحمهم الله جميعا. ومنهم من استغل محنتي، وأصفح عنهم، وبعضهم لا زال حيا، ولا داعي لذكر الأسماء.
§كيف هي حياتك في أمريكا؟ ألا تفكر أو تتمنى العودة إلى مصر بعد سنوات الاغتراب الطويلة هناك؟ 
في أمريكا اكتشفت حقوقي الضائعة في مصر، وعرفت معنى أن أعيش حُرّا كريما آمنا مهما كتبت أو قلت. تفتح عقلي على كثير من الحقوق والحقائق لم أكن أعرفها في مصر. ومع هذا لا زلت أحمل مصر جُرحا نازفا في قلبي أكتب داعيا لإصلاحها خوفا عليها. لا أريد أن أعود لأستقر في مصر وتتكرر معي قصة الاضطهاد وأنا أقترب من السبعين. أتمنى أن أزور مصر زيارة اجتماعية خاطفة لأرى الأحبة فيها قبل أن يحين الأجل، مجرد زيارة بلا أي رتوش سياسية أو جدل ديني. هل هذا كثير على من أفنى حياته يكتب في إصلاح مصر؟ 

اجمالي القراءات 6108