كتاب العذاب والتعذيب : رؤية قرآنية

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٢٠ - يوليو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب العذاب والتعذيب : رؤية قرآنية

هذا الكتاب تم نشره مقالات ، وننشرها الآن فى هذا الكتاب عن العذاب والتعذيب فى رؤية قرآنية ، عن عذاب الله جل وعلا للمستحقين له فى الدنيا ثم فى الآخرة. ثم فصل عن التعذيب فى مصر الفرعونية.


مقدمة :

1 ـ أخيرا تذكرت أمريكا جرائم التعذيب فى مصر، كما لوكان حدثا طارئا مستغربا . وانتشرت مقالات فى الغرب تنهل من تقارير المنظمات الحقوقية العالمية ، وطغت أخبار التعذيب المصرى على أخبار مصر الأخرى . واضح أن التناطح الحالى بين أمريكا وكوريا الشمالية هو السبب ، فالفرعون المصرى الحالى ( عبد الفتاح السيسى ) له علاقات عسكرية بكوريا الشمالية ، مما أغضب الرئيس الأمريكى والكونجرس فقطع جزءا من المعونة الأمريكية السنوية المقررة منذ معاهدة الصلح مع اسرائيل ، وفى كلمتها فى مجلس الأمن تحدثت المندوبة الأمريكية بلهجة عدائية عمّن  يتعاون مع كوريا الشمالية ، وهم الصين وروسيا وإيران ، وهم ليسوا فى التبعية لأمريكا ، ثم هناك مصر السيسى ، وهو يشمله الخطاب ، وهو الأكثر تعرضا للسخط الأمريكى .

2 ـ مقاومة التعذيب جزء أساس من جهادنا الاسلامى السلمى وكتبنا فيه كثيرا ،  لأننا ضد الظلم ،ولأننا مع المستضعفين فى الأرض فى أى زمان وأى مكان ، ولأن ممارسة التعذيب تعنى قهر إنسان اصبح مستضعفا .

3 ـ وقرآنيا ، فإن التعذيب مرتبط بالاستبداد السياسى والدينى ، أى تتعانق فيها الديكتاتورية مع الكهنوت .

4 ـ هذا الكتاب يتعرض للعذاب الالهى وتعذيب البشر للبشر من وجهة نظر قرآنية .






فهرس : ( كتاب العذاب والتعذيب : رؤية قرآنية )

هذا الكتاب  

مقدمة :

الفصل الأول : معنى العذاب والتعذيب

المقال الأول    : الأرضية التى يزدهر فيها التعذيب : تعذيب البشر للبشر  

المقال الثانى : معنى كلمة ( عذاب )

المقال الثالث : ( ذوق العذاب )

المقال الرابع :   وصف العذاب :

المقال الخامس : الفرق بين الابتلاء والتعذيب

الفصل الثانى : العذاب الالهى فى الدنيا  

  المقال الاول  : أسباب عذاب الدنيا :

 المقال الثانى : وقوع العذاب: من الله جل وعلا  

المقال الثالث  : تعذيب الأمم البائدة فى الدنيا

الفصل الثالث : إستعجال العذاب

المقال الأول :  الكافرون وإستعجال عذاب الدنيا

المقال الثانى :  الكافرون وإستعجال عذاب الآخرة  

المقال الثالث :    العذاب يأتى فجأة ( بغتة  ) ( وهم لا يشعرون )

الفصل الرابع : بين اللعن والتعذيب                                                     

المقال الأول : معنى اللعن  

المقال الثانى : الشيطان اللعين الرجيم وإيقاع البشر فى عذاب الجحيم

المقال الثالث : تفصيلات فى اللعن

المقال الرابع : اللعن فى آلية التعذيب : القريبون ... والملعونون المُبعدون

الفصل الخامس : مكان العذاب يوم القيامة

المقال الأول :   المكان والزمان والسرعة والعُلُوّ فى هذه الدنيا

المقال الثانى :  ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) ابراهيم )

المقال الثالث : معضلة ( المكان ) فى الآخرة

الفصل السادس : الوعظ لتفادى العذاب

المقال الاول :   الوعظ تبشيرا بالنعيم وبالعذاب

المقال الثانى :   طرق من الوعظ لتفادى العذاب

الفصل السابع : فى العذاب : وما ربك بظلام للعبيد

المقال الأول : فى العذاب : الله جل وعلا لا يظلم أحدا  

المقال الثانى : بين الرحمة والعدل

المقال الثالث :  لا رحمة ولا نور

المقال الرابع : الغفلة  

المقال الخامس : آلية العذاب : بسيئاتهم يتعذب الكافرون فى جهنم  

المقال السادس : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) يونس ).

الفصل الثامن : التعذيب فى مصر فى رؤية قرآنية

المقال الاول : مصر ( ام الدنيا ) فى التعذيب .!

المقال الثانى : مملكة التعذيب الفرعونى : مملكة الخوف  

المقال الثالث : مملكة التعذيب الفرعونية: لمحات من سورة القصص

المقال الرابع : مملكة التعذيب الفرعونية وتغييب الشعب المصرى

المقال الخامس : الدولة الفرعونية العميقة ( فى التعذيب )

الخاتمة

 

 

الفصل الأول : معنى العذاب والتعذيب

(المقال الأول )  : الأرضية التى يزدهر فيها التعذيب : تعذيب البشر للبشر

أولا : لا كهنوت فى الدولة الاسلامية

1 ـ  حيث يسيطر الكهنوت الدينى تنعدم الحرية الدينية ، وتزدهر الحروب الدينية والمذهبية و المحاكمات الدينية والتخلص من المخالفين فى الدين وفى المذهب ب ( حدّ الردة ) و ( من بدل دينه فاقتلوه ) و ( الزندقة ) و ( التارك لدينه المخالف للجماعة ) و ( الهرطقة ) . الاسلام ضد هذا الكهنوت المسيطر والذى يغتصب سُلطة الله جل وعلا ويقيم محاكمة فى الدين قبل يوم الدين .

2 ـ  وفى الدولة الاسلامية الحقيقية لا إكراه فى الدين . والمواطنة فيها حسب الاسلام السلوكى الظاهرى بمعنى السلام ، وكل إنسان مسالم فهو مواطن فى الدولة الاسلامية ، يتمتع  فيها بحريته الدينية بلا قيود أو حدود ، ويمتع بالعدل وسائر حقوقه وبالمساواة مع الآخرين ، وكان هذا وضع المنافقين فى دولة النبى حيث مارسوا أقصى المتاح لهم فى المعارضة الدينية التى وصلت الى ايذاء النبى والسخرية بالقرآن الكريم والصّد عن سبيل الله وإقامة مسجد للتآمر ، ولا يتعرض لهم أحد سوى بالاعراض عنهم ، طالما لا يرفعون سلاحا.

3 ـ وخارج النفاق كان هناك صحابة مؤمنون بمعنى إلتزام الأمن مسلمون بمعنى إلتزام السلام ، أى مسالمون . وفى حياتهم الدينية كانوا يعكفون على تقديس القبور ( الأنصاب ) ويشربون الخمر ويلعبون الميسر ويحترفون اللعب بالأزلام ، أى الكشف عن الغيبيات . ولم يمنعهم الرسول لأنه لم يكن عليه سوى البلاغ . وكان هذا من أواخر ما نزل فى القرآن الكريم فى خطاب مباشر من رب العزة للمؤمنين المسالمين من الصحابة عُبّاد( الأنصاب ( القبور المقدسة ،قال لهم جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) المائدة ) .

4 ـ كان هذا فى دولة ليس دورها إدخال الناس للجنة ، لأن الهداية مسئولية شخصية ، ومن إهتدى فلنفسه ومن أساء فعليها :   ( يونس 109 ، الاسراء 15 ، النمل 92 ، الزمر 41 ،)، ولأن، للدين ويوما هو يوم الدين الذى سيحكم الله جل وعلا بين الناس فيما هم فيه مختلفون ( الزمر 7 ،  46 )

5 ـ  هذه الحرية الدينية فى الدولة الاسلامية تمنع من الأساس وجود الكهنوت ، والنبى نفسه لم يكن كهنوتا فلم يأخذ من الناس أجرا ، ولم يكن مسئولا عن هداية أحد ، ، قال جل وعلا له : ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (272) البقرة )أى من يشاء الهداية بمشيئته الشخصية يهده الله .  وقال له ربه جل وعلا  انه مجرد مبلّغ للرسالة وليس عليهم  بمسيطر ( الغاشية 21 : 26  ) وليس عليهم وكيلا موكلا مسئولا عنهم ( الأنعام 66 ، 107 ، يونس 108 ، الاسراء 54 ، الفرقان 43 ، الشورى 6   ) )، بل هو مأمور أن يقول لهم : ( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) الزمر  ) تركهم يعبدون ما يشاءون إنتظار للحكم الالهى عليه وعليهم يوم القيامة.وتكررهذا فى سور : (الانعام 135 ، هود 121 / 122 ) .)

6 ـ لم يحدث تعذيب فى دولة النبى محمد عليه السلام فى ظل هذه الحرية الدينية ، هذا مع أن النبى والمؤمنين معه تعرضوا لاضطهاد فى مكة . وكان الرّدُ فى دولة المدينة تسامحا لا مثيل له ، وحرية دينية لا نظير لها ، وبهذه الحرية دخل العرب فى دين الله أفواجا ، دخلوا فى الاسلام بمعنى السلام . ثم تغيرت الأمور وتبدلت .

ثانيا : لا إستبداد فى الدولة الاسلامية :

1 ـ الشورى في الدولة الاسلامية تعنى الديمقراطية المباشرة . ومن أُسُسها الاسلامية  الدينية :

1 / 1   أن الحاكم  يكون مساءلا أمام الشعب ، لأن الله جل وعلا وحده هو الذى لا يُسأل عما يفعل : ( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) الأنبياء  )، وبالتالى فإن الحاكم المستبد الذى يستنكف من مُساءلة الشعب له إنما يرفع نفسه الى درجة الألوهية ، أى ينازع رب العزة جل وعلا فى ألوهيته .

1 / 2   والنبى كان مأمورا بالشورى ـ وهو النبى الذى يأتيه الوحى ، وبالتالى فإن من يستنكف من الشورى الاسلامية إنما يرفع نفسه فوق مستوى النبوة ـ أى يزعم لنفسه الألوهية . ولهذا فإن المستبد هو مُدّع للألوهية صراحة أو ضمنا .

2 ـ والدساتير الديمقراطية تجعل الأمة أو (  الناس ) هم مصدر السلطة ، وهى توكل بهذه السلطة هيئات تمثل الأمة ، وتكون مساءلة أمام من ينوب عن الأمة ومن يمثلها  . والشورى الاسلامية لم تعرف الديمقراطية النيابية أو التمثيلية ، بل هى الديمقراطية المباشرة ، وتعرضنا لتفصيلاتها فى كتاب منشور هنا .

3 ـ والنبى محمد عليه السلام حين كان قائدا لدولة المدينة كان يستمد سلطته ـ ليس من الله جل وعلا ـ ولكن من الناس ، ولذا أمره الله جل وعلا أن يكون لينا فى التعامل معهم ، وان يعفو عنهم ويستغفر لهم وأن يشاورهم فى الأمر لأنهم أصحاب الأمر ، ولأنه لو كان فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله ، ولو إنفضوا من حوله فلن تكون له سُلطة ولن تكون حوله دولة ، لأنه بقوتهم وأجتماعهم حوله صارت له دولة وسلطة إستمدها منهم ، فهم مصدر السلطة . هذا مفهوم من قوله جل وعلا لخاتم النبيين :  ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) آل عمران).

ثالثا : حاجة المستبد الى التعذيب

1 ـ النبى محمد عليه السلام كان مأمورا بأن يكون لينا ، ومنهيا أن يكون فظا غليظ القلب لأنه يستمد سلطته من الناس ، وهو نفس الحال مع الديمقراطيات الحديثة ، حيث يكون ممثلو السلطة خدما للشعب ، يتحببون اليه ليبقوا فى مناصبهم ، ثم هم تحت المساءلة ويتعرضون للعزل والمحاكمة والعقاب لو أخلّوا بالمسئولية ، وتكون التهمة هى الخيانة العظمى ، أى بقدر المسئولية .

2 ـ وعلى النقيض ، فالمستبد   فظ غليظ القلب ، يستخدم جيشه وقواته المسلحة الأمنية والعسكرية فى قهر الشعب ، والتعذيب ضرورى لفرض سيطرته ، ليس فقط فى الانتقام ممّن يعارضه قولا أو فعلا ، ولكن ـ وهذا هو الأهم لأنه بالتعذيب يُرهب  ــ مقدما ــ من يفكّر فى المعارضة . المستبد يتشبث بالسلطة لأنها بالنسبة له مسألة وجود ، حياته أو موته . إما أن يظل حيا فى عرشه ، وإما أن يفقد حياته وعرشه وأمنه . لكى يشعر بالأمن  ( الظاهرى ) لا بد أن يكون التعذيب روتينيا و عشوائيا ، ولا بد أن تصل أنباء التعذيب وصرخات المعذبين الى الشعب . وهو يرى أن تعذيب عشرات الألوف يكفيه لارهاب عشرات الملايين . وبالتعذيب يظن نفسه قد أسكت الناس وأخرسهم .

3 ـ ولكى يمارس التعذيب آمنا ، ولكى يستمر فى إستبداده فلا بد له من كهنوت دينى يسبح بحمده ويتعيش من فُتات مائدته العامرة بالسُّحت . وأعوانه من الكهنوت الدينى  لا بد أن يستمدوا منه النفوذ . والكهنوت الدينى هو الأكثر تأثيرا فى الأغلبية ،وأكثرهم من  العوام . وهذه الأغلبية بجهلها تقع أسيرة لرجال الكهنوت . طاعة الأغلبية للكهنوت هى طاعة للمستبد ، لذا يحرص المستبد  على كهنوته الدينى ويسارع الى معاقبة من يجرؤ على مناقشة كهنوته الدينى ، ليظل الناس فى جهل دينى ، فبالجهل الدينة بالذات يكون الشعب مطية للمستبد ، خانعا له ، يتغنى بمواويل الصبر .  

4 ـ الاسلام هو أكبر خطر على المستبد ، بشهادته أنه ( لا إله إلا الله)  وعدم تقديس البشر وبشريعته الديمقراطية وبما جاء فى القرآن عن خاتم المرسلين فى دعوته وفى نظام حكمه. أخوف ما يخافه المستبد هو دعوة رب العزة جل وعلا فى كل الرسالات الالهية الى أن يقوم الناس بتحقيق العدل والقسط ، قال جل وعلا  : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد  ). لا يمكن أن يتحقق هذا إلا بالوعى بحقائق الاسلام . ولا يمكن أن يتنازل المستبد طواعية عن سلطانه ، أى لا بد من اللجوء الى الحديد والبأس الشديد .

5 ـ لذا فإن التحول الديمقراطى لا بد أن يبدأ بتقرير حرية الدين وما يتبعها من حرية الرأى والفكر والابداع . المستبد يركب الكهنوت الدينى ، وهذا الكهنوت الدينى يركب الشعب . وهذا الكهنوت الدينى جهل مركب لأنه مستمد من دين أرضى مبنى على الخرافات والأوهام التى لا تصمد أمام أى نقد ، وتحتاج الى سيف المستبد ليحميها من النقاش وليفرضها على الناس . بفتح نوافذ الحرية يسقط الكهنوت الذى يحتمى به والذى يركبه المستبد . بسقوط الكهنوت وبسقوط سيطرته على الاعلام وأفئدة الناس تسقط هيبته ، وينتهى الى زوال .

6 ـ وفى قيامنا بنشر الوعى بالاسلام نتعرض نحن أهل القرآن الى حرب مزدوجة من المستبد الشرقى ومن الكهنوت ، وهم مع إختلافاتهم بين سُنّة وشيعة يتّحدون ضدنا ، ويعملون ما فى وسعهم فى التعتيم علينا ، حتى فى أمريكا .

7 ـ أمريكا بلد الحرية ، وهى أيضا بلد الدولار و ( اللوبيات ) أى مراكز الضغط السياسى ، حيث يتحكم من له مال فى توجيه السياسة بقدر ماله من مال ، وبقدره يفوز على المنافسين ، وهذا فى سوق مكشوفة ومفتوحة لكل جماعات الضغط . ونحن فيها مثل ( الأيتام  على مائدة اللئام ).!

والسعودية منبع الارهاب الوهابى هى التى تقدم نفسها لأمريكا مناضلة ضد الارهاب . ليس مهما أن يصدقها الشعب الأمريكى الذى لا يعلم كثيرا عما يجرى خارج امريكا ، المهم هو شراء أصحاب النفوذ . وهذا هو ما ينجح فيه اللوبى السعودى . ونحن ندفع الثمن تعتيما ، نظل نصرخ فى الهواء ، وأكثر ما نحصل عليه هو الرثاء .!!

 




المقال الثانى : معنى كلمة ( عذاب )

أولا :

مقدمة : كلمة ( تعذيب ) لم تأت فى القرآن ضمن مصطلح ( عذاب ) ومشتقاته . ونتتبع مفهوم ( عذاب ) قرآنيا .

أولا : عذاب بمعنى الخسارة المالية والعينية :

1 ـ ضرب الله جل وعلا مثلا لعاقبة البخل  بفتية يملكون حديقة ، وقد عزموا على منع المساكين حقوقهم من ثمر الحديقة ، فأحرقها الله جل وعلا :( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ (21) أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) القلم )، وسمّى الله جل وعلا إحراقها بأنه ( عذاب ) وقال عن عذاب الآخرة إنه (أكبر ) : ( كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) القلم ).

2 ـ هذا عذاب دنيوى ـ وسنتعرض لعذاب الدنيا بتفصيل قادم . وسنعرف أن هناك عذابا دنيويا يكون عقابا ، قد يتوب من يعانيه ، فلا يكون من المعذبين يوم الدين . وهؤلاء الفتية الذين بخلوا ثم رأوا حرق حديقتهم إعترفوا بالذنب ، والمفهوم من إعترافهم بالضلال والطغيان ثم التسبيح والدعاء أنهم تابوا. وقوله جل وعلا : ( كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)  (33) لا يعنى بالضرورة أنهم من أصحاب النار فى الآخرة ، لكنه يعنى أن عذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.

3 ـ وهو مثل لوعظ البخلاء ، والله جل وعلا توعد البخلاء بعذاب فى الدنيا، نفهمه من قوله جل وعلا للصحابة وللمؤمنين :  ( هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) محمد ) ، وبعذاب أخروى إن لم يتب الباخلون ، قال جل وعلا  ( َلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)آل عمران ).

ثانيا : العذاب بمعنى عقوبة الزنا

1 ـ الجلد ـ وليس الرجم ـ هو لمن يثبت عليه أنه إرتكب الزنا من ذكر وانثى ، محصنا متزوجا أو غير محصن ، هذه العقوبة إن لم يتب توبة علنية . إن تاب أصبح وصفه ( تائبا ) ، من يصمم على الزنا يستحق لقب الزانى / الزانية . وعقوبة الجلد أن تكون علنية وعظا ، قال جل وعلا : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (2) النور ).

2 ـ ولقطع الطريق مقدما على أولياء الشيطان الذين إفتروا أن عقوبة الزنا هى الرجم  للمحصن والمحصنة ـ جاء وصف العقوبة بالعذاب ـ وليس الموت والقتل.

2 / 1  ـ فيما يخص ملك اليمين التى تكون عقوبتها نصف المحصنة الحرة أى خمسين جلدة : ( فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ )(النساء 25 ))  ) فعذاب المحصنات الحرائر 100 جلدة ، والمملوكة خمسون فقط .

2 / 2 : وهناك تضعيف العقوبة لأزواج النبى لو إرتكبت إحداهن نفس الجريمة:( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ) ) الاحزاب 30 ) .)

2 / 3 : ،وقال جل وعلا عن الزوجة التى يتهمها زوجها بالزنا : ( وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ  إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ) (النور 8 ). ) هى زوجة محصنة وعقوبتها الجلد .

3 ـ الجلد عذاب بعقوبة يمكن تضعيفها ويمكن تنصيفها ، ولكن القتل رجما ليس عذابا ولا يمكن تضعيفه أو تقسيمه .

4 ـ عقوبة الجلد فى الزنا تتضمن تشهيرا(  وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (2) النور ). هذا التشهير يعنى الخزى والاهانة ، وهى عقوبة نفسية مضافة الى العقوبة الجسدية للجلد .

ثالثا : العذاب الجسدى والعذاب النفسى ( الخزى ) فى الدنيا :

1 ـ الشعور بالخزى والعار عذاب مؤلم ، ويمكن أن نتعرف عليه من موقف النبى لوط  من قومه حين جاءوا الى بيته يريدون الفسق بضيوفه ، فقال لهم : ( واتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ ) (الحجر 69 ). ) وفى تفصيل أكثر: (  وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ۚ قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ  ) هود 78 ))

2 ـ وهناك عذاب الخزى وحده:

2 / 1 : وهو ينتظر رجال الكهنوت الذين يتحكمون فى المساجد ، وهم من أظلم الناس ، قال جل وعلا : (  وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) البقرة ) ، لهم خزى فى الدنيا وعذاب عظيم فى الآخرة .

2/2  ـ أيضا ذلك الذى يجادل فى آيات الله ليضل الناس عن سبيل الله جل وعلا :  ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ  الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ )الحج 9 ))

3 ـ وهناك عذاب الخزى مع العذاب فى الدنيا فيما فعله فرعون ببنى اسرائيل ، فرعون عذّب بنى اسرائيل عذابا شديدا ، كان يقتل أبناءهم ويستحيى نساءهم ، أى جمع مع القتل الاهانة والخزى ، قال جل وعلا يصف هذا العذاب إجمالا(  وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) الدخان 30 ))

4 ـ : وفى إهلاك الأمم السابقة إقترن عذابهم الجسدى بالاهلاك مع الخزى.

4 / 1 : قال جل وعلا عنهم جميعا : ( كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ  ) الزمر 26 ). ) سمّى الله جل وعلا إهلاكهم أو عذابهم بالخزى ، ثم ينتظرهم عذاب فى الآخرة أكبر .

4 / 2 :    كان قوم نوح يسخرون منه وهو يصنع السفينة إنتظارا للطوفان القادم: ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ) وردّ عليهم نوح عليه السلام :( قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) هود 39 ). ) أى الطوفان قادم بعذابهم وإغراقهم وخزيهم ،ثم سيحل بهم عذاب مقيم بعده فى البرزخ .

4 / 3 :    بعدهم قوم عاد الذين كفروا برسالة نبيهم هود عليه السلام . وعن إهلاك أو عذاب قوم عاد قال جل وعلا ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ ۖ وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ  ) فصلت 16 ). ) هنا عذاب مُسمّى بالخزى فى هذه الحياة الدنيا ، ثم عذاب الأخرة أخزى .

4 / 4  : بعدهم قوم ثمود ، وقد كذبوا رسالة نبيهم صالح ، وكان إهلاكهم عذابا وخزيا ، قال جل وعلا :(  فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ۗ ) هود 66 ))

4 / 5  : وفيما بعد تكرر نفس الحال فى قوم مدين مع نبيهم شعيب . قال لهم  شعيب عليه السلام: ( وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ۖ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ  ) هود 93 ))

4 / 6 .   نجا من هذا الخزى أو الاهلاك أو العذاب قوم يونس الذين سارعوا بالايمان حين شاهدوا بوادر الاهلاك ، فكشف الله جل وعلا عنهم هذا الخزى والعذاب ، قال جل وعلا :  ( فَلوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ  ) يونس 98 ) )

5 ـ( الخزى )  كعقوبة نفسية نجدها فى عقوبة الارهابيين الذين يقتلون الأبرياء ويسلبون أموالهم ، ويقطعون الطريق ، مثل الدواعش وأمثالهم ، يقول جل وعلا : ( إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ  ) المائدة 33 ). ) هنا عقوبة جسدية ( القتل والتقطيع ) وعقوبة نفسية( خزى )، وينتظرهم عذاب عظيم فى الآخرة .

رابعا : العذاب / الخزى مع عذاب الآخرة :

1 ـ يصف الله جل وعلا عذاب الكافرين يوم القيامة بأنه  مهين وأنه أليم :( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) البقرة )( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) البقرة) ، أى هو مهين للنفس ـ أى خزى ، وهو أليم للجسد .!

2 ـ وعموما فإن كل من يدخل النار فهو فى خزى ، أخزاه الله جل وعلا ، وهذا هو ما يدعوه المؤمنون يقولون : ( ربَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) ( رّبنا َوَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) آل عمران 192 ، 194  ) وقالها جل وعلا فى حكم عام أن الخلود فى جهنم يعنى الخزى العظيم ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ) التوبة 63 ). ) قد يتندر بعضهم على هذا ، وسيكون جزاؤه الخزى العظيم فى عذاب يوم الدين .

3 ـ خزيهم الأعظم حين لقاء الرحمن جل وعلا ، وهو جل وعلا الذى يخزيهم : ( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ۚ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ  ) النحل 27 ))

4 ـ ولهذا أمر الله جل وعلا رسوله أن يقول لقومه أن يظلوا على ماهم عليه وسيظل هو على ما هو عليه الى أن يأتى يوم القيامة ، وعندها سيعلمون من سيحل به عذاب يخزيه ويظل خالدا فيه : (  قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) الزمر 40 ).)

5 ـ وسينجو من هذا الخزى يوم القيامة النبى والمؤمنون التائبون ، الذين تحيط بهم أنوار الهداية رحمة من الرحمن جل وعلا . قال جل وعلا يدعو المؤمنين للتوبة النصوح :  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) التحريم  8 ) )



المقال الثالث : ( ذوق العذاب )

 مقدمة

1 ـ يتكون الانسان من نفس وجسد . تنتمى النفس الى عالم برزخى أتت منه فاحتلت الجنين الخاص بها فصار إنسانا ، ثم خرجت به طفلا ، وعاشت تسيطر على جسدها بمثل ما يسيطر السائق على سيارته ، ترتاح النفس من سجن الجسد فتعود لبرزخها يوميا بالنوم ، ثم حين يأتى أجلها تغادر جسدها نهائيا بالموت ، عائدة الى برزخها الذى أتت منه .

2 ـ ( حواس ) الجسد تتجمع نهاياتها فى جزء أعلى من الجسد هو ( المخ ) ، وهو قاعة التحكم للنفس . والنفس هى التى ( تُحسُّ ) بما يصل اليها من مشاعر اللذة أو الألم ، والسعادة أو الحزن .

3 ـ ولآن النفس أكبر وأعمق من سجنها الجسدى فهى تتحرر منه منطلقة فى التصور وفى التفكير وفى أحلام اليقظة . ولأنها أكبر وعمق من جسدها فإن أحاسيسها بالمتعة أو بالعذاب لا يستطيع اللسان البشرى التعبير عنها . لذا فهناك فجوة هائلة بين الاحساس النفسى وبين المقدرة على وصفه بدقة . الانسان يحسُّ باللذة الجنسية ، ولكن لا يمكنه وصفها وصفا علميا دقيقا . هناك أنواع مختلفة من الألم ، ألم الصداع مختلف عن التهاب المفاصل عن قُرحة المعدة عن حصوات  الكلى ..الخ . ولكن من الصعب التفريق بينها بدقة تساوى درجة الاحساس بها وبما يميّز بينها . يعرف الانسان الفرق بين طعم البطاطس والكوسة والقلقاس ، كما يعرف الفرق بين طعم التفاح والكمثرى ، والفرق بين اللوبيا والفاصوليا وبقية البقوليات . هى أنواع متقاربة فى الشكل وربما فى الطعم ، ولكن هناك فروقا بينها تميزها النفس ولا تستطيع وصفها بسبب عجز جسدها عن التعبير.

4 ـ من ضعف الجسد أن له طاقة محدودة فى تحمل الألم ، إذا تعداها غابت عنه النفس بالغيبوبة ، ولم يعد يحس بالألم . وإذا أوصل المرض أو الجُرح الى الجسد الى الموت فإن الجسد أيضا يفقد الاحساس بالألم ، ويدخل فى غيبوبة الموت . نفس الحال فى الاحساس باللذة . هناك أيضا حد أقصى للشعور باللذة ، لا يستطيع الجسد تجاوزها ، عند هذا الحد تفقد النفس الاحساس باللذة ، وإذا حاول الانسان تعدى هذا أوقع نفسه فى الألم وفى تدمير نفسه . يختلف الحال حين تتحرر النفس من هذا الجسد الهالك المتهالك ، فتكون فى الآخرة قابلة للإحساس بالعذاب بلا حد أقصى ـ لو كانت فى النار ، كما تتمتع بالنعيم بلا حد أقصى إذا كانت فى الجنة .

5 ـ التعذيب أو  ( العذاب ) شىء نعرفه بالاحساس ، سواء كان عذابا جسديا أو نفسيا بالخزى والاهانة .  بدون الاحساس لا يوجد تعذيب . وبدون الاحساس لا توجد اللذة.

6 ـ المصطلح القرآنى هنا هو (ذاق ) ومشتقاته. ونعطى بعض التفصيل:

أولا : ( ذاق )  ليس لنعيم الجنة

لا يأتى مصطلح( ذاق ) مطلقا فى وصف نعيم الجنة . هو يأتى فى وصف عذاب النار . هذا يعنى أن نعيم الجنة لا يمكن وصف تذوقه ، هو فوق ما نتصور ، هو كما قال رب العزة جل وعلا  : ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) (17) السجدة)، لذا يأتى التعبير عنه بالاسلوب المجازى التشبيهى وليس الحقيقى كما جاء فى الآية 15 من سورة ( محمد  ) . أما عذاب الآخرة فيأتى بتفصيلات حقيقية مفهومة يمكن تخيلها ، وهى مصحوبة أحيانا بمصطلح ( ذاق )

ثانيا :  ( ذاق ) فى الدنيا : لذة وعذابا

مصطلح ( ذاق ) يأتى فيما يخص الدنيا عن تذوق النعمة وأيضا تذوق النقمة ، أى عن تذوق اللذة وتذوق الألم . ونعطى أمثلة :

1 ـ فى تذوق النعمة :(   وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ  ) (46) الروم ).


2 ـ فى تذوق العذاب : عذاب الدنيا  :

2/ 1 : فى التشريع العقابى : الذى يقتل الصيد فى الحرم متعمدا عليه تقديم هدى من الانعام مماثل للصيد الذى قتله أو ما يعدله منصيام أو صدقة ليذوق عقابه، قال جل وعلا : (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ) (95) المائدة )

2 / 2 : ذوق العذاب فى الاهلاك الكلى :جاء قصص موجز عن إهلاك الأمم السابقة فى سورة ( القمر ) وكان التعليق يتكرر بقوله جل وعلا لهم : ( فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ).

وفى تفصيل عن إهلاك قوم ( عاد ) قال جل وعلا :  ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16)  فصلت ). ظلوا يذوقون عذابا مهينا تحت قصف الريح تحملهم وتهوى مدة اسبوع .

2 / 3 ـ انتهى الاهلاك العام لقوم بعينهم ، وبدأ عصر التعذيب بالاهلاك الجزئى  ، وقبل الفتنة الكبرى بين الخليفة ( على بن أبى طالب ) وخصومه جاء النبأ بها مقدما فى قوله جل وعلا : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ  )(65) الانعام ). ولأن المحمديين حولوا مجرمى الخلفاء الى آلهة فلا يزالون يسيرون فى نفق الفتنة الكبرى حتى الان ، يقتتلون شيعا واحزابا ، ( يذيق) بعضهم بأس بعض .!

2 / 4 :وقد توعّد رب العزة من ينوى الالحاد والظلم فى البيت الحرام بعذاب أليم ، مفهوم أنه الدنيا قبل ألاخرة ، قال جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) الحج ) .هذا عن مجرد النية فقط ، فكيف بالعدوان والحرب داخل الحرم ؟ وقد وقع ذلك كثيرا فى تاريخ العرب   .!

2 / 5 : وقد حذّر رب العزة المؤمنين من استغلال الدين فى التجارة بيعا وشراءا ، قال جل وعلا: ( وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) النحل ) . والآن يخلط المحمديون الدين بالسياسة ، ولنا كتاب منشور حلقاته هنا بعنوان ( تحذير المحمديين من خلط السياسة بالدين )..

2 / 6 : وعموما عندما يسود الفساد فى دولة ما فإن أهلها يدفعون الثمن ، يذوقون التلوث والفتن والاضطرابات ، قال جل وعلا :(  ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)  الروم )

3 ـ فى تذوق الرحمة وتذوق العذاب والنقمة :

3 / 1 : عادة الانسان غير المؤمن أنه هلوع عندما يذيقه الله جل وعلا مصيبة ، فيقع فى اليأس ، فإذا أذاقه الله جل وعلا نعمة إغتر وكفر بالنعمة وأنكر الآخرة ، وتكرر وصف هذا فى القرآن الكريم . قال جل وعلا(  لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) فصلت  ). ( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) الروم ) ( وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ (48) الشورى )( وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلْ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) يونس )

3 / 2 : لا يفعل هذا المؤمنون الصابرون الصالحون ، قال جل وعلا:  ( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) هود )

ثالثا :  ( ذاق) فى الموت :

1 ـ قبل أن نأتى الى هذه الحياة الدنيا كانت أنفسنا ميتة فى البرزخ ، ثم أحياها الله جل وعلا بجسد تعيش فيه وتتحرك به فى هذه الكرة الأرضية ، ثم تموت تاركة جسدها تعود للبرزخ ، ثم يكون البعث بحياة أخرى أبدية فى الجنة أو النار . أى نحن كنا أمواتا فأحيانا رب العزة جل وعلا ، ثم يميتنا ، ثم تكون الحياة الأبدية ، قال جل وعلا(  كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) البقرة). نحن لا نتذكر وقت موتنا فى البرزخ ، لأننا لم نذقه . لكى نذوق الموت لا بد أن نكون احياء ثم نحسُّ بالموت أو نذوق الموت . لذا فالموت فى هذه الحياة الدنيا هو فقط الذى نشعر به ونذوقه ، ويكون بالنسبة لتذوقنا إياه أنه الموتة الأولى . وهذا مفهوم من قوله جل وعلا: ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى )(56) الدخان ).

2 ـ عند الموت يكون الفرد إما صالحا من أولياء الله جل وعلا أو يكون فاسقا من أولياء الشيطان . ولا توسط هنا . المتقون تتلقاهم الملائكة بالتحية وتبشرهم بالجنة وأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . ، كما جاء فى : (  يونس 62 : 64 ، فصلت 30 : 32 النحل 32 الاحقاف13 ) أما أولياء الشيطان فتتلقاهم الملائكة بالصفع والركل ، ليس لأجسادهم بل لأنفسهم ، فالنفس كائن برزخى يحمل ملامح الجسد الذى كان يحتله ، قال جل وعلا :ـ( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) محمد) ، وعن تذوقهم هذا العذاب قال جل وعلا  ( وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) الانفال )

رابعا ( ذاق ) فى عذاب الآخرة

1 ـ عن تذوق الجن للعذاب فى الآخرة قال جل وعلا :  ( وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)  سبأ ) .أما الكافرون من البشر فقد تنوع الحديث القرآنى عن تذوقهم العذاب .

2 ـ أحيانا يوصف بأنه عذاب كبير للظالمين ( وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً (19) الفرقان )

3 ـ أو أنه عذاب شديد لأعداء القرآن الكريم :(  وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) فصلت ).

ومثله قوله جل وعلا عن أصحاب الأحاديث الضالة : (  قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمْ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) يونس )( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)  الحج ).

وسيقال لرجال الكهنوت الذين يكنزون الأموال السحت تقريعا وتأنيبا : ( هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُون ). وقال جل وعلا :  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) التوبة)

وهناك معاملة خاصة مع أئمة الضلال فى النار ، إذ مع إستمرار تعذيبه يتم تذكيره بسخرية، يقال له : (  ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) قال جل وعلا فى وصف عذاب وإهانته : ( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) الدخان ) . وأئمة الأديان الأرضية عليهم أن يتذكروا جيدا هذه الآيات الكريمة ــ ليتوبوا قبل فوات الأوان

4 ـ وعموما سيقال لهم أن يذوقوا العذاب على سبيل التقريع والاهانة والتحقير ، وتكرر هذا كثيرا فى القرآن الكريم فى مواقف متعددة وبخطابات متنوعة ، منها :  ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) آل عمران)( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (30 ) الانعام) ( وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35) الانفال )( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39) الاعراف )( وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) آل عمران )( ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) يونس )( ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ(14) الانفال ) ( فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) السجدة ) ( فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) سبأ ) (   وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) الزمر ) ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) الاحقاف ) ( هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) ص )

5 ـ وسيقال لهم هذا مع خلودهم فى النار ، كلما نضجت جلودهم نبتت جلود غيرها   ليذوقوا العذاب . قال جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) النساء ) ، كلما أرادوا الهروب اُجبروا على العودة حتى يذوقوا العذاب ، قال جل وعلا (  وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) السجدة )، وفى شرح لهذا قال جل وعلا :( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) الحج ). الحريق فى هذه الدنيا يتم إطفاؤه ، ويستريح المحترق بالموت ، ولكن حريق السعير خالد ولا خروج منه ولا تخفيف فيه .!

6 ـ وسيقال لهم هذا والعذاب يكتنفهم محيط بهم : (  وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) العنكبوت  ).

7 ـ وسيقال لهم هذا وهم يصطرخون فى العذاب يرجون الخروج بلا فائدة :  ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) فاطر ). وسيقال لهم هذا وهم يطلبون التخفيف فتأتيهم الاجابة : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً (30) النبأ )

8 ـ وسيقال لهم هذا وهم يُسحبون فى النار على وجوههم :  ( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) القمر)


المقال الرابع :  

وصف العذاب :

مقدمة :

1 ـ النفس هى التى تتذوق العذاب ، أو التى تحس بالعذاب ، إذا غابت عن جسدها بالاغماء أو بالتخدير لم تشعر بالعذاب ، فجسدها الضعيف هو وسيلة إتصالها بالعالم المادى ومؤثراته من خلال الحواس من السمع والبصر واللمس والجلد .

2 ـ يختلف الحال فى الآخرة . فهى بنفسها بدون ذلك الجسد الفانى . أصبح لها جسد آخر خالد لا نهائى ، ترتديه ، هو عملها الذى تأتى يوم القيامة تحمله على ظهرها . إذا كان عملا صالحا يصبح نورا فى البعث ، وتدخل به الجنة تتمتع بهذا العمل الصالح . إذا كان عملا سيئا تحول الى نار خالدة تشتعل فيها، ويستمر تعذيبها به فى جهنم .

3 ـ وبهذا فنحن الذين نختار مستقبلنا يوم القيامة ، من يشأ ويقرر دخول الجنة ويعمل لها عملها الصالح وهو مؤمن ، سيدخل الجنة ، لأن الله جل وعلا وعد بهذا ، وهو جل وعلا لا يخلف الوعد ولا يخلف الميعاد . وإذا نسى وغفل وشاء الدنيا وعصى وظلم فإن السيئات التى يرتكبها ستكون عذابه يوم القيامة ، وسيكون حطبا ووقودا للنار .

4 ـ  وفى الحالتين ، فأصحاب الجنة يتنعمون بعملهم الصالح الذى كان فى الدنيا ، لهم فيها حسنة:, (  قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ  ) (10) الزمر )، وسيقال لهم وهم فى الجنة ( وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) الاعراف ).

والعصاة يلقون عذابا فى الدنيا ثم فى الآخرة ، قال جل وعلا عن عذابهم فى الدنيا والآخرة : ( لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ۖ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ )(الرعد 34 )( )( وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) السجدة 21 )

وكما يتنعم أصحاب الجنة بعملهم الصالح فى الدنيا يتعذب المجرمون فى جهنم بما كانوا فى الدنيا يعملون، وسيقال لهم هذا :  (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (90) النمل ) .هو نفس الحال للجميع ، كل فرد يتنعم بعمله الصالح أو يتعذب بإجرامه فى الدنيا ، وسيقال للجميع :  ( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (54) يس )، وهذا طبقا لكتاب الأعمال الذى يتم فيه تدوين وكتابة ونسخ كل أفعالنا وأقوالنا فى هذه الدنيا ، يقول جل وعلا عن الأمم يوم القيامة : ( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29) الجاثية )..

5 ــ وبالتالى فلا يظلم ربك أحدا .أصحاب النار ما ظلمهم الله جل وعلا ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم :  ( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ (76)  الزخرف )، ونفس الحال مع من عذبهم الله جل وعلا فى الدنيا بالاهلاك من الأمم السابقة ، قال جل وعلا عنهم :( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ )(101) هود ).

6 ـ هذه مقدمة تمهد للوصف القرآنى للعذاب فى الدنيا وفى الآخرة .

ونعطى بعض الأمثلة :

أولا : مجىء نفس الوصف للعذاب

يأتى وصف ( أليم) للعذاب ، وهو صيغة مبالغة من الألم .

1 / 1 : يأتى تهديدا للمؤمنين بعذاب أليم لو تقاعسوا عن القتال الدفاعى( إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) التوبة 39 ))، أو تقاعسوا عن حضور مجالس الشورى :  ( لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النور 63 )).

1 / 2 : يأتى وصفا لعذاب الله جل وعلا للكافرين فى الدنيا.

عن إهلاك قوم عاد قال جل وعلا ( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ )الاحقاف 24 )، ) وصالح عليه السلام حذّر قومه من عقر الناقة قائلا:  ( وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) الاعراف ).

1 / 3 : ويأتى وصفا لعذابه للكافرين والمنافقين فى الآخرة : ( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) البقرة ) ( بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) النساء)  

1 / 4 : ويأتى وصفا للعذاب فى الدنيا والآخرة معا . توعّد رب العزة أولئك الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى مجتمع المؤمنين  بعذاب أليم فى الدنيا والآخرة : ( إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) ) النور)  19 ))، وقال عن المنافقين : ( فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ ۖ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) ) التوبة 74 )).

2 ـ ويأنى وصفا لتعذيب الكافرين للمؤمنين فى الدنيا، وقد قال أهل القرية لرسل ثلاثة :  ( قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ  ) يس 18 ) . ) وقالت زوجة العزيز لزوجها عن يوسف : ( مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ  ) يوسف 25 ))

3 ـ ويأتى وصف (مهين ) مرادفا لوصف ( أليم) ، ففى سورة البقرة ( وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) ( (104 ) دلالة على إقتران العذاب الجسدى بعذاب نفسى هو الخزى .

 ويأتى وصف ( عظيم ) مرادفا لوصف (أليم )

1 ـ  فى عذاب الكافرين فى الآخرة  : ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)  البقرة ) ( ولا تكونوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) آل عمران ) ( وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)  آل عمران).

2 ـ وفى الدنيا ، تهديدا للصحابة بعد موقعة بدر :  ( لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ  الانفال 68 ) ).

3 ـ وفى وصف عذاب الاهلاك للأمم السابقة :  ( وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ   ) الشعراء 156 ) ( ) ( فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) الشعراء 189 ) )

ونفس الحال مع وصف ( شديد) .

1 ـ  يأتى وصفا لعذاب دنيوى يلحق بالعصاة المترفين حين يتحكمون فى قرية أى مجتمع أو دولة :  ( وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا )  58 ) الاسراء ).

2 ـ وللجيل الأخير من البشر والذى يشهد قيام الساعة وتدمير العالم : ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَاللَّهِ شَدِيدٌ ) الحج 2  ).

3 ـ وللكافرين فى الدنيا عذاب ، حدث مثله مرتين لقريش ، فى مرة كان أشد من السابقة :  ( وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ  حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) المؤمنون 76 : 77 ) )

4 ـ وللكافرين فى اليوم الآخر :  ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) آل عمران ).

5 ـ ويأتى وصفا لعذاب الكافرين فى الدنيا والآخرة : ( فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) آل عمران ).

ثانيا : الفروق فى توصيف العذاب :

إحساس النفس بالألم يصل الى نهايته فى الدنيا عبر جسده المادى ، وأيضا يصل الى نهايته فى الآخرة بلا جسد مادى . ولهذا كان الاشتراك فى وصف العذاب بأنه أليم وشديد وعظيم . ولكن هناك فارقا  بين درجة الألم فى الدنيا والألم فى الآخرة ، وهناك أيضا فارق فى المدة ، فبينما هو وقت ضئيل فى الدنيا بعده تغيب النفس عن تذوقه والاحساس به وتدخل فى إغماءة تعود فيها الى موطنها الأصلى فى البرزخ فإن هذه النفس تتحمل عذابا أشد فى الدرجة بلا نوم وبلا إغماء ، وبلا نهاية ، بل فى خلود أبدى .

إن عذاب الآخرة أشد وأشقّ وأكبر من عذاب الدنيا . قال جل وعلا  فى المقارنة بينهما : ( لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ۖ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ) (الرعد 34 ) ( وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )  (21 ) السجدة) . ونعطى أمثلة إضافية :

1 ـ فى الكهنوت المتحكم الذى يمنع المؤمنين من مساجد الله قال جل وعلا :  ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) البقرة  ) .وصف عذابهم فى الآخرة بأنه عظيم يفيد أنه أكبر من الخزى الذى يلحق بهم فى الدنيا .

2 ـ عن الذين يسارعون فى الكفر بعد الايمان ، لم يقل رب العزة بقتلهم بما إخترعه أئمة المحمديين ( حد الردة )،  وإنما امرهم متروك للرحمن جل وعلا القائل عنهم للرسول : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) المائدة ).

3 ـ و عقوبة ( الارهابيين ) هائلة ، وهم الذين يقطعون الطريق ويعتدون على الآمنين الأبرياء وهى تتنوع حسب الجريمة  من القتل والصلب والتقطيع، وهى مجرد خزى فى الدنيا ، وينتظرهم فى الآخرة ما هو أفظع وأعظم ، قال جل وعلا : ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(  المائدة 33 ).)

4 ـ  وهو نفس الحال مع أقرانهم من أهل الكتاب الذين توعدهم رب العزة بالخزى فى الدنيا وأشد العذاب فى الآخرة :  ( إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ )(85) البقرة).  

5 ـ  مثلهم المسرفون المكذبون لكتاب الله من متبعى الأحاديث الضالة ، قال جل وعلا عنهم (  وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ  ) طه 127 ) ) ، لهم عذاب فى الدنيا ، ولكن عذاب الآخرة أشد من حيث درجة الألم ، وهو خالد وأبقى .

6 ـ الأشد عذابا هم أولئك الصحابة الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة ، وعاشوا قريبين من النبى وكتموا نفاقهم حتى لا يفضحهم القرآن الكريم وإلتزموا الطاعة والولاء فلم يعرف النبى حقيقتهم ، ثم بعد موته أصبحوا هم الخلفاء أصحاب الفتوحات والفتنة الكبرى . هؤلاء توعدهم رب العزة بعذاب دنيوى مرتين ، ثم بعذاب عظيم فى الآخرة ، قال جل وعلا :   ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) التوبة 101 ). ) . وبالتالى فهم لم يتوبوا بل عاشوا بعد النبى فى فسادهم وعصيانهم الى أن ماتوا به فاستحقوا العذاب العظيم يوم الدين .

أخيرا

فى كل الأحوال يقول رب العزة إنه مستغن عن عذاب الناس . لو آمنوا وشكروا ربهم فلا حاجة لتعذيبهم :  ( مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ) النساء 147 ) أى إن شكرتم وآمنتم فالله جل وعلا هو الشكور العليم .




المقال الخامس :

الفرق بين الابتلاء والتعذيب

نوجز الفروق بينهما فى الآتى :

أولا: التعذيب هو إنتقام الاهى  فى الدنيا والآخرة يلحق بالكافرين فقط ، ونعطى أمثلة :

1 ـ  تدمير الأمم السابقة ، قال جل وعلا :  ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) الروم ) ، هذا وصف لهم بالاجرام ، أى إستحقوا إنتقام الله جل وعلا بإهلاكهم وتعذيبهم بسبب إجرامهم ، بينما أنجى الله جل وعلا المؤمنين من بينهم . وقال جل وعلا  أيضا عن الأمم السابقة ومترفيها : ( فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) الزخرف )، ومنهم فرعون وقومه، قال عنهم جل وعلا : (( فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) الاعراف ) ( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) الزخرف )، وأصحاب الأيكة : ( وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) الحجر ).

2 ـ عذاب جزئى لقريش ، تمثل فى انتقام الاهى حلّ بهم مرتين : الأولى بعد أن أخرجوا النبى من مكة ، قال جل وعلا لخاتم النبيين : (  فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) الزخرف  )، وقال جل وعلا عن عذابهم الأول فى حياة النبى محمد عليه السلام :( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمْ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) الدخان  ). وقال جل وعلا عن العذاب الآخر الذى حلّ بهم بعد موت النبى وهو الفتنة الكبرى ، والتى عادوا بها للكفر فإستحقوا البطشة الكبرى : ( إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16) الدخان ).

3 ـ وهذا الانتقام الالهى مستمر بالتعذيب يحلُّ بمن:

3 / 1 : يعرض عن القرآن الكريم ، قال جل وعلا :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22)السجدة ).

3 / 2 : الذين يتعمدون إنتهاك حُرمة المسجد الحرام بقتل الصيد ، قال جل وعلا :(  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (95) المائدة )، وهو عذاب يلحق بمن يريد ــ مجرد إرادة ـ الالحاد والظلم فى الحرم ، قال جل وعلا :  ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) الحج )

4 ـ هذا عدا الانتقام الالهى فى الآخرة ، قال جل وعلا : (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) آل عمران )( فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) ابراهيم  ).

ثانيا : الابتلاء هو للبشر جميعا :

1 ــ بينما يكون عذاب الله جل وعلا إنتقاما من الكافرين فقط فإن الابتلاء يكون  للبشر جميعا ، قال جل وعلا عن الابتلاء لجميع البشر وأنه لتمييز الصالح من العاصى منهم :: ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) الكهف )

2 ـ مصطلح( الانسان ) فى القرآن هو للبشر الكفور ، وهو يرسب فى إختبار الابتلاء ، إذا إبتلاه الله جل وعلا بالنعمة إغترّ وإذا أبتلاه بالنقمة ضلّ ، قال جل وعلا :  ( فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) الفجر )

3 ـ والابتلاء يلاحق الفاسقين ، قال جل وعلا عن اهل قرية اسرائيلية ساحلية إعتدت فى ( السبت : (( وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) الاعراف )

4 ـ وليس الدخول فى الايمان بعاصم من الابتلاء ، بل لا بد من الوقوع فى الابتلاء لتتبين حقيقة الايمان ، هل هو صادق أم كاذب ، قال جل وعلا :  ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) العنكبوت  ).

وفى إختبار وإبتلاء المؤمنين يظهر زيف الايمان لدى بعضهم ، قال جل وعلا :   ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) الحج )

5 ـ والجهاد بالمال وبالنفس أكبر إختبار للمؤمنين ، به يظهر الصابرون المجاهدون الحقيقيون. عن الابتلاء الخاص للمؤمنين قال جل وعلا : (  وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) محمد )

ثالثا : العذاب الالهى ألم هائل ، أما الابتلاء فهو بالخير والشّر :

قال جل وعلا :  ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) الانبياء).

رابعا : العذاب الالهى ألم هائل أما الابتلاء بالشر فهو من رب العزة جل وعلا ، وهو  مجرد خسارة فى الأموال والأنفس مقابل أجر عظيم .

وجاءت تفصيلات هذا فى قوله جل وعلا : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِين (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ (157) البقرة) ، فالمقتول فى سبيل الله يفوز بأعظم أجر ، يكفى أنه لا يموت . وهناك الابتلاء بالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات ، وكلها أنواع من الأذى والفائزون فى هذا الاختبار هم الصابرون الذين تتنزل عليهم رحمة الله جل وعلا وصلواته .

خامسا : الابتلاء هو أيضا ( أذى)يلحقه الكفار بالمؤمنين .

1 ـ  قالت كل الرسل لأقوامهم  :( وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) ابراهيم) . أى صبروا على الأذى .

وكان أذى كفار مكة للنبى محمد قوليا ، وكان يضيق صدره بأذاهم القولى فقال له ربه جل وعلا: (   وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) الحجر ) وكانت أقوالهم تصيبه بالحزن، فقال له ربه جل وعلا ليتأسى بالرسل السابقين فى الصبر على الأذى:  ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) الانعام ).

سادسا : وفى الجمع بين الاثنين :

1 ـ يقول جل وعلا :  ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) آل عمران ) .هنا إبتلاء فى الأنفس والأموال من الله جل وعلا وأذى يسمعه المؤمنون من الكفار من العرب وأهل الكتاب.

2 ـ ولو حدث قتال فسينتصر المؤمنون إن كانوا حقا مؤمنين ، ولن ينالهم من كفار أهل الكتاب إلا مجرد ( الأذى ) : ( لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) آل عمران ).

3 ـ وعمّن نجح فى إختبار الابتلاء بالجهاد والهجرة والقتال فى سبيل الله جل وعلا وتحمل الأذى إبتغاء مرضاة الله جل وعلا ، يقول جل وعلا :  ( فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) آل عمران ).

خامسا : تحديد مفهوم الأذى بما يناقض مفهوم العذاب :

1 ـ يأتى الأذى بمعنى الألم البسيط من حشرات الرأس :  ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ  (196) البقرة).

2 ـ ووصفا للمحيض :  ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى)(222) البقرة ).

3 ـ  ووصفا للمنّ ب ( الصدقة ) : ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّاً وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى) (264) البقرة ).

4 ـ ووصفا للتأذى بنزول المطر :  ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ) (102) النساء).

5 ـ  وصف عقوبة الزنا بالعذاب  (وهو 100 جلدة ) وليس بالرجم .  قال جل وعلا : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (2) النور)، أما عقوبة الشذوذ فهى مجرد التوبيخ والأذى القولى ، قال جل وعلا :  ( وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) النساء )

أخيرا :

1 ـ العذاب الالهى هو إنتقام بألم هائل يوقعه رب العزة بالكافرين  المعتدين البُغاةُ فقط بما كسبت أيديهم ، وهو يحدث فى الآخرة ، كما يحدث فى الدنيا . وهو قد ينتهى بالموت والتدمير الكلى كما حدث فى الأمم السابقة ، وقد يكون إهلاكا جزئيا للكافرين بعد نزول القرآن الكريم . وقد ينتج عنه موت ، وقد يكون للتحذير والوعظ  حتى ينجو من عذاب الآخرة ، قال جل وعلا : ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) السجدة )

2 ـ أما الابتلاء فهو إختبار بالخير وبالشر للبشر جميعا ، وإختبار الشّر فيه ليس بألم هائل ولكن بأقل ، وبكونه ) إذى) أوقعه الكفار بالمؤمنين . وبهذا الابتلاء يتبين المؤمن من الكافر ، كما يتبين المؤمن الصادق الصابر المجاهد من المؤمن المزيف الذى يعبد الله جل وعلا على حرف .

3 ـ يتفق العذاب والابتلاء فى أنهما يحدثان مباشرة من الله جل وعلا ، وقد يحدثان بتدخل بشرى .  



الفصل الثانى : العذاب الالهى فى الدنيا  

(  المقال الاول  ) أسباب عذاب الدنيا :

مقدمة :

1 ـ يأتى العذاب بغتة ، سواء فى الدنيا أو بالموت وبعده فى الجحيم ، وبين لحظة الاحتضار والبعث لا إحساس بالزمن ، فيستيقظ الانسان يوم البعث يظن أنه لبث  بعض يوم كشأنه حين كان يستيقظ من النوم فى حياته الدنيا .

الذى أراد الدنيا وإنغمس فى صراعاتها وتكاثرها سادرا فى العصيان ينسى أنه سيموت . وتأتيه الخسارة فى المال أو فى الأولاد أو المرض فيتفاجأ بها ، وحتى لو أشتد به المرض فهذا لا يطفىء أمله فى الدنيا ويظل متمسكا بالحياة معتقدا أن الموت لن يصل اليه ، ولهذا يفاجئه الموت ، وفى لحظة الموت تتلقاه ملائكة الموت بالصفع وبالركل (الانفال 50 ) (محمد 27 ) )، فيكون هذا عذابا له يذوقه بغتة دون أن يتوقعه كما جاءه الموت بغتة دون أن يتوقع . ثم يتلوه تقلبات اليوم الآخر من بعث وحشر وعرض أمام الله جل وعلا وحساب ، ثم خلود فى النار .   

2 ـ لنتقى عذاب الدنيا  وعذاب الآخرة علينا أن نتعرف على الأسباب فى عذاب الدنيا، وهى متداخلة ، يجمعها ( الكفر ( الكفر بالله جل وعلا وكفران نعمته ، ويجمعها ( الظلم ( ظلمهم لرب العزة بالكفر وظلمهم البشر   . ونعطى بعض التفصيلات :

أولا  ـ الكفر بالله جل وعلا والصّدّ عن سبيله

1 ـ  هناك كافر مسالم لا يؤذى أحدا ولا يقوم بإكراه أحد فى الدين ، ولا يقوم بالصّد عن سبيل الله . أى يكون مسلما حسب الاسلام السلوكى الذى يعنى السلام . هذا لا شأن له معنا هنا هو حسابه عند ربه  . نتحدث هنا عن كافر يقوم بصدّ الناس عن سبيل الله ، ينطبق عليه قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) الانفال  )، عذابه أن جهده ينتهى الى حسرة وخسارة وهزيمة ، وإذا مات كافرا فمصيره جهنم .

2 ـ الصّدّ عن سبيل الله له معنى آخر هو ( أن تشاقق الله ) أى تعاديه . وهذا ما فعلته قريش فعوقبت ، قال جل وعلا فيهم بعد هزيمتهم فى موقعة بدر : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) الانفال ) .وعن إقتران الصّدّ عن سبيل الله بالشقاق مع الله نقرأ قوله جل وعلا :  ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) محمد ).

3 ـ وحدث هذا مع بعض أهل الكتاب الذين إعتدوا فعاقبهم الله جل وعلا بالرعب ، فخرجوا من ديارهم وجلوا عنها ،وكان هذا الجلاء بديلا عن عذاب كان سيقع بهم فى الدنيا ، قال جل وعلا عنهم  : ( وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقَّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) الحشر).

4 ـ والخزى أيضا هو من عذاب الدنيا لمن يضل الناس عن سبيل الله ، ثم ينتظره عذاب الحريق فى الآخرة ، يقول جل وعلا عمّن يجادل بغير علم ليصدّ عن سبيل الله : ( ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيق ) الحج 9 ) ) ،  فالذى يحترف الاضلال لا يمكن أن يهتدى أبدا ، قال جل وعلا : ( إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) النحل )، ينطبق هذا على شيوخ الفضائيات فى أديان المحمديين الأرضية .

5 ـ ويلحق الخزى أيضا بالمتحكمين فى المساجد ، والمساجد أصلا يجب أن تكون لعبادة الرحمن وحده لا شريك له فيها : ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18)الجن )، أصبحت المساجد منتمية الى فلان وفلان من الناس مثل  المسجد النبوى ، مسجد الحسين ، مسجد الامام الشافعى ، مسجد السيدة زينب ..مسجد أبى حنيفة ..الخ . هذا تخريب لمساجد الله ، لأنه ممنوع فيها ذكر إسم الله جل وعلا وحده ، فلا بد عندهم من ذكر آلهتهم تلك . وقد توعّدهم الله جل وعلا بالخزى فى الدنيا وعذاب عظيم فى الآخرة ،  قال جل وعلا عن أولئك الظالمين : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) البقرة) 114 ). ندخل بهذا على الظلم كأحد مسببات العذاب .

ثانيا : الظلم :

1 ـ هناك كافر مسالم لا يؤذى أحدا ولا يقوم بإكراه أحد فى الدين ، ولا يقوم بالصّد عن سبيل الله . أى يكون مسلما حسب الاسلام السلوكى الذى يعنى السلام . هذا لا شأن له معنا هنا هو حسابه عند ربه  . هو يظلم رب العزة فقط بأن يؤمن بآلهة وأولياء مع الله جل وعلا أو أن ينسب له ولدا ، ولكنه لا يقع فى ظلم البشر . هناك كافر يظلم الله جل وعلا ويظلم البشر. هذا معرّض لعذاب الله جل وعلا فى الدنيا والآخرة .

2 ـ ينطبق هذا على المستبدين ، وهم بالتعبير القرآنى أكابر المجرمين . المجرم العادى قد يقتل شخصا ، ولكن المستبد يقهر شعبا ويقتل آلافا مؤلفة حتى يظل فى عرشه بالتآمر ، أو بالتعبير القرآنى( المكر )،  وفى النهاية يكون هذا المستبد ضحية مكره ، أى يتعذب بعمله ومكره . وهو فى سبيل إحتفاظه بسلطانه يرفض الحق . وهى قاعدة عامة لم يكن فرعون موسى الأول فيها أو الأخير ، إذا يحظى المحمديون بمئات الفراعين من مئات السنين . قال جل وعلا:  ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)  الانعام ).

3 ـ هذا المستبد يتكون حوله ( ملأ ) من الكهنوت والجنود والأتباع يكوّنون دولته العميقة  ، وهم الذين يحتكرون الثروة على حساب الأغلبية الساحقة من الجوعى ، وبإحتكارهم الثروة يصبحون ( مترفين  )، وهم يرفضون دعوة الحق والعدل .وجودهم إرهاص بتدمير دولتهم من الداخل أو من الخارج ، وقد جعلها رب العزة قاعدة عامة فى تعذيب المترفين ، قال جل وعلا : (( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)الاسراء )،  وعن إستمرار هذه القاعدة قال جل وعلا عن الأمم السابقة: ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) الاسراء )، وقال عن الأمم اللاحقة : ( وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ) الاسراء 58 ))، وقال عن تعذيب أولئك المترفين  : (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) المؤمنون )، هم مترفون متنعمون لا يتحملون الألم بمثل ما يتحمله الفقراء الصابرون ، لذا يكون وقع الألم عليهم شديدا ، لذا فهم لا يصرخون ، بل يجأرون ، أى يصرخون بأعلى صوت .!

ثالثا : كفران النعمة :

1 ـ الدعوة الى الاسلام الحنيف الحق تستلزم إنفاقا فى سبيل الله ، لذا هو مقترن بالايمان بالله جل وعلا ورسوله . قال جل وعلا يأمر بالانفاق فى سبيله جل وعلا:(  آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) الحديد 7 ). الله جل وعلا هو الذى إستخلفنا فى هذا المال ، وإختبرنا به ، فالذى ينفق منه فى سبيل الله إبتغاء مرضاة الله جل وعلا له أجر كبير . وتتوالى الآيات فى الحث على الانفاق فى سبيل الله ( الحديد 8 : 10 ) ) الى أن يقول جل وعلا يجعل الإنفاق فى سبيله قرضا له جل وعلا ، ويجه بهذا خطابا للبشر جميعا فيقول :  ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) الحديد ). ونتهيّب من التعليق على هذا ، ولقد تكرر هذا التعبير فى القرآن الكريم ( البقرة 245 ، المائدة 12 ، الحديد 18 ، التغابن 17، المزمل 20 ). ) ، وفى كل آية يكون الجزاء عظيما كريما فى الدنيا والآخرة . فالله جل وعلا يُخلف ويضاعف أجر من ينفق فى سبيله : ( وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) سبأ ).

2 ـ فى المقابل فإن البخيل الذى يبخل بمال الله الذى إستخلفه فيه يكون كافرا للنعمة . ومصيره يوم القيامة أن يتعذب بما جمع من مال ، قال جل وعلا : ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) آل عمران )، هذا فى الآخرة .

3 ـ أما فى الدنيا ، فالعذاب هو بالخسارة ، وقد جاءت قصة فى القرآن الكريم عن أصحاب بستان بخلوا بثمره على الفقراء فعوقبوا بفقدان البستان ، وكان هذا عذابا لهم، قال جل وعلا: (  كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) القلم 33 )).

4 ـ وفى دولة النبى محمد عليه السلام فى المدينة كان الانفاق فى سبيل الله جهادا تطوعا دون إكراه . هذا عكس الشائع فى الدول حتى الديمقراطية منها . وبعض الصحابة كان يبخل بمال الله مع ثرائه ، فقال جل وعلا يحذرهم :  ( هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) محمد ) . العذاب هنا يعنى أن يستبدل قوما غيرهم ، يعنى تعذيبهم بالاهلاك .!

5 ـ النبى محمد عليه السلام وطائفة من المؤمنين معه جاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ،فأفلحوا . قال عنهم جل وعلا :  ( لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) التوبة  ).

6 ـ جاء هذا فى سياق رفض المنافقين التبرع أو الجهاد بالمال وبالنفس دفاعا عن دين الله جل وعلا . كانوا يقبضون أيديهم ، قال جل وعلا عنهم : ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (67) التوبة  ). وبسبب رفضهم فقد حلّ بهم عذاب دنيوى مناسب. كانت نعمتهم فى الأموال وفى الأولاد ، فجعل الله جل وعلا عذابهم الدنيوى فى أموالهم وأولادهم،قال جل وعلا : ( فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ( 55 )( وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (85) التوبة ).

7ـ هو كفران للنعمة ، يشبه ما وقع فيه فرعون موسى الذى كان يفتخر بالأنهار التى تجرى من تحته وبإمتلاكه مصر : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف ).  كفر بالنعمة فتحولت عذابا له ، فهذا النيل أصبح عذابا لفرعون وقومه ، حمل له الطوفان والجراد والقمل والضفادع وتحولت مياهه الى دماء ، ثم حمل له الرجز أى ( مرض جلدى ودمامل ( الأعراف: 133 137 ).

8 ـ جدير بالذكر أن بعض الصحابة إعترف بذنبه فكانت توبته أن يقدم صدقة : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)التوبة).

وجير بالذكر أيضا أن الله جل وعلا ذكر إمتناع المنافقين عن التبرع المالى : ( هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) المنافقون )،  ثم بعدها كان ختم السورة بالحث على الانفاق فى سبيل الله قبل أن يأتى الأجل بالموت والندم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(11) المنافقون ).

أخيرا :

المحمديون لم ينفقوا أموالهم فى سبيل الله ، بل ينفقونها فى الصّد عن سبيل الله ، أى بدلوا نعمة الله كفرا ، بدلوا نعمة القرآن الكريم كفرا بإيمانهم بالأحاديث الشيطانية ورفعها فوق القرآن الكريم ، وبدلوا نعمة البترول كفرا ، بتحويل ثروتهم البترولية الى سلاح يقتتلون به ويدمرون به أنفسهم . هذا اكبر عذاب يحدث لهم، ويشهده العالم . ينطبق عليهم قوله جل وعلا : (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) ابراهيم ).

 

( المقال الثانى ) وقوع العذاب: من الله جل وعلا  

أولا : العذاب المباشر من رب العزة جل وعلا للظالمين فى الأمم السابقة

1 ـ فى الأمم السابقة التى عذبها رب العزة بالاهلاك كانت القوة يحتكرها الملأ الطغاة الظالمون مقابل مؤمنين مستضعفين ومعهم النبى . كان التدخل الالهى مباشرا بإهلاك يقضى على المستكبرين ولا يتعرض بأذى للنبى والمؤمنين . لم يكن فى مقدور المؤمنين المستضعفين حرب أولئك الطغاة فكان التدخل الالهى يقوم وحده بالمهمة .

2 ـ حسب علمنا كان قوم فرعون هم آخر من أهلكهم رب العزة جل وعلا ، وقد إحتكر فرعون وقومه القوة،وإعتقد أنه قادر على  ( قهر ) بنى اسرائيل، وقد قالها لقومه: ( قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) الاعراف).  كان مغرورا بأنه له ملك مصر ونهر النيل يجرى من تحته ، فعذبه الله جل وعلا بالنيل ، الذى حمل له الطوفان والجراد والقمل والضفادع وتحولت مياهه الى دم، وجاءه النيل بوباء الرجز أو الدمامل . نجا بنو اسرائيل  والمصريون العاديون من كل هذا وتعذب به فرعون وقومه فقط . ولم يرتدع فأغرقه الله جل وعلا بجنوده بينما أنجى بنى اسرائيل ، قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)طه ). يلفت النظر أن قوم فرعون هم دولته العميقة من العسكر والمخابرات وأجهزة الحكومة، كلهم غرق مع فرعون ، قال جل وعلا :(( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) الذاريات  ).

2 ـ وفى مقابل ( جنود فرعون ) فإن لرب العزة (جنوده). قال جل وعلا : ( وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) الفتح ) ، أى جنود الله جل وعلا فى هذه الأرض وفى السماوات ، ولا يعلمها إلا هو جل وعلا :  ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) المدثر ).

3 ـ بهذه الجنود كان التعذيب الالهى مباشرا من رب العزة ، كما حدث فى تعذيب إهلاك الأمم السابقة ، عذبهم رب العزة جل وعلا بذنوبهم بطرق مختلفة، قال عنهم جل وعلا: (  فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) العنكبوت ). وهذه ( جنود ) عرفناها من القرآن الكريم . ولكننا فى النهاية لا نعلم جميع جند ربك، لأن منهم من هم فى السماوات والأرض ، ولأن منهم ما لا يمكن أن نراه ونحن أحياء ، وهم الملائكة .

ثانيا : نوعية العذاب المباشر من رب العزة جل وعلا للظالمين فى الأمم اللاحقة

1 ـ إنتهت مرحلة الاهلاك العام أو التعذيب العام وجاءت مرحلة الاهلاك الجزئى ، بتعذيب قوم ظالمين بسبب إعتدائهم على قوم مؤمنين مسالمين، أى أن يكون هناك قوم مؤمنون يطلبون حقا لهم من خصم متكبر جبار، يرجون نصرة الله جل وعلا ، فينصرهم الله جل وعلا بملائكته التى لا يراها البشر . التدخل الالهى هنا يكون عاملا مساعدا للعنصر البشرى المؤمن الذى يجب عليه أن يتحرك دفاعا عن النفس ، وعندها يأتى التدخل الالهى بنصرته وتعذيب المعتدين .

2 ـ بدأ هذا بالنبى محمد حين أخرجه الذين كفروا ، وطاردوه يريدون قتله ، فإختبأ منهم فى الغار مع صاحب له ، قام النبى بدوره البشرى فى التخطيط للهجرة ، وجاء التدخل الالهى نُصرة له وقت الحاجة . إذ اقترب المُطاردون من الغار، فنصره الله جل وعلا الذى كان معه برحمته وعنايته، قال جل وعلا : (  إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)التوبة ). . أيّده ربه جل وعلا بجنود غير مرئية . وجاءت أكاذيب السيرة فإفترت أساطير ساذجة عن حمامة وبيضة وخيوط عنكبوت .!!

3 ـ بعدها ، تاجرت قريش بأموال النبى والمؤمنين فى رحلة الشتاء والصيف ، صادرت أموالهم وديارهم ، بل وتابعت الهجوم على المؤمنين حين كانوا مأمورين بكف اليد عن الدفاع عن النفس حتى يعدوا ما إستطاعوا من قوة . ونزل لهم الإذن بالقتال . وكان لقريش سطوة هائلة ، وكان المؤمنون ضعافا . جاءهم الأمر بالتعرض لقافلة قرشية تتاجر بأموالهم ، مع وعد لهم بالحصول على غنيمة القافلة أو بالنصر لو حدث قتال . كانوا ـ خوفا من قريش وتهيبا من الدخول فى حرب ـ يتمنون الحصول على القافلة بلا حرب . وحين تحتمت الحرب مع جيش قرشى يفوقهم عددا وعُدّة خاف فريق من جيش النبى ، وأخذوا يجادلونه فى الحق بعدما تبين . قال جل وعلا : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)الانفال ).  تحتم عليهم القتال فإستغاثوا بالرحمن جل وعلا فأمدهم الله جل وعلا بملائكة ـ لا تحارب بدلا عنهم ـ ولكن تثبت قلوبهم .: ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ )(12)الانفال ). وفى نفس الوقت تدخلت جنود الله جل وعلا فى أعين المؤمنين لتشجعهم فرأوا جيش العدو قليلا حتى لا يخافوا منه ، بينما رأى المشركون جيش النبى قليلا جدا ليشجعهم على الاتحام الحربى ليقضى جل وعلا أمرا كان مفعولا : ( إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (44)الانفال  ) إذن هو تدخل إلهى جعل جيشا قليلا خائفا ينتصر على جيش يفوقه ، فى حرب نفسية حقيقية . لذا قال جل وعلا : ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) الاحزاب ).

كان هذابا عذابا دنيويا حلّ بهم ، إذ إرتبط وقوع العذاب بهم بإخراجهم النبى من مكة ، فأخرجوه والمؤمنين معه،  قبلها قال جل وعلا : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) الانفال  ). ولكن هذا العذاب الذى جاء بتدخل الاهى تمثل فى مساعدة إلاهية نفسية معنوية لجيش النبى . أى إختلف الوضع عن الأمم السابقة التى لم يكن عليها أن تحارب . هنا حرب يضطر الى القيام بها مؤمنون مسالمون دفاعا عن أنفسهم ضد عدو باغ . وأتى التدخل الالهى عاملا مساعدا .

4 ـ تكرر التدخل الالهى نُصرة للنبى والمؤمنين وعذابا لبعض المعتدين من أهل الكتاب الذين إغتروا بحصونهم المنيعة التى ظنوا أنهم بها يتحدُّون رب العزة جل وعلا . إعتدوا على دولة النبى فإستعد النبى لقتالهم ، فقذف الله جل وعلا فى قلوبهم الرعب ، فأخذوا يدمرون بيوتهم وممتلكاتهم ورحلوا عنها ، وكان جلاؤهم هذا بديلا عن عذاب دنيوى ، قال جل وعلا : (   سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقَّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) الحشر).  التدخل الالهى هنا كان معنويا نفسيا جعل المعتدين يعانون من هيستيريا الرعب من جيش لم يكن قد أتى بعدُ لحربهم . وهو فى نفس الوقت كان عاملا مساعدا لهذا الجيش الذى لم يحارب.

5 ـ وحوصر المؤمنون فى ( المدينة ) بجيش من مختلف القبائل تحالفت مع قريش ، وجاءوا يريدون إستئصال المؤمنين . كان موقفا عسيرا ، وقد وعدهم الله جل وعلا بالنصر، آمن بهذا النصر المؤمنون وسخر به المنافقون : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) ) ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً (22) الاحزاب ).  أرسل الله جل وعلا جنوده لم يرها البشر وأرسل ريحا عاتية هزمت جيوش الأحزاب ، ولا شك أن هذا كان يعنى عذابا وخزيا لهم .

6 ـ وفى موقعة ( حُنين ) الدفاعية إنضم لجيش النبى كثيرون من ضعاف الايمان ، وتكاثر عدد الجيش بهم ، وعند الاصطدام الحربى ولُّوا هاربين ، وصمد النبى والمؤمنون معه، وأنزل الملائكة بالسكينة عليهم، وأنزل العذاب الدنيوى بالكافرين ، قال جل وعلا : ( لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) التوبة). ويقول جل وعلا عن دور الملائكة فى التثبيت النفسى للمؤمنين : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) الفتح  ).

7 ـ وحين نقض المتطرفون من كفار قريش العهد وإعتدوا على المؤمنين فى مكة قبيل موت النبى ـ أعطاهم رب العزة مُهلة أربعة أشهر هى الأشهر الحّرّم ـ ويجب قتالهم بعدها إن لم يكفوا عن إعتدائهم . وإعتبر رب العزة هذا عذابا لأولئك الكافرين المعتدين ناكثى العهد . قال جل وعلا :  ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ) التوبة 14 ). هنا القتال للمعتدين يكون تعذيبا لأولئك المعتدين بأيدى المؤمنين .

8 ـ فى كل الأحوال فالتدخل الالهى فى هذه المرحلة ( مرحلة اللاحقين )هو عامل مساعد لجيش مؤمن يحارب دفاعا ـ ضد جيش معتدى . ولو تقاعس المؤمنون المسالمون  عن فريضة الدفاع عن أنفسهم ـ مع قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم ـ فسيحل بهم العذاب.

9 ـ هذا ما قاله جل وعلا للصحابة المتقاعسين : ( إِلَّا تَنفِرُوا  يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) التوبة 39 ). ).

أخيرا :

1 ـ نحن لا نعلم جنود الله ، فلا يعملها إلّا هو . وقد إكتشفنا بالعلم الحديث بعضها . منها ما يسبب العذاب بالمرض لمن يجلب لنفسه إستحقاق العذاب ، مثل الأمراض التناسلية من الايدز والسيلان والزهرى   . نحن لا نتحكم فى بلايين الفيروسات والبيكتيريا والجراثيم والفطريات التى تغمرنا وتعشش على جلونا وتتكاثر فى أحشائنا، ولا نتحكم فى تكاثر خلايانا ، قد تتكاثر عشوائيا فتسبب عذاب السرطان . كلها ضمن جنود الرحمن ، وبأمر إلاهى توقعنا هذه الجنود فى عذاب أليم . وفى الوقت الذى يحدده رب العزة تنطلق تلك الجنود لتقيم حفلات تعذيب دنيوية للعُصاة وللظالمين .

2 ـ وقد ينبهر البعض بمواكب الظالمين ويغتر بتقلبهم فى البلاد ، وقد نهى رب العزة عن هذه النظرة السطحية فقال جل وعلا:  ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) آل عمران ). مع متاعهم القليل هم يتعذبون بالقلق والخوف والشكوك فيمن حولهم وتوقع الانتقام ، ثم لا بد من عذابات المرض ، ثم يأتيهم الموت حتى لو كانوا فى بروج مشيدة ( النساء 78  ).

3 ـ ينطبق هذا على شيوخ القنوات الفضائية الذين يتقلبون فى البلاد يجادلون فى آيات الله يبغونها عوجا وصدا عن سبيل الله :  ( مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) غافر ) . هؤلاء تتربص بهم جنود الرحمن جل وعلا لتوقع بهم العذاب ، وكم رأينا من شيوخ يدعون الى الارهاب وقتل المسالمين من أهل الكتاب ومن الغرب ، ثم يسعون الى مستشفيات الغرب للعلاج على أيدى أطباء  يعتبرونهم كفرة ، وهم فى حالة خزى . والخزى من أنواع العذاب ، أى هو عذاب نفسى بجانب العذاب الجسدى . . !!

أحسن الحديث :

قال جل وعلا : (  أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) النحل ).

ودائما : صدق الله العظيم .!!


( المقال الثالث ) : تعذيب الأمم البائدة فى الدنيا

مقدمة : حديث رب العزة جل وعلا عن إهلاك الأمم البائدة يأتى أحيانا موصوفا بالعذاب ، أى إنهم قبل موتهم وإهلاكهم تذوقوا عذابا لا يعلمه إلا علام الغيوب جل وعلا .

2 ـ وهناك قواعد عامة لهذا التعذيب المرتبط بإهلاك الأمم السابقة ، ونعطى بعض التفصيلات :

أولا : الوصف العام

1 ـ خطوات الابتلاء : يبدأ الابتلاء بالشّر كى يتضرعوا ، ولكنهم يستكبرون ، فيأتيهم إبتلاء النعمة فيغترون ، وبكفران النعمة تحل بهم نقمة الاهلاك ، قال جل وعلا :  ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) الاعراف ) ، وقال جل وعلا : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) الانعام ).

ثانيا : الأسباب : الكفر والظلم والطغيان

1 ـ فى حالتى التكبر عن التضرع والكفران بالنعمة هم ظالمون طُغاة ، قال جل وعلا عن عاد وثمود وفرعون :  ( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)) الفجر ). وكانوا يستهزئون بالرسل : ( وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ (8) الزخرف).

2 ـ وكانوا يعصونهم عنادا وإستكبارا فى الأرض ، والنبى صالح حذر قومه ثمود من عقر الناقة فقال لهم : ( وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ )الشعراء 156 )) فعقروها:  ( فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ) الشعراء) 158 ) . وقال عنهم رب العزة أيضا : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ  )( فصلت 17 )

3 ـ جعلها جل وعلا قاعدة فى الاهلاك فقال :  ( اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) فاطر ).

4 ـ وقصّ رب العزة نبأ قرية جاءها ثلاثة من الرسل ، فاتهموا الرسل بالكذب ، وهددوا برجمهم وتعذيبهم : ( قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) يس ). ونصحهم رجل فقتلوه . فكانت عاقبتهم الاهلاك:  ( إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يس ).وواضح أنه لم يكن فى هذه القرية مؤمنين أنجاهم الله جل وعلا، بمثل ما حدث من وجود مؤمنين فى الأقوام الأخرى.

5 ــ وكان قوم مدين يريدون رجم نبيهم شعيب لولا أن عائلته تحميه :  ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ  ) هود 91 )). وأهل الكهف هربوا من إضطهاد قومهم ، وبعد أن إستيقظوا من نومهم الطويل كان خوفهم لا يزال يقظا فى قلوبهم فقالوا عن قومهم : ( إنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ) الكهف 20 ))، وحتى آزر والد ابراهيم هدده بالرجم وآذنه بالطرد : ( قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) مريم 46 ). ).

6 ـ وأوجز رب العزة قصص الأنبياء فى حوار موحّد جرى من كل قوم مع نبيهم ، وكل قوم كفروا وقالوا لأنبيائهم  : ( لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) ابراهيم ).

5 ـ الظلم هو السبب المشترك فى عذاب وإهلاك الأمم السابقة ، قال جل وعلا :  ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) الحج ).

هم بدلوا نعمة الله كفرا ، فحل بهم البوار : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) ابراهيم ) أى هم السبب فى البوار . يأتيهم المنذرون يأمرونهم بالاصلاح ، فيرفضون ، فيحل بهم الهلاك : ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) الشعراء ). وهى قاعدة سارية : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) الاسراء ). والله جل وعلا لا يغير نعمته على قوم حتى يكفروا بها ، وهذا ما حدث فى إهلاك فرعون وآله ومن سبقهم  : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) الانفال ).

ثالثا : العبرة والعظة

1 ـ سنعرض للعبرة والعظة فى فصل خاص ، لكن نقول سريعا إن الله جل وعلا أنزل  قصص الماضين للعبرة والعظة ، قال جل وعلا : ( وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) هود)، وقال جل وعلا عنهم :  ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) يوسف).

2 ـ وبعد أن قصّ جل وعلا قصص الأمم البائدة جاء وعظ الناس ، فقال جل وعلا يحذرهم : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) الاعراف).

3 ـ وتكرر هذ التحذير فى قوله جل وعلا :  ( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)  النحل ).

4 ـ وقال جل وعلا عن البشر جميعا :  ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) يوسف ).. وهى دعوة يتبناها كل داعية يدعو بالقرآن الكريم وحده بعد موت خاتم النبيين عليهم جميعا السلام ، لذا جاء فى الآية التالية :  ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (108) يوسف ).

5 ـ وتعليقا على إهلاك قوم ثمود قال جل وعلا :  ( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) النمل ). ولا تزال بيوت قوم ثمود المحفورة فى الجبال باقية حتى الآن شاهدا على قوله جل وعلا:  ( فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) النمل ).

5 ـ وقال جل وعلا عن تكذيب العرب لخاتم النبيين : ( وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) الحج ) ، أى كذبوا كما كذّب السابقون . والنتيجة  هلاك السابقين ، وتظل ملامح ظلمهم مائلة شاهدة : قصر مشيد كان يسكنه المترفون ، ثم بئر معطلة كان يرتوى منه بقية القوم ولم تحظ هذه البئر إهتمام المترفين أصحاب القصر ، قال جل وعلا : ( فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) الحج ) . لذا يأتى الأمر بالسير فى الأرض للعظة: ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) الحج ).

6 ـ وهذا مثل رائع فاجع يعبر عن حال بلاد المحمديين اليوم . المترفون الحكام والملأ التابع لهم يسكنون القصور الفاخرة ، بينما يتكدس الفقراء فى أحياء بلا خدمات وبلا مرافق . أى بئر معطلة وقصر مشيد ..!!

7 ـ ولهذا تنتشر حمامات الدم فى بلاد المحمديين ، وعاقبة المستبدين ماثلة أمام الجميع ، ولا يعتبر بها اللاحقون .

8 ـ لماذا لا يتعظون ؟

قال جل وعلا: ( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) الحج ).

ودائما : صدق الله العظيم .!!



الفصل الثالث : إستعجال العذاب

المقال الأول

الكافرون وإستعجال عذاب الدنيا

اولا : إعتادت الأمم السابقة وإستعجال الهلاك / العذاب :

1 ـ قوم نوح إستعجلوا العذاب :  ( قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (32) هود  )..

2 ـ وقوم عاد قالوا لنبيهم هود : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (70) الاعراف ).  كانت الريح تحمل لهم بشرى الأمطار والرخاء . وجاءهم سحاب إستبشروا به خيرا ، لم يعرفوا أنها ريح ستدمرهم . فى البداية قالوا له : ( أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) الاحقاف ).  ثم رأوا الريح تستقبل واديهم فإستبشروا بالمطر : ( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) الاحقاف).

3 ـ وقالها قوم ثمود لنبيهم صالح  : ( يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) الاعراف ).

4 ـ وقالت مدين للنبى( شعيب : ( فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (187)  الشعراء ).

5 ـ وقالها قوم ( لوط) : (  إئْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ  ) العنكبوت 29 ).).

6 ـ هم جميعا كانوا يؤمنون بالله مع إيمانهم بأولياء وآلهة اخرى ووقوعهم فى الفساد بدرجة جعلتهم يستكبرون ويطلبون الهلاك إستخفافا بالرسول وتحديا لرب العزة جل وعلا . لذا كان الانتقام عادلا يستجيب لرغبتهم .

ثانيا : قريش وإستعجال الهلاك / العذاب :

قال جل وعلا لخاتم النبيين عليهم جميعا السلام  : ( مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ )(43) فصلت  )، أى ما يقال لك من وحى بالرسالة الالهية قيل للرسل من قبلك ، وما يقال لك من قومك من تكذيب ، قيل للرسل من قبلك ، وما يقال لك من إستعجال العذاب قيل للرسل من قبلك . وفى إستعجال قريش للعذاب نضع الملاحظات الآتية :

رفضهم القرآن هو سبب إستعجالهم العذاب :

1 ـ قال جل وعلا عن القرآن الكريم : ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (195)الشعراء ).   بعدها قال جل وعلا إن ما جاء فى القرآن جاء من قبل فى الكتب السماوية السابقة : ( وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ ) 196(الشعراء ). ولهذا كان يعلمه علماء بنى إسرائيل ويكفى فى هذا دليلا للعرب ولقريش على ان القرآن كلام رب العالمين: ( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)). الشعراء ) .ولكن قريشا جحدوا القرآن ، ولن يؤمنوا به إلا حين ينزل بهم العذاب : ، قال جل وعلا : ( وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ (203). الشعراء ) . هذا مع أنهم يستعجلون العذاب، فقال جل وعلا عنهم بعدها: ( أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) الشعراء ).  

2 ـ وذكر رب العزة إصرارهم على التكذيب بالقرآن الى درجة أنهم دعوا الله جل وعلا إنه لو كان القرآن من عند الله فليعذبهم الله جل وعلا بحجارة من السماء أو بعذاب أليم : : ( وإذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) الأنفال )..

متى يقع بهم العذاب الدنيوى ؟

1 ـ جاء بعدها شروط وقوع العذاب بقريش ، قال جل وعلا : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)  وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ۚ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) الانفال 34 ).  ) ، اى لا يقع بهم العذاب الدنيوى طالما يستغفرون الله ، وطالما لم يخرجوا النبى من مكة وظل قائما فيهم . وسيقع بهم العذاب لو أخرجوه ، وقاموا بصّد المؤمنين عن المسجد الحرام . نزل هذا فى المدينة بعد الهجرة وقيام قريش بفرض حظر الحج على المؤمنين . ومعنى هذا أنهم تعرضوا لعذاب بعد هجرة المؤمنين من مكة .

2 ـ وجاءت إشارة عن عذاب حلّ بقريش فى مكة فى قوله جل وعلا  : ( وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) المؤمنون). واضح هنا ان العذاب كان ( ضُرُّا ) أى ضائقة إقتصادية حلّت بهم ، فقد تجرّأت  القبائل العربية على تهديد قوافل قريش بعد إن إهتزّت هيبتهم فى هزيمتهم فى موقعة بدر وبعد فشلهم فى موقعة الأحزاب. وتشير الآية التالية الى عذاب شديد حاق بهم ، قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ  حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ )المؤمنون 76 : 77 ).).

3 ـ ثم هناك عذاب مستقبلى أنبأ به رب العزة فى سورة الأنعام المكية ، وتحقق فى الفتنة الكبرى حين تقاتلت قريش مع نفسها ومع الأعراب الخوارج خلال خلافة على بن ابى طالب . قال جل وعلا : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ   (65) الانعام ). هذا هو الذى حدث فى الفتنة الكبرى ، ولا يزال يحدث بين المحمديين الوهابيين السنيين والمحمديين الشيعة . والسبب جاء فى الآية التالية ، وهو تكذيب قريش للقرآن الكريم : ( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66). ثم يقول جل وعلا على هذه النبوءة المستقبلية : ( لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)الانعام ) . وهناك إشارة أخرى لهذا العذاب المستقبلى فى الدنيا ردا عليهم وهم يستعجلون هذا العذاب: ( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) النمل ).

موقف النبى محمد من إستعجالهم العذاب :

1 ـ كان يضيق صدره من إلحاهم بإستعجال العذاب ، فنهاه رب العزة جل وعلا وقال له :  ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) 35 )   )الاحقاف )، لأن موعد عذابهم مقرر سلفا ، قال له ربه جل وعلا ينهاه عن التعجل لعذابهم : ( فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً (84) مريم ).

2 ـ   وأمره ربه أن يقول لهم إن أمر العذاب بيد الرحمن جل وعلا ، ولس بيده ، ولو كان بيده لأنزله بهم وانتهى الأمر:  ( قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) الانعام ).

3 ـ وأكّد جل وعلا أنه هو وحده صاحب الأمر فى العذاب الدنيوى ـ والأخروى ـ وأمر رسوله أن يقول لهم هذا :  ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) الانعام ).

4 ـ  ولن يحلّ إلا بالقوم الظالمين : (  قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) الانعام) ، وقال جل وعلا  عن نجاة المتقين : ( وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) الزمر).

4 ـ ولهذا العذاب الدنيوى موعد حتمى لا فرار منه ، غير إن رحمته جل وعلا تقتضى تأجيله لإعطاء مهلة للتوبة لمن رغب فى التوبة، قال جل وعلا  : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) الكهف ).

5 ـ وهنا نفهم دورا للعذاب الدنيوى ، أنه وسيلة لمن يريد التوبة الصادقة ، عند عذاب الدنيا يسارع بالرجوع الى الله جل وعلا تائبا نادما ، قال جل وعلا  : ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) السجدة ). وهناك الصنف الآخر الذى أدمن الظلم متمسكا بالباطل ، قال جل وعلا عنه فى الآية التالية :   ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22) السجدة ). وهذا ينطبق على المحمديين اليوم ، وهم الذين يكفرون بالقرآن طالما يتعارض مع أحاديثهم.  

6 ـ والعادة أن الظالمين الكافرين يعترفون بالظلم عند وقوع العذاب بهم ، قال جل وعلا عن قريش: (  وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) الانبياء 46 )) . وهذا الايمان الفجائى الوقتى لا ينفع ولا يُجدى،فهو نفس الحال مع كفار الأمم السابقة حين حلّ بهم العذاب ، فأعلنوا ــ دون جدوى ــ إيمانهم بالله جل وعلا وحده وكفرهم بالآلهة الأخرى ، قال جل وعلا :  ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) غافر).

أخيرا :عذاب المحمديين الدنيوى بسبب كفرهم بالقرآن الذى إتخذوه مهجورا

1 ـ تظل القضية الأساس: هل تؤمن بالله جل وعلا وحده وتكفر بأى ولى أو شريك معه ؟ أم تؤمن بالله وبأولياء وشركاء معه ؟ ، وهذا يعنى الكفر بالله الذى لا إله معه ولاشريك له فى مُلكه.

2 ـ  أولئك الخاسرون إضطروا الى قولهم ( آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ )،  قالوها بعد فوات الأوان فلم تنفعهم . ثم وهم فى النار سيقال لهم : ( ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا )(12) غافر ) .

3 ـ اكثرية البشر لا تؤمن بالله جل وعلا وحده إلاها.!!.. لآ بد أن يكون إيمانهم بالله وبآلهة أخرى معه ، يجعلون الألوهية شركة بين الله وغيره ، قال جل وعلا :  ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) يوسف ).

4 ـ ونعيد القول بأن هذا ينطق على المحمديين بالذات، لذا ينزل بهم اليوم العذاب الدنيوى ، ففى الآية التالية يحذرهم من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة الذى يأتى بغتة :  ( أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) يوسف )، ثم تأتى الآية التالية عن دعوة النبى محمد وسبيله ، وهو  القرآن الذى هو بصائر للناس ، وعن( أهل القرآن) أو من يسير على سبيله عليه السلام يدعو للقرآن وكفى : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (108) يوسف). .

5 ـ مع وجود القرآن الكريم محفوظا من لدن الله جل وعلا فلا يزال المحمديون يقدسون مع الله جل وعلا آلهة كثيرة اسموها محمدا وعليا وأبا بكر وعمر وعثمان والحسين وعائشة والبخارى والمهدى المنتظر وغير المنتظر..الخ . لا يكتفون بالله جل وعلا وحده إلاها ووليا وشفيعا .  بل تتسع قائمة التقديس لديهم بحيث لا يبقى من تقديس لرب العزة سوى أقل من واحد فى المائة . ولهذا ينزل بهم العذاب الدنيوى يفضحهم فى العالم كله . لأنهم معهم القرآن المحفوظ من لدن الله جل وعلا ، ومع هذا يتخذونه مهجورا .

6 ـ  بل إن دعوتنا السلمية الاصلاحية لهم بالاحتكام الى القرآن الكريم لا تزيدهم إلا طغيانا وكفرا ، نفس موقف أسلافهم من القرآن الكريم، قال جل وعلا لرسوله عنهم : ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ) (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) المائدة ) 64 ،68 ) )

7 ـ أليس كذلك ؟   


المقال الثانى :

  الكافرون وإستعجال عذاب الآخرة  

أولا : تنوع كفرهم بالساعة  ( اليوم الآخر ) الى :

1 ـ  إعلان كفرهم الصريح باليوم الآخر : يبدو هذا فى قولهم : ( مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) الجاثية )، وهى نفس مقولة العلمانيين المتطرفين اليوم . والله جل وعلا يصفهم بالجهل وعدم العلم . وقال رب العزة جل وعلا عنهم وعن عقابهم:  ( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) الفرقان ) ، وقال جل وعلا يأمر الرسول بالرد على كفرهم بالساعة: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ) 3 ) سبأ )

2 ـ صناعة يوم آخر على هواهم : هناك تعبير مصرى شائع وكافر يقول : "  سعيد الدنيا سعيد الآخرة ". أى إن الأثرياء فى الدنيا أصحاب الثروة هم أيضا السعداء فى الآخرة . . وسبق بهذا زعم احدهم أنه سيأتى يوم القيامة غنيا له مال وولد ، ونزل الرد عليه فى القرآن الكريم ، لأنه يعبر عن ثقافة مستمرة الانتشار فى صناعة يوم آخر بالهوى يفوز فيه المجرمون . قال جل وعلا : (( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدّاً (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً (80) مريم ).  يلفت النظر هنا قوله جل وعلا ردا عليه : ( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً) ، وهو ردُّ مسبق على أئمة المحمديين الذين إخترعوا أحاديث الشفاعة يصنعون بها يوما للآخرة حسب هواهم ، إجتراءا على غيب الرحمن ، وكما لو كانوا قد أخذوا من الرحمن عهدا ووعدا بذلك .

3 : بعضهم يكفر باليوم الآخر ، ثم يتحسب أنه على إفترض مجيئه فسيفوز فيه ، أى يجمع بين الكفر باليوم الآخر الحقيقى وصناعة يوم آخر بديل  يفتريه على هواه يتمتع فيه بالجنة مهما أجرم ومهما ظلم . وطبعا يجدفى الكهنوت فرصته ، يبيع له صكوك الغفران ، يأخذون منه المال ويعدونه بالجنة ، وما يعدونه إلا غرورا . ولكنها تظل صناعة رائجة لأنها مطلوبة لاستمرار الظلم ، وبهذا يتحقيق هدف الشيطان الذى يقرن الإضلال بالتمنى ، وهو القائل عن بنى آدم : ( وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ )(119)النساء) ولكى يستمر الضلال والفساد لا بد أن يقترن بوعود شيطانية ( أمنيات ) بالشفاعات ودخول الجنة. ، وقال جل وعلا عن الشيطان وعن  أتباعه فى الآية التالية : ( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً (121) النساء).

وقد حذّر رب العزة الناس جميعا من وعد الشيطان الكاذب وخداعه وغروره ، قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) لقمان ).  ويوم القيامة سيتبرأ الشيطان من أتباعه وهو معهم فى جهنم معترفا لهم بأنه وعدهم بالباطل وأن الله جل وعلا وعدهم بالحق ، وأنه ما أجبرهم على طاعته : ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) ابراهيم ). ومع وجود عشرات الآيات التى تؤكد على نفى شفاعة البشر يوم الدين فإن المحمديين يكفرون بها إيمانا منهم بالأحايث الشيطانية فى البخارى وغيره ، بما يجعلهم مستحقين لعذاب الرحمن فى الدنيا وفى الآخرة . هم ضحايا غرور الشيطان يجمعون بين الكفر بالآخرة وتصور يوم آخر ، ولسان حالهم يقول : ( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) فصلت ).

4: الجدال  . بعضهم يصل به الانكار لليوم الآخر الى درجة الجدال ، مثل هذا الجاهل الذى تساءل عن إحياء عظام الموتى التى تحللت ، ونزل الرد عليه: ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79 ) يس) .ويصل بهم الغلو فى الكفر الى التحدى ببعث آبائهم ، قال جل وعلا عنهم  ( إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (36) الدخان ).

 5 : أيضا وصل التطرف فى كفرهم باليوم الآخر الى إستعجالهم لهذا اليوم ، وما يتضمنه من عذاب لهم .

ثانيا : الرد على إستعجالهم عذاب الآخرة :

1 ـ يقترن إستعجالهم عذاب الدنيا بإستعجالهم عذاب الآخرة ، يبدو هذا فى تكرار أسئلتهم للنبى عن موعد قيام الساعة وتكرار الرد منه بأنه لا يعلم الغيب . ثم فى إستعجالهم عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، يوجهون أسئلتهم للنبى ويأتيه الأمر بالرد عليهم ، وبأنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا  : ( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) يونس )، ثم يأتى التساؤل : لماذا تستعجلونه وهو إذا أتاكم ليلا أو نهارا فستعلنون إيمانكم من هوله :  ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ أَالآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) يونس ).

هذا عن إستعجالهم عذاب الدنيا ، وتاتى الاشارة الى عذاب الآخرة فى قوله جل وعلا لهم عنه فى الآية التالية: (  ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) يونس ).

2 ـ  وتتنوع الردود على إستعجالهم عذاب الآخرة :

2 / 1 : النهى عن الاستعجال لأن الأمر الالهى بقيام الساعة قد صدر فعلا من رب العزة ، وسيقطع وقتا فى فى الزمن البرزخى الى أن يتحقق فعلا فى الزمن الأرضى ، قال جل وعلا : ( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) النحل ).

2 / 2 : وعن الفارق بين الزمن البرزخى والزمن الأرضى يقول جل وعلا فى نفس السياق عن  إستعجال عذاب الآخرة ) : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) الحج ). .

2 / 3 : هذه الحياة الدنيا هى مجرد ( يوم ) يأتى بعده ( يوم آخر ) بفتح الخاء  ، أو ( يوم آخر ) بكسر الخاء .) وعن الفارق بين يوم الدنيا واليوم ألاخر ) أو مدة يوم الدنيا والذى سيعقبه اليوم الآخر يقول جل وعلا عن إستعجالهم عذاب الآخرة : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَرَاهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10 ) المعارج ). هذه الحياة الدنيا هى مجرد يوم فى الزمن الالهى ( وليس البرزخى ) ، ومقداره خمسون ألف سنة . خلالها يصعد الروح جبريل والملائكة الموكلين بالأقدار الى منتهى الرحلة فتقوم الساعة ، ويأتى رب العزة مع عالم جديد يبرز فيه الناس لرب العالمين : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) ابراهيم ). وعن عذابهم يوم القيامة يقول جل وعلا بعدها : (  وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)ابراهيم. يأتى بعده البلاغ للناس وعظا لهم : ( هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (52) ابراهيم )

أخيرا : الوعظ   للكافرين

1 ـ هذا البلاغ للناس يأتى فى سياق استعجال الكافرين للعذاب ،يقول جل وعلا : ( خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) الأنبياء ).  يأتى وعظهم بعدها بتصوير لمحة من عذاب النار: ( لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ (40) الانبياء )،  وبتصوير صراخهم عند قوع العذاب بهم: ( حَتَّىٰ إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ) ( المؤمنون 64 ) )، وبتأنيبهم وهم فى العذاب بتذكيرهم بالعذاب الذى كانوا يستعجلونه: ( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ 14) الذاريات ).

2 ـ وايضا يأتى الوعظ مقدما للعُصاة حتى يتوبوا . قال جل وعلا يخاطبهم ويعظهم : ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) الزمر) .  واوضح رب العزة جل وعلا لهم سبيل التوبة الصادقة التى تنجيهم من العذاب الأخروى فقال: ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ (59) الزمر).

ودائما : صدق الله العظيم .!!


المقال الثالث :

  العذاب  يأتى فجأة ( بغتة  ) ( وهم لا يشعرون )

 أولا  ـ عذاب الدنيا يأتى بغتة :

1 ـ عن الأمم التى أهلكها رب العزة قال جل وعلا يعظ كفار العرب وغيرهم : ( كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمْ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) الزمر)، وعن خطوات الاهلاك الذى ينتهى بالعذاب البغتة قال جل وعلا : (  وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) الاعراف ) . أى أخذهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون . وفى تصوير لهذا العذاب المفاجىء لهم فى الدنيا يقول جل وعلا : ( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) النحل). أى يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أى يأتيهم بغتة .  

2 ـ وقال جل وعلا عن اللاحقين يعظهم ويحذرهم فى نفس السورة : ( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) النحل ).

ثانيا : عذاب الآخرة يأتى بغتة للكافرين

1 ـ عذاب يوم القيامة سيأتى بقيام الساعة فى الوقت المحدد سلفا أو(الأجل المسمى )، أو التوقيت الذى تمت تسميته وتحديده من لدن رب العزة جل وعلا . وحين إستعجله مشركو العرب قال جل وعلا ردا عليهم : ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) العنكبوت 53 ). ). هنا إشارة الى أن الكفر مستمر باليوم الآخر .

2 ـ الدافع لاستعجالهم هو كفرهم بالقرآن الكريم ، وطلبهم معجزة حسية بديلة وإستعجالهم الساعة ونزول العذاب بهم إن كان القرآن هو الحق من عند الله : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (31) وإذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(32) الانفال ).

3 ـ وحتى الآن فالكفر مستمر بالله جل وعلا وباليوم الآخر وبالقرآن الكريم ، والمحمديون الذين يزعمون الايمان بالقرآن الكريم هم أشد الناس كفرا بالقرآن الكريم وبرب العالمين وأشد الناس كفرا باليوم الآخر . وأفعالهم تنطق بهذا كل يوم وعلى مستوى العالم .

4 ـ والتعبير القرآنى : (لا ريب فيه)  تكرر وصفا للقرآن الكريم واليوم الآخر، ومنه قوله جل وعلا : ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)البقرة) (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ (25) آل عمران ). المؤمنون بالله واليوم الآخر وبالقرآن الكريم يشفقون من أن يروا أو يشهدوا قيام الساعة ، قال جل وعلا : (  الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنْ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ )(49). الأنبياء )، وتأتى الآية التالية عن القرآن الكريم: ( وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (50) الانبياء) . ويقول جل وعلا عن القرآن الكريم الذى نزل بالحق والميزان وبقرب موعد الساعة : ( اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) . الشورى ) ، وتأتى الآية التالية بإختلاف موقف الكافرين الذين يستعجلون قيام الساعة عن المؤمنين المشفقين منها: (  يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) الشورى ).

5 ـ عدم ايمانهم بقيام الساعة وإستعجالهم لها يعنى أن قيامها ستكون مفاجئة لهم ، أو تأيتيهم بغتة وهم لا يشعرون . ونتدبر قوله جل وعلا عن موقف الكافرين بالقرآن الكريم الذين يرتابون فيه ولا يؤمنون به :  ( وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الحج) ، أى سيظلون فى تشككهم بالقرآن الى أن تقوم الساعة فجأة أو أن يحلّ بهم عذاب دنيوى عقيم . ويقول جل وعلا عمّن يكفر باليوم الآخر :  ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) الانعام)، أى تقوم الساعة بغتة فتفاجئهم وكانوا منكرين لها فيتحسرون على تفريطهم فى النيا ، ويأتون يوم القيامة يحملون أوزارهم على ظهورهم .

6 : ولذا جاء الوعظ قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)الزخرف)

ثالثا : معنى البغتة الزمنى :

1 ـ   وتكرر سؤالهم النبى عن موعد الساعة ، وتكررت الاجابة أنه لا يعلم ، وفى بعض الاجابات جاء وصف مجيئها بالبغتة  : ( يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) الاعراف ).

2 ـ تفسير ( بغتة ) أنه أسرع من سرعة الضوء ، وهذا مجرد تشبيه لإختلاف مستويات الزمن،ويأتى التعبير بالتشبيه ب:  ( لمح البصر) ،قال جل وعلا:( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 77) النحل) ( وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)  القمر).

رابعا : معنى البغتة  ( المفاجئة )

1 : ويأتى تفسير آخر بالمفاجأة ، أى ( وهم لا يشعرون ).  قال جل وعلا فى خطاب ينطبق على المحمديين بالذات : ( أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(107)  يوسف) . كما قال جل وعلا عن القرآن الكريم الذى يكفر به المحمديون : ( كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) الشعراء ).  هنا ايضا مجىء العذاب بغتة وهم لا يشعرون .

2 ـ الكفر بالآخرة وبالقرآن الكريم مبعثه إرادة الناس الدنيا وإستغراقهم فيها لهوا ولعبا وتنافسا وتصارعا وتكاثرا بالأموال والأولاد . وهم لا يشعرون بإقتراب قيام الساعة ، وقد قالها رب العزة جل وعلا من أكثر من 14 قرنا :  ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) الأنبياء). وهذا ينطبق على المحمديين بصورة تفوق الوصف .

3 ـ  وقد أنبأ رب العزة بأن أشراط الساعة قد جاءت فعلا ، ومع ذلك سيكون مجيؤها بغتة لأولئك الذين إستغرقتهم الحياة الدنيا، وهذا ينطبق على حال المحمديين  ، قال جل وعلا : ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) محمد  )، فقد تقطعوا وتفرقوا الى مذاهب وأحزاب كل حزب بما لديهم فرحون ، يفرحون بالنفط وغير النفط وسيظلون فى غمرتهم الى أن تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون.

4 ـ وقد أكّد رب العزة  جل وعلا يؤكد أن ( أُمّة الاسلام ) هم أتباع الأنبياء فى كل زمان ومكان ، أى أُمة عالمية  فوق الزمان والمكان ، ولكن الذى حدث هو التفرق ، وتحول الناس الى ( أمة المسيح ) و ( أمة محمد )  و( أمة بوذا .).الخ . قال جل وعلا : ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ (56) المؤمنون ) .

5 ـ أولئك لا يعرفون أن أشراط الساعة جاءت بنزول القرآن آخر رسالة إلاهية ، وفيه أشراط الساعة ومنها ما نراه الآن من التقدم العلمى الهائل فى الكرة الأرضية :  ( إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) يونس )،  وبغتة ستقوم الساعة وستكون عذابا شديدا لمن يشهدها ، وهذا ما حذّر منه رب العزة جل وعلا الناس جميعا فقال لهم فى خطاب مباشر : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) الحج ).

6 ـ بقيام الساعة وتدمير السماوات والأرض وخلق سماوات بديلة وأرض بديلة يأتى يوم البعث ، فيعتقد المجرمون أنهم لبثوا مجرد ساعة : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) الروم )، أو مجرد يوم أو بعض يوم : (  يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) النازعات ) ، ويظل هذا الشعور معهم حتى يوم الحشر : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)  يونس ) .لذا قال جل وعلا للنبى محمد عليه السلام ألّا يستعجل العذاب للكافرين لأنهم يوم يرونه كأنما لبثوا يوما أو بعض يوم : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)الاحقاف).

7 ـ واقع الأمر أنهم بالموت يفقدون الاحساس بالزمن ، ثم عند البعث يتخيلون أنهم لبثوا يوما أو بعض يوم . لذا حذرهم رب العزة جل وعلا من عذاب قريب :  ( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) سبأ  )( إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40) النبأ ). حين نزلت هذه الآية بالعذاب القريب كان كفار قريش أحياء ، لم يبق لهم على قيام الساعة إلا ما تبقى لأحدهم من سنوات عمره حيا ثم موته ودخوله البرزخ حيث لا زمن ، كمثل النائم أو مثل أهل الكهف ومثل الذى مر على قرية فنام مائة عام ثم بعثه رب العزة فظن أنه نام يوما أو بعض يوم. لا زمن فى البرزخ ،برزخ النوم والموت .  ثم تقوم الساعة فيظن أنه مرّ عليه ساعة أو يوم أو يعض يوم . يعنى بقى له عن عذاب القيامة بضع سنوات ثم يوم أو بعض يوم . هذا معنى العذاب القريب والذى يأتى بغتة .






الفصل الرابع : بين اللعن والتعذيب                                                     

المقال الأول :

 : معنى اللعن

أولا : الملعون يعنى البعيد : ـ الشجرة الملعونة أى البعيدة .

1 ـ  قال جل وعلا عن رؤية النبى محمد عليه السلام لجبريل فى المرة الثانية ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) النجمَ  )، أى رأى جبريل عند (السدرة ) أى الشجرة الموضووفة بأنها ( سدرة المنتهى ) أى الشجرة البعيدة جدا أو التى هى منتهى البُعد . وهذه رؤية برزخية فى إحدى عوالم البرزخ . وفى هذا المستوى البرزخى توجد (جنة المأوى) ، ربما تكون الجنة التى يعيش فيها من يُقتل فى سبيل الله جل وعلا ، وربما كانت الجنة التى عاش فيها آدم وحواء قبل أن يخدعهما الشيطان ويتسبب فى نزولهما الى أرضنا المادية التى هى الأقل مستوى مما يتخللها من عوالم البرزخ .

2 ـ ولأن ما رآه خاتم النبيين كان آية خاصة به عليه السلام لم تتوفر لغيره من الأنبياء:

2 / 1 :  فإنه لم يرها بعينيه بل بنفسه البرزخية ، لذا فإن بصره المادى توقف عن الرؤية الحسية ، أو تجمّد  أو ( ما زاغ وما طغى ) ، والعين البشرية المادية لا بد أن ترمش خصوصا عندما ترى شيئا غريبا ، تجمدت عيناه عليه السلام فقد رأى من آيات ربه الكبرى فى جزء من عوالم البرزخ .

2 / 1 : وبالتالى هو نفسه يعجز عن وصف ما يرى لأن ما رآه لا يستطيع لسانه البشرى أن يصفه ، وتعجز إدراكاته البشرية عن التعبير عنه . هذا عنه فكيف بنا ؟ هذا عنه فكيف بمفتريات  أحاديث المعراج ؟!

2 / 3 :ولهذا جاء التعبير القرآنى عن هذه الشجرة وما يحوط بها وما يغشيها بتعبير تقريبى: ( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى )،  هو تعبير فضفاض يعطى الحرية للتخيل ، ومهما كان التخيل فهو مخالف للحقيقة .

2 / 4 : إن الاسراء آية خاصة به عليه السلام ، وهى رؤية خاصة به عليه السلام ، قال جل وعلا  : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا  ) (1) الاسراء ) وعليه ، فإن حديث الناس عن هذه الرؤية التى لم يروها ها يعتبر فتنة وضلالا ، إذا يتحدثون بجهل عمّا لا يعلمون وما لا يرون ، قال جل وعلا : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ )(60) الاسراء).   الآية الكريمة تشير الى الرؤية التى رآها عليه السلام ، والى الشجرة التى رآها ، وهذه الشجرة موصوفة هنا بالملعونة،أى البعيدة ، وهو نفس الوصف بأنها : ( سدرة المنتهى).

ثانيا : لعنه الله يعنى طرده وأبعده :

لعن ابليس يعنى طرده من برزخ الملأ الأعلى للملائكة  فى السماوات الى برازخ الأرض :

1 ـ إبليس كان من الملأ الأعلى من الملائكة . قال جل وعلا لخاتم النبيين يحدد مهمته : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) ص )، وأمره جل وعلا أن يعلن عن النبأ العظيم حين رفض ابليس ـ وكان من الملائكة من الملأ الأعلى ـ السجود لآدم. كان ابليس من الملأ الأعلى مع الملائكة المقربين فترتب على ذلك طرده ولعنه . قال جل وعلا عنه :  ( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ص ). أى إننا لم نستفد من هذا الدرس الذى تكررر كثيرا فى القرآن الكريم وعظا لنا وتذكيرا بتاريخ أبينا آدم . والنبى محمد لم يكن علم بهذه الخصومة التى حديث بين الملأ الأعلى من الملائكة : ( مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإٍ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) ص). عن هذه الخصومة بين ملائكة الملأ الأعلى بشأن السجود لآدم قال جل وعلا عنها: ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74)ص ).  أى برفضه طاعة أمر ربه جل وعلا كان ابليس من الكافرين ، أى أصبح من الكافرين وكان من قبل من الملائكة العليين ، ودار حوار بينه وبين ربه جل وعلا: ( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) ص ). أى صمّم على عصيانه ، فطرده ربه جل وعلا من الملأ الأعلى : ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) ص ) . وهذا الطرد يعنى اللعنة الالهية : ( وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) ص) أى لعن أو طرد الى يوم القيامة .!

2 ـ  تكررت قصة رفض ابليس السجود لآدم ، وطرده . وفيها يقترن معنى اللعن بالطرد ، ومنه ما جاء فى سورة الحجر  : ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) الحجر)، وفى سورة النساء فى لعن ابليس :  ( لَعَنَهُ اللَّهُ )(118) النساء )

3 ـ لعنه وطرده الله جل وعلا من الملأ الأعلى . وبذلك خرج من الملائكة نهائيا ، واصبح من الجن ، قال جل وعلا :  ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ )(50)الكهف) . ( كان ) فى الآية الكريمة تعنى ( اصبح ) مثل قوله جل وعلا فى نفس القصة : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (34) البقرة) ، أى حين(  أبى واستكبر ( كان من الكافرين ) أى أصبح من الكافرين.

4 ـ وخلافا للقواعد النحوية التى إخترعها العصر العباسى فإن مصطلح ( كان) له معانى كثيرة ، منها ( أصبح ) أو ( صار ) كما جاء عن صوم رمضان : (  فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) (185) البقرة ) أى من أصبح مريضا أو على سفر ، ومثله عن الحج فى نفس السورة: ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ. ) 196 ) البقرة ).

بطرد إبليس من الملائكة والملأ الأعلى منهم( اصبح من  الجن ) كما سبق فى قوله جل وعلا : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ )(50)الكهف) وحيث صار من الجن فقد أصبح له إسم آخر هو الشيطان ، وهذا الشيطان هو الذى أغوى آدم وزوجه . المراد هنا أن إبليس حين طرده الله جل وعلا يعنى لعنه ، فاللعن هو الطرد والإبعاد .

ثالثا : الطرد أو اللعن من البرزخ العلوى فى السماوات الى البرزخ السفلى فى برازخ الأرض :

1 ـ لمزيد من التوضيح فإن رب العزة جل وعلا أخبرنا أنه خلق سبع سماوات وسبع أرضين مثلهن ، وأن أوامره تنفذ بينهن ، حيث يتخلل البرزخ الأعلى  ما دونه من برازخ ، قال جل وعلا : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) الطلاق ).

2 ـ الأسفل ( أسفل سافلين ) والأضعف هو عالمنا المادى الذى يشمل  الأرض التى نعيش عليها والأجرام السماوية من نجوم ومجرات . يتخلل هذا العالم المادى السفلى عوالم برزخية تعلوه وبالترتيب؛ فأرضنا المادية ( الأولى ) يتخللها برزخ الأرض الثانية ، والأرض الثانية يتخللها برزخ الأرض الثالثة ، والأرض الثالثة يتخللها برزخ الأرض الرابعة ، والأرض الرابعة يتخللها برزخ الأرض الخامسة ، والأرض الخامسة يتخللها برزخ الأرض السادسة ، والأرض السادسة يتخللها برزخ الأرض السابعة ، والأرض السابعة يتخللها برزخ السماء الدنيا ( القريبة )، والسماء الدنيا يتخللها برزخ السماء الثانية ، والسماء الثانية يتخللها برزخ السماء الثالثة . والسماء الثالثة يتخللها برزخ السماء الرابعة . والسماء الرابعة يتخللها برزخ السماء الخامسة . والسماء الخامسة يتخللها برزخ السماء السادسة . والسماء السادسة يتخللها برزخ السماء السابعة .

3 ـ نحن فى أرضنا المادية تتخللنا كل برازخ الأرض وبرازخ السماوات السبع .على الترتيب،  تعيش فى برازخ الأرض الست الجن والشياطين ، وفيها الأنفس البشرية التى لم تدخل الأجنة الخاصة بها بعد مثل أنفس أحفادك فى المستقبل ، والأنفس التى دخلت إختبار الحياة ثم ماتت وعادت الى برزخها ، والى البرزخ تغادر نفسك جسدك مؤقتا بالنوم لتستريح من سجن جسدها المادى . وفى برازخ الأرض يعيش المقتولون فى سبيل الله جل وعلا  يتمتعون برزق الرحمن جل وعلا ، وفيه يتم تعذيب فرعون وقومه وقوم نوح . وفيه كان يعيش آدم وزوجه يغطى جسدهما المادى أنوار تلك الجنة البرزخية ، فلما أكلا من الشجرة المحرمة ظهرت سوءاتهما ـ أى جسدهما المادى إيذانا بهبوطهما أسفل الى أرضنا المادية السفلى . وفى برازخ الأرض تعيش الجن ، واليها هبط ابليس بعد طرده من الملأ الأعلى ، وقابل آدم وزوجه فى الجنة البرزخية ، وخدعهما .

4 ـ الآية الكبرى لخاتم النبيين أنه رأى جبريل فى بقعة من البرزخ . ولا يمكن للعين البشرية أن ترى هذا . ولا يمكن لنا فى جسدنا المادى أن نرى الملائكة التى هى من عوالم البرزخ . والملائكة حين قابلت آدم ولوط كانت متجسدة فى صورة بشرية ، وهكذا الروح جبريل حين تكلم مع مريم .ولأننا فى أرضنا المادية لا يمكن أن نرى عوالم البرزخ الأرضية أو السماوية فقد حذرنا ربنا جل وعلا من الشيطان فقال عنه وعن ( قبيله) أى المخلوقات البرزخية: ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ  ) الأعراف 27) ) . كان آدم وحواء يرون عوالم البرزخ الأرضى السّت حين كانا فى البرزخ الأرضى . بنزولهما وصيرورتهما فى الجسد المادى إنتهى هذا بالنسبة لهما وبالنسبة لنا أيضا .

5 ـ وتعيش الملائكة فى برازخ السماوات السبع ، كل منها له مكانه ومقامه المعلوم  المحدد حسب وظيفته : ( وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) الصافات ) . وفى الأعلى منها ملائكة الملأ الأعلى .ودونها تعيش مخلوقات البرازخ الأرضية الست ، فى الأرضين الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة  والسابعة ، وكلها تتخللها البرزاخ الأعلى فى السماوات ، فالأعلى يتخلل ما دونه ، وهكذا .

6 ـ بالتالى فإن ملائكة البرازخ السماوية تتخللنا ، ومنها ملائكة تسجيل الأعمال ، كما أن الجن والشياطين فى برازخهم الأرضية يتخللوننا ، ومنها القرين الشيطانى الذى يتحكم فى  ( نفس ) الكافر فيضله عن الهدى ويجعله يحسب نفسه على الهدى، لا يراه فى حياته الدنيا ، ولا يراه إلا يوم القيامة . وقلنا إن النفس تنتمى الى عالم البرزخ ، منه أتت واليه تعود . قال جل وعلا عن الموت ورجوع النفس الى برزخها : (  حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) المؤمنون ).

7 ـ هذا تفصيل ضرورى لنعرف منه طرد ابليس من الملأ الأعلى وأنه اصبح بهذا من جنس الجن ولم يعد مسموحا له العيش فى برازخ السماوات .  وحيث صار من الجن وفى مستواهم البرزخى الأرضى فقد أصبح مع ذريته ومع بقية الجن يتسمعون الى السماوات ومن فيها من الملأ الأعلى من الملائكة، فتلاحقهم الصواعق تمنعهم من الاقتراب من السماء الدنيا نفسها ، قال جل وعلا عن برزخ السماء الدنيا :  ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) الصافات ).( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) الملك ) (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)  الحجر). وبنزول القرآن الكريم حدثت إهتزازات شعرت بها الجن فقالت : ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً (9) الجن ).

8 ـ هذا عن (لعن ) أى طرد ابليس . فماذا عن لعن وطرد أتباعه فى الدنيا وفى الآخرة ؟ وما صلة هذا بآلية النعيم فى الجنة والعذاب فى الآخرة ؟

المقال الثانى

الشيطان اللعين الرجيم وإيقاع البشر فى عذاب الجحيم

أولا : ابليس الرجيم والشيطان الرجيم

1 ـ فى موضوع لعن ابليس ولعنه وطرده من الملأ الأعلى تكرر وصفه بالرجيم ، قال له جل وعلا : (  فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) الحجر ). هنا جاء وصفه مقدما بأنه رجيم ، ثم بعدها تأكيد اللعنة عليه الى يوم الدين . وتكرر هذا فى سورة ( ص ) : ( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) ص).

2 ـ التطبيق العملى  حدث بعد طرده من الملأ الأعلى وصيرورته فى برازخ الأرض وقد أصبح إسمه ( الشيطان).  أصبح من الجن وأصبح وذريته يسترقون السمع على حواف السماء الدنيا . وهنا ترجمهم الصواعق . وبهذا يكتسب الشيطان وصف ( الرجيم) . قال جل وعلا :  ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) الحجر)  . وبهذا أيضا جاء وصف السماء الدنيا بأنها ( رجوم ) أى ( راجمات للشياطين ، قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ )(5) الملك ). وهذا يذكرنا بالسلاح المعروف براجمات اللهب .

ثانيا : الشيطان الرجيم وإغواء البشر

1 ـ توعد ابليس ابناء آدم بإغوائهم ليدخلوا معه النار ويعانوا معه عذابها : ( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) ص).

2 ـ وإنقاذا للبشر منه أرسل الله جل وعلا الرسل بالكتب الالهية ، فكان الشيطان هو الذى يحطم أمنية كل رسول فى أن يؤمن كل أتباعه ، قال جل وعلا : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) الحج). الله جل وعلا أتاح للشيطان حريته فى الإغواء وأتاح للبشر حريتهم فى الايمان أو الكفر إختبارا لهم .

3 ـ ومن أهم وسائل الشيطان أن يوحى الى أوليائه وحيا ينسبونه لرب العزة ، وهؤلاء الذين يذيعونه هم أعداء الأنبياء ، أى لكل نبى عدو من المجرمين أولياء الشيطان ، وسيتبرأ خاتم المرسلين يوم القيامة من أتباع الشيطان الذين إتخذوا القرآن مهجورا .قال جل وعلا عنهم : ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً (31) الفرقان )

4 ـ وعن الوحى الشيطانى لأعداء الأنبياء قال جل وعلا :  ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) الانعام) . أى بمشيئته جل وعلا توجد ملايين النسخ من الأحاديث الشيطانية فى الكتب المقدسة عند السنيين والشيعة والصوفية والمسيحيين والبهائيين والبوذيين والهندوسيين ..الخ . وفى مقابلها حفظ الله جل وعلا القرآن الكريم ليكون عليهم حُجّة يوم القيامة .

5 ـ أنزل الله جل وعلا هذا القرآن نذيرا للعالمين :  ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1) الفرقان  )، أى نذيرا لهم من عذاب الجحيم ، وأنزله رحمة للعالمين: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) الانبياء )،  فمن آمن به وعمل بما فيه أنقذته رحمة رب العالمين من العذاب المهين. ولقد قال جل وعلا عن رحمة القرآن الكريم لمن يتعظ به فى حياته وقبل مجىء الأجل : ( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) يس ).

6 ـ وكان عليه السلام فى حياته يعظ الأحياء بهذا القرآن :  ( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) ق ) (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)الانعام) (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)الانعام ).

7 ـ وفى هذا الكتاب نذكّر بالقرآن الكريم فى موضوع العذاب ، ونحذّر من الشيطان الرجيم .

ثالثا : حفظ الله جل وعلا الوحى القرآنى من تنصت الشيطان والجن :

1 ـ حفظ الله جل وعلا القرآن الكريم :  ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) الحجر  ) .ولهذا الحفظ ثلاث مراحل : حفظه عند نزوله على قلب النبى ، وحفظه وهو فى قلب النبى وعلى لسانه وحفظ النبى فى تبليغه ، وأخيرا حفظه مكتوبا بنفس طريقته الفريدة فيما يسمى بالمصحف الى قيام الساعة . ونتوقف مع حفظه فى التنزيل وفى الدعوة والتبليغ على يد خاتم النبيين ـ عليهم جميعا السلام .

2 ـ الأولى : حفظه عند التنزيل : سبقت الإشارة الى الآيات الكريمة :  ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) الصافات )،  وقول الجن : ( وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) الجن ).

3 ـ هنا حفظه جل وعلا للوحى القرآنى لحظة انتقاله من العالم العلوى الى قلب النبى محمد فى عالمنا المادى، والقلب فى مصطلحات القرآن هى النفس أو الفؤاد . وهذا المستوى اللامادى البرزخى  لا نعرف عنه شيئا وهو الذى يكتنف عالمنا المادى ويتخلله ويتجاوزه وينعدم الزمن الذى نعرفه وتتجاوز السرعة حدود معرفتنا البشرية طبقا لاشارات القرآن الكريم. هنا فان حفظ الوحى كان بمنع تداخل البث الموجى  القرآنى من كائنات ذلك العالم غير المادى من الجن والشياطين . يقول جل وعلا ــ متحديا الإنس والجن ـ عن تحصين برازخ السماوات والأرض : (  يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ (33) الرحمن ). السلطان هنا هو السماح الإلهى . بدونه قال جل وعلا: (  يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ (35) الرحمن ).
رابعا : عصمة الرسول فى تبليغ القرآن الكريم

والثانية بعد نقل الوحى القرآنى على يد جبريل مكتوبا مطبوعا فى قلب النبى . وفيها لم يكن فى وسع النبى ـ  وهواه البشرى وضعفه الانسانى ــ أن يؤثر فى حفظ هذا الوحى أو فى تبليغه ، قال له جل وعلا فى خطاب مباشر خاص به وحده :  ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) المائدة ).

ونتتبع وسائل هذا الحفظ فى الآتى :

1 ـ أمر النبى بالاستعاذة بالله العظيم من الشيطان الرجيم :

1 / 1 : أمر الله جل وعلا رسوله أن يستعيذ به من الشيطان الرجيم فى كل أحواله ، وتكرر هذا الأمر كثيرا لتحصين النبى من وسوسة الشيطان وهو قائم فى التبليغ . قال جل وعلا : ( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) فصلت ) ( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) الاعراف ) (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)  المؤمنون ) (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) الفلق ) (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) الناس).

1 / 2 : وأمره جل وعلا أن يستعيذ بربه من الشيطان الرجيم خصوصا إذا قرأ القرآن الكريم:  ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) النحل).

1 / 3 : كما أمره ربه جل وعلا أن يستعيذ بالله العظيم من أتباع الشيطان الذين يجادلون فى آيات القرآن الكريم ، قال جل وعلا عنهم :  ( إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)  غافر ).

1 / 4 : وكل هذه الأوامر موجهة لنا نحن أيضا .

2 ـ كما نزل التهديد للنبى إذا لم يقم بواجبه فى التبليغ :

2 / 1  : أمره جل وعلا أن يعلن أنه لن يجيره ولن ينقذه أحد من ربه إلا بتبليغ القرآن الكريم : ( قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (23) الجن ).

2 / 2 : وقام أتباع الشيطان بمحاولة التأثير على النبى ليفترى لهم وحيا شيطانيا ، وكادوا أن ينجحوا بمكرهم الذى تزول منها الجبال ، فنزل التهديد له من رب العزة : ( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75)الاسراء).

2 / 3 : وأكّد جل وعلا أن النبى لو تقوّل على ربه فسيُنزل به عذابا يراه الناس ولا يستطيعون حجز هذا العذاب عنه . قال جل وعلا :  ( تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) الحاقة ).

3 ـ مع هذا أكّد رب العزة جل وعلا تحكمه جل وعلا  فى وحيه القرآنى حتى بعد وصوله الى قلب النبى :

3 / 1 : فهناك ( رصد ) من الملائكة للتأكد من تبليغ الرسول للرسالة ، قال جل وعلا: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) الجن ).

3 / 2 : ردا على زعم أتباع الشيطان الرجيم أن النبى هو الذى إفترى القرآن الكريم قال جل وعلا:  ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)الشورى ). أى لو حدث تدخل شيطانى فى قلب النبى يؤثر على الوحى فيه بوضع أباطيل فإن الله جل وعلا يحفظ ويحمى قلب النبى ويمحو هذا الباطل ويحق الحق القرآنى بكلماته .

3 / 3 : بل لو شاء الله جل وعلا لأذهب القرآن من قلب النبى ، لو لا رحمته جل وعلا : ( وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) الاسراء ).

4 ـ متابعة النبى بالأوامر حتى لا يطيع أتباع الشيطان الرجيم :

4 / 1 : فى أوائل ما نزل فى مكة قال له جل وعلا  يحذره من طاعة الكافرين ومداهنتهم : ( فَلا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)  القلم).

2 / 2 : وفى المدينة أمره ربه جل وعلا بالتقوى وأن يتبع القرآن الكريم متوكلا على ربه جل وعلا ، ونهاه عن طاعة الكافرين والمنافقين، قال له فى خطاب مباشر خاص به وحده : : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) الأحزاب ) (وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) الاحزاب).  

أخيرا : بالنسبة لنا :

1 ـ علينا أن نستعيذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إذا وسوس لنا بمعصية وإذا قرأنا القرآن الكريم .

2 ـ وقد أقسم رب العزة جل وعلا أن القرآن الكريم لا يمسُّ إلا القلب الطاهر الذى لا يؤمن بأحاديث الشيطان تمسكا بالايمان  بالقرآن وحده حديثا ويبغى الهداية فيه وحده. قال جل وعلا : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) الواقعة ).

المقال الثالث

تفصيلات فى اللعن

نقتصر على الآيات التى فيها(اللعن) :

أولا :إرتباط اللعن بالبُعد عن رب العزة جل وعلا :

1 ـ يأتى اللعن مرادفا لكلمة ( بُعدا ) من الإبعاد ، أى الطرد من رحمة رب العزة جل وعلا . عن إهلاك قوم عاد ولعنهم قال جل وعلا :  ( وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) هود).

2 ـ لذا تأتى كلمة ( بُعدا ) بمعنى اللعنة . قال جل وعلا عن قوم عاد أيضا: ( فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) المؤمنون ).

3 ـ  وفى إهلاك قوم نوح قال جل وعلا :  ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) هود ). ( بُعدا ) أى لعنا لهم . وفى إهلاك قوم ثمود قال جل وعلا :  ( كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) هود ). وعن إهلاك قوم شعيب ( مدين ) قال جل وعلا: ( كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) هود). وعن أُمم كثيرة أهلكها الله جل وعلا قال رب العزة :  ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) المؤمنون).

ثانيا : إرتباط اللعن بغضب الرحمن جل وعلا :  ( لعن الله يعنى غضب الله )

1 ـ جاء هذا مفهوما

1 / 1 : من قوله جل وعلا عن الكافرين من بنى اسرائيل: (  لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) المائدة ). فى البداية ( اللعن ) فى الاية 78 . ) وفى نهاية ( الآية) 79 : سخط الله ، أى غضبه.

1/ 2 : ومن قوله جل وعلا  : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ (9) النور) .  إن كذب الزوج فى إتهام زوجته بالزنا فقد حاقت به لعنة الله جل وعلا. وإن أنكرت الزوجة وكانت كاذبة فعليها غضب الله جل وعلا ، فغضب الله هو لعنة الله .

2 ـ وجاء صريحا :

2 / 1 : فى العقوبة التى تحيق بمن يقتل شخصا مؤمنا مسالما بريئا ، قال جل وعلا: (  وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93) النساء )

2 / 2 : فى عقوبة المنافقين والمشركين فى قوله جل وعلا : ( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً (6) الفتح )

ثالثا : إرتباط اللعن بالضالين :

1 ـ جاء هذا مفهوما من قوله جل وعلا عن الكهنوت الذى يكتم آيات الله :  ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)  البقرة ). هنا اللعن لهم إذا ماتوا على ماهم عليه من كتمان الحق . ثم قال عنهم جل وعلا: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)  175 ) البقرة). فى الاية السابقة وصف لهم بأنهم إشتروا الضلالة بالهدى ، أى ضالون مُضلٌّون .

رابعا : إرتباط اللعن بالغضب الالهى وبالضالين

ـ جاء هذا صريحا فى قوله جل وعلا  : ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) المائدة ).   هنا اللعن والغضب بأولئك الموصوفين بأنهم ( أضلُّ عن سواء السبيل ).

2 ـ لهذا ندعو الله جل وعلا فى كل صلاة ونحن نقرأ الفاتحة أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله جل وعلا عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين . فالمغضوب عليهم هم الضالون . وفى مقدمتهم المحمديون والمسيحيون والبوذيون .!

خامسا : إرتباط اللعن بعذاب النار

1 ـ من بعض الآيات السابقة يتضح ربط اللعن الالهى بعذاب النار يوم القيامة:

1 / 1 : فى لعنة وعذاب من يكتم الحق القرآنى قال جل وعلا :  ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) البقرة).

1 / 2 : فى العقوبة التى تحيق بمن يقتل شخصا مؤمنا مسالما بريئا ، قال جل وعلا : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93) النساء ).  هذا جزاء من يقتل شخصا واحدا ، فكيف بالخلفاء الفاسقين الذين قتلوا الملايين من أبى بكر الى آخر خليفة عثمانى ؟ وكيف بالمستبدين فى العالم غربا وشرقا وشمالا وجنوبا ، فيما مضى وفى عصرنا وما بعده ؟ سبحان القائل جل وعلا : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) ابراهيم).

1 / 3 : وفرعون إمام للمستبدين من بعده.عنه قال جل وعلا عن لعنه وعذابه : ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) هود )، وقال جل وعلا أيضا عنهم  : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ (42) القصص ).

1 / 4 : الكفرة من بنى اسرائيل قال جل وعلا عن لعنهم وعذابهم :  ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنسِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) المائدة  ).

1 / 5 : فى عقوبة المنافقين والمشركين فى قوله جل وعلا  عن لعنهم وعذابهم : ( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً (6) الفتح  ).

2 ـ ونضيف الى ما سبق :

2 / 1 : كل من يموت كافرا ملعون ومأواه عذاب النار فى خلود بلا تخفيف ، قال جل وعلا :  ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ (162) البقرة). وقال جل وعلا أيضا فى لعنهم وعذابهم  : ( إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (65) الاحزاب ).

2 / 2 : وقال جل وعلا عمن يموت كافرا منافقا : (  وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) التوبة). من يتوب عن النفاق ينجو من الدرك الأسفل من النار ، قال جل وعلا  : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) النساء ). وهذا أيضا وعظ للمحمديين المنافقين الذين يزعمون الايمان بالقرآن وهم يؤمنون بحديث آخر معه.

2 / 3 : فى لعن الكافرين بالقرآن وعذابهم ، قال جل وعلا :  ( كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) آل عمران ). وهو وعظ للمحمديين  للتوبة والصلاح قبل الموت .

2 / 4 : والكهنوت الذى يكتم الحق سيشهد عليهم الأشهاد يوم القيامة .قال جل وعلا عن لعنة هذا الكهنوت يومئذ : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) غافر )، وقال أيضا رب العزة جل وعلا : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) هود).

2 / 5 : وهناك من كان يؤذى الله جل وعلا ورسوله ، وهذا مستمر فى كل عصر بإفتراء أحاديث ونسبتها للوحى الالهى . أولئك توعدهم رب العزة باللعن والعذاب المهين.قال جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57) الاحزاب).
3 ـ يضاف الى ذلك اللعن فى  داخل النار

3 / 1 : هناك لعن يأتيهم من الخارج وهم فى النار . قال جل وعلا : (  وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الاعراف ).

3 / 1 : وهناك تلاعن بين أهل النار وهم فيها يعانون من عذابها :

3 / 1 / 1 : قالها ابراهيم عليه السلام لقومه : ( وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ويَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) العنكبوت). هنا تلاعن فيما بينهم .

3 / 1 / 2 : وهناك تلاعن حسب وقت إلقائهم فى النار ، قال جل وعلا  : ( قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) الاعراف ).

3 / 1 / 3 : والمستضعفون يلعنون سادتهم من الكهنوت . قال جل وعلا : ( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) الاحزاب ).

سادسا :  أصناف من الملعونين

لعن الكافرين من أهل الكتاب :

1 ـ دعاهم رب العزة أن يؤمنوا بالقرآن إيمانا إجماليا فقد نزل مصدقا لما معهم ، فكفروا به ، فحاقت بهم اللعنة ، قال جل وعلا : ( وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) البقرة ). وقال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) النساء ).

2 ـ  ومنهم من كان يحرّف كلام الله، قال جل وعلا : (  مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) النساء ).

3 ـ ومنهم من كان يشهد زورا يزعم أن كفار قريش أهدى من المؤمنين ، قال جل وعلا: (   أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) النساء ).

4 ـ ومنهم من وقع فى سبّ الله جل وعلا: ( وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ) ( 64 ) المائدة )

5 ـ ومنهم من نقض عهد الله جل وعلا وميثاقه ، قال جل وعلا: ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13 ) المائدة. )

لعن العصاة من الصحابة

1 ـ منهم من رمى المحصنات العفيفات بالزنا ، فجعلها رب العزة حكما عاما بلعن من يفعل ذلك ، قال جل وعلا :  ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) النور )

2 ـ أنبأ رب العزة مقدما أنهم سيقعون فى الفتنة الكبرى ، حيث يتقاتلون ويقطعون أرحامهم ويفسدون فى الأرض، قال جل وعلا  : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) محمد ). جاء بعدها لعنهم : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) محمد ).  هذا ينطبق على زعماء الفتنة الكبرى : على ومعاوية والزبير بالأساس، إذ تجمعهم صلات قرابة قريبة ، قاموا بتقطيعها فى حرب الجمل .

المقال الرابع

اللعن فى آلية التعذيب : القريبون ... والملعونون المُبعدون

مقدمة :

1 ـ  لنتذكر أننا ندعو الله جل وعلا أن يهدينا الصراط المستقيم ، ليس صراط المغضوب عليهم ولا الضالين الملعونين المطرودين من رحمة مالك يوم الدين  يوم الدين .

2 ـ اللعن يوم القيامة هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله يوم الدين . بالتالى نتصور أنه كلما كان الناس قريبين من الله جل وعلا يوم القيامة كانوا داخلين فى رحمته ، وإذا كانوا بعيدين عنه كانوا فى عذابه . ولكى يكون الفرد قريبا من ربه لا بد أن يقترب فى حياته الدنيا من ربه بالايمان والعمل الصالح  بالتقوى ، أى يكون سابقا ومُسارعا فى الطاعة . بدون ذلك يكون قد وضع نفسه فى عذاب النار ، بعيدا ( ملعونا ) عن ربه جل وعلا . ونعطى بعض التفصيلات :

أولا : أصحاب الجنة وأصحاب النار

1 ـ فى سورة الواقعة تقسيم للناس الى ثلاثة أقسام : السابقون واصحاب اليمين ، وهما فى الجنة ، ثم أصحاب المشأمة أو أصحاب الشمال ، وهم أهل النار ، قال جل وعلا : ( وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) الواقعة).

2 ـ اصحاب المشأمة هم الملعونون المطرودون من رحمة الرحمن الرحيم . يتم وضع سور بينهم وبين اصحاب الجنة . باطنه الذى يلى أصحاب الجنة فيه الرحمة ، وظاهرة الذى يلى أصحاب النار فيه العذاب ، قال جل وعلا :  ( فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ)الحديد) 13 ) .)، وبهذا يتم حجبهم عن رحمة الرحمن الرحيم . قال جل وعلا فى وصفهم وفى وضعهم : (  كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ (16) المطففين).

ثانيا : الملعونون فى الأسفل ، واهل الجنة فى الأعلى

1 ـ يأتى وصف الجنة بالعلو ، قال جل وعلا عن أصحابها :  ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) الحاقة ).  وقال أيضا : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) الغاشية ).  وقال عن كتاب أعمالهم : ( كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) المطففين ) أى هم فى الأعلى .

2 ـ وفى داخل هذا ( العُلُوّ ) درجات بناء على علمه جل وعلا بأعمالهم ، قال جل وعلا: ( يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 11) المجادلة ). ، وقال جل وعلا أيضا :  ( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا (75) طه ).

3 ـ وبناء على هذا التدرج يكون التقسيم لآهل الجنة من سابقين مقربين ومن أصحاب اليمين . ويكون السابقون هم المقربين أى الأقرب من غيرهم للرحمن جل وعلا ، ثم يليهم اصحاب اليمين ، ثم السور الفاصل وفيه الملعونون المحجوبون عن ربهم ، بسبب ما ( ران ) أو تراكم على قلوبهم من عصيان وكفران ، قال جل وعلا : ( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) المطففين  ). ماتوا وقد صدئت قلوبهم بالكفر والعصيان، فأصبحوا بها يوم القيامة محجوبين عن رحمة الرحمن الرحيم جل وعلا . وهذا ما فعلوه بأنفسهم ، وما ظلمهم الله جل وعلا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .

أخيرا : المقصد الوعظى هنا :

1 ـ بإمكانك أن تصدر قرارا بأن تكون من المقربين ، وأن تكون فعلا يوم القيامة من السابقين المقربين . عليك فقط أن تسارع فى الخيرات وأن تتسابق فى الطاعات. قال جل وعلا : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) آل عمران). هنا المسارعة بالعمل الصالح والايمان الخالص برب العزة جل وعلا لا إله إلا هو . أى المسارعة بالتقوى لتستحق أن تكون من المتقين فلا يدخل الجنة إلا المتقون .المسارعة تعنى ( الزمن )  أى تسارع قبل أن يأتيك الأجل ، هذا يعنى العمل اليومى بالطاعة ، من الصلاة والصدقة وذكر الله جل وعلا والصيام والحج للمستطيع ، وسائر عمل الخيرات . كل زمن يمضى يتم تحميله بعملك ، ولا يمكن أن تسترجع زمنا فات ، لذا لا بد أن تسارع بتحميل زمنك بالطاعة، وإذا عصيت فلا بد أن تسارع بالتوبة . هذا معنى المسارعة الى المغفرة .

وقال جل وعلا :  ( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) الحديد ). ( سابقوا ) هنا بالعمل ، أى تتسابق مع غيرك ليس فى اللهو واللعب والعصيان ، بل فى الحصول على الغفران .

2 ـ لكى تكون يوم القيامة من ( المقربين ) لا بد أن ( تقترب ) من ربك بالتقوى ، قال جل وعلا :  ( وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) سبأ ). ( زُلفى ) يعنى قربى . الله جل وعلا  قال عن تقديم الهدى فى الحج : ( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ (37) الحج ). إنه جل وعلا يقبل منك التقوى بالإيمان والعمل الصالح . وبالتقوى تكون من أهل الجنة . وقال جل وعلا عن بعض المؤمنين الذين ( يتقربون ) الى الله جل وعلا بالطاعات : ( وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) التوبة ). بهذا التقرب من الله جل وعلا فى حياتهم الدنيا سيكونون داخلين فى رحمته . وعندما تسجد لربك تكون قريبا من ربك جل وعلا ، قال جل وعلا لخاتم الأنبياء:( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ 19) العلق). هذا إذا كنت خاشعا فى سجودك .!

3 ـ معظم المحمديين يعبدون الوسائط لتقربهم الى الله جل وعلا ( زلفى ).  يتوسلون بالقبور المقدسة وبمن يجعلونهم أولياء ذوى صفات إلاهية . هم فى عقيدتهم يجعلون رب العزة بعيدا عنهم ، أى يباعدون ما بينهم وبين ربهم جل وعلا ، أى يجعلون أنفسهم ( ملعونين ) بعيدين عنه جل وعلا . هذا مع أنه جل وعلا قريب منك بحيث لا تحتاج الى واسطة أو كهنوت ، بمجرد أن تسأله جل وعلا يكون قريبا منك ، قال جل وعلا :  ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) البقرة )، لم يقل ( وإذا سألك عبادى عنى فقل لهم إنى قريب . ليس هنا ( قل ) لمنع الواسطة تماما . إنه جل وعلا أقرب اليك من حبل الوريد، قال جل وعلا: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) ق  ) ، وهو جل وعلا الأقرب اليك حتى آخر لحظات حياتك ، عند الاحتضار، قال جل وعلا : ( فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) الواقعة) . ومن هنا كان ( القريب) من أسمائه الحسنى جل وعلا : ( إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) هود ) ( إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) سبأ ).

4 ـ بإمكانك أيضا أن تضل وتعصى وتطغى ، بإمكانك أن تقرر مباشرة أو ضمنا أن تكون من أهل النار . وهذا ما يحدث من الأغلبية الساحقة من البشر . فى حياتهم الدنيا يعتادون العصيان ويبررونه ، وبعضهم يجعله دينا ، وهم يحسبون أنهم مهتدون وأنهم يحسنون صنعا ، قال عنهم جل وعلا :  ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلالَةُ إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) الاعراف ) (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106 ) الكهف ).

ويأتى يوم القيامة وقد تغطى قلبه بسواد أعماله ، فلا يجد له مكانا فى رحمة الرحمن الرحيم .

5 ـ والله جل وعلا لا يخلف الميعاد ، وهو جل وعلا ليس منحازا لأحد . ولقد وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالجنة ، كما وعد الذين كفروا وعملوا السيئات بالنار . قال جل وعلا : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) المائدة  ).

6 ـ والمحمديون يحفظون الفاتحة عن ظهر قلب ، ومنهم من يؤدى الصلاة ، ويقرأ فيها الفاتحة فى كل ركعة ، ويقول لاهيا : ( إهدنا الصراط المستقيم ) ، وقد يقولها وهو منشغل بالتفكير فى معصية ، ثم إذا خرج من صلاته عاد الى معصيته . أى يقول ( إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين )،  وهو بما يرتكبه من المغضوب عليهم الضالين . بل بعضهم يتخذ من صلاته ــ الحركية الخالية من الخشوع ــ وسيلة للعصيان ، فطالما يؤدى حركات الصلاة ، فما عليه بعدها مهما إرتكب من عصيان ومن طغيان . وهذا هو المعتاد من المتدينين بالدين أرضى . تراهم ركعا سجدا ، وتراهم أيضا أفسد الناس ، إذ قد حصل هلى مُبتغاه ، وهو سيماء الصلاة فى وجهه ، وأصبح مشهورا بين الناس بأنه  متدين ، ويصبح تدينه هذا وسيلته للتميز ويحصل على التقدير بين الناس ، وبعدها قد يتسيد ويتسلط على الغير بصلاته هذه .!.

هؤلاء ـ إن ماتوا بهذا ـ فهم ملعونون يوم القيامة وسيكونون عن رحمة ربهم محجوبين .





الفصل الخامس : مكان العذاب يوم القيامة

المقال الأول

 المكان والزمان والسرعة والعُلُوّ فى هذه الدنيا

مقدمة : فى محاولة لتصور مكان النعيم والعذاب فى اليوم الآخر نعطى لمحة عن المكان والزمان والسرعة والعلو فى هذه الدنيا ، وهى  ( اليوم الأول ) الذى ينتهى بقيام الساعة ومجىء ( اليوم الآخر ) وقد أشرنا لمحتوى هذا الفصل سابقا . وهنا نعطى بعض التفصيلات :

أولا : سبع سماوات تتخلل سبع أرضين

يقول جل وعلا : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ) 12 ) الطلاق ). سبع سماوات الأعلى منها يتخلل الأدنى ثم السماء الدنيا تتخلل الأرض السابعة والأرض السابعة تتخلل السادسة وهكذا الى ارضنا المادية الأثقل والأبطأ فى سرعة إهتزازات ذراتها ، والتى تتخللها وتتخللنا الأرضين الست والسموات السبع . ويمكن أن نطلق على ما دون أرضنا(البرازخ )،  وفيها تعيش مخلوقات الجن والشياطين ـ وهى ممنوعة من ولوج السماء الدنيا ، وتعيش الملائكة فى برازخ السماوات والأرض ، وأعلاها قدرا وهم ( الملأ الأعلى ) يعيشون فى السماء السابعة .

ثانيا : الزمن يتخلل الجميع

1 ـ مادة السماوات والأرض يتخللها الزمن . لا نعرف شيئا عن مادة السماوات السبع والأرضين السّت ، لأنها برازخ تتخللنا ولا نراها . نعرف أن المادة فى ارضنا وما حولها من كواكب ونجوم ومجرات تتكون من ثلاثة أضلاع يتخللها الزمن. ونعرف أن مادة السماوات السبع والأرضين السبع تنطلقان عبر زمن متحرك بسرعات مختلفة الى نقطة التلاشى .

2 ـ ونلاحظ أن رب العزة يعبر عن ( مواد ) الخلق فى السماوات والأرض بتعبيرات زمنية مثل ( اليوم )و (الساعة  ) و (الأجل ) أى الوقت المحدد سلفا. بل إن التعبير عن قيام الساعة وتفجير وتدمير السماوات والأرض يأتى بالسرعة التى تفوق سرعة الضوء ، أو سرعة لمحة بصرنا ، لم يقل جل وعلا ( لمح البصر ) أى سرعة الضوء ، بل إستعمل ( كاف التشبيه ) قال جل وعلا :  ( وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ(50) القمر)، بل هو أقرب أى أسرع من سرعة الضوء ، قال جل وعلا : ( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ )(77) النحل ).

ثالثا : السرعة  فى الاهتزازات

1 ـ الثابت علمياً أن ذرات المادة الأرضية تدور بسرعةتتراوح بين 400 ألف مليون دورة إلى 750 ألف مليون دورة في الثانية الواحدة ، أما ذرات العالم البرزخى فإنها أسرع دوراناً وبهذا تخرج عن المستوى الاهتزازي لعالمنا المادي ولا نستطيع أن نراها ، ومن العالم غير المرئي لنا الجن والشياطين والملائكة والنفس البشرية بعد الموت وفى حالة النوم . وقد دل علم الميكانيكية الموجية على أن الأساس في تداخل الأجساد أو عدم تداخلها يرجع إلى اختلاف المستوى الاهتزازي لهذه الأجساد أو تطابقه . فإذا كان المستوى الاهتزازي واحداً لإنتمائهما إلى نفس العالم فإن تداخلها يكون مستحيلاً ، فالإنسان بجسده الأرضي لا يستطيع أن يخترق الجدران لأن مجال المستوى الاهتزازي بينها واحد . أما إذا أختلف المجالان فإن التداخل يكون طبيعياً .

2 ـ فالأبطأ هو سرعتنا نحن فى الأرض الأولى ، وكلما تداخلنا فى البرازخ زادت السرعة ، حتى نصل الى الملائكة فى برازخ السماوات ، وسرعاتهم فوق التصور ، قال جل وعلا : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) فاطر ) . ( الجناح ) هنا كناية عن سرعة الطيران . والمفهوم أن سرعات طيران الملائكة تتفاوت حسب البرزخ الذى تعيش وتسبح وتطير فيه ومن دونه من البرازخ، الى أن نصل الى أعلى الملائكة،  وهم(الملأ الأعلى ).

3 ـ و( الروح ) جبريل والملائكة معه ينزلون بالأقدار المحتمة ليلة القدر فى رمضان ، وتحدث هذه الأقدار الحتمية فى موعدها من موت وولادة ورزق ومصائب للبشر فى العام التالى .

4 ـ الكائنات التى تعيش فى المجال: (Dimension    ) الخاص بها تكون لها السرعة المتاحة فى هذا المجال . نحن سرعتنا فى التحرك دون سرعة الضوء ، من هو أعلى منا سرعتها أكبر، وما هو أعلى هو الأعلى فى السرعة واقل ممن هم فوقه . وهكذا.

رابعا : العلو يعنى سرعة إهتزازات الذرات

هنا يكون ( العلو ) فى العالم الدنيوى ليس بمفهومنا أى ليس ما فوقك هو الذى يعلوك مكانا،   فالذى يعيش فى فى المحيط المتجمد الجنوبى ليس أسفل الذى يعيش أسفل من رفيقه فى المحيط المتجمد الشمالى . كلاهما يرى السماء فوقه ، فالأمر نسبى هنا ، ولكن العلو هو حسب سرعة المخلوقات . سرعتنا محصورة فيما هو دون سرعة الضوء لذا فنحن أثقل ونحن أسفل ،وهناك سرعات الأوتار الفائقة التى تتجاوز سرعة الضوء ويقترب الانسان حاليا من التعامل معها ، وهى فى برزخ الأرض الثانية التى تتخلل أرضنا ، وبالتالى فهناك الأعلى منها فى برزخ الأرض الثالثة التى تتخلل الأرض الثانية وأرضنا المادية الأولى ، وهكذا حتى السماء الأولى الى السماء السابعة وملائكة (الملأ الأعلى ( الأعلى سرعة  ، وهم الذين ينتقلون بسرعات لا يمكننا تصورها من مكانهم الأعلى الى أرضنا المادية( السفلى ) ، ويتخللوننا وغيرنا بسرعاتهم التى لا يمكن لنا تصورها.

خامسا : الكون يجرى نحو النهاية : ( قيام الساعة )

ويسير هذا الكون بأراضيه وسماواته الى الأجل المسمى مسبقا ، وهو المحدد لتدميره بقيام الساعة . قال جل وعلا : ( مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ(3)الاحقاف).  ولأن الكافرين مُعرضون فهم لم يتفكروا بأنفسهم أن الله جل وعلا خلق السماوات والأرض وما بينهما من نجوم ومجرات بالحق وأنها تنتهى فى الأجل المحدد أو الأجل المسمى ، وهو قيام الساعة . أى نهاية هذا اليوم الدنيوى وبداية ( اليوم الآخر ) ، قال جل وعلا : ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ(8)الروم ).

سادسا : تغير المكان الى الأمام فى الانطلاق نحو الأجل المسمى  

1 ـ بإنطلاق هذا الكون بأراضيه وسماواته الى الأمام دائما حتى نقطة النهاية فإنك أيها الانسان يتغير مكانك نحو الأمام مع كل ثانية أو ( فمتو ثانية ) تمر . تخيل أنك تركب قطارا ينطلق بك الى الأمام ، ويتغير مكانك مع كل ثانية تمر ، كل هذا وأنت فى داخل هذا الكوكب الأرضى ، ولكن هذا الكوكب الأرضى نفسه ينطلق بك يدور حول الشمس ، أى أن مكانك يتغير فى نفس الوقت حول الشمس ، ثم إن هذه الشمس تدور بما حولها من كواكب واقمار حول مركز بمجرة درب التبانة ، أى يتغير مكانك أيضا فى نفس الوقت فى داخل درب التبانة الى الأمام ، ثم إن هذه المجرة نفسها تنطلق فى مدار لها وبالتالى يتغير مكانك الى الأمام فى نفس الوقت فى مجال مجهول يشمل مركز المجرات . هذا والجميع ينطلقون أيضا فى هذا العالم المادى الذى يشمل هذه الأرض وما حولها من نجوم ومدرات ،وفى نفس الوقت تنطلق الى الأمام دائما برازخ الأرضين الست التى تتخلل أرضنا وبرازخ السماوات السبع التى تتخلل برازخ الأرضين السّت . السماوات السبع والأرضين السبع كلها تنطلق الى الأمام الى نقطة التلاشى أو قيام الساعة ، حيث يعود الكون الى الصفر او اللاشىء الذى بدأ منه .

2 ـ لا سبيل لوقف هذا التقدم ، لا سبيل لوقف الزمن لأنه الذى يغلّف المادة سواء كانت مرئية لنا أو لم تكن .

سابعا : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (39) الحاقة)

1 ـ نحن لا نرى عوالم البرزخ . بالسرعة التى تتحرك بها ذراته يستحيل على العين البشرية رؤيته . أنت ترى مروحة الطائرة وهى ساكنة فإذا تحركت بسرعة هائلة لم تعد تراها ، مع أنها تنتمى الى نفس عالمك المادى الثقيل ، فما بالك بمخلوقات برزخية تطير بسرعات خيالية ؟  

2 ـ يقول جل وعلا: ( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (39) الحاقة ). هناك ما يقع فى مجالنا البصرى ولا نراه ، وهناك ما لا يقع فى مجالنا البصرى وهو قريب منا ولا نراه ، مثل ملائكة تسجيل الأعمال التى تنتمى الى عالم البرزخ ، ومثل القرين الشيطانى الذى يتحكم فى نفس الضّال ولا يراه ، ولن يراه إلا فى اليوم الآخر .

3 ـ ويتحدثون عن ( المادة المظلمة ) غير المرئية ، وهناك أشعة غير مرئية ، وسقف الأوزون الذى يحفظ غلاف الأرض الجوى ولا نراه ، والمشار اليه فى قوله جل وعلا : ( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) الأنبياء )

ثامنا : لا نرى بناء السماء :

الله جل وعلا يصف السماء( وهى كل ما يعلو ) بأنها مبنية أو أنها ( بناء ).

1 ـ يقول جل وعلا  : ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) البقرة 22 )( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)غافر 64 ). ( ) ( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ) الشمس 5))

2 ـ وتأتى تفصيلات أخرى بالإضافة الى هذا البناء للسماء والسماوات:

2 / 1 :  فهى مزينة وما لها من فروج أو ثقوب أى محكمة البناء ، قال جل وعلا :  ( أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ) ق  6 ).).

2 / 2 : وهى مبنية بقوة ، قال جل وعلا عن السماوات السبع :  ( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) النبأ 12 )).

2 / 3 : وهى بقوتها تتمدد وتتوسع ( توسع المجرات ) وتوسع السماوات ، قال جل وعلا : (   وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) الذاريات 47 ).).

2 / 4 : وهى محكومة بتوازن دقيق ، قال جل وعلا  : ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ  ) الرحمن) 7 ) ، وهى قوانين للجاذبية لا نراها، قال جل وعلا :  ( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ) الرعد 2 ). )

أخيرا : ما هى مدة هذه الدنيا ومتى تنتهى وتقوم الساعة ؟

ويأتى السؤال الهام . نحن فى هذا (اليوم الدنيوى ) نجرى مع السماوات والأرض الى الأجل المسمى وهو تدمير كل هذا الكون . فما هو طول هذا اليوم ؟

1 ـ كانوا يستعجلون العذاب ، وهو مؤجل الى يوم القيامة . وجاء أن الأمر بقيام الساعة قد صدر، ولكن تنفيذه سيأتى طبقا للموعد المحدد له بزمننا . قال جل وعلا :  ( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) النحل) . هنا إشارة الى إختلاف الزمن الالهى عن الزمن الأرضى . ولهذا يقول جل وعلا فى نفس الموضوع ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)الحج )،  فاليوم الالهى يساوى ألف عام بحسابنا .

2 ـ وهو نفس التقدير فى تدبير الأمر الالهى فى صدوره وعروجه بين السماء والأرض ، قال جل وعلا : (  يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) السجدة ).

3 ـ أما عن مدة هذه الدنيا فهى خمسون ألف عام ، بتقدير الرحمن وليس بتقدير زمننا . قال جل وعلا : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)المعارج  .) لا نعرف متى بدأت ولا نعرف متى ستنتهى وتقوم الساعة . كل ما نعرفه أنها إقتربت ، وأول علامة لاقتراب الساعة هو نزول القرآن الكريم الرسالة الالهية الخاتمة للعالم والباقية الى آخر الزمان .


المقال الثانى

( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) ابراهيم )

أولا :   يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ   

1 ـ القوانين الفيزيائية التى نعرفها والتى لا نعرفها فى المُتاح لنا فى عالمنا المادى ــ من الأرض المادية والنجوم والمجرات ــ  تختلف عن القوانين الفيزيائية فى عوالم البرزخ من الأرضين الست والسماوات السبع . والقوانين الفيزيائية للسماوت السبع والأرضين السبع ستتبدّل مع تدميرها وخلق أرض بديلة وسماوات بديلة . ونفهم من قوله جل وعلا :  ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ ) أنه تغيير بنسبة 100 % . التبديل يعنى وضعا متناقضا تماما . فالأرض القادمة تتناقض فى قوانينها الفيزيائية مع أرضنا الحالية ، وكذلك السماوات . وبالتالى فإن كُنّا لا نعلم سوى اليسير والظاهرى من أرضنا ومحيطاتها والنجوم والمجرات فنحن أجهل بالعالم القادم ، قال جل وعلا :  ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) الروم ). وما نعلمه عنه هو بمقدار ما نفهمه من القرآن الكريم فى الحديث عن أحوال الآخرة .

2 ـ وممّا نفهمه فى موضوع الزمن أنه فى هذه الدنيا متحرك يسير بنا الى الأمام الى قيام الساعة ونقطة الصفر والتلاشى ، وفى تناقض لذلك سيكون الزمن فى اليوم الآخر راهن حاضر خالد ، ليس فيه الأمس أو الغد . هذا وضع يستحيل علينا فهمه لأن معارفنا مستمدة من بيئتنا ، ولا سبيل الى تخيل ما يخرج عن مدركاتنا .

3 ـ التعبير القرآنى عن أحوال اليوم الآخر يأتى بالفعل الماضى ـ مع إنه لم يحدث بعدُ ، مثل قوله جل وعلا :  ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) الزمر ).  هذا بينما تأتى ملامح اليوم الآخر متتالية من البعث الى الحشر الى العرض أمام الله جل وعلا الى الحساب الى دخول الجنة أو النار . هذا التتالى والتتابع كيف يتسق مع الزمن الخالد الحاضر الراهن الذى لا يتحرك وليس فيه ماضى أو مستقبل ؟ المعضلة هنا أنه لكى تدخل الجنة أو النار فلا بد من المرور بمراحل ( سابقة ) أو ( ماضية )، فكيف يتأتى ( الماضى ) مع زمن ساكن ساكت متجمد خالد ؟ نعجز عن الاجابة وعن التخيل لأننا محكومون بمدركاتنا . ومدركاتنا اليوم لا تزال عاجزة عن فهم البرازخ وما يخرج عن الفيزيقا ويدخل فى الميتافيزيقا فى عالمنا فكيف بعالم لم يأت بعدُ ولمّا يأتنا تأويله أو تجسيده واقعا . حين نرى ذلك ونشهده فسنعرف . هذا بينما هو معلوم للخالق جل وعلا ، لأنه عالم الغيب والشهادة . ولهذا يتحدث عنه رب العزّة جل وعلا بصيغة الماضى بإعتباره أمرا تقرّر وانتهى ، ثم سيأتينا فى وقته وموعده ، كقوله جل وعلا عن قيام الساعة : ( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)  النحل)

4 ـ بدأ الخلق للسماوات والأرض بالانفجار العظيم المُشار اليه فى قوله جل وعلا  : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30)  الأنبياء ) ، ونتج عنه خلق كونين متناقضين أو ( زوجين ) ، قال جل وعلا : ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) الذاريات ) (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) يس ) ، وكل منهما يسير مبتعدا عن الآخر فى شكل بيضاوى ، عن توسع الكون قال جل وعلا : ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) الذاريات )،  ثم يلتقيان كما قال جل وعلا فى تشبيه مُعجز ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) الأنبياء ) بإصطدامهما يتفجران ويفنى كل منهما الآخر ويعود العالم الى نقطة الصفر . وهذا معنى قيام الساعة .

5 ـ وبحساب رب العزة جل وعلا فإن خمسين ألف عام تفصل بين بدء الخلق للسماوات والأرض وتدميرهما وقيام الساعة . نحن لا نعرف مقدار السنة فى حساب الرحمن ، ولا نعرف ماذا إنقضى من هذه الخمسين ألف سنة ، وما هو المتبقى . قال جل وعلا : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَرَاهُ قَرِيباً (7) المعارج ) . كل ما نعرفه إنه إقتربت الساعة ، قال جل وعلا من 14 قرنا : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) الأنبياء).

6 ـ نستعمل الآن (السنة الضوئية ). تبلغ سرعة الضوء 300 ألف كيلومتر/ثانية، وبهذه السرعة فان الضوء يقطع 18 مليون كيلومتر في الدقيقة وهذه تسمى الدقيقة الضوئية. تبلغ المسافة التي يقطعها الضوء في سنة واحدة 9,460,730,472,580,800 متر أي أنها تبلغ 9.461   HYPERLINK "HYPERLINK%20%22https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AA%D8%B1%D9%8A%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86%22تريليون"HYPERLINK  HYPERLINK "HYPERLINK%20%22https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AA%D8%B1%D9%8A%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86%22تريليون""https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AA%D8%B1%D9%8A%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86" HYPERLINK "HYPERLINK%20%22https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AA%D8%B1%D9%8A%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86%22تريليون"تريليون  كيلو متر. المسافات في الكون شاسعة جداً بحيث تقاس ببلايين السنين الضوئية .  فماذا عمّا فى البرازخ من سرعات ومسافات و قياسات لا يعلمها إلا الخالق جل وعلا ؟ . قال جل وعلا : (  لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) غافر ).

ثانيا :   وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) ابراهيم   

1 ـ الله جل وعلا يدير هذا الكون بملائكته ، ويعبر جل وعلا عن ذلك بالزمن الأرضى فيقول : ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)السجدة) . نلاحظ إستعمال الزمن المضارع المستمر فى التدبير للأمر الالهى فى إرساله وفى عروجه اليه جل وعلا وهذا فى يوم إلهى قدره ألف سنة بتقديرنا . وهو فوق الزمان والمكان ، لذا فهو جل وعلا عالم الغيب والشهادة . بالنسبة لنا فالمستقبل غيب ، بالنسبة له جل وعلا فهو يعلم الغيب والشهادة . قال جل وعلا عن إحطة علمه :  ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) سبأ)، وكل شىء يحدث معلوم له جل وعلا ومكتوب ، قال جل وعلا : ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) الانعام ).

2 ـ الملائكة الذين يدبر بهم رب العزة الأمر منهم جبريل الروح وملائكة معه كانوا ينزلون بالوحى الالهى على الأنبياء ، وإنقطع هذا بإكتمال نزول القرآن الكريم ، ولكن لا يزال جبريل والملائكة معه ينزلون بالأقدار الحتميات ليلة القدر من شهر رمضان كل عام . وهناك ملائكة الموت وملائكة تسجيل الأعمال . وفى اليوم الآخر يتعرض الناس والملائكة الى الحساب ، قال جل وعلا عن حساب الملائكة :  ( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )(75) الزمر ) (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38) النبأ ). هذا لأن الملائكة يتمتعون بحرية القول والعمل ، ونتذكر أن إبليس كان من الملأ الأعلى من الملائكة ثم عصى فجوزى باللعن والطرد خارج السماوات والى برازخ الأرض مع الجن .

3 ـ يختلف الوضع فى اليوم الآخر ، لأنه يوم لقاء الله جل وعلا . والمؤمن يرجو لقاء ربه يحقق ذلك بالتقوى ، والكافر غافل عن لقاء الله جل وعلا غير مؤمن به .

4 ـ والله جل وعلا يستعمل اسلوب المشاكلة:

4 / 1 : فيصف اللقاء بالمجىء ، قال جل وعلا :  ( كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22) الفجر ).

4 / 2 : أو أن الناس يُساقون الى ربهم ، قال جل وعلا :   ( إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) القيامة ) (إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) القيامة ).

4 / 3 : أو يبرزون اليه جل وعلا :  ( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ) (21) ابراهيم ) ( وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) ابراهيم ).

4 / 4 : أو يُعرضون عليه صفّا:(  وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً ) (48) الكهف ).

فى كل هذا لا يمكن لنا أن نتخيل المكان كما لا يمكننا أن نتخيل الزمان .

5 ـ يأتى رب العزة يوم لقائه فى اليوم الآخر ومعه ملائكة اليوم الأخر، صفا صفا . قال جل وعلا :  ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22) الفجر ).

ونتصور أن هذه الملائكة الذين سيأتون معه هم خلق جديد لا يتعرضون للحساب لأنهم خُلقوا على الطاعة المطلقة.

وهم أنواع مختلفة :

5 : 1 : منهم أصحاب الأعراف ، وهم ( رجال) أى مترجلون على حاجز بين أهل الجنة وأهل النار ، قال عنهم جل وعلا : (  وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)  الاعراف ). والتفصيل فى كتابنا ( المسلم العاصى ) المنشور هنا .

5 / 2 : ومنهم الصّافون الذين يقومون بصف الناس وزجر من يخرج منهم عن الصّف  ، وذكرهم رب العزة جل وعلا : ( وَالصَّافَّاتِ صَفّاً (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً (2) الصافات ).

5 / 2 / 1 :  ومن الملائكة الصّافين أولئك الذين يوزعون أهل النار يحشرونهم الى جهنم ويذكرونهم بالكتاب الالهى الذى كذبوا به ، قال جل وعلا : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) النمل ) ويؤنبونهم :  ( حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ (85) النمل )( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)  فصلت ).

5 / 2 / 2: ومنهم الذين يسوقون أصحاب النار الى أبواب النار يؤنبونهم على تكذيبهم بآيات الله . ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) الزمر  ) ، وهم الذين يلقون بهم من أبواب الجحيم كأكياس الزبالة ، قال جل وعلا : ( وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ (37) الانفال ) (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) الشعراء ).

5 / 3 : ومنهم الذين يسوقون أصحاب الجنة الى أبواب الجنة يسلمون عليهم ، قال جل وعلا : ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) الزمر ).

5 / 4 : منهم ملائكة النار داخل النار، قال جل وعلا عنهم :  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) التحريم ).

5 / 4 / 1 : هم خزنة جهنم الذين سيسألون الواردين اليها عن تكذيبهم بآيات الله جل وعلا :  ( إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)  الملك).

5 / 4 / 2 :وفى خضم العذاب سيرجو أهل النار من خزنة جهنم أن يدعوا لهم رب العزة أن يخفف عنهم يوما من العذاب ، وتأيتيهم الاجابة تبكيتا ولوما ، قال جل وعلا : ( وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنْ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)غافر ).

5 / 4 / 3 : ومنهم ( مالك ) خازن النار  الذى سيرجونه أن يدعو الله جل وعلا أن يقضى عليهم بالموت هروبا من العذاب،  ويرد عليهم يذكرهم بالحق القرآنى الذى كذّبوا به ، قال جل وعلا : ( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)  الزخرف ). هل يتعظ بهذا المحمديون المؤمنين بأحاديثهم الشيطانية الكافرون بالقرآن ؟

5 / 4 / 4 : ومنهم ملائكة العذاب الذين يلاحقون أهل النار حين يريدون أن يخرجوا منها يضربونهم بمقامع من حديد ، قال جل وعلا :  ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) الحج ) (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)  السجدة )

5 / 5 : ومنهم  ملائكة الجنة الذين يدخلون على أهلها يحيُّونهم ، قال جل وعلا : ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)الرعد ).

6 ـ ويأتى معه جل وعلا الجنة والنار .  قال جل وعلا : ( وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) الشعراء )( وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) النازعات )( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) الفجر ).  الجنة والنار ليس لهما وجود الآن .

أخيرا :

1 ـ يقول جل وعلا عن تمام تحكمه يوم القيامة : (  وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) الزمر ). هنا أسلوب المبنى للمجهول ، إذ يفقد البشر حريتهم التى كانت ممنوحة لهم فى الدنيا . يفقدونها من لحظة الاحتضار ، ويظلون فاقدين لحريتهم فى البعث والحشر والعرض والحساب . ثم يختلف الوضع ، فأصحاب الجنة يستعيدون حريتهم خالدين فى الجنة وهى مُفتّحة لهم الأبواب ، أما الكافر فيظل فاقدا حريته أبد الآبدين فى النار . أى إن الذى يسىء إستعمال الحرية فى الدنيا يعيش عاصيا منتشيا بحريته فى الكفر والظلم والعدوان مصيره أن يتمتع بهذه الحرية أوقات يقظته فى الدنيا وأوقات صحته وسطوته ، ثم يفقد حريته بالموت ويظل فاقدا لها فى البعث والحشر والحساب وفى جهنم حيث العذاب الأبدى .

2 ـ فهل يتعظ الكافرون بهذا ؟


المقال الثالث :

معضلة ( المكان ) فى الآخرة

مقدمة :

هذا تدبر قرآنى فى موضوع المكان فى الآخرة حيث الجنة والنار ، هما غيب مستقبلى لم يحدث بعدُ ، ولكن جاءت عنه إشارات قرآنية نتدبرها ،وقد نخطىء وقد نصيب . وفى النهاية فإن ما جاءت به الآيات القرآنية سيأتى تأويله ( بمعنى التجسيد والتحقق ) يوم القيامة .

أولا : علمنا القليل ورؤيتنا المحدودة فى هذه الدنيا :

1 ـ نحن لا نرى طاقات وأشعة نستفيد بها ، أى ضمن عالمنا المادى ، ولا نرى بأعيينا المجردة دواب حية فى أعماق المحيطات ، ودواب حية تعيش داخلنا وعلى جلودنا ونستنشقها ، وبعضهما نافع وبعضها ضار . قال جل وعلا عنها أنها ( أٌممُّ أمثالنا ) : ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) الانعام ). نستخدم المناظير والتيليسكوبات فى رؤية الدقيق القريب والضخم البعيد من الذرة الى المجرة، وكلما إكتشفنا شيئا أدركنا مقدار ما نجهله من بديع صنع الرحمن جل وعلا  .

2 ـ العلم الحديث الآن يدق أبواب عوالم البرزخ فيما يعرف بنظرية أو نظريات الأوتار الفائقة ، وفيها إختلافات وعليها إعتراضات ـ شأن بداية أى علم يدق أبواب المجهول . وعرفوا من نظرية الأوتار الفائقة أن الأبعاد في الكون الذي نعرفه؛ 3 أبعاد رئيسية وهي  الطول، العرض، الارتفاع ، بالإضافة إلى البُعد الرابع (الزمن .)، أما نظرية الأوتارفتقول أن الكون مُكوّن من «11 بُعداً»، منها الأبعاد الثلاثة الرئيسية، والبُعد الرابع (الزمن)؛ بالإضافة الى 7 أبعاد كونية أخرى. وقالوا إن نظرية الأوتار الفائقة تفسر ما حدث وماكان موجودا قبل الانفجار العظيم حين كان الكون كلة مركزا فى نقطة واحدة إنفجرت ، وهو المُشار اليه فى قوله جل وعلا يخاطبهم : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا )(30)الأنبياء ) . وقالوا إن الأبعاد لهذا الكون تتحرك ضمن قوانين جديدة . وتؤكد نظرية الأوتار على أن الوحدات الأساسية المكوِّنة للعالم هي الأوتار، وهي خيوط اهتزازية من الطاقة متناهية الصغر.  يهتز كل وتر على تردد معين ويمثل قوةً محددة. وتعتبر الجاذبية وجميع القوى الأخرى نتاجاً لاهتزازات أوتار محددة.وكل شيء في الكون من ( فيرميونات، كواركات وليبتونات، هادرونات، بوزونات، وحوامل القوة كالفوتونات) يعرف بنمط الاهتزاز لأوتاره.وأن هذه هذه الأوتار المهتزة هى الوحدة الأساسية لتشكيل المادة ، وليس الذرات أو الجسيمات النقطية الصغيرة . وقالوا أنه إذا صحت هذه الفرضية الخاصة بالأبعاد الـ11، فإن معنى هذا أن الكون ليس وحيدًا، وإنما هناك أكوان عديدة متصلة ببعضها، ويشير العلماء إلى أن هذه الأكوان متداخلة ولكن لكل كون قوانينه الخاصة، فالحيز الواحد من العالم من الممكن أن يكون مشغولًا بأكثر من جسم لكن من أبعاد مختلفة أى متداخلة .

3 ـ حسنا . لقد سبق القرآن الكريم العلم الحديث فى موضوع البرازخ للسماوات السبع والأرضين السبع ، والمتداخلة فى نفس المكان . فما يقولون أنه ( أبعاد ) هو البرازخ للأرضين الست والسماوات السبع . وبالتالى فالأبعاد هى 13 وليس 11 كما يقولون .

4 ـ  وسبق القرآن الكريم فى أن هناك مخلوقات حية فى السماوات والأرض ، قال جل وعلا : ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) النحل ) ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)  الشورى )، ومفهوم انها الجن والإنس والشياطين والملائكة .

4 ـ ما نعرفه قليل فى عالمنا المادى ( الأرض والنجوم والمجرات ) وما نعرفه أقلُّ وأقلّ عن برازخ الأرضين الست والسماوات السبع . ومصدر العلم هو ما جاء من إشارات عنها فى القرآن الكريم الذى يسبق علم البشر . بالتالى فإن مصدرنا الوحيد هو القرآن الكريم فى معرفة ما سيحدث فى المستقبل فى قيام الساعة وتدمير هذا الكون وتبديله بارض بديلة وسماوات بديلة ومجىء الرحمن ليحاكم الخلق من بشر وجن وملائكة وشياطين . وما ينتج عن الحساب من نعيم أو جحيم .

5 ـ المشكلة فى توصيل المعلومات عن اليوم الآخر بطريقة نفهمها ، ونحن لا نفهم إلا ما ندركه بحواسّنا ، وما نكتشفه فى عالمنا المادى نصنع له تعبيرات وصفات جديدة . وبالتالى فإن رب العزة جل وعلا يصيغ لنا معرفة جديدة نستطيع بها الاقتراب من هذا العالم المختلف الذى لم يأت بعد . ومن هنا أيضا تبدو معضلة الزمان والمكان فى اليوم الآخر .

6 ـ القائلون بنظرية الأوتار الفائقة يتصورون مادة مختلفة فى الأبعاد أو الأكوان ، ليست ثلاثة أضلاع بالاضافة الى الزمن . بالتالى فهناك مكان مختلف فى هذه الأكوان فى هذه الدنيا ، وبالتالى أيضا فالمكان مختلف بل متناقض تماما فى اليوم الآخر ، ولا يمكننا تصوره على حقيقته .

ثانيا : السماوات والأرض فى اليوم الآخر

1 ـ للأرض الحالية معانى مختلفة عرضنا لها فى باب القاموس القرآنى . ومنها ( الأرض ) بمعنى أرض الجنة فى قوله جل وعلا :  ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ (105) الانبياء) ، وقول أهل الجنة : ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) الزمر ).

2 ـ وتأتى( الأرض ) مرادفة للسماوات فى قوله جل وعلا :  ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) الزمر)، ويأتى بعدها قوله جل وعلا  : ( وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) الزمر )، أى أن يوم الحساب ولقاء الرحمن سيكون على أرض الآخرة . وعليه قد تكون الارض والسماوات متداخلة .

3 ـ ويقول جل وعلا عن إتساع الجنة :  ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) آل عمران ) أى إن عرضها هو السماوات والأرض . والمفهوم هنا ان الجنة ستكون مفتّحة الأبواب : ( جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمْ الأَبْوَابُ (50) ص  ) بحيث يجوب أصحاب الجنة كل مكان بما فيها النار يرون أهلها ، وحكى رب العزة جل وعلا مشهدا فى ذلك حيث إطّلع واحد من أهل الجنة على واحد من أهل النار كان قرينا له فى الدنيا يحاول إضلاله وخاطبه مؤنبا له. قال جل وعلا : ( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) الصافات  ). وهم فى هذا لا تضرهم نارها ولا يسمعون حسيسها ، قال جل وعلا عن أصحاب النار: ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) الأنبياء ).

ويقول جل وعلا :  ( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ )(21) الحديد )  ، هنا إستعمال التشبيه ( كعرض السماء والأرض ).




الفصل السادس :

الوعظ لتفادى العذاب

فى المقالات السابقة أشرنا الى الوعظ الالهى للناس للنجاة من العذاب . نتوقف هنا مع تفصيلات إضافية .

المقال الاول

 الوعظ تبشيرا بالنعيم وبالعذاب

مقدمة :

أنزل الله جل وعلا الكتب وأرسل الرسل لهداية الناس ولانقاذهم من عذاب السعير ولإدخالهم نعيم الجنة ، ولذلك يأتى المصطلح القرآنى ( بشّر ) فى التبشير وفى الانذار معا . وليس هذا معتادا فى حديث البشر ، فالتبشير هو فى الأخبار المفرحة فقط ، وليس فى الأخبار السيئة ، وليس معتادا أن ( تبشّر ) شخصا بدخوله النار وإستحقاقه العذاب ، إلا إذا كان هذا عن رغبة فى هدايته ، وهو على قيد الحياة يسعى فى الأرض ، إذ يمكنه أن يتوب . وحينئذ يكون فى إنذاره تبشيرا ضمنيا له أنه لو إهتدى فسيتنعم فى الجنة . يؤكّد هذا أن رب العزة فى كتابه يخاطب الأحياء ، وليس الموتى  . وبهذا يكون الوعظ بالتبشير بالجنة أو النار ضمن رحمة الله جل وعلا للبشر . ونعطى بعض التفصيلات

أولا : التبشير والإنذار وظيفة الرسل :

1 ـ يقول جل وعلا باسلوب الحصر والقصر عن وظيفة الرسل : ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) الانعام) . ويأتى ختم الآية بمصير من آمن واصلح بأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .ويقول جل وعلا : ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً (56) الكهف ). ويأتى هنا ختم الآية بموقف الكافرين فى كل عصر بالجدال وبالاستهزاء بآيات الله جل وعلا وكتبه .

2 ـ وبالنسبة لخاتم النبيين ، يتكرر قوله جل وعلا له فى خطاب مباشر وبأسلوب القصر والحصر أيضا : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) الفرقان ). ويأتى بتفصيل فى قوله جل وعلا   : ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) الفتح ). وبتفصيل أكثر فى قوله جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً (46) الاحزاب).  

ثانيا :التبشير والانذار بالقرآن الكريم

1 ـ القرآن الكريم ـ كلام رب العالمين ـ هو كتاب الانذار والتبشير ، آياته بيّنات وهو كتاب مبين ، يكفى تلاوة آياته لتعبّر بنفسها بمجرد النطق بها ، ولهذا جعله رب العزة جل وعلا ميسّرا للفهم بما يُعين على الهداية ، قال جل وعلا لخاتم النبيين فى خطاب مباشر عن القرآن الكريم ووظيفته: (  فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً (97) مريم). وعن وظيفة خاتم النبيين مبشرا ونذيرا بالحق القرآنى قال جل وعلا : ( وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) الاسراء ).

2 ـ وخاتم المرسلين محمد عليه السلام هو بشر عاش ومات ، والقرآن بعده محفوظ الى نهاية العالم بقدرة الرحمن جل وعلا . والقرآن بذلك مستمر يؤدى دوره رحمة للعالمين ، وبهذا أرسل الله جل وعلا رسوله بهذا القرآن : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) الانبياء . القرآن هو ( الفرقان ) الذى يفرق بين الحق والباطل ، وبهذا ( الفرقان ) يكون الانذار للعالمين ، قال جل وعلا : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1) الفرقان ). وفى الحالين فالقرآن هو البشرى والانذار للعالمين الى قيام الساعة . كان عليه السلام يبشر به وينذر به فى حياته وهو مستمر بعد موته يبشر به دعاة الحق ، وبه ينذرون .

3 ـ لذا تكرر وصف القرآن الكريم نفسه بأنه البشرى ، عن الكتاب مبشرا قال جل وعلا :  ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) النحل)، هنا جاءت بعض صفات القرآن الكريم ، أنه الذى نزل تبيانا لكل شىء يحتاج الى تبيين ، وهو هدى ورحمة لمن شاء من البشر أن يستقيم . أى هو ( هداية ) للصراط المستقيم وهو أيضا إنذار لمن لا يؤمن بالآخرة ، قال جل وعلا  عنه مبشرا ونذيرا : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10) الاسراء )، وقال جل وعلا أيضا : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) الكهف ) . ( وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) الاحقاف ).  ومن أوصاف الكتاب : الإحكام والتفصيل ليكون أبلغ فى التبشير وفى الانذار ، قال جل وعلا عن كتابه الحكيم : ( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) هود ) ( تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) فصلت ).

4 ـ جئنا بهذه الآيات لتأكيد كون القرآن بشيرا ونذيرا بنفسه . القرآن الكريم لا ينطق بذاته ، لا بد من لسان بشرى ينطق به ، يتلوه مجرد تلاوة . وهذا ما كان يفعله خاتم النبيين ، وهذا الذى يجب أن يفعله دُعاة الحق بعده عليه السلام .

ثالثا : الأمر للدعاة بالتبشير والانذار :

1 ـ بحفظ رب العزة جل وعلا لكتابه تقع مسئولية التبشير والانذار على الدعاة المستمسكين بالقرآن . وهنا نلاحظ أنه لم يأت مطلقا فى القرآن الأمر بالتبشير لجموع الدعاة ، لم يقل جل وعلا لهم ( بشّروا ) بل جاء بالأمر للفرد المؤمن كما جاء للنبى محمد نفسه ، فطالما هو ينطق بالقرآن الكريم يعظ به فهو على منهج النبوة فى الدعوة بالقرآن وحده . وبهذا تستمر الدعوة القرآنية بعد النبى خاتم المرسلين الى نهاية الزمان يقوم بها من يسير متبعا القرآن البصائر الذى كان يدعو به خاتم النبيين فى حياته ، نفهم هذا من قوله جل وعلا أمرا لخاتم النبيين :  ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (108) يوسف) .

2 ـ قال جل وعلا :  ( فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) الانشقاق  ). وقد يقال أن هذه الآيات تخص النبى محمدا عليه السلام وعصره فقط ،ولكنها تنطبق بحذافيرها على المحمديين فى عصرنا . هم مع تقديسهم المصحف فهم لا يؤمنون بالقرآن الكريم المكتوب فيه . بدليل معاناتنا نحن أهل القرآن منهم . ليست بيننا وبينهم خصومة شخصية . سيتركوننا فى حالنا لو توقفنا عن الوعظ بالقرآن الكريم وحده وعن الاحتكام اليه فيما يقوله المحمديون وما يفعلون وما يقدسون ويعبدون من دون الله ومع الله . أى هى كراهية للقرآن الكريم الذى يزعمون الايمان بهم . ولذلك إذا قرآنا عليهم القرآن لا يسجدون طاعة وإيمانا بل يجادلون مكذبين لآيات الله البيّنات الواضحات . لذا يكون وعظهم بتبشيرهم بعذاب أليم عسى أن يتوبوا . وهنا موقع التكفير فى دعوتنا أهل القرآن ، تكفيرنا هو لما يقولون ولما يفعلون عسى أن يتوبوا . هو تنبيه على خطئهم ودعوة لهم للتصحيح والاصلاح بالقرآن الكريم خوفا عليهم من عذاب يوم قادم لا مهرب منه ولا مرد له من الله جل وعلا . يكفى قوله جل وعلا :  ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) الروم ) (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) الشورى ).

3 ـ وهناك ( منذرون ) من غير الأنبياء يتطوعون إبتغاء وجه ربهم جل وعلا وليكونوا يوم القيامة أشهادا على أقوامهم . ولتتحقق هذه الشهادة ويتم تسجيلها فى كتاب أعمالهم لا بد لهم بالقيام بالأنذار والتبشير عمليا وفعليا أملا فى نجاة قومهم من عذاب السعير ، فإن أعرض القوم عنادا فهم وما يستحقون ، ويوم القيامة سيأتى كتاب الأعمال الجماعى لكل أمة ومجتمع ومنه تأتى نسخ الكتب الأعمال الفردية لكل فرد ، الداعية الى الحق يمتلىء كتاب أعماله بمعاناته ، والضالون يمتلىء كتاب أعمالهم برفضهم الحق . فى تصوير هذا يقول جل وعلا: ( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29) الجاثية ) (  وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) الزمر).

رابعا : الأمر لدعاة الحق بمواجة الكهنوت  فى زمنهم وهم أحياء

1 ـ يوم القيامة سيشهد دُعاة الحق على رجال الكهنوت الذين كانوا يفترون على الله ورسوله بأحاديث ضالة يتكسبون من دينهم الأرضى متمتعين بنفوذ هائل فى زمنهم يستخدمونه فى الصّدّ عن سبيل الله جل وعلا  ، يظنون أنهم معجزين فى الأرض . قال جل وعلا : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ (22) هود).

2 ـ إذا أردت أن تكون من هؤلاء الأشهاد يوم القيامة فلتملأ صحيف أعمالك بما يؤهلك لهذا يوم الحساب . المجال مفتوح لمن شاء أن يتخذ الى ربه سبيلا . فى النهاية فالله جل وعلا حدّد عمرك سلفا ، وحدّد موعد موتك مسبقا ، ولا يستطيع أحد أن يميتك قبل موعدك ، ولو إنتهت حياتك بالقتل فهذا أكبر نصر لك . لن تموت بل ستنتقل الى حياة برزخية عند الله جل وعلا تتمتع فيها برزقه . فى مواجهتك للطغاة والكهنوت ستكسب أيضا ذكرا حسنا فى الدنيا ، يكون لك به تقدير فى الأجيال القادمة . سينتهى المستبد وكهنوته الى صحيفة الزبالة ، وتظل كلمة الحق التى جهرت بها مذكورة بعدك . أيضا لن يذهب جهدك هباءا فى الدنيا ، فالشمعة التى تنيرها ستبدد بعض الظلمات ، وستنير بعض العقول وتنقذ بعض الناس. فالكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء ، وما ينفع الناس يمكث فى الأرض أما الباطل فهو فقاعات صابون تذهب جفاءا مهما تلونت وتزخرفت .

3 ـ  لا بد من تبشير الطُّغاة بالنار : الطاغية المتمسك بطغيانه لا بد له أن يصادر حرية الرأى وأن يطارد المصلحين ، لا بد له أن يسكتهم بالقتل المادى أو بالقتل المعنوى بتشويه سيرتهم ومطاردتهم بالاتهامات والاشاعات . هؤلاء المستبدون يسيرون سيرة العُصاة من بنى اسرائيل الذين كانوا يكذبون بآيات الله ويقتلون النبيين ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ، لا بد للداعية المؤمن من تبشيرهم بالنار . يقول جل وعلا :   ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) آل عمران ) . هذا أمر إلاهى لا بد من تنفيذه ، بأن تقول لهم علنا أنهم فى النار إن لم يتوبوا .

4 ـ لا بد من تبشير المنافقين بالعذاب : لم ينقطع وجود المنافقين ، بل هم نجوم كل عصر ، وفى عصرنا هم الملأ الذى يحيط بالمستبد ، هم المسيطرون على الإعلام والثقافة والحياة الدينية والسياسية ، يرقصون فى موكب المستبد يهتفون : (  بالروح بالدم نفديك يا (عتريس ) فإذا مات ( عتريس ) إنفضوا عنه وهتفوا للعتريس القادم . لا بد من تبشير هؤلاء المنافقين بعذاب أليم ، عسى أن يتوبوا ، قال جل وعلا آمرا : ( بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) النساء ).

5 ـ أسوأ المنافقين هم رجال الكهنوت . وقد أمر  رب العزة جل وعلا بتبشيرهم بالعذاب الأليم . وجاء هذا فى توضيح ملامحهم :

5 / 1 : فهم المتخصصون فى نشر الأحاديث الضالة ليصدوا عن القرآن الكريم ، وإذا ذكّرته بالقرآن ولّى مستكبرا كأن لم يسمعها، وهو بها عالم وعارف.يقول جل وعلا : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) لقمان ) يقول جل وعلا : ( فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)،  هذا أمر إلاهى واجب التنفيذ . أهمية تنفيذه أن هذا الأفّاق الأفّاك يزعم أنه منبع الهداية وانه يهدى الى ( سبيل الرشاد ) مثل فرعون . لو واجهته بتبشيره بالنار فقد أبطلت سحره وأطفأت دجله .

5 / 2 : هم فى عصرنا يكفرون بالقرآن الكريم الحديث الوحيد الذى يجب الايمان به ، قال جل وعلا  عن القرآن الكريم : ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) الجاثية) . وقال جل وعلا بعدها عن أولئك الأفّاكين الآثمين المؤمنين بالبخارى والكلينى والغزالى وغيرهم المكذبين بالقرآن الكريم : (  وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(8) الجاثية ). هنا أمر إلاهى بتبشيرهم بالعذاب الأليم : ( فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

5 / 3 : تخيل شخصا شجاعا وقف فى وجه القرضاوى أو مفتى السعودية أو شيخ الأزهر أو السيستانى أو الحكيم أو النجفى أو مقتدى الصدر أو خامئنى أوالحوثى  .الخ ..وقال له بأعلى صوت : ( إتق الله ..وإلا فأنت من أصحاب النار )، عندها ستأخذ هذا الكهنوتى العزة بالإثم ، ينطبق عليه قوله جل وعلا : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) البقرة ). الذى يفعل هذا يكون قد باع نفسه لربه جل وعلا قائلا كلمة حق فى وجه طاغوت أفّاك ، قال جل وعلا فى الآية التالية :  ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) البقرة ).

5 / 2 : هو حق مشروع أن نعرف ثروات رجال الكهنوت المشهورين فى ايران والعراق والسعودية وقطر والامارات ومصر . كم تبلغ ثروة القرضاوى أو مفتى السعودية أو شيخ الأزهر أو السيستانى أو الحكيم أو النجفى أو مقتدى الصدر أو خامئنى أوالحوثى وبابا الأقباط وبابا الفاتيكان .. هؤلاء يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله . قال جل وعلا يخاطبنا :  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) التوبة ). هنا أمر إلاهى أن نبشرهم علنا بالنار : ( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)  . هذا لو حدث حطمنا قدسيتهم المزعومة ورحمنا الناس من خداعهم وضلالهم وإفكهم وجهلهم . وبالتأكيد فسيعرف كثيرون الحق بتعرية وكشف هذا الباطل .


المقال الثانى

 طرق من الوعظ لتفادى العذاب  

مقدمة :

1 ـ القرآن الكريم كتاب إلاهى للهداية ، لإخراج الناس من الظلمات والظلم الى النور والخير ، وليكون مصيرهم الى الخلود فى الجنة . والله جل وعلا خلق البشر أحرارا ، يشاء أحدهم الهداية أو يشاء الغفلة والضلالة . وهنا الاختبار فى الحرية والاختيار .

2 ـ والانسان يلقى جزاءه فى الدنيا ، فالذين آمنوا لهم فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة : ( وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) النحل ) (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) الزمر). والذين أجرموا لهم عذاب فى الدنيا ، وإذا لم يتوبوا فى حياتهم الدنيا فينتظرهم ـ بما عملوا ـ الخلود فى النار .

3 ـ وحتى يتفادوا عذاب الدنيا والآخرة تنوعت طرق الوعظ فى القرآن الكريم ، ولم يتعظ بها اغلبية البشر ، لذا يحيق بهم العذاب فى هذه الدنيا ، واخبار العذاب تتمثل فى أخبار الحروب والقتل والتدمير التى تملأ مجلدات التاريخ الوسيط والحديث والمعاصر ، وفى وسائل الاعلام فى أيامنا ، ثم ينتظرهم الخلود فى عذاب الجحيم . والمحمديون ـ الذين يزعمون الايمان بالقرآن الكريم  ـ هم الأشد ضلالا، والأعجب أنهم المجرمون وهم أيضا الضحايا .

4 ـ ونعرض لأساليب الوعظ لتلافى العذاب  :

أولا : التعقيب على قصص السابقين بالوعظ

1 ـ معظم القصص عن الأنبياء السابقين وأنبيائهم جاء فى التنزيل المكى ، وفى بداية التنزيل المدنى يقول جل وعلا : ( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنْ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) النور )، هنا تذكير بأن قصص السابقين أنزله الله جل وعلا موعظة للمتقين الذين هم الأجدر بأن يتعظوا به .

2 ـ وتخصصت سور مكية بقصص الأنبياء،ومنها سورة ( هود )، وبعد أن ذكر قصصهم فيها قال جل وعلا معقبا : ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)هود )، ومصطلح(آية ) هنا يعنى العبرة والموعظة . وفى نهايات السورة يعيد رب العزة جل وعلا التذكير بأن قصص القرآن هو للوعظ ، قال جل وعلا : ( وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)هود).

وأوردت سورة الشعراء قصص بعض الأنبياء ، ويتردد فى التعقيب على كل منها قوله جل وعلا : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ). ولا تزال مدائن ثمود ( قوم صالح ) باقية وخاوية ، جعلها الله جل وعلا آية للناس اللاحقين ، قال جل وعلا عن (مدائن صالح ) : (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)النمل). وفرعون هو أستاذ كل الطغاة الذين أتوا بعده والذين يأتون بعده ، والذين يصل بهم إستبدادهم وطغيانهم وتأليه أنفسهم . قال جل وعلا عن عقوبة فرعون : ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) النازعات). ومع ذلك فلا يوجد من يخشى بين المستبدين فى الشرق الأوسط أو الشرق الأتعس  .!

3 ـ ومنذ العصر العباسى ينتشر وباء الشذوذ الجنسى بين المحمديين ، وقد إتخذه الصوفية دينا فى العصر المملوكى على نحو ما شرحناه فى كتابنا عن ( أثر التصوف فى الانحلال الخلقى فى مصر العصر المملوكى ).  ولا يزال الشذوذ الجنسى يمثل ( العادة السرية ) المتعارف عليها لدى الوهابيين بالذات ، يدمنونه ويتظاهرون بالصلاح والتقوى . فى العصرين العباسى والمملوكى إنتقل وباء الشذوذ الى الأجناس الوافدة للشرق الأوسط من الأتراك والتتار ، ثم إنتقل من المحمديين الى الغرب بدءا من القرن التاسع عشر. وبينما يجرى الاعتراف بوجوده ومناقشته علنا فى الغرب فإن المحمديين يمارسونه سرا وينكرونه علنا . هنا نكتشف الحكمة الإلهية فى تكرار قصة قوم لوط ، فمع أنهم كانوا يعبدون آلهة مع الله جل وعلا فإن التركيز كان فى الانكار على شذوذهم الجنسى . وفى وصف العذاب الذى دمرهم أشار رب العزة  فى لفتة غاية فى الاعجاز، مهددا المحمديين الذين يقرأون القرآن ، يقول جل وعلا : ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)هود) .قوله جل وعلا: ( وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) هو إنذار نزل مبكرا للمحمديين، وهو يتحقق الآن فى تدمير مدائنهم فيكون عاليها سافلها .!!.جدير بالذكر أيضا أن الله قال عن بقايا مدينتى قوم لوط ( سدوم وعمورة ): (وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) العنكبوت )( وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (37)الذاريات )،  والمحمديون لا يعقلون ولا هم من ربهم يرهبون .!

4 ـ ويأتى الوعظ مغلفا بالتحذير ، وهذا فى قوله جل وعلا فى خطاب مباشر للبشر بعد أن قصّ قصص بعض السابقين:  ( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)الاعراف). كل آية من هذه الآيات الكريمة تستدعى الكثير من التدبر العقلى ، خصوصا وأن عقاب الكافرين مستمر، بأيدى بعضهم البعض ،فالحروب مستمرة ، وأدواتها تتطور، وهم لا يلتفتون الى قوله جل وعلا محذرا:  ( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)النحل ) ، وفى قوله جل وعلا للناس : ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) يونس )

5 ـ وعادة البشر السيئة أن يتوبوا عند المحنة ، كأن يكونوا على شفا الغرق ثم يعودوا بعد نجاتهم الى العصيان ، يظنون أنهم سيكون بمنجاة من عذاب الله جل وعلا ، أو أنهم يمكنهم الهرب من سلطانه . يقول لهم جل وعلا محذرا: ( وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنْ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69) الاسراء ).

6 ـ ونرى الوعظ أيضا مقترنا بأهمية وجود مصلحين ، فهم صمام الأمن، فلو كان هناك مصلحون فى تلك الأمم السابقة وأطاعتهم تلك الأمم ما أهلكهم الله جل وعلا ، وهو القائل : ( فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)هود).

7 ـ والاصلاح هو وظيفة الرسل جميعا ، وقالها النبى شعيب لقومه: ( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ )(88)هود ). والنبى هود عليه السلام قال لقومه :  ( أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)الاعراف). ووقف النبى صالح على جثث قومه وخاطبهم متحسرا: ( يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)الاعراف)،  والمصلحون هم من يسير على نفس المنهج فى كل عصر . وهى قاعدة فى الإهلاك أن المصلحين يأمرون بالعدل فيرفض المترفون فتتدمر القرية أو الدولة ، قال جل وعلا : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)الاسراء) .والمحمديون لا يكرهون فقط المصلحين بل يطاردونهم ويلقون بهم فى السجون .

ثانيا : الأمر بالسير فى الأرض للإتعاظ بما حدث للسابقين

1 ـ خلافا للدين السُّنى نزل الأمر من رب العزة بالسير فى الأرض للبحث العلمى التجريبى لمعرفة بديع صُنع الخالق جل وعلا :  ( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) العنكبوت )، وللبحث فى آثار السابقين للعظة ولتفادى العذاب .  والعجيب أن الغرب إنطلق يجوب البحار والفضاء مستكشفا وانطلق فى أغوار الخلية والذرة باحثا وانطلق فى القفار عن الأثار منقبا ، بينما يظل المحمديون على خرافات أسلافهم عاكفين .

2 ـ وتكرر فى القرآن الكريم الوعظ بالأمر بالسير فى الأرض بصيغ مختلفة :

2 / 1 : الأمر المباشر (: ( سيروا ): ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) آل عمران ) (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) الروم ).

2 / 2 : وبصيغة الفعل المضارع بمعنى الاستنكار :  ( أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)) ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)غافر) ( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) الروم ).

3 ـ وفى بعضها لمحات تاريخية مثلما سبق عن تقدم الأمم السابقة عن العرب حضاريا ، ومنها توضيح السبب فى إهلاكهم وهو الظلم وتحكم المترفين :  ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) الحج ) ، وهذا ينطبق تماما على مجتمعات المحمديين .

4 ـ  وفى بعضها يأتى الأمر بالتنقيب عن تلك الآثار ، وهو بالضبط ما برع فيه الغرب ، قال جل وعلا :  ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) ق ).

5 ـ وفى ( وسط )( الشرق الأوسط ) تقع بقايا سدوم وعمورة .آثار قوم لوط ،  وكانت قريش تمرُّ عليها فى رحلتها الى الشام ، قال جل وعلا عن مرورهم على آثار قوم لوط :   ( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)الصافات) وعن الوعظ بآثارهم الباقية قال جل وعلا  : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)الحجر ). فهل تقوم رحلات من المحمديين الى آثار سدوم وعمورة للعظة ؟ لا يفعلون لأن حديثا لديهم ينهاهم عن هذا . ثم هم يفضلون الحج السياحى الانحلالى الى تايلاند وغيرها، وهم متخصصون فى السير فى الأرض يكتشفون أوكار الانحلال الخلقى ، وربما يمارس بعضهم الشذوذ ، ثم يصلى بعدها ويقرآ آيات قرآنية تتكلم عن عقاب قوم لوط . أبشروا ..!!

أخيرا :

1 ـ هى آية للمؤمنين ، وهى آية للمتقين ، بمعنى أن من يشاء الهدى يزداد هدى بهذا ، ويزداد تأثره بهذا الوعظ . أما الذى شاء لنفسه الضلال فلن ينالنا منه سوى السخرية والاستهزاء . وفى النهاية سيحيق بهم ما كانوا به يستهزئون ، يقول جل وعلا :  ( فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (34)النحل ) (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (48)الزمر)(وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (33) الجاثية).  

2 ـ لهذا لا يعتبر بهذه الآيات المحمديون . هى آيات فى القرآن الذين يزعمون الايمان  به ، ومع هذا فبينهم وبينه حجاب ، إذ إتخذوه مهجورا .

3 ـ الدليل أن كل ما سبق قد تم تجميعه فى أواخر سورة يوسف ، وهذا فى خطاب ينطبق على المحمديين خصوصا ، نرجو تدبر قوله جل وعلا : (  وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (111) يوسف).

4 ـ ودائما : صدق الله العظيم .!!




الفصل السابع : فى العذاب : وما ربك بظلام للعبيد

المقال الأول :

فى العذاب : الله جل وعلا لا يظلم أحدا  

مقدمة : العُصاة يستسهلون العصيان ويستكثرون العذاب المترتب عليه يوم القيامة . وينسون أن الله جل وعلا لا يظلم أحدا فى الدنيا ولا فى الآخرة . فى القوانين الوضعية فى الديمقراطيات الحديثة يسعون الى تحقيق العدل بما لديهم من إمكانات بشرية ، ويضعون عقابات للمجرم. إلا إن الملحدين يستكثرون على الخالق جل وعلا أن يعذّب العاصى بعصيانه . فى نظم التعليم حين يعقدون إمتحانا لا يقبلون العبث فيه او قبول شافعات أو وساطات . ولكن أئمة الدين الأرضى يفترون يوما للحساب فى ألاخرة ملىء بالشفاعات والوساطات . أى ما يرفضونه فى الدنيا يفرضونه ـ بإفتراءاتهم ـ على رب العزة فى دينه جل وعلا وفى اليوم الآخر .

الله جل وعلا انزل القرآن الكريما وعظا للناس ، وذكر آيات العذاب وآيات النعيم تبشيرا وإنذارا ليتفادى الناس الأحياء عذاب الجحيم وليكون مصيرهم الى خلود فى النعيم. بالاضافة الى هذا فإن رب العالمين لا يظلم أحدا فى عذاب الدنيا والآخرة  . ونعطى بعض التفصيلات :

أولا : الله جل وعلا لا يريد ظلما للبشر فى الدنيا

1 ـ عموما قال جل وعلا :  ( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) آل عمران )

2 ـ يسرى هذا فى عذاب الدنيا ، كما حدث مع الأمم التى أهلكها الله جل وعلا بسبب عصيانهم وجرائمهم .  

2 / 1 : هو جل وعلا لا يريد لهم ظلما قال جل وعلا عن إهلاكهم ، قال جل وعلا :  ( مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ (31) غافر ).

2 / 2 : وأخبر الله جل وعلا  أنه أخذهم أى عاقبهم بذنوبهم، وما ظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، قال جل وعلا  : ( فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) العنكبوت)  .

2 / 3 : ولأنه جل وعلا لا يريد عذابا للبشر فقد تكرر الوعظ للأحياء تذكيرا بما حدث للسابقين .

2 / 3 / 1 : قال جل وعلا للكفار من العرب:  (  أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) الانعام )، أى أهلكهم بذنوبهم ، وقال جل وعلا عن إهلاكهم بسبب ظلمهم وتكذيبهم للرسل ، قال جل وعلا :  (  وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) يونس )، لذا أصابتهم سيئات أعمالهم تدميرا لهم، قال جل وعلا : ( فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (34) النحل )، وهو تهديد لكل اللاحقين ، قال جل وعلا : ( فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) الزمر ) ، ومنهم منافقو المدينة فى عهد النبى محمد عليه السلام ، قال جل وعلا عنهم :  ( أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) التوبة) .

2 / 3 / 2 :  ودعاهم الله جل وعلا للسير فى الأرض ليتعظوا بما حدث للسابقين الذين أهلكهم الله جل وعلا ، قال جل وعلا :  ( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) الروم)  .

3 ـ كل هذا ليتفادوا العذاب ، وتأكيدا على أنه جل وعلا لا يظلم الناس ولكن الناس أنفسهم يظلمون .  

ثانيا : الله جل وعلا لا يريد ظلما للبشر فى اليوم الآخر   

1 ـ يتكرر عن اليوم الآخر تأكيده جل وعلا لا يريد ظلما للعالمين

1 / 1 ـ فى إيجاز وقاعدة عامة يقول جل وعلا عن اليوم الآخر :  ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) فصلت) ، وفى هذا لا تبديل لقراره جل وعلا ، قال جل وعلا : ( مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)  ق ).

1 / 2 : يستطيع أى فرد أن يدخل الجنة إذا عمل لها عملها وهو مؤمن .هو قرار الانسان نفسه ، إن عمل صالحا دخل الجنة وإن عمل سيئا دخل النار . أو إن إهتدى فلنفسه وإن أساء فعلى نفسه ، ثم إن الله جل وعلا لا يؤاخذ احد بجريرة أحد ولن يعذب من لم يأته رسول ، قال جل وعلا :  ( مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) الاسراء ).

1 / 3 : الذى يختار بمشيئته الكفر ويموت كافرا ستبدأ محنته عند الاحتضار، تصفعه الملائكة وتركله( تصفع نفسه وهى تخرج من جسدها ) وتبشره بعذاب الحريق ، وأن هذا ما قدمه لنفسه وما فعله بنفسه وأن الله جل وعلا ليس بظلام للبشر . قال جل وعلا وعظا للأحياء  : ( وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) الأنفال ).

1 / 4 : وهم فى النار يقال لهم أنه ما قدموه بإختيارهم لأنفسهم وأن الله جل وعلا ليس بظلّام للعبيد . يسرى هذا على :

1 / 4 / 1 : أئمة الضلال ، قال جل وعلا عنهم : ( ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)  ) الحج ).

1 / 4 / 2 : وغيرهم من المجرمين فى حق الله جل وعلا ورسله . قال جل وعلا : (  لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) آل عمران ).

ثالثا : ( لا ظُلم ) فى اليوم الآخر)

1 ـ شعار اليوم الآخر أنه :( لا ظلم اليوم ) وأن كل نفس ستُجزى بما كسبت، قال جل وعلا : (  الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ )(17) غافر).

2 ـ يسرى هذا على البشر جميعا حيث يجمعهم الله جل وعلا ( يوم الجمع ) الذى هو أيضا( يوم التغابن ) أى رفع المظالم ، قال جل وعلا :  ( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ) (9) التغابن).  أكثرية البشر فى كل زمان يتسلط عليهم ظالمون منهم ،  يتحكم فيهم مستبد ظالم بأتباعه ، يدخل الأبرياء السجون ويتعامى القانون عن المجرمين . هذا هو حال الدنيا ومظالمها . الوضع مختلف يوم ( الجمع )،( يوم التغابن )، يوم رفع الظلم وعقاب الظالم  ، حيث تتم توفية كل نفس عملها وهم لا يظلمون . قال جل وعلا : : ( فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) آل عمران) .

3 ـ لا فارق هنا بين نبى وبشر عادى ، فالنبى إذا  (غلّ ) أى وقع فى الظلم سينال جزاءه شأن أى فرد من البشر، قال جل وعلا :  ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) آل عمران).

رابعا : آلية القسط يوم الحساب

  كتاب الأعمال :

  1 : هناك كتاب الأعمال الجماعى لكل جيل وأمة ومجتمع ، حيث تسجيل تفاعلات الأفراد مع بعضهم . يرى المجرمون كتاب أعمالهم الجماعى قد أحصى عليهم كل شىء وما ترك من شىء ، يعرفون عندها أن الله جل وعلا لا يظلم أحدا . قال جل وعلا :  ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) الكهف).

  2 : يرون كتاب أعمالهم الجماعى وهم جاثون ، يُنادى على كل أمة حين يأتى دورها . قال جل وعلا :  ( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29) الجاثية ).

  3 : كتاب الأعمال الجماعى هو ال ( إمام ) لكل أمة ، وهو كتاب ينطق بالحق ، وهم لا يُظلمون ، قال جل وعلا :   ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71 ) الاسراء ).

  4 : كل نفس من كل أُمّة ستستلم كتاب أعمالها ، وسيكون كل فرد حسيبا على نفسه بما يراه فى كتاب أعماله ، قال جل وعلا :  ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) الاسراء)  .

  5 : وفى كل الأحوال فإن الله جل وعلا فى تشريعه لم يكلف نفسا إلا وسعها ، وكل نفس كانت فى حياتها الدنيا تتمتع بالحرية فى الطاعة أو المعصية ، وتم تسجيل أعمالها فى كتاب ينطق بالحق ، قال جل وعلا : (  وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) المؤمنون ).

  الميزان

  1 : وهو بمعيار الذّرة، قال جل وعلا :  ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) الانبياء ) (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ )(40) النساء ).

  2 : الظالم هو الخاسر فى هذا الحساب ، قال جل وعلا  : ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) الاعراف ).

3 : ومع هذا فلكل نفس الحق فى أن تدافع عن نفسها ، ثم يتم توفيتها أعمالها بلا ظلم ، قال جل وعلا :  ( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) النحل ).

 4 : يبدأ الحساب بالأنبياء والأشهاد على أقوامهم ثم بقية البشر ، قال جل وعلا :  ( وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) الزمر ).

 5 : كل هذا فى سرعة لا نتخيلها لأن الزمن وقتها مختلف عن زمننا . وقد تكرر وصفه جل وعلا بأنه ( سريع الحساب ).


المقال الثانى  

بين الرحمة والعدل

لأن الله جل وعلا لا يظلم أحدا : نلاحظ هذه الحقائق القرآنية :

أولا : رحمة الله جل وعلا  فوق عدله ، وهى لمن يستحق

قال جل وعلا :  ( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الاعراف).  رحمته الواسعة متاحة للمتقين المؤمنين . وعذابه لمن يستحقه ويشاء الكفر والعصيان .

رحمته فى الدنيا تتجلى فى التشريع :

1 ـ أنه جل وعلا لا يكلف الله نفسا إلا وسعها : ( البقرة 286 ، 233 ) ( الانعام 152  ) (الاعراف 42 ) (المؤمنون 62 ) ( الطلاق 7 ) )، وما جعل رب العزة فى الدين من حرج : ( المائدة 6  ) ( الحج78 ) ( النور 61 ) ( الفتح17 ) ، والتخفيف أساس فى التشريع: ( النساء ) 28) ) ( البقرة 178 ) )

2 ـ وهو جل وعلا لا يؤاخذ الناس باللغو فى ايمانهم ولكن بما عقدوا عليه قلوبهم (البقرة 225  ) ( المائدة 89 ))، فهو جل وعلا لا يؤاخذ الفرد إلا على التعمد ( الأحزاب 5 ) ) ويعفو عن الخطأ غير المقصود والنسيان ( البقرة 286 ) )

وتتجلى رحمته جل وعلا فى عذابه الدنيوى

1 ـ أنه لا يعجّل العذاب لمستحقّيه، بل يعطى فرصة التوبة، قال جل وعلا : ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) الكهف ).

2 ـ وأنه لو آخذ البشر بذنوبهم ما ترك دابة فى الأرض ، قال جل وعلا : (  وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45) فاطر ) (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) النحل ).

وتتجلى رحمته فى الآخرة :

1 ـ أنه لا يظلم مثقال ذرة ، ويضاعف الحسنة ، قال جل وعلا :  ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) النساء ).

2 ـ لذا فالسيئة بمثلها يكون العذاب عدلا ، أما الحسنة فبأكثر منها فضلا ورحمة ، قال جل وعلا :  ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) القصص )، وقال جل وعلا :  ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (90) النمل ).

3 ـ وجزاء الحسنة بعشر أمثالها ، قال جل وعلا :  ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) الانعام ) ، وقال جل وعلا (   مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) الانعام )، واحيانا اكثر من ذلك ، قال جل وعلا :  ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) البقرة )

ثانيا : الدرجات والدركات فى جزاء المتقين والكافرين :

1 ـ سورة الواقعة من أروع السور الوعظية ، وهى ثلاثة أقسام : القسم الأول عن يوم القيامة وتقسيم الناس الى أصحاب الجنة من السابقين واصحاب اليمين ، ثم أصحاب الشمال ( سورة الواقعة) 1 : 56 )  ، والقسم الأخير عن نفس التقسيم للبشر عند الاحتضار : ( 83 ـ ) .وما بينهما خطاب وعظى مباشر للبشر ليتلافوا الجحيم .

2 ـ تقسيم البشر الى هذه الدرجات مؤسس على أعمالهم ، أى هى درجات طبق ما كانوا يعملون ، قال جل وعلا : ( وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)الاحقاف ). إذ لا يمكن فى عدل الرحمن جل وعلا أن يتساوى من إتبع رضوان الله بمن أسخط الله جل وعلا : (  أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163 ) آل عمران)، أى هم درجات عند الله جل وعلا وهو البصير بما يعملون .

3 ـ درجات أصحاب الجنة ــ من مقربين سابقين ثم اصحاب اليمين المقتصدين ــ أشار اليه قوله جل وعلا :  ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95)النساء ) فالقاعد لا يتساوى بالمجاهد ، بعدها قال جل وعلا :  ( دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) النساء ).

4 ـ أصحاب النار دركات .

4 / 1 : المنافقون هم فى الدرك الأسفل من النار ، قال جل وعلا :  ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) النساء )

4 / 2 : أشد الناس عذابا فى الجحيم هم الكهنوت الذين يتخصصون فى إضلال غيرهم ، يأتون يوم القيامة يحملون أوزارهم وأوزار من اضلوهم بغير علم، قال جل وعلا :  ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) النحل).

4 / 3 : وجاء وصفهم بأنهم الذين يصدون عن سبيل الله جل وعلا يبغونها عوجا ، لذا يستحقون عذابا زائدا .  قال جل وعلا : ( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) النحل ).

4 / 4 : خصومنا يحاربوننا ينقمون علينا أننا نعظ بالقرآن الكريم صراط الله المستقيم وحده ، وندعوهم لنبذ تقديس غيره . نرجو أن يجعلنا ربنا جل وعلا أشهادا عليهم يوم القيامة. عن مشهد من مشاهد يقوم القيامة يقول جل وعلا عن  الكهنوت الذى كان يفترى على الله جل وعلا الكذب ، وكيف أن الأشهاد سيشهدون عليهم : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) هود ) وصفهم جل وعلا بأنهم :  ( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) هود ( وهم الأخسرون أى الأشد عذابا يوم القيامة:( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ (22) هود ).

4 / 5 : وفى سياق آخر يقول جل وعلا عن عذابهم :  ( فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) البقرة ).

ثالثا : تخاصمهم فى النار  

الأتباع الكافرون وهم فى النار سيتخاصمون مع سادتهم من الملأ السياسى والدينى الذين اضلوهم فى الدنيا ، وهذا إعتراف بأنهم ما ظلمهم الله جل وعلا ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بإختيارهم . ونعطى لمحة قرآنية :

1 ـ قالها ابراهيم عليه السلام لقومه يعظهم : ( وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25 ) العنكبوت ).هم فى الدنيا كانت بينهم مودة فى الدين ، تجمعهم الأوثان البشرية والحجرية . فى النار تنقلب هذه المودة الى عداوة وتلاعن وتكفير . وما لهم من نصير .  نتوجه بهذا وعظا لأتباع الوهابية ودعاتهم وأتباع أئمة الشيعة وأولياء الصوفية .

2 ــ الكافرون يحبون اولياءهم حب تقديس بينما يجب عليهم أن يتوجهوا بهذا الحب لرب العزة جل وعلا القائل : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ). بعدها يقول جل وعلا عن يوم القيامة حين يرون العذاب أنهم سيعرفون بعد فوات الاوان ان القوة هى لرب العزة جل وعلا : ( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) البقرة ). عندها يتبرأ الملأ والسادة من الأتباع ، فيندم الأتباع يتمنون لو كانت لهم فرصة ليردوا لهم نفس الصنيع   : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا )(167) البقرة ). نتوجه بهذا وعظا لأتباع الوهابية ودعاتهم وأتباع أئمة الشيعة وأولياء الصوفية .

3 ـ يقول جل وعلا :  ( وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ (32)سبأ ). الأتباع يلومون سادتهم بأنهم السبب فى الإضلال ، فيرد سادتهم بأنهم كانوا فى الأصل مجرمين ، ويرد الأتباع بأنه مكر الملأ بهم ليل نهار بالدعاية ومختلف وسائل التأثير : (  وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) سبأ ). نتوجه بهذا وعظا لأتباع الوهابية ودعاتهم وأتباع أئمة الشيعة وأولياء الصوفية .

4 ـ يقول جل وعلا :  ( وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنْ النَّارِ (47) غافر ). يطلبون من سادتهم أن يتحملوا عنهم نصيبا من العذاب ، ويرفض الملأ :  ( قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) غافر). ). نتوجه بهذا وعظا لأتباع الوهابية ودعاتهم وأتباع أئمة الشيعة وأولياء الصوفية .

5 ـ فى النهاية ووجوههم تتقلب فى النار يدعون ربهم أن يعذب سادتهم وكبراءهم ضعفين من العذاب وأن يلعنهم لعنا كبيرا :( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) الاحزاب ). ).  نتوجه بهذا وعظا لأتباع الوهابية ودعاتهم وأتباع أئمة الشيعة وأولياء الصوفية .

أخيرا

1 ـ الله جل وعلا أتى بهذا وعظا للأحياء لكى ينجو من عذاب الآخرة . أى هو نوع من الرحمة . والله جل وعلا أرسل رسوله بالقرآن الكريم رحمة للعالمين( الأنبياء107 ) وجعل للبشر الحرية الكاملة فى أن ينعموا برحمة يوم القيامة ويتزحزحوا عن النار ، أو أن يكونوا بإرادتهم وإختيارهم خالدين فى عذاب النار ، بلا إمهال وبلا تخفيف وبلا خروج . بهذا الوعظ للأحياء فإن ربك جل وعلا لا يظلم الناس ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون .



المقال الثالث

لا رحمة ولا نور  

مقدمة :

1 ـ  قلنا إن اللعن يوم القيامة هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله جل وعلا يوم الدين . وكلما كان الناس قريبين من الله جل وعلا يوم القيامة كانوا داخلين فى رحمته ، وإذا كانوا بعيدين عنه كانوا فى عذابه . وبالتالى ينقسم البشر يوم القيامة الى ثلاثة أقسام : السابقون واصحاب اليمين ، وهما فى الجنة ، ثم أصحاب المشأمة ،  وهم الملعونون المطرودون من رحمة رب العالمين جل وعلا . يتم وضع سور بينهم وبين اصحاب الجنة ؛باطنه الذى يلى أصحاب الجنة فيه الرحمة ، وظاهرة الذى يلى أصحاب النار فيه العذاب . هم فى الأسفل ، واهل الجنة فى الأعلى .

2 ـ نتعرض هنا لملمح آخر لأصحاب الجنة حيث الرحمة والنور،واصحاب النار حيث السواد والعذاب :

أولا : الرحمة بين الدنيا والآخرة

الكتب الالهية فى الدنيا هى أساس الرحمة فى الآخرة :

1 ـ الايمان بما أنزل الله جل وعلا من كتاب والعمل به يثمر رحمة فى الآخرة .

2 ـ قال جل وعلا عن الكتاب الذى أنزل على موسى عليه السلام :

2 / 1 :  (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)القصص  43) .هنا يوصف كتاب موسى بأنه هدى ورحمة لمن يتذكر ويخشى .

2 / 2  وقال جل وعلا عن كتاب موسى ايضا : ( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً ) ( الأحقاف 12 ). )

3 ــ وعن القرآن الكريم رحمة

3 / 1 : أرسل الله جل وعلا خاتم النبيين بالقرآن الكريم رحمة للعالمين ، قال جل وعلا : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)الأنبياء)107 )

3 / 2 : ولا ينال هذه الرحمة إلا من آمن وعمل صالحا وإهتدى ، قال جل وعلا :  ( وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)النمل:77 ) ) ( هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ )لقمان)3 ) ) (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)الجاثية20   ) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)يونس:57   58 ).

3 / 3 : الإيمان بالقرآن الكريم يعنى الايمان به وحده حديثا ، أى الكفر بالأحاديث الشيطانية التى تمتلىء بها كتب الأديان الأرضية كالبخارى السُّنّى و( الكافى ) الشيعى و ( إحياء علوم الدين ) الصوفى .

وهذا يعنى وصف القرآن الكريم بالهدى والرحمة ، ونأخذ أمثلة :

3 / 3 / 1 : الايمان بأن القرآن الكريم نزل تبيانا لكل شىء يحتاج الى بيان ، قال جل وعلا :  ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءوَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) النحل )89 )

3 / 3 / 2 : الإكتفاء بالقرآن الكريم وحده كتابا ، قال جل وعلا :  (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) العنكبوت  51 )

3 / 3 / 3 : الايمان بأن تفصيلات القرآن جاءت بيانا على علم لتكون هدى ورحمة للمؤمنين،قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) الاعراف).

4 ـ بالتالى فلن يزداد بالقرآن إلا خسارا من لا يؤمن بالقرآن وحده حديثا ومن يتخذ معه كتبا أخرى يقدسها ويتبعها ومن يؤمن بأن هذه الكتب تفسّر وتفصّل القرآن ثم يتلاعب بالقرآن ليتفق مع هذه الكتب الشيطانية . يكون القرآن الكريم شفاءا ورحمة لمن يؤمن به وحده حديثا ويكون وبالا وخسارا على من لا يكتفى به وحده حديثا وكتابا ، قال جل وعلا : ( وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً)الإسراء:82 )

الرحمة يوم القيامة

الرحمة بالقرآن الكريم سيأتى يوم القيامة تأويلها ( أى تحقيقها وتجسيدها عمليا ) بدخول الجنة والنجاة من النار . ونعطى بعض التفصيلات :

1 ـ معنى الرحمة : النجاة من عذاب النار :

1 / 1 :قال جل وعلا عن عذاب النار :  ( مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) ( الأنعام:16 ).)

1 / 2 : وعن السيئات التى يتم بها تعذيب مرتكبيها يوم الدين تدعو الملائكة للمؤمنين فتقول:  ( وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) غافر 9 ).)

2 ـ الدخول فى الرحمة يعنى دخول الجنة ، قال جل وعلا :

2 / 1 :  (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) النساء 175 )

2 / 2 : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) ) الجاثية:30 )

2 / 3 : (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) (الإنسان)31 ).

2 / 4 : ودعا موسى ربه جل وعلا فقال :  ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)الأعراف:151 )  

3 ـ .ولأن اصحاب الجنة درجتان ( السابقون المقربون واصحاب اليمين )، فهناك وصف للرحمة بالدرجات، قال جل وعلا :  ( دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)النساء).96 )

4 ـ  وفى كل الأحوال فأصحاب الجنة قريبون من الرحمن عكس اصحاب النار البعيدين عن رحمته الملعونين المطرودين من جنته .

4 / 1 :  والمحسنون فى الدنيا عموما سيكونون يوم القيامة قريبين من رحمة الله جل وعلا ، أى فى جنته  قال جل وعلا : ( إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ ) الأعراف:56 )

4 / 2 : وقال جل وعلا عن بعض الأعراب المؤمنين الذين كانوا يتقربون لربهم جل وعلا بالإنفاق فى سبيله :  ( وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التوبة 99 )  . جزاؤهم على إحسانهم أنهم سيدخلون فى رحمة الله جل وعلا .

4 / 3 : من هنا فمن أسماء الله جل وعلا الحسنى أنه ( قريب  )

4 / 3 / 1 : النبى صالح قال لقومه:  ( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) هود)

4 / 3 / 2 : والنبى محمد أمره ربه جل وعلا أن يقول : ( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) سبأ ).

4 / 3 / 3 : وهو جل وعلا قريب من عباده :

4 / 3 / 3 / 1 : حين يدعونه ، قال جل وعلا : (  وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) البقرة ) ( وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (56) الاعراف ).

4 / 3 / 3 / 2 : وعند السجود. قال جل وعلا لخاتم النبيين : ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) العلق ).

4 / 3 / 3 . 3 : وهو جل وعلا أقرب الينا

4 / 3 / 3 / 1 : من حبل الوريد :  ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) ق ).

4 / 3 / 3 / 2 : وعند الاحتضار :   ( فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) الواقعة )  

5 ـ بالتالى فإن من يقترب من ربه بالتقوى فى الدنيا يكون قريبا من الله جل وعلا يوم القيامة ، أى داخلا فى رحمته وبعيدا عن عذابه . يقول جل وعلا عن أصحاب الجنة وبُعد النار عنهم : (   إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103) الأنبياء ).

ثانيا : النور بين الدنيا والآخرة  

الاهتداء بنور القرآن فى الدنيا يؤدى الى الرحمة فى الآخرة :

1 ـ قال جل وعلا للبشر جميعا فى خطاب مباشر :  ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (175) النساء ).

القرآن موصوف بالنور . من يؤمن به ويعتصم به لا يؤمن بحديث غيره فسيدخل فى رحمة الله جل وعلا وجنته .

2 ـ قال جل وعلا لأهل الكتاب عن القرآن الكريم :  ( قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) المائدة ).أى من يتبع نور القرآن وهدايته يدخل الجنة دار السلام ، أى ينتقل من نور القرآن فى الدنيا الى نور الجنة فى الآخرة .

مقارنة بين نور القرآن وظلمات الكفر

1 ـ الذى يعشو عن نور القرآن أى لا يراه بقلبه يتولاه شيطان يقترن به يزين له الباطل حقا والحق باطلا ويصدّه عن الحق ويجعله يحسب أنه على الهدى . كل هذا وهو لا يرى هذا القرين الشيطانى. فإذا إنكشف الغطاء يوم القيامة رآه وعرف أنه الذى اضلّه فيتمنى لو كان بينه وبينه بُعد المشرقين . قال جل وعلا : ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)  الزخرف )

2 ـ عن المقارنة بين الذى يهتدى فى الدنيا بنور القرآن والذى يسير فى ظلمات الشيطان قال جل وعلا :

2 / 1 : ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)الانعام ).

2 / 2 : ( أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) الزمر ).

3 ـ النور القرآنى يتحول الى نور فى الآخرة يكون تبشيرا بالجنة . قال جل وعلا :

3 / 1 : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) الحديد ).

3 / 2 : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) الحديد).

3 / 3 : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) التحريم ).

4 ـ وفى مقارنة بين نور الآخرة للمتقين وسواد وجوه الكافرين يقول جل وعلا :

4 / 1 : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) عبس).

4 / 2 : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) يونس ).

4 / 3 : ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) آل عمران).

5 ـ فى أسفل السافلين سيكون أولئك الذين إفتروا على الله جل وعلا كذبا كالبخارى والشافعى والكلينى وأبى حامد الغزالى وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن عبد الوهاب ..الخ . قال جل وعلا :  ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) الزمر ).


المقال الرابع

الغفلة

مقدمة

لا زلنا مع تقرير الحقيقة القرآنية أن الله جل وعلا لا يريد ظلما للعالمين ، وأنه جل وعلا لا يظلم الناس ولكن الناس أنفسهم يظلمون . ولهذا فإن حديث التعذيب يأتى فى القرآن الكريم وعظا للأحياء حتى لا يخدعهم الشيطان الرجيم ويهوى بهم يوم القيامة الى عذاب الجحيم .

2 ـ وهناك ناحية ( يغفل ) عنها الناس ، هم  ( يغفلون ) عن الحق وعن اليوم الآخر ، وتشغلهم الحياة الدنيا فينسون الله جل وعلا واليوم الآخر ، وبالتالى ينساهم الله جل وعلا من رحمته ، ويكون مصيرهم اللعن أى النفى عن رحمة الله ، أى الخلود فى عذاب الجحيم .

3 ـ نتوقف مع موضوع الغفلة بإعتبارها من مسببات اللعن والطرد من رحمة رب العالمين الرحمن الرحيم . ونرتب الموضوع كالآتى :

أولا : رب العزة جل لا يغفل ولا ينسى

1 ـ تكرر التأكيد على أنه جل وعلا ليس غتفلا عما نعمل فى سور (البقرة ) و(آل عمران ) )  الانعام ) ( النمل ).

 2 ـ ويشمل هذا أنه جل وعلا ليس غافلا عما يجرى فى السماوات والأرض، قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنْ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) المؤمنون) (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)هود ) .وليس غافلا عما يعمل الظالمون ، وجاء هذا بإسلوب التأكيد الثقيل، قال جل وعلا : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) ابراهيم  ).

3 ـ وبالتالى فهو جل وعلا لاينسى، قال جل وعلا :  (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً (64) مريم ).

ثانيا : أكثر البشر غافلون وينسون

1 ـ إلا إن عُصاة  البشر ينسون ، ويوم القيامة يخبرهم رب العزة بأعمالهم وقد نسوها  ، قال جل وعلا : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) المجادلة ).

2 ـ وأكثرية البشر ينسون وعظ الله جل وعلا لهم فى آياته ، يغفلون عنها، قال جل وعلا : ( وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) يونس ).

3 ـ هم ينبهرون بظاهر الحياة الدنيا يبحثونه ويتعرفون عليه وينغمسون فيه ويعلمونه ولكنهم عن الآخرة هم غافلون . لا يحاولون أن يتفكروا لماذا خلقهم الله جل وعلا ولماذا خلق السماوات والأرض وما بينهما من نجوم ومجرات ، وما بعد ذلك من قيام الساعة ولقاء الرحمن جل وعلا ، قال جل وعلا : (  وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) الروم ).

4 ـ وعلى نفس الغفلة كان جيل العرب الذى شهد بعثة خاتم النبيين عليه وعليهم السلام ، قال جل وعلا :  ( لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) يس ).

ثالثا : قبل أن يكون نبيا كان محمد من الغافلين

1 ـ محمد كان رجلا منهم ، قال جل وعلا :  ( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ) ( 2  ) يونس). وكان مثلهم قبل أن ينزل عليه الوحى ، أى كان غافلا مثلهم ، فلما نزل عليه الوحى وصار نبيا عالما متقيا ، قال جل وعلا :  ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ (3) يوسف ).

3 ـ وشأن المتقى أن يستعيذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم حتى لا تأخذه الغفلة ، ولذا أمره ربه جل وعلا أن يذكر ربه دائما ولا يكون من الغافلين، قال جل وعلا :  ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ (205) الاعراف) ،واذا نسى فعليه أن يذكر ربه، قال جل وعلا: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ )(24)الكهف ).

رابعا : علاج الغفلة عن الفطرة الاسلامية : لا إله إلا الله  

1 ـ فى البداية أخذ الله جل وعلا على الأنفس البشرية العهد على أنه ( لا إله إلا الله ) ، واشهدهم على أنفسهم ، حتى لا يأتون يوم القيامة يعتذرون بالغفلة، قال جل وعلا :  ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) الاعراف ).

2 ـ هى الفطرة التى يولد بها الطفل البشرى نقية خالصة ، ثم يتعلم من بيئته تقديس البشر والحجر ، فإذا وقع فى محنة أفاق من غفلته وتذكر ربه فيصرخ متضرعا مستغيثا .وقد يعاقبه ربه جل وعلا بعذاب بما كسبت يداه فيكون هذا العذاب منبها له ربما يتذكر ويتوب، قال جل وعلا : ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) السجدة ). فإختبار المحن والعذاب الدنيوى من وسائل التنبيه واليقظة من الغفلة .

2 ـ وذكر الله جل وعلا من أهم وسائل التقوى والخروج من شرنقة الغفلة . وذكر الله جل وعلا يتنوع فى عبادات مختلفة من قراءة القرآن:  (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) ص )، ومنه الصلاة ، قال جل وعلا : ( وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) طه ). والذكر العادى فى أوقات مختلفة فى اليوم ، قال جل وعلا :  ( وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) الانسان ) ، والمتقى يتذكره جل وعلا حين يوسوس الشيطان، قال جل وعلا :   ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) الاعراف ).

3 ـ بهذا يفلح المؤمنون، قال جل وعلا: ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) الجمعة )

خامسا : جزاء الغافلين عذاب الجحيم

1 ـ بدون ذكر الله تكون الغفلة والندم يوم القيامة، قال جل وعلا :  ( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) الفجر )،  ويكون عذاب الجحيم . يومها يعض الظالم على يديه من الأسف يتمنى لو لم يُلهه الشيطان عن الذكر، قال جل وعلا : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً (29) الفرقان  ).

2 ـ ويأتيه  تأنيبه بأنه نسى آيات الله فحاق عليه النسيان، أى تم نسيانه من رحمة الرحيم جل وعلا.

2 / 1 : منها عند حشره أعمى ثم عذابه ، قال عنه جل وعلا  ( قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) طه).

2 / 2 :  ومن التأنيب أن يقال عند التبشير بالنار انهم نسوا اليوم الآخر فنساهم الله جل وعلا من رحمته ، قال جل وعلا :  ( وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) الجاثية  ).

2 / 3 :  وأن يقال لهم وهم فى عذاب النار إنهم نسوا هذا ولم يتذكروه ولم يتعظوا به وهم أحياء فاستحقوا أن ينساهم الله جل وعلا من رحمته، قال جل وعلا : ( فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) السجدة ).

2 / 4 : وقال جل وعلا عن غفلة المنافقين  وما سيترتب عليه من لعنهم وعذابهم : ( نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) التوبة ).

2 / 5 : وقال جل وعلا عن الكافرين بآياته : ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) الاعراف ).

3 ـ هذا لأنك حين تذكر الله خاشعا يذكرك الله جل وعلا ، قال جل وعلا :  ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) (152) البقرة) بذكر الله جل وعلا يكون الفلاح، قال جل وعلا :  ( فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) الاعراف ).

4 ـ والله جل وعلا رءوف رحيم بالناس ، وقد أنزل القرآن الكريم رحمة للناس ليخرجهم من الظلمات الى النور ، قال جل وعلا :  ( هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) الحديد )  . وتكرر فى القرآن الكريم وصفه جل وعلا بأنه رءوف ورحيم بالناس: ( إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) البقرة ) (وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) البقرة )(وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) آل عمران )(إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) النحل ) ( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) النحل ) (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) الحج ) (وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) النور )  

5 ـ ومن رأفته ورحمته توالت آيات القرآن تعظ وتنذر لينتبه الناس الأحياء من غفلتهم  وينجوا من عذاب الجحيم :

5 / 1 : التنبيه على إقتراب الساعة مع إستمرار الناس فى غفلتهم ولهوهم، قال جل وعلا :   ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) (3 ) الأنبياء ).

5 / 2 :  والندم على غفلتهم عند إقتراب الوعد الحق ، أى موعد الساعة ، قال جل وعلا : ( وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) الانبياء ).

5 / 3 : التنبيه على حسرتهم على هذه الغفلة عند قيام الساعة ، قال جل وعلا : (  وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) مريم ).

5 / 4 : وما سيقال للعاصى يوم القيامة تأنيبا له على غفلته، قال جل وعلا:  ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) ق).  إنغمس فى غرائز جسده المادى ، فلما زال هذا الجسد وأصبح نفسا تحمل أوزارها فإن ( الغطاء ) قد إنكشف وأصبح يواجه الحقيقة التى غفل عنها .

5 / 5 : التنبيه على ان الشيطان يعطّل فى النفس ما يوصل اليها الهداية ويوقع الانسان فى الغفلة ، فيكون كالأنعام يعيش الحاضر الدنيوى ويغفل عن المستقبل الأخروى وينتهى به  مصيره الى جهنم، قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179) الاعراف ).

5 / 6 : التنبيه على أن من إمتلأ قلبه بالكفر إستحق غضب الله جل وعلا وعذابه ، لأنه ملأ قلبه بإستحباب الحياة الدنيا والغفلة عن الآخرة،قال جل وعلا :  ( وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ )109)النحل ).

5 / 7 : التنبيه على أن الذى ينسى لقاء الله جل وعلا أو ( لا يرجو لقاء الله) ولا يتحسّب له يكون غافلا عن آيات الله ومصيره جهنم ، قال جل وعلا :  ( إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) يونس ) .

5 / 8: قد تكون لهذا المفتون بالدنيا أعمال صالحة ومشروعات خيرية أنفق فيها أمواله إبتغاء الدنيا وشهرتها وليس لوجه الله وليس إيمانا باليوم الآخر . هذا هو من يريد الحياة الدنيا وزينتها غافلا عن الآخرة وجنتها . هذا يعطيه الله جل وعلا أجره فى الدنيا مقابل أعمال الخير التى قدمها ، ولكنه يوم القيامة ليس له إلا عذاب النار، قال جل وعلا : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(16) هود )

 أخيرا

1 ـ ليس الايمان كافيا وحده . لابد من التقوى ، وهى تعنى أن يحاسب المؤمن نفسه قبل أن يأتى يوم الحساب . إن لم يفعل المؤمن هذا سيكون ضمن الذين نسوا الله جل وعلا فأنساهم الله جل وعلا أنفسهم فوقعوا فى بئر الغفلة ، ويبقون فيه الى يوم الحسرة. قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ (20) الحشر ). هؤلاء هم حزب الله جل وعلا يوم الدين . وهم أصحاب الجنة .

2 ـ قال جل وعلا عن حزب الشيطان الرجيم اللعين الذين إستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله :  ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ (19) المجادلة)  .

الغفلة عن الحق ليست حُجّة .   هل يدرك كهنوت عصرنا هذا ؟


المقال الخامس

آلية العذاب : بسيئاتهم يتعذب الكافرون فى جهنم  

مقدمة :

1 ـ العُصاة أنواع :

1 / 1 : عاص يعرف إنه يرتكب معصية . هذا يمكن أن يتوب لأنه يعرف إنه مخطىء.

1 / 2 : عاص يبرّر لنفسه المعصية ، أو يستحلّ المعصية . هذا لا يمكن أن يتوب لأنه لا يرى خطأ فيما يفعله .

1 / 3 : عاص يعتبر معصيته طاعة ودينا . هذا من شياطين الانس . وهم اولئك الذين يقتلون الأبرياء معتقدين أن ما يفعلون هو جهاد فى سبيل الله . ومنهم الذين يقدسون القبور ويعبدون الموتى يؤمنون أن ما يفعلون هو صحيح الدين . لا يمكن لهم أن يتوبوا . كيف يتوبون عن عمل شىء يعتبرونه فرضا دينيا .!

2 ـ العاصى الذى يستحل المعصية والعاصى الذى يرى معصية فرضا دينيا يستمر فى معصيته حتى يتحول قلبه الى سواد ، أو كما قال جل وعلا :  ( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) المطففين )، بمعنى أن الصدأ غزا نفسه فأحالها الى سواد . ويوم القيامة يسودّ وجهه بما ران على قلبه . وبهذه السيئات يكون تعذيبه فى جهنم .

أولا : التعذيب يالسيئات :

1 ـ السيئة تتحول الى نار تأكل جسد العاصى فى نار جهنم ، ويظل معذبا بها لا يموت ولا يحيا . لذا تدعو الملائكة رب العزة جل وعلا أن يرحم المؤمنين بأن يقيهم شرّ السيئات :  ( وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) غافر).

2 ـ ويوم القيامة يرون سيئاتهم قد تحولت نارا أحاطت بهم ، قال جل وعلا عن مصير من مات عاصيا بلا توبة :  ( بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) البقرة)   .

3 ـ تبدو لهم سيئاتهم نارا حاقت بهم ، قال جل وعلا :  ( وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (33) الجاثية ).

4 ـ عندها يتمنون لو أن لهم ما فى الأرض جميعا ، وبدا لهم من ربهم ما لم يكونوا يحتسبون ، قال جل وعلا:  ( وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (48) الزمر).  

ثانيا : أنواع من السيئات التى تتحول الى نار فى الجحيم :

1 ـ الكهنوت الذى يتاجرون بالدين يبيعون للناس الأكاذيب والخرافات على أنها دين الله جل وعلا :

1 / 1 :، قال جل وعلا  عموما : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) البقرة). بهذا الثمن الدنيوى القليل سيأكلون فى بطونهم النار . أين شيوخ السنيين وأولياء الصوفية وآيات الشيعة من هذا المصير ؟

1 / 2 : وقال جل وعلا عن كثير من الأحبار والرهبان : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) التوبة ). أموالهم السحت وكنوزهم من الذهب والفضة ستتحول الى نار تكويهم . أين شيوخ السنيين وأولياء الصوفية وآيات الشيعة من هذا المصير ؟

2 ـ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ـ حتى لو كانوا مؤمنين ـ  يتحول هذا المال الى نار فى بطونهم ، قال جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) النساء ).   لقد قال جل وعلا بعد آيات تشريع الميراث ــ وهو من ( حدود الله ) جل وعلا : ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) النساء ). فالذى يعصى ربه جل وعلا فى تشريع الميراث مصيره الخلود فى جهنم مهما فعل من الصالحات .  

3 ـ البخلاء الذين يبخلون بما آتاهم الله جل وعلا من فضله سيتحول مالهم الذى بخلوا به الى نار تطوقهم فى الجحيم ، قال جل وعلا يحذّرهم :  ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 180 ) آل عمران ).

ثالثا : تكفير السيئات : تغطيتها لمنع تأثيرها

من رحمته جل وعلا أن أوضح الطريق للأحياء قبل موتهم أن ينقذوا أنفسهم من شرور سيئاتهم بأن ( يكفّروا ) عنها . و ( الكفر ) هو التغطية . قد يأتى مصطلح ( كفر ) فى الايمان بتغطية الفطرة السليمة ( لا إله إلا الله ) بالايمان بآلهة وأولياء مع الله . ويأتى ( التكفير ) بمعنى تغطية السيئة وتبديلها بعمل صالح صادر عن إيمان خالص بالله جل وعلا وحده لا شريك له . بتغطيتها يتم تحييدها ومنع تحولها الى نار . ويأتى التكفير بمعنى ( الغفران )، لأن ( غفر ) بمعنى ( كفر ) أى غطى . ويوم القيامة يغفر الله جل وعلا سيئاتهم بمعنى يغطيها ، فالفعل ( كفّر ) بتضعيف الفاء يعنى (غفر ) ، والمعنى واحد هو النجاة من سيئات الدنيا لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم إهتدى .

وفى الدعوة الى تكفير السيئات نعلم إن من وسائلها :

1 ـ تقديم الصدقات علنا أو سرا ، قال جل وعلا :(  إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) البقرة ).

2 ـ إجتناب الكبائر ، قال جل وعلا :  ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) النساء ).

3 ـ التوبة الحقيقية المشفوعة بعمل الصالحات مع إيمان خالص بالله جل وعلا لا شريك له :

3 / 1 : قال جل وعلا : عن غفرانه لمن يتوب ويؤمن إيمانا صحيحا : (  وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) الاعراف ).

3 / 2 : المهم أن تكون التوبة صحيحة نصوحا  ليدخل بها صاحبها الجنة ، قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) التحريم ).

3 / 3 : بهذه التوبة تتبدل السيئات حسنات ، قال جل وعلا عمّن تاب عن الكفر والقتل والزنا  : ( إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً (71) الفرقان ).

4 ـ بهذه التوبة تتحقق التقوى :

4 / 1 :قال جل وعلا عن أهل الكتاب :  ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) المائدة ).

4 / 2 : وقال جل وعلا أيضا ل ( اهل القرآن ) : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) الانفال ).

4 / 3 : والمتقون هم الأنبياء ومن آمن واتقى مصدقا بالكتاب الالهى ، قال جل وعلا :  ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) الزمر ).

4 / 4 : وقال جل وعلا للبشر جميعا :  ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) الطلاق ).

4 / 5 : ولا يدخل الجنة إلا المتقون ، قال جل وعلا :  ( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً (63))مريم).

5 ـ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تعنى التقوى ، وليس مجرد أداء الصلوات الخمس أو تقديم الصدقات ، فكل العبادات وسائل للتقوى ( البقرة 21 ).

5 / 1 : كان هذا فى الميثاق الذى أخذه الله جل وعلا على بنى إسرائيل ، وإذا أوفوا به فقد وعد الله جل وعلا أن يكفّر عنهم سيئاتهم ويدخلهم الجنة ، قال جل وعلا :  ( وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) المائدة ).

5 / 2 : ومنهم من أوفى بالميثاق فإستحقوا أن يكفّر الله جل وعلا عنهم سيئاتهم ، قال جل وعلا عنهم : (  الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (54) القصص ).

5 / 3 : هم كانوا ( يدرأون )بالحسنة السيئة ، بمعنى أن يكثروا من الحسنات والأعمال الصالحات ليضيعوا أثر السيئات .

5 / 3 / 1 : ذلك إن إقامة الصلاة تقوى وإكثارا من الحسنات تضيع السيئات ، قال جل وعلا :  ( وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) هود)

5 / 3 / 2 : وقال جل وعلا فى هذا السياق :  ( وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) الرعد ).

5 / 4 : بالتقوى تتكاثر الصالحات مع إيمان خالص مخلص بالله الواحد القهار . وهنا يرتبط الايمان الحقيقى بعمل الصالحات ، ويتكرر كثيرا مصطلح ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات) . ومن دلالاته تكفير السيئات . قال جل وعلا :

5 / 4 / 1 : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) محمد ) لم يقل ( وآمنوا بمحمد ) لأنهم لو آمنوا بمحمد كانوا كفارا ، فالايمان بشخص يعنى تأليهه . الإيمان هو بالقرآن الذى نزل على محمد .

5 / 4 / 2 : ( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) الفتح ). هذا فى عموم المؤمنين الصالحين .

5 / 4 / 3 : ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)  التغابن).هذه الآية تفسر ما قبلها.

5 / 4 / 4 : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) العنكبوت ). وهذه الآية أيضا يفسرها ما بعدها ، وهو قوله جل وعلا فى نفس السورة :

5 / 4 / 5 : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) العنكبوت) ، فالذى يموت مؤمنا (صالحا ) يكون يوم القيامة ( صالحا ) لدخول الجنة .!

6 ـ كل هذا يأتى وعظا للأحياء للنجاة بأنفسهم من الخلود فى النار .




المقال السادس

( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) يونس ).

مقدمة

1 ـ يأتون يوم القيامة يحملون أوزارهم على ظهورهم ، وبها يدخلون النار وبها يكون عذابهم الأبدى الخالد ، قال جل وعلا : ( وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) الانعام ).  

هناك ( مُضلُّون ) من شيوخ وأئمة الكهنوت . وهناك ضالُّون يطيعون هذا الكهنوت . الشيخ الذى يأمر الناس بالضلال يكون فى حياته محرضا لهذا الذى يسمع له ويطيع . فإذا فعل هذا التابع إثما طاعة لهذا الشيخ أصبح الشيخ المُضلُّ  فى حياته شريكا لهذا الضال فى الاثم .مثلا إذا أصدر الشيخ فلان فتاوى بإستباحة الدماء ونفذها الارهابيون أصبح هذا الشيخ بالتحريض شريكا لكل جريمة يتم تنفيذها بتحريضه . الذين إغتالوا المفكر الراحل فرج فودة فى يونية 1992 أعلنوا أنهم فعلوا هذا طاعة لفتوى ( ندوة العلماء ) الأزهرية. أولئك الشيوخ شركاء فى قتل فرج فودة ، يحملون دماءه فى أعناقهم ، ثم سيأتون يوم القيامة يحملون أوزارهم واوزار الذين أطاعوهم ونفذوا أوامرهم فى حياتهم. فى ذلك يقول جل وعلا :(  لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) النحل )

.2 ـ   إنّ أصحاب النار هم الذين ظلموا أنفسهم ، فالله جل وعلا أنزل كتابه الكريم بلاغا تحذيريا للناس لمن كان حيا ، ذكر فيه أصناف العذاب الذى ينتظر المجرمين كى يتوبوا قبل فوات الأوان .

2 / 1 : قال جل وعلا : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (52) ابراهيم ) . هذا بلاغ من الرحمن جل وعلا . ولكن المحمديين الذين يزعمون الايمان بهذا البلاغ غافلون عنه .

2 / 2 : لو جاءهم بلاغ من ضابط شرطة لارتعبوا خوفا ولكنهم مع بلاغ الرحمن يتخذونه هزوا ولعبا ويجعلونه أُغنية يتسامرون به فى المجالس كما كانت فعل قريش ، قال جل وعلا عنهم: (  قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ (68) المؤمنون ). وعن المشركين عموما يقول جل وعلا بصيغة المضارع الذى يحدث فى كل وقت :( وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) الكهف ) .

2 / 3 : لهذا يظل القرآن الكريم إنذارا لكل إنسان حىّ ، قال جل وعلا : (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) يس )

2 / 4 : وهو فى نفس الوقت بشرى للمحسنين ، قال جل وعلا (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)الاحقاف )، وقال جل وعلا : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3 ) الكهف ) .

هو رحمة للعالمين لمن اراد الهداية ، قال جل وعلا : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) الانبياء )، وهو إنذار للعالمين ليتعظ من أراد التوبة ، قال جل وعلا : (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ( 1) الفرقان )

3 ـ فى النهاية فالله جل وعلا لا يريد ظلما للعالمين ، قال جل وعلا : ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) آل عمران ) . وبالتالى فمن سيدخل النار فقد ظلم نفسه ، قال جل وعلا بصيغة التأكيد:(إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) يونس ).

ونعطى تفصيلا :

أولا : التكذيب بآيات الله جل وعلا  والصّد عن دين الله جل وعلا

1 ـ قال جل وعلا عّن عذاب من يكذب بآياته: ( سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) الاعراف )

2 ـ هم فى تكذيبهم بآيات الله يؤمنون بأحاديث مفتراة مبنية على الأمانى وأساطير الشفاعات، وهذا يناقض عدل الله جل وعلا لأن من يعمل سيئة او سوءا يُعاقب به ، قال جل وعلا :  ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (123) النساء )

3 ـ أساطير الشفاعات لن تنفعهم ، وكذلك ما جمعوه من نفوذ وثروة ، ومهما أنفقوا من أموالهم السُّحت فلن تغنى عنهم شيئا ، وما ظلمهم الله جل وعلا ولكنهم أنفسهم يظلمون . قال جل وعلا : (  إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) آل عمران ).

ثانيا : مراحل إعلامهم بأنهم ما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون :

1 ـ قبيل عرضهم على النار : ستسودُّ وجوههم ويقال لهم : ذوقوا العذاب بسبب كفركم . (  يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) آل عمران )

2 ـ عند عرضهم على النار :

2 / 1  سيقال لهم ذوقوا العذاب بسبب كفركم : ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) الاحقاف  ).

2 / 2   : وسيقال لهم : إنه جزاء عملكم : (  إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (39) الصافات )

3ـ وهم يذوقون العذاب سيقال لهم أنه جزاؤهم بأعمالهم :

3 / 1 :سيقال لهم حين تُكبُّ وجوههم فى النار : (  وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (90) النمل )

3 / 2 : وسيقال لهم ذوقوا ما كنتم تعملون والعذاب يغطيهم من أعلى ومن أسفل : ( يَوْمَ يَغْشَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) العنكبوت )

3 / 3 : ولأنهم غفلوا ونسوا لقاء ربهم سيتم تذكيرهم بهذا وأن النار التى يتعذبون بها خالدين ليست سوى أعمالهم التى تحولت نارا : ( فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) السجدة )

3 / 4 : وعليه فيستوى إن صبروا على العذاب أم لم يصبروا فهو عملهم الذى عملوه وتحوّل نارا تلتهمهم : ( اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (16) الطور )

3 / 5: هو بسبب ظلمهم : ( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (54) يس ) ( أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) الزمر )

3 / 5 : وهو بسبب كفرهم : ( فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35) الانفال )( هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) يس )

3 / 6 : وإنه جزاء عملهم :، ومنه إفتراءاتهم الأحاديث ، يجعلونها وحيا إلاهيا مع إستكبارهم عن القرآن الكريم :  ( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) الانعام )

3 / 7 :  ويتم تذكيرهم بأنه عذاب خالد لا خروج منه :، وهو ( بما كسبت أيديهم ): ( ثُمَّ   قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) يونس)

3 / 8 :  ولا تخفيف فى هذا العذاب ، فهو ( بذنوبهم ) : (  إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ (76) الزخرف )

3 / 9 : وليس مُجديا إعتذارهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7) التحريم )

أخيرا :

1 ـ عذاب الدنيا مقدور عليه ، فليس عذابا مباشرا للنفس . بينها وبين العذاب وسيط هو الجسد ، ينتقل الاحساس بالعذاب الى مراكز الاحساس فى المخ ، والمخ هو غرفة القيادة للنفس المسيطرة على الجسد فتشعر بالألم . وإذا زاد الألم عن حد معين تغيب النفس ويدخل الانسان فى غيبوبة . هذه الغيبوبة تعطى النفس راحة من الألم .

2 ـ يختلف الوضع فى الآخرة . لم يعد هناك ذلك الجسد المادى ، هى النفس بذاتها وقد حملت جسدا آخر هو عملها . فإذا كان العمل صالحا أصبحت به النفس صالحة لنعيم الدنيا وبلا حد أقصى وفى خلود أبدى . إذا كان عملها سُوءا تحول الى عذاب يطوقها ، لا تستطيع منه فرارا ولا تستطيع له تخفيفا ، وتتمنى الموت ولا موت ، وإذا كان فى الدنيا نوم فليس فى الآخرة نوم بل يسهر أصحاب النار ليذوقا عذابا خالدا بلا توقف . قال جل وعلا : (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)النازعات ). إذا كان المنع من النوم عذابا فى حد ذاته فى الدنيا ، فكيف به فى الجحيم خلودا فيها ؟!

3 ـ السؤال الآن : قال جل وعلا : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ  ) ؟ (16) الحديد ).






الفصل الثامن : التعذيب فى مصر فى رؤية قرآنية


المقال الاول

مصر ( ام الدنيا ) فى التعذيب .!

أولا : مصر أم الدنيا فى الاستبداد والتعذيب

1 ـ مصر أقدم دولة فى العالم . بدأت قبل تاريخ العالم فى حضارات ما قبل التاريخ ، وهى أول دولة تعرضت لاستعمار خارجى ـ فى عصر الهكسوس ـ واول دولة أسست إمبراطورية عظمى فى عهد تحتمس الثالث أول فاتح فى التاريخ العالمى  . إذا كان يقال عنها ( أم الدنيا ) بسبب هذا فهى أيضا ( أم الدنيا فى التعذيب ) لأنها ( أقدم دولة إستبدادية ) فى العالم بدأت ولا زالت مستمرة بنفس ثقافة الاستبداد ،من عهد الفرعون ( مي نا ـ نا ـ رمر ) الذى وحّد جنوب مصر وشمالها فى دولة واحدة ـ الى عهد الفرعون الحالى : ( ال سى ـ سى )  . هى نفس الدولة العميقة القائمة على الاستبداد ، ولكى يستمر الاستبداد فلا بد له من ( التعذيب ) . مصر هى الدولة الوحيدة المذكورة فى القصص والتى لا تزال حيّة حتى الآن بنفس خصائصها الاستبدادية ، والتى جعل رب العزة فرعونها مثلا لكل المستبدين من عهده وما يأتى من الزمان . وعلى سُنّته يسير المستبد الشرقى حتى الآن ، مع أنهم يزعمون الايمان بالقرآن . قد تخفُّ سطوة المستبد نوعا بسبب ضعف شخصيته وتسلط الملأ و( الحاشية ) عليه ، ولكن تظل الدولة المصرية العميقة تتحكم فى سكان مصر بنفس أسلوب القهر والتعذيب لترسيخ الخوف من الدولة ، بغض النظر عن الفرعون إذا كان قويا أو ضعيفا .

2 ـ ساعد على الاستبداد المصرى النيل ، رافد الحياة فيها . يقولون إن مصر هبة النيل . ولكن النيل قبل أن يصل الى مصر يسير وسط أمم شتى ، لم تصبح لهذه الأمم دولة فى قدم الدولة مصر وأهميتها وإستمرارها خلال 7 آلف سنة. القول الصحيح أن مصر هى هبة المصريين الذين أقاموا تحت قهر المستبد هذه الدولة ( أم الدنيا ) . وبهذا القهر صنعوا حضارة وتركوا آثارا شاهدة عليها .  مصر صحراء ، والنيل يشقها من وسطها ، حيث يتركز المصريون على ضفتيه . يتفرع النيل الى فروع ، بقى منها فرعان ترقد عليهما الدلتا ، وهى من أكبر ال ( الدلتات ) فى العالم . والنيل بوضعه هذا يستلزم حكومة مركزية تسيطر على رافد الحياة ( النيل ) فى الرّى وفى الصرف وفى الزراعة ، وما تستلزمه من تسخير للبشر لصالح الفرعون ، والزراعة أساس الاستقرار وتأسيس الحضارة ، بما يقوم عليها من أنشطة اخرى يقوم بها المصرى تحت قهر الفرعون المصرى .

3 ـ ومصر بحضارتها وبموقعها وثرائها وبشعبها الموصوف بأن ( مطيّة راكب ) جعل من السهل على الحاكم أن يكون مستبدا طالما تحت إمرته جيش يأتمر بأمره فى مواجهة شعب يدمن الصبر والخنوع . فإذا ضعف هذا المستبد طمع فى مصر مستبدون أجانب . لذا تعرض المصريون لأصناف شتى من المستبدين ، منهم من كان مصريا ومنهم من لم يكن . وفى أحيان كثيرة كان المستبد الأجنبى خيرا للمصريين من المستبد المصرى ، وأحيانا كان المستبد الأجنبى خيرا لمصر ومكانتها من المستبد المصرى. ومثلا فإن المماليك الذين كانوا أرقاء تخصصوا فى العسكرية وحكموا مصر من عام 1250 : 1517 م ـ بلغوا بها شأوا عاليا جعلوا سلطانها يمتد من السودان جنوبا الى حدود العراق وجنوب تركيا شمالا ، ومن الحجاز شرقا الى برقة غربا . وربما كانوا أرفق بالمصريين من المستبد المصرى القائم الآن ، على الأقل لم تكن فى عصر المماليك ثقافة حقوق الانسان السارية الآن فى العالم ــ عدا مصر ، والفرعون المصرى الآن يرى أن المصريين أقل شأنا من التمتع بحقوق الانسان . ثم بهذا الاستبداد لم ينجح العسكر المصرى من عام 1952 من إحراز نصر حقيقى إلا على الشعب المصرى الأعزل ، يحتكر السلاح لجيشه وأجهزة أمنه وميليشياته السرية ، ويقوم بتعذيب المصريين ليظل فقط فى السلطة محتكرا الثروة يهربها الى الخارج ، ومن ينطق معارضا ولو بالهمس يتعرض لسلخانات التعذيب . أضاع عسكر مصر الحاكم هيبة مصر وجعلها تابعة لبعض مشيخات الخليج ، وأضاع سيناء وبعض الجزر ، والنيل شريان الحياة لمصر يوشك على النضوب . المستبد المصرى الفاشل الذى حكم مصر من عام 1952 وصل الآن بمصر الى أسفل سافلين .

ثانيا : السجن المصرى رمزا للقهر المصرى

1 ـ السجن احد ظواهر الحكم فى عالم اليوم . فى هولندة أغلقوا السجون لأنه لم يعد فيها جرائم . لا تزال هناك سجون فى الغرب . وهى لمعاقبة ( المجرمين ) والذين يثبت إجرامهم بقانون يتم إصداره ببرلمان منتخب إنتخابا عادلا نزيها تحت أعين الناس ، ويتم تطبيقه على الجميع على قدم المساواة ، إذ لا يعلو أحد فوق القانون . وهذا ما تطبقه إسرائيل الذى تتعرض الآن زوجة رئيس وزرائها لتحقيقات بسبب ثمن وجبات طعام . والذى يدخل السجن مجرما ثبتت إدانته يكون الهدف ليس الانتقام منه بل إصلاحه .

2 ـ الأمر على العكس تماما فى مصر ودول المحمديين ، حيث يعتقد المستبد ومعه الكهنوت الدينى التابع له أنه يملك الأرض ومن عليها ، يتبع سُنّة فرعون الذى أعلن ملكيته لمصر وأنهارها التى تجرى من تحته . وهو يحتكر السلاح والسلطة والثروة ، ومعه القضاء وأجهزة الأمن تعتقل من تشاء ، ويختفى ، وقد تحتضنه مقابر سرية ، وقد يدخل السجن فى حبس إحتياطى سنوات بلا محاكمة . وفى كل الأحوال فلا توجد قاعدة ( المتهم برىء حتى تثبت إدانته ) بل ( البرىء متهم طالما رأت السلطة ذلك ) . السجن المصرى بهذا رمز للقهر ، كان ، ولا يزال .  

3 ـ  لا عجب أن يذكر القرآن الكريم ( السجن ) فى مصر وحدها ، والسجن فيها مرتبط بالتعذيب . وهنا لا فارق بين الملك الهكسوسى الذى يتجرأ عليه الملأ وبين فرعون موسى الذى يخضع له الملأ .

4 ــ فى قصة يوسف تتهم إمرأة العزيز فتاها البرىء يوسف بأنه راودها عن نفسها وتأمر بسجنه أوتعذيبه. قال جل وعلا  : ( وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) يوسف ) . ثم فيما بعدُ هددته علنا أمام النسوة إن لم يفعل ما تأمره ليسجنن وليكونن مهانا صاغرا ، فالسجن المصرى وقتها يعنى الإهانة والصّغار . قالت إمرأة العزيز أمام النسوة اللواتى إنبهرن بجمال يوسف : (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) يوسف ) . رفض يوسف وإستغاث بربه جل وعلا :( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) يوسف ) . وكوفىء بالسجن مقابل عفته وطهارته وورعه : (  ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) يوسف) . مع إثبات براءته وأنها هى الجانية الكاذبة فقد لفقوا له تهمة لإخفاء الحقيقة فدخل يوسف السجن ( المصرى ) بريئا لأنه رفض أن يفعل الفحشاء بسيدته. إمرأة صاحبة نفوذ تمتلك سلطة الزّج بأى برىء للسجن حتى لو كان يوسف عليه السلام. هذه هى مصر ، كانت ولا تزال .. وكم من أبرياء دخلوا السجون بسبب راقصات .!

5 ـ ودخل السجن مع يوسف فى نفس الوقت إثنان من نفس العمر ، احدهما كان ساقيا للملك ، ما لبث أن خرج وعاد الى وظيفته ، أما الاخر فهو ( خبّاز ) فقير ، انتهى مصيره الى القتل صلبا حيث تأكل الطير من رأسه ليكون عبرة . فالخباز الفقير دخل السجن وقتلوه صلبا ، والساقى ما لبث أن خرج ، والتلفيق هو سيد الموقف . هذا فى دولة ملك ليس كمثل فرعون موسى ، هو ملك لا تخاف منه حاشيته ولا تحترمه ، يقصُّ رؤياه على حاشيته: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) يوسف ) ويكون الرد  بإستخفاف :( قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ (44) يوسف )

10 ــ إختلف الحال فى عصر الرعامسة ودولتهم العسكرية المركزية . اصبح السجن أكثر رُعبا .  الله جل وعلا وعد موسى وأخاه بالحماية الالهية، قال لهما : ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) طه ) ووعده جل وعلا أن بطش الفرعون لن يصل اليهما : ( قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) القصص ) . وهدّد فرعون موسى بالسجن فى أول لقاء بينهما قال له : (  لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ (29) الشعراء ) . ومن هنا نرى موسى يتخوف مقدما من تعذيب فرعون له بالرجم ، قال لهم : ( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) الدخان ).

أخيرا : نعيد نشر هذا المقال : دليل المفتون بأنواع السجون

آحمد صبحي منصور في الإثنين 11 يونيو 2012

  أولا :

1 ـ اقترب عيد الفطر سنة 1988 وكنت وقتها بأحد المساجد في ولاية أريزونا الاميركية , ووجهت لي الدعوة الرسمية من أحد السجون في مدينة تقع على الحدود المكسيكية للإفطار في أخر ليلة من رمضان وقضاء ليلة العيد مع مجموعة من المساجين المسلمين في ذلك السجن النائي . ورحبت بالدعوة ووجدتها فرصة للتعرف على الجانب الآخر من الحياة الاميركية .

2 ـ  وصلت مع بعض الأصدقاء الأمريكيين إلى بوابة السجن وكان دخولنا في منتهى البساطة برغم أن الحراسة الاليكترونية تجعل الهروب من السجن مستحيلا ، واستقبلنا الواعظ الرسمي للسجن وهو مسيحي بالطبع ، ولكن الديمقراطية الأمريكية أوجبت عليه أن يشارك المساجين المسلمين عنده في احتفالهم بعيد الفطر ، بل وأن يقوم بنفسه على خدمتهم في احتفال الإفطار الأخير في رمضان ، برغم أن عدد أولئك المساجين المسلمين كان لا يتجاوز الخمسة عشر مسجونا ، منهم ثلاثة من الإيرانيين وواحد من الأمريكان البيض والباقي أمريكان سود .

3 ـ ما شهدته في ذلك اللقاء جعلني أتحسر على حال المسلمين في أوطانهم خصوصا وقد كنت قبلها ببضع شهور سجينا في أحد السجون المصرية بسبب آرائي ومؤلفاتي ، وكانت ذكرياتي في سجن بلدي تلح علي وأنا أشاهد السجن الأمريكي وحال المساجين  فيه .

4 ـ كانت المفاجأة الأولى هي تلك المعاملة المهذبة التي يلقاها المساجين من القائمين على السجن إلى درجة أنني لم أتبين الفارق بين الضابط والمسجون ، فالجميع يرتدون ما يشاءون من الزى ولهجة الخطاب بينهم لا تفصح عن مكانة المتكلم والمخاطب سواء كان مأمور السجن أو مسجونا بأصغر جريمة ، والطريف أن بعضهم استرسل معي في الحديث وابهرني بثقافته وأثنى على لغتي الإنجليزية – وقتها – ووعدني بإرسال كتب لي أتعلم منها كيفية النطق باللهجة الأمريكية ، ووفّى بوعده فيما بعد . وكنت اعتقد أنه أحد المسئولين الكبار في السجن إلا أنني فوجئت في نهاية الزيارة بأنه مسجون .!.

.وكنت أظن السجن مختلطا إذ رأيت بعض السيدات يتجولن في ساحة السجن يختلطن بالرجال ، وفوجئت بأنهن من حرس السجن ، وساءلت نفسي هل أنا في سجن أم في مستشفى المجانين ؟ .

5 ــ وألهبت وجداني ذكريات السجن في بلدي.. ورحت أسأل نفسي : هل أولئك الناس من طينة ونحن من طينة أخرى ؟ وفي تلك اللحظة التي لا أنساها ، تذكرت كلمة مصطفى كامل : لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا ، وقررت وقتها أنه كان طيب القلب حسن النية ، ولو دخل سجن طره وزار بعدها ذلك السجن الأمريكي الفاخر لندم على هذه العبارة.!  

.6 ـ  وجاء موعد الإفطار في أخر يوم في رمضان . وفوجئت بالواعظ الذي دعاني يقوم ومعه بعض المسئولين بخدمة الصائمين من المساجين المسلمين . ولم تكن تلك المفاجأة الوحيدة ؛ إذ أن مطعم السجن كان مفاجأة في حد ذاته ؛ بنظافته وتجهيزاته والكمية المهولة من الطعام والشراب مما يجعله ينافس فندقا من بضعة نجوم . كانت صنابير الشراب  تسيل باللبن أو بالمياه الغازية حسبما تريد . وخيل لي وقتها أنها ربما تكون مؤامرة إمبريالية أمريكية لعمل غسيل مخ لي لأقتنع بالجنة الأميركية وأن المسألة كلها تمثيل في تمثيل ، وضحكت من هذا الخيال الأحمق وأنا أتناقش على مائدة الطعام  مع مسجون إيراني ( كان ضابطاعالى الشأن فى بلده ) ، وكان يبدو انه دخل السجن الأمريكي بتهمة التجسس لحساب وطنه ، ومع ذلك فقد اعترف بأن الفرق شاسع بين السجون الأميركية وسجون آيات الله في إيران . وتذكرت كيف قضيت اليومين الأولين لي في سجن بلدي عازفا عن الطعام والشراب حتى تشققت شفتاي وتحول ريقي إلى مرار علقم وذلك حتى لا اضطر للذهاب إلى دورة المياه التي يخجل منها كل من يمشي على قدمين ، وحتى لا اضطر لأكل السوس المخلوط بالفول المدمس .!!  

.وأحزنني هذا التشرزم بين المسلمين حتى في ذلك السجن ، فمع عددهم القليل إلا أنهم كانوا فرقا وطوائف ، السود يكرهون ذلك السجين الأبيض المثقف ، والإيرانيون لا يثقون بالأمريكيين المسلمين ، مع أنهم جميعا مسلمون في مكان واحد ،  ورأيت فيهم ملخصا وافيا لحال المسلمين في أمريكا وفي العالم كله.

.7 ــ ودارت مناقشات بيننا وبين المسئولين عن السجن وعلموا من أصدقائي أنني كنت سجينا بسبب بسبب الرأي .  وأفزعهم ذلك. وأطمعتهم مؤهلاتي العلمية في أن اعمل واعظا للمسلمين في السجون الأميركية ووعدوا بالتوصية على تعييني ، وفرحت وقتها بهذه الفرصة . وفي نهاية اللقاء سألني الواعظ الأمريكي عن رأيي في أحوال المسلمين في السجن . ووجدتني أرد عليه بالعربية التي لا يعرفها قائلا : اللي يقول ده سجن أروح فيه ستة اشهر ..!!

.8 ـ وبعدها بأسبوع جاءت المفاجأة الأخيرة إذ وصلتني الأوراق الرسمية للحصول على وظيفة واعظ ، ومكثت ادرسها بإمعان خصوصا واجبات الواعظ مهما كانت ديانته ، وأهمها الحرص التام على توفير الحرية الدينية لكل مسجون والاحترام التام لكل ما يقدسه ذلك المسجون سواء كان أيقونة أو سجادة للصلاة أو تمائم للسحر أو عبادة للشيطان ، ثم الحرص على توفير كل التسهيلات لهم في ممارسة شعائرهم ومشاركة إدارة السجن لهم في احتفالاتهم الدينية . واكتشفت في النهاية أن تلك الوظيفة المعروضة على وقتها تتطلب الحصول على الجنسية الأميركية – واتصلت بالمسئول واعتذرت له وشكرته ، وعبرت له عن إعجابي الكامل بما قرأته  في تلك الأوراق الرسمية فيما يخص حرية العقيدة.

9 ـ وركبتني بعدها الكوابيس.. ما الذي جرى للمسلمين ؟ فالإسلام هو الذي سبق الجميع بتقرير حرية العقيدة ومنع الفتنة أى الاضطهاد في الدين والإكراه على الدخول في الإسلام أو غيره ، وبتلك السماحة انتشر الإسلام في مواطن لم تصلها جيوش المسلمين ، ثم دخل المسلمون في تيار التعصب والجهل والتأخر والتفرق بينما أدرك الغرب أن التقدم رهين بالحرية الدينية والحرية العقلية وان يكون الدين لله يحكم فيه يوم الدين وأن يكون الوطن للجميع يتمتع فيه كل مواطن بالحرية والمساواة وتكافؤ الفرص ، فتقدم الغرب بينما لا نزال نحن نعيش في ظلام العصور الوسطى

.10 ـ وقفز إلى ذاكرتي أحد المساجين التعساء في الزنزانة التي عشت فيها فى سجن مزرعة طرة ، وقد كانت تهمته هي الردة عن الإسلام والدخول في المسيحية ، وقد كان يخشى زملاءه المسلمين  في الزنزانة أكثر من خشيته من إدارة السجن ، وأذكر أنني قلت للناقمين عليه أن يدعوه وشأنه لأنه يمارس حريته في العقيدة التي كفلها له رب العزة حين قال في القرآن " لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ   (256) ( البقرة )  ، " وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ  (29) ( الكهف )  " ، " قلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا   (107)( الاسراء ) . وقلت لهم إن الذي سيحاسبه على هذه الحرية هو رب العزة في يوم القيامة يوم الدين ، وأنكم باضطهادكم له قد سلبتم الله تعالى بعض اختصاصاته التي لم يعطها لرسوله الكريم حين قال له " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وحين قال له وللناس : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) ( يونس )  . صدق الله العظيم  

أخيرا

نشرت هذا المقال فى جريدة الأحرار بتاريخ ( 21/ 10 / 1991  ) .واليوم أصبح التعصب أكثر تسيدا فى مصر، ويريد الاخوان والسلفيون تقنينه فى الدستور . ولو حدث هذا فقل : على مصر السلام.  .!!  


المقال الثانى


مملكة التعذيب الفرعونى : مملكة الخوف

أولا : دائرة الخوف

1 ـ هذه حادثة حقيقية فى عصر حسنى مبارك : إستيقظ الفتى فى زنزانة فى سجن مزرعة طرة ، حكى لرفيقه رؤيا عجيبة ، قال إنه رأى فى المنام انه يركب موتوسيكل مع رفيق له من بلدته وكان معهما قنبلة . سرعان ما وصل خبر هذه الرؤيا الى ضابط أمن الدولة فى السجن ، إستدعى السجين وإستجوبه عن رفيقه الذى فى رآه فى المنام . فى اليوم التالى كان هذا الرفيق المسكين البرىء سجينا فى مزرعة طرة ومشهورا بسجين البسكليته .! .

2 ـ تحليل هذه القصة الواقعية فى كلمة واحدة : الرُّعب . وصل الرع بحسنى مبارك الى أن يحكم مصر طيلة عهده بقانون الطوارىء ليحمى نفسه ، وكان يعطى سلطته كحاكم عسكرى الى ضباط البوليس وضباط أمن الدولة ، وهم يعتقلون ما يشاءون ويعذبون من يشاءون . وكلما إزداد التعذيب إزدادوا رُعبا من إنتقام قادم . بسبب أشباح ضحاياهم التى كانت تطاردهم كانوا كمن يطارد خيط دخان، إذا تخيلوا خطرا فى أى إنسان عجلوا بسجنه أو إغتياله . إشترك مبارك مع أصغر زبانيته فى دائرة  (الرعب / التعذيب ). ولهذا عندما سمع ضابط أمن الدولة بهذه الرؤيا أسرع بإعتقال هذا الشخص المسكين الذى كانت كل جريمته أن شخصا آخر رآه فى منام .

3 ـ هو نفس الرّعب الذى إجتاح قلب فرعون موسى . توجّس من بنى إسرائيل وتشكّك فى عبادتهم له وفى ولائهم لسلطانه فبادر بأن إستضعفهم بالتعذيب خوفا من أن يكونوا أقوياء . الله جل وعلا قال : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) القصص ). كانت وسيلته فى إستضعافهم غاية فى القسوة ، أن يذبّح أطفالهم الذكور حتى لا يكونوا خطرا مُحتملا عليه فى المستقبل وأن يستبقى بناتهم لخدمته . كان هذا الأسلوب الشنيع فى التعذيب هو لاستضعافهم ، وهو كان يستضعفهم خوفا منهم ، وهو خوف لا أصل له ، ولا وجود له إلا فى مُخيلة فرعون .

4 ـ وفرعون يستخدم التعذيب لإرهاب الآخرين . لذا لا بد أن يكون التعذيب مُعلنا يراه الناس . وهى سُنّة سار عليها تلامذة فرعون ، خصوصا فى عصر المماليك ، حيث ( التشهير ) و ( التجريس ) وأن يُطاف بالمحكوم عليه بالاعدام فى موكب يشق القاهرة، بل يتم أحيانا ( سلخ الضحية ) ويتم حشو جلده قشأ ، ويطاف به مع جلده ليراه الناس ، وإعتاد المصريون التفرج على هذا ، وإعتادوا الخنوع خوفا من الفرعون المملوكى . والتفاصيل فى كتابنا عن المجتمع المصرى فى عصر السلطان قايتباى فى ظل تطبيق الشريعة .!

والعسكر الذى يحتل مصر الآن يحرص على أن تصل أنباء التعذيب الى الافاق لينشر الخوف والرعب . وبعض فيديوهات التعذيب تكون من إنتاجهم ونشرهم . هذا لارهاب الناس لأنهم خائفون من الناس .! والفرعون الحالى  من شهور تكلم مهددا شخصا مجهولا ، وكان واضحا خوفه الشديد .

5 ـ لكن تخيل جنود الفرعون يقتحمون بيتا شهد مولد طفل ، إذا كان ذكرا ذبحوه أمام والديه واهله وجيرانه . تخيل كمية الرعب لدى الناس . لذا تكرر هذا فى القرآن الكريم فى معرض أن الله جل وعلا منّ على بنى إسرائيل أن أنجاهم من هذا التعذيب القاسى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) ابراهيم )( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)  البقرة ) ( وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) الاعراف ). بالتأكيد فإن الذى يمارس هذا التعذيب بذبح الأطفال ويسمع صراخهم ممزوجا بصراخ الوالدين والأهل يظل يحمل هذه الذكريات ويتوقع أن تحدث لأولاده وأهله ، وتتحول الى ذكريات مُرعبة من إنتقام محتمل من الضحايا وأقاربهم ، ويكون الحل هو المزيد من الظلم والمزيد من التعذيب ليشعر بالأمن ، فلا يشعر إلا بالمزيد من الرعب ، وهكذا يظل الفرعون ــ أى فرعون ـ يدور فى حلقة مفرغة من الرعب والظلم الى أن يقع .

6 ـ يتوقع الفرعون من حاشيته الولاء الذى يصل الى درجة العبادة . الويل لمن يعصى الفرعون . فرعون موسى إستجلب السحرة ليبارز بهم آية موسى . فوجىء بأتباعه السحرة يسجدون يعلنون إيمانهم برب هارون وموسى. إشتد غضبه عليهم لأنهم أعلنوا إيمانهم قبل أن يأخذوا الإذن منه . وكانت فرصته ليرهب بهم غيرهم .أمر بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وأن يُصلّبوا بهذا الشكل على جذوع النخل إرهابا لمن يخرج عن أوامر الفرعون .

7 ـ فى التسعينيات تعرفت الى رئيس وزراء مصرى من عصر السادات . كان متحفّظا فى كلامه معى ، وكنت أتفهّم هذا . ثم دارت الأيام وإلتقينا فى مؤتمر دولى بالعاصمة واشنطن ،  وجلسنا نتحدث ، وسار بنا الحديث الى مصر ورئيسها ( حسنى مبارك ) . رأيته يتكلم هامسا معى ينظر حواليه مع أننا نجلس فى مائدة بعيدة وحيدة . كان يهمس عن الرئيس مبارك بقوله ( الراجل الكبير ) . ولم أتعجب ، فالحاشية حتى لو كانت حاشية رئيس سابق تظل على خوف ووجل . والشاهد على هذا حادثة أخرى . استاذ جامعى جعلوه وزيرا للإقتصاد ، وعزلوه وصار نائبا فى مجلس الشعب ، بدرت منه كلمة نقد لمبارك ، ووصلت الى مبارك فأمر بوضعه فى السجن اسبوعا يسمع صراخ ضحايا التعذيب . خرج منه فى حالة يُرثى لها ؛ إذا قيل له ( السلام عليكم ) أحذ يسبح بحمد حسنى مبارك ، إذا قيل له مساء الخير أخذ يتغنى بحكمة حسنى مبارك ، ونفس الحال إذا دخل دورة المياه أو خرج منها . ظل يهذى بإسم حسنى مبارك الى إن إستراح بعزل حسنى مبارك .

8 ـ الحاشية تظل مرعوبة من الفرعون . لم ينج من الخوف هذا الأمير الفرعونى المؤمن الذى كان يكتم إيمانه خوفا من فرعون، واخذ يعظ قومه دون جدوى : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) غافر) وفى النهاية تآمروا عليه فأنجاه الله جل وعلا من مكرهم : (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) غافر )؟

9 ـ لم تنج من الخوف إمرأة فرعون التى آمنت. وهى فى فراش فرعون كانت تدعو الله جل وعلا لينجيها من فرعون وعمله ومن القوم الظالمين . أستحقت هذه الأميرة المصرية أن يجعلها  رب العزة مثلا للذين آمنوا ، قال جل وعلا : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) التحريم )

10 ـ فرعون نفسه كان خائفا من موسى . كان يمكنه أن يقتل موسى . قال جل وعلا : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر ). قوة فرعون مجرد ( وهم ) تأسس على دين خرافى زعم به الالوهية . دعوة موسى كفيلة بتدمير هذا الوهم . إذا تبدد هذا الوهم زالت عن فرعون سلطته . لذا هو ( يخاف ) أن ينجح موسى فى تبديل دينهم ، ويرى أن هذا هو الفساد . هى المرة الوحيدة التى يطلب فيها من حاشيته أن يسمحوا له أن يقتل موسى . وهذا يبدو غريبا . الحاشية هى التى كانت تسمع له وتطيع ، بل تفكّر له فيما يرضيه . فكيف يطلب من حاشيته أن تدعه يقتل موسى ؟ التفسير الوحيد إن الله جل وعلا قد وعد موسى وأخاه بأن يحميهما من بطش فرعون ، وألقى الرعب فى قلب فرعون من موسى وأخيه بحيث كان يخشى أن يتعرض لهما بسوء . هذا يدخل بنا على قوانين الخوف والأمن فى القرآن الكريم

ثانيا : قوانين الخوف والأمن فى القرآن الكريم

1 ـ قال جل وعلا  عن الكافرين المشركين ( المرعوبين ) : ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) آل عمران ). المُشرك يعيش رعبا فى قلبه بسبب شركه .

2 ـ قال جل وعلا : عن المؤمنين المطمئنين بذكر بهم : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الرعد ) ، وعن المؤمنين الذين لا يقعون فى ظلم رب العزة بإتخاذ آلهة مع الله لأن الشرك ظلم عظيم (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) لقمان ) وهم لا يقعون ايضا فى ظلم الناس ، لذا فهم لهم الأمن . قال جل وعلا : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) الانعام )

3 : وبينما يقوم الشيطان بتخويف أوليائه من العصاة والظالمين والكفار والمشركين فإن على المؤمنين ألا يخافوا إلا الله جل وعلا . إذا خافوا الله جل وعلا وإتقوه أعطاهم الله جل وعلا الأمن والسكينة . إذا عصوا الله جل وعلا تركهم للشيطان يخيفهم من أى شىء ومن كل شىء . قال جل وعلا : ( إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) آل عمران )

4 ـ يتعرض المؤمن لاضطهاد ويقع فى الخوف . عليه أن :

4 / 1 : يصبر . بهذا نصح موسى قومه : ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) الاعراف )

4/ 2 : يتوكل على ربه جل وعلا ويدعوه يستنصره . قال جل وعلا عن معاناة بنى اسرائيل من الارهاب الفرعونى : (  فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83) يونس ) طلب منهم موسى التوكل على الله والاستغاثة به أن ينجيهم من فتنة أى إضطهاد فرعون وقومه :  ( وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) يونس ) .

4 / 3 : ثم إلاستعانة بالصلاة . والله جل وعلا أمر بنى إسرائيل بالاستعانة بالصبر والصلاة ، قال لهم جل وعلا : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)  البقرة )، وهو نفس الأمر لنا أيضا ، قال جل وعلا لنا فى خطاب مباشر : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) البقرة ) . ولهذا أمر موسى قومه بالاعتكافَ فى بيوت خاصة للصلاة والدعاء على فرعون . قال جل وعلا : (  وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (87) يونس ) . ودعا موسى ربه جل وعلا أن ينتقم من فرعون وملئه : ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88). وإستجاب الله جل وعلا الدعاء :  ( قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) يونس )

أخيرا :

1 ـ الفرعون يستضعف الناس ( يقهرهم ) بالتعذيب . لا يعرف أنه بالتعذيب يزرع الخوف فى قلبه هو أيضا .

2 ـ النجاة  للناس هو بالاعتصام بالله جل وعلا الذى لا يريد ظلما للعالمين .

3 ـ فى خضم التعذيب الذى يتعرض له المصريون والذل الذى يعانون منه لماذا لا يملأون الفضاء دعاءا للرحمن جل وعلا أن ينتقم من السيسى وجنرالاته ؟

4 ـ حتى لو وقعوا فى السّبّ وجهروا به علنا فإن الله يعفو عن ذلك لأنهم مظلومون . قال جل وعلا : (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) النساء ) .

5 ـ من يدرى ؟ لعل السميع العليم جل وعلا يأخذ السيسى وقومه أخذ عزيز مقتدر.!


المقال الثالث

مملكة التعذيب الفرعونية: لمحات من سورة القصص

مقدمة :

فرعون وقومه غير الشعب المصرى . فى ثقافة الفرعون المصرى أنه والملأ التابع له هم ( الأسياد ) . و( الأسياد ) لهم ( عبيد ) . هؤلاء ( العبيد ) هم الشعب المصرى المفترض أنهم ( احرار ) ولكن بالتعذيب الفرعونى تحولوا الى ( عبيد ). هم بإختيارهم إرتضوا أن يكونوا خانعين للمستبد الفرعونى خوف تعذيبه .  دائرة الخوف شملت الشعب المصرى فأصبح فى قصة موسى وفرعون هو الحاضر الغائب . نتوقف هنا مع ما جاء فى صدر سورة القصص عن موسى وفرعون .

أولا : إستعراض لسورة القصص:

1 ـ (  نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3))

فرعون هو الوحيد فى القصص القرآنى ممثلا لقومه وملئه . فى قصص الأنبياء السابقين لم يرد إسم أو لقب لقائد الملأ الكافر . ثم فى الآية الكريمة نجد فرعون شريكا لموسى فى القصة . وتكررت قصة فرعون فى سور كثيرة أهمها الأعراف والشعراء ويونس وطه وغافر والزخرف . مع أهمية خاصة له تجعله السلف لكل مستبد يأتى بعده ، وتعذيبه مع قومه فى البرزخ .  

2 ـ ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4)).

بسبب حضارتها وقوتها ودولتها العتيدة يتكرر وصف مصر ب ( الأرض ) . وفرعون حين (علا ) فى مصر فقد ( علا فى الأرض ) ، أى يملكها ويتحكم فيها . وقد إتّبع سياسة التفريق بين أهل مصر ، فجعلهم طوائف . وهم جميعا ( أهل مصر ) . وهنا تقرير معنى المواطنة ، فالذى يأتى لبلد يعيش فيه مدة من الزمن يكون من أهل هذه البلد ، مهما إختلف مع الأغلبية من أهلها فى الثقافة واللسان والعنصر . بالتعذيب فرعون إستضعف من ( أهل مصر ) بنى إسرائيل ، كان يذبح أبناءهم ويسترق نساءهم ، لأنه يتشكك فى ولائهم ،فقد جاءوا من سلالة أجنبية عاشت قرونا فى مصر . وقد توارثوا ثقافة لا تتفق تماما مع تأليه فرعون مع انه جعلهم عبيدا له يتعبدون له . وهنا إشارة للدولة المصرية العميقة لفرعون ، إذ يتكرر فى قصة فرعون كلمات ( الملأ ) ( القوم ) الآل) ( الجنود ) كانوا طبقات ودرجات وتخصصات ، يتغلغلون فى كل قرية ومدينة . ومنهم من كان يراقب بيوت ونساء بنى اسرائيل ، فإذا حملت وجاء أوان الوضع ذبحوا المولود إن كان ذكرا وإسترقُّوه إن كان انثى . ولهذا إستحق فرعون وصف الفساد .  

3 ـ(  وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)).

بسبب هذا الظلم الفاحش من مستبد يحتكر القوة ضد طائفة غاية فى الضعف كان التدخل الالهى بعقاب فرعون وملئه وقومه وآله . بحيث يتولى فرعون نفسه تربية موسى وحمايته بدلا من ذبحه . ولا عجب فى ذلك ، فالله جل وعلا غالب على أمره . وهى قصة وعظية لكل مستبد جبّار . مهما علا فى الأرض فسيرتد سلاحه الى نحره .

4 ـ ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9)).

كانت أم موسى تعيش فى عاصمة الفرعون ، ونتصور أنها وقومها كانوا يعيشون فى أطراف العاصمة ، بينما كان قصر الفرعون على النيل ، شأن الأكابر فى مصر . ونتصور أن أم موسى أخفت حملها فلم يصل النبأ الى عيون فرعون ، وحين وضعته جاءها الوحى أنها إذا خافت عليه من زبانية فرعون فعليها أن تضعه فى تابوت وتلقيه فى النيل . مع وعد من الرحمن جل وعلا أن يعيده اليها. وحمل النيل تابوت الطفل موسى رأسا الى قصر فرعون فإلتقطه (آل فرعون ) أى أتباعه ، وحملوا الطفل الى فرعون ، وفهموا أنه من بنى إسرائيل فكانوا على وشك أن يقتلوه لولا أن تعلقت به زوجة فرعون وترجتهم أن يتركوه.

5 ـ ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13))

عاشت الأم فى قلق على ابنها الوليد وتابوته يشق النيل، وطلبت من إخته أن تقُصّ أثره وان تتعرف على خبره ، وهذا يستلزم حنكة حتى لا تثير حولها الشبهات ، وتمكنت الأخت من رؤيته دون أن يشعر بها أحد . وظلت الأخت تتسمع أخباره فى حذر ، حتى علمت أن موسى يرفض إلتقام ثدى أى مرضعة ، وبالتالى يظل جائعا صارخا مما سبب حيرة وقلقا لزوجة فرعون ، وكل مرضعة يؤتى بها فلا يلتقم ثديها . ومن المنتظر أن كثيرات من المرضعات تقدمن لنيل هذه الوظيفة ، ورفضهن موسى ، لذا كان سهلا أن تأتى الأخت وتقترح عليهم مرضعة تقوم بكفالة الطفل وإرضاعه . وبهذا تحقق الوعد ورجع موسى لأحضان أمه .  فى الآيات أشخاص بين السطور، منهم من رأى التابوت ومنهم من حمل نبأه الى القصر ومنهم من حمل الطفل الى القصر ، ومنهم الحراس والعيون الذين كانت تتحاشاهم أخت موسى ، ومنهم المراضع اللواتى رفضهن موسى . وربما تكلمت أخت موسى مع بعضهن ومع أخريات من العاملات فى القصر الفرعونى . هنا الشعب المصرى ( الحاضر الغائب ) فى مملكة الاستبداد والتعذيب الفرعونى . شعب عامل ولكن لا صوت له .

6 ـ ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)) .

بعد إكتمال الرضاعة عاد الطفل موسى لقصر الفرعون تربيه زوجة الفرعون التى إتخذته ولدا . وفى القصر الفرعونى بلغ موسى أشُدّه ، وصار نبيا آتاه الله جل وعلا الحكم والعلم فقد كان فى عمله وتصرفاته من المحسنين فى عُقر القصر الفرعونى .

7 ـ (  وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) ).

نتصور موسى قد أوتى من الله جل وعلا العلم بأسلافه الأنبياء ( ابراهيم واسحق ويعقوب ويوسف ) وأنه أصبح على علم بمعاناة قومه بنى اسرائيل ، وأنه إعتبر فرعون عدوا له مع أنه يعيش فى القصر الفرعونى . فى قصر الارهاب هذا نتصور موسى خائفا بسبب ما يعلم ، برغم أنه كان إبنا لزوجة فرعون وأميرا فرعونيا . وبالتالى كانت لا تفارقه الحراسة . وبجنود حراسته كان يدخل العاصمة يتجول فيها ، ولم يكن على راحته وحريته لأن الجنود جواسيس عليه . لذا دخل المدينة ( على حين غفلة من أهلها ) أى بدون أن ينتبه الحراس والعيون . وتجول فيها وحده . فوجد فيها رجلين يقتتلان ، عرف أن واحدا منهما ينتمى الى الملأ ، والآخر هو من بنى اسرائيل . ونتصور أن موسى عرفه من سيماء الذل والقهر البادية عليه وهو يتلقى الضربات من خصمه المعتدى ، ولا ريب أن هناك ناس كانوا يشاهدون هذه المشاجرة دون أن يجرؤ أحدهم على التدخل لانقاذ الرجل الذى يدافع عن نفسه . رأى هذا الرجل نظرة تعاطف من موسى فإستغاث به ، فإندفع موسى نحو المعتدى فضربه فقتله ـ دون أن يقصد . استغفر ربه جل وعلا معترفا بذنبه . نفهم من هذا أن الرجل من الملأ الفرعونى لم يكن قويا بالدرجة الكافية ، كان فقط صاحب نفوذ ، وإستخدم نفوذه وهيبته فى الاستطالة على واحد من المستضعفين محميا بدولة التعذيب المصرية التى تبيح للأسياد تعذيب العبيد فى الشارع وضرب الناس بلا سبب لمجرد إستعراض القوة والهيمنة . وهذا يحدث الآن فى مصر . لم يكن هذا الرجل قويا بجسمه بل بنفوذه ، وفقد حياته من مجرد ( وكزة ) . المشاهدون إنبهروا بموسى وتعرفوا اليه وعرّفهم بنفسه ، وعرفه الرجل الاسرائيلى المُعتدى عليه . ولا ريب أن الجمع قد إنفضّ سريعا تاركين جثة الرجل من الملأ الفرعونى تفترش الطريق . فى هذا المشهد رجل من الملأ الفرعونى وآخر من بنى اسرائيل ، ومجموعة مشاهدين .

8 ـ ( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ (19) ).

فى الصباح التالى عاد موسى الى المدينة خائفا يترقب ويتسمّع الأخبار عن موقف الملأ من قتيل الأمس ، وهل تعرفوا على القاتل أم لا . وفى تجواله رأى نفس الرجل الاسرائيلى يتلقى علقة أخرى من شخص آخر من الملأ . رأى موسى فإستغاث به . قال له موسى ( إنك لغوى مبين ) ، أى بالتعبير المصرى ( إنت سبب المصائب ). تدخل ليبطش بالفرد المعتدى فخاف الاسرائيلى أن يبطش به موسى فصاح مرتعبا : أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ (19) ). بهذا إنكشف الأمر وأصبح معلوما أن موسى هو قاتل الفرد الآخر.  

9 ـ ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)).

وصل الخبر سريعا الى الملأ ، فقرروا قتل موسى . ليس قتلا علنيا تعلم به زوجة فرعون التى تبنّت موسى ، ولكن قتله بمكيدة بعيدة عن القصر الفرعونى . وهذا ملمح أساس فى دولة الاستبداد الفرعونى ، أن يتصرف الملأ ـ بتعدد درجاته وطوائفه ـ بما يحلو له من قتل وخطف وإختفاء قسرى وسلب ونهب ، ولا ضير فى ذلك طالما كان الضحايا من العبيد ، إما إذا كانوا من الأسياد فلا بد من تدبير . الملف للنظر هنا أن الذى أخبر موسى بالمكيدة وحذره ونصحه بالهرب كان رجلا من ( أقصى المدينة ). أى كان مصريا يعيش على أطراف المدينة ، بالتالى ليس من الملأ ، بل كان كارها لظلم الملأ ، وعالما بما فعله موسى ويرى أن موسى كان على الحق بقتله لهذا الرجل ، كما يرى أن موسى ليس مستحقا للعقاب . سمع بتآمرهم فجاء مسرعا يخبر ويحذّر موسى . هو مصرى صاحب ضمير خاطر بحياته لينصح موسى . لذا جاء وصفه ب ( الرجل ) بمعنى الرجولة . خرج موسى من العاصمة متسللا خائفا يدعو ربه جل وعلا أن ينجيه من القوم الظالمين .

10 ـ  ( فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25 )).

إتجه شرقا الى الصحراء ، ووصل عين ماء لمدين ، ومعروف ما جاء بعدها من أنه سقى لفتاتين ثم دُعى لمقابلة ابيهما :  نتوقف هنا مع ( خوف موسى ). ظل يحمل خوفه حتى قابل هذا الرجل الذى قال له ( لا تخف ، نجوت من القوم الظالمين ). موسى نشأ فى القصر الفرعونى ، وهو لا ينتمى الى صاحب القصر ، وعرف إرهاب فرعون . رضع من أمه لبن الخوف ، وعاش فى رُعب من الارهاب الفرعونى . وموسى عليه السلام يتردد فى قصته فى القرآن مصطلح ( الخوف ) بما يعكس حجم الارهاب الفرعونى .

11 ـ  ( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) ). فى رجوعه لمصر مع زوجته نزل عليه الوحى بأن يتوجه الى الفرعون وملئه بما معه من آيتى العصا واليد، وكان رده خائفا . هنا يذكر أن الرجل المقتول كان من الملأ . فالملأ درجات ، منهم الملأ الأكبر فى القصور والمعسكرات ومنهم الملأ الذى يجوب الشوارع والطرقات . وهذا القتيل كان من الملأ الأقل شأنا . ( يعنى كان ملازم أول شرطة أو جيش مثلا ) . ولكن الاعتداء عليه هو تدمير لهيبة الحُكم أو لمكانة الأسياد ، لذا إتخذ الملأ العامل فى الشارع قرار بقتل موسى بمكيدة حتى لا يتعرض للمساءلة من زوجة الفرعون . على ان موسى أعلن أمام ربه جل وعلا فى خوفه من الملأ ( كبيرهم وصغيرهم ) فجاءه الوعد الالهى أن سطوة هذا الملأ لن تصل اليه ولا الى أخيه هارون .

12 ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ (42) القصص ) .

رفض فرعون وقومه دعوة موسى ، بل تطرف فرعون فى الكفر وإستكبر هو وجنوده وقومه فانتهى بهم الأمر غرقا . فرعون وجنوده وعسكره وقواته الأمنية ودولته العميقة جعلهم الله جل وعلا أئمة لكل مستبد مستكبر لا يؤمن بيوم الحساب .

أخيرا :

ولهذا تكرر القصص القرآنى عن فرعون وقومه حتى يتعظ المحمديون . وما إتعظ المحمديون . والدليل أن المستبد الحالى فى مصر يكرّر منهج فرعون فى الحكم . يكون شخصا عاديا فإذا وضع مؤخرته على كرسى الحكم فى مصر تلبسته الفرعونية ، ونسى وضعه السابق حين كان نسيا منسيا . قد تكون هناك مادة شيطانية فى كرسى الحكم المصرى تتسلل الى مؤخرة الحاكم فتجعله يتفرعن الى أن يسقط ، ثم يأتى من بعده فلا يتعظ بما حدث .

المقال الرابع

مملكة التعذيب الفرعونية وتغييب الشعب المصرى

أولا :

1  ـ أحمد عرابى كان إبنا لعمدة قرية هرية رزنة ( فى محافظة الشرقية الآن ) ، وكان والده يملك 74 فدانا ، وتزعم أسرته الانتماء الى الأشراف . تعلم فى الأزهر . وسمح الخديوى سعيد باشا بأن يلتحق بالجيش أبناء المشايخ والأعيان لسدّ العجز فى عدد الجيش الذى كان قد تكوّن ضباطه من قبل من أبناء المماليك بعد أن قتلهم محمد على . صار أحمد عرابى جنديا ثم ترقى ، وعانى من تسلط وإضطهاد الضباط الشراكسة الذين كانوا يحتقرون الضباط ( المصريين ) الجدد . هذا مع أن أحمد عرابى ورفاقه ينتمون الى ( الملأ ) بإعتبارهم ابناء للاعيان من الفلاحين ، ولكن لأنهم فى ذيل قائمة ( الملأ ) فقد عوملوا بإحتقار . وهذا هو سبب ثوورة عرابى على الخديوى . ، وتطورت الثورة الى أن فشلت وإحتلت إنجلترة مصر عام 1882 .  يهمنا هنا تلك المواجهة بين عرابى والخديوى توفيق ، فى مظاهرة الجيش التى تزعمها عرابى وقدّم عريضة بالمظالم للخديوى . قال له الخديوي توفيق: ( كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا ). !. ردّ عليه عرابي: ( لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم.).!

2 ـ هذا يستحق تحليلا سريعا . هنا فرعون مصرى ضعيف الشخصية من سُلالة أجنبية ، يحكم بالجيش الذى تكون من سلالة المماليك القدامى ، أى من كبار ( الملأ ). والجيش هو عماد القوة الفرعونية وأساس الاستبداد للفرعون . ولم يسترح الضباط الشراكسة لوجود ضباط مصريين من ( الفلاحين ) بينهم حتى لو كانوا من أبناء الأعيان . هؤلاء الأعيان كانوا أنياب الفرعون فى الريف المصرى . كانوا وكلاءه فى تعذيب الفلاحين ، ضمن سلسلة جهنمية من العمدة وشيخ الخفر والمأمور والصرّاف و ( المشدّ ) الذى يتولى تعذيب الفلاحين ليتأكد أن أحدا منهم لم يقم بإخفاء بعض المحاصيل . كان الفلاح المصرى وقتها يفخر بأنه تحمل الضرب عدد كذا من الأسواط  دون أن يعترف لهم بكل ما خبأه من المحصول الذى كان يعرق فى زراعته . كان هذا هو مقياس البطولة وقتها . بسبب أن الأعيان كانوا مصريين يعملون خدما للفرعون الأجنبى ونظام حكمه فقد تمتعوا بإحتقار الفرعون المستبد والملأ الأعلى رتبة . وإشتهر قولهم عن الفلاح المصرى ( فلاح خرسيس ). بهذه الثقافة قال الفرعون توفيق لعرابى : ( كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا. ) .هكذا بكل بساطة وبكل صرحة : إنه ورث البلاد ضيعة عن آبائه وأجداده وليس المصريون سوى عبيد لإحسانه .

3 ـ قامت حركة الجيش فى 23 يولية ضد الملك فاروق آخر ملك من ذرية محمد على باشا . قال عبد الناصر إن الجيش هو العصا التى يملكها الملك ضد الشعب . وهذا صحيح . بوصول الجيش للسلطة إنهار سريعا النظام القائم ، من الملك والحكومة والباشوات ، وسعوا جميعا لتملّق الضباط الشباب الذين رأوا مصر تسقط بين ايديهم ثمرة ناضجة بلا مقاومة . الضباط سيطروا على الجيش سلاح الفرعون . لم يرغب عبد الناصر أن يعود بالجيش الى ثكناته ويترك مصر يحكمها المدنيون . بدأ الحكم العسكرى وتحولت مصر الى معسكر كبير . وإنتعش التعذيب بالدولة الفرعونية العميقة . كان ( السجن الحربى ) سلخانة تعذيب للمصريين المدنيين مع انه يحمل اسم (السجن الحربى )، وانتشرت سلخانات التعذيب فى بقية السجون ، وشمل التعذيب الجميع فى عهد عبد الناصر من الشيوعيين والاخوان وغيرهم . ووصل التعذيب الى الفلاح المصرى الذى إستفاد مع القرية المصرية من بعض إصلاحات ، ولكن الدولة المصرية العميقة ظلت على نفس التعامل بالتعذيب والقهر مع الفلاح المصرى ، إعتبرته ( حائزا ) للأرض وليس مالكا لها . وكان روتينيا تعذيب الفلاح بأوامر من المهندس الزراعى فى الجمعية التعاونية إذا قصّر فى أى شىء .  وتوالت الأيام وتحت القهر الفرعونى إضطر الفلاح المصرى للهجرة من قريته . هاجر للقاهرة ، وهاجر الى الأردن والخليج ، وعانى هناك القهر وتحمله فى صبر معتاد . على الأقل هو يجنى مالا مقابل عمله وصبره ، أما فى مصر فلا يجد سوى الفقر والقهر ..والصبر .

ثانيا : الشعب المصرى الغائب الحاضر فى الدولة الفرعونية العميقة : فى التأريخ لمصر

1 ـ فى التأريخ لمصر ترى التركيز على الفرعون وملئه وقومه وإنشاءاته وما ترك من آثار . وليس لأى مؤرخ ذرة من ( الضمير العلمى ) لكى يتحدث عن الشعب المقهور الذى بنى تحت السياط وماكينة التعذيب تلك المعابد والقصور للفرعون وقومه .

2 ـ ( السخرة ) هى التطبيق العلمى فى دور التعذيب فى إرغام الشعب المصرى على بناء كل هذه الآثار ، والتى صارت الآن مفخرة لمصر ، ولكن دون ذكر للمصرى المسكين الذى أقامها تحت لسعات السياط . يشيدون بإنجازات الفرعون وينسون صرخات البؤساء الذين أقاموها .

3 ـ هنا لا فارق بين باحثى التاريخ الفرعونى أو القبطى ومؤرخى العصر العربى وفقراته أو الأيوبى أو المملوكى أو العثمانى . كل أولئك الفراعنة أقاموا منشئاتهم بالسُّخرة . لا فارق بين رمسيس أو بطليموس أو عمرو بن العاص أو ابن طولون أو صلاح الدين الأيوبى أو السلاطين المماليك أو محمد على باشأ أو سعيد باشا .

4 ـ  فى كتابنا عن ( ملك اليمين ) تعرضنا للسُّخرة فى شق قناة السويس كابشع إسترقاق للمصريين . فى كتابنا عن أثر التصوف المعمارى فى مصر المملوكية تعرضنا للظلم الذى صاحب إنشاء المساجد والمؤسسات الدينية بالسخرة والتعذيب . وفى كتابنا عن المجتمع المصرى فى عصر السلطان قايتباى تحدثنا عن بعض أساليب المماليك فى القبض على الناس وتسخيرهم فى العمل. ونتمنى باحثا ذا ضمير يلفت بأبحاثة النظر لأولئك المصريين الذين كانوا ـ  ولا يزالون ـ حاضرين ـ بما أنشأوه ، وكانوا ـ ولا يزالون ـ غائبين عن الذّكر .

ثالثا : الشعب المصرى الحاضر الغائب فى الدولة الفرعونية العميقة فى تدبر قرآنى  

فرعون وقومه ( وجنرالاته ) يملكون أرض مصر :

1 ـ هكذا أعلن فرعون فى مؤتمر عقده لقومه : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف ) هو يقارن بينه وبين موسى عليه السلام . السؤال الآن : هل هو الذى كان يملك مصر وحده أم معه الملأ والقوم والجند والعسكر والجنرالات ؟

2 ـ فرعون كان الرأس ، وقومه هم بقية الجسد ، وهم معا كانوا يملكون الأرض ، أرض مصر . حين أحس بالخطر من موسى قال لقومه : ( قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) الشعراء ). هنا هى ( أرضهم ). وهو يطلب مشورتهم و ( أوامرهم )

3 ـ وهو نفس ما قالوه فيما بينهم : ( قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) الاعراف ). هنا هى أرضهم ، وهم يتداولون الأمر فيما بينهم ، كيف يتصرفون أمام آية موسى عليه السلام . وقالها فرعون لموسى عليه السلام تعبيرا عن نفسه وقومه : ( قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) طه )

4 ـ إنهم بملكيتهم لأرض مصر تمكنوا من ( العلو ) فيها إستكبارا وظلما . وهم يعترفون بالصلة بين ملكيتهم أرض مصر وعلوهم وكبريائهم ، لذا قال الملأ لموسى عليه السلام : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) يونس ) ، وقالوها فيما بينهم فى مداولاتهم : ( قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى (64) طه )

فرعون وقومه يسخرون المصريين فى الزراعة والبناء والصناعة

1 ـ حين قال فرعون لقومه : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف ) هل كان هو الذى يزرع الأرض والذى يشق الأنهار والترع والمصارف وما يلزم الزراعة من رىّ وصرف ورعاية ؟ بالسخرة كان الفلاح المصرى يفعل هذا للفرعون . وهل كان يفعل هذا طوعا ؟ كلا . كان يفعل هذا بالسخرة . بالتعذيب ، أو خوفا من التعذيب . من الذى كان يرغم الفلاح المصرى ؟ كان الملأ الفرعونى الذى تغلغل فى كل قرية .

2 ـ وبعرق الفلاح المصرى ودمائه ودموعه إمتلأت خزائن فرعون وقومه بالخير . وعقابا لفرعون وقومه ضربت المجاعة مصر ، وقد عرفوا أن الفلاح المسكين لا شأن له بذلك ، فهو كالدابة الخرساء يعمل ولا يشكو . لذا إعتبروا موسى هو السبب ، وتشاءموا به . قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) الاعراف ).

3 ـ وبعرق العامل المصرى والصانع المصرى أسّس فرعون وقومه العمائر والمسلّات ، وكان قد إشتهر بهذه المسلّات حتى إرتبط بها ، قال عنه جل وعلا : ( وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الفجر). وفى غمرة تطرفه فى الكفر طلب من وزيره هامان أن يبنى له بُرجا هائل الارتفاع لكى يرى الله جل وعلا لأنه لا يرى للمصريين إلاها غيره . قال جل وعلا : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ (38) القصص ) ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ (37)  غافر ) . هامان لم يكن ليبنى هذا بساعده ، هو مُشرف فقط على العمل ومعه الملأ المتخصص من مهندسين وجنود للتعذيب وآخرين لجمع العمال . العمال المصريون هم البناءون الحقيقيون لهذا الصرح لو كان قد تمّ . ووهم الصنّاع الحقيقيون لكل أثر تمّ أو يتمّ او سيتم العثور عليه .

4 ـ وينكر علماء المصريات وجود فرعون موسى ، وقد ناقشنا جهلهم هذا من قبل . ومن أدلتنا أن رب العزة يذكر أن آثار فرعون موسى قد تمّ تدميرها بعد غرقه مع ملئه وقومه ودولته العميقة . قال جل وعلا : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الاعراف ). تم تدمير ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يؤسسون من مبانى ومعابد وقصور ومقابر . ولنا أن نتصور المصريين الغلابة وقد إنزاح عنهم فجأة القهر الفرعونى فإنكبوا على قصور فرعون ومعابدها ينهبونها ويتلفون ما فيها ويدمرونها . ولا نلومهم .!

5 ـ هذا عن المنشئات والمبانى . وعمالها وصانعيها . فماذا عن المزارع والحقول ؟ قال جل وعلا عن نهاية فرعون وسيطرة بنى إسرائيل على مصر :  ( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) الشعراء ). ترك فرعون وقومه وجنرالاته وعسكره مزارعهم وكنوزهم وهم يطاردون بنى اسرائيل فيما إعتبروه نزهة عسكرية ، وابتلعهم البحر الأحمر ، فأصبحت حقول مصر وأرضها الزراعية ملكا لبنى إسرائيل . وما تركه فرعون وقومه وجنرالاته كان جنات وعيون هائلة ، وصفها رب العزة جل وعلا فقال :  ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) الدخان ) . اسلوب تعجب : كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعم كانوا فيها فاكهين . ورث هذا كله بنو اسرائيل . كانوا جمعا منظما ، لذا عادوا لمصر يبشرون أهلها بغرق فرعون وقومه ودولته وعسكره ، وورثوا هذه الحقول ومعهم من يزرعها من الفلاحين المصريين .!

أخيرا

1 ـ العسكر الحاكم فى مصر والذى يحتلها من عام 1952 كان يدير مصر وخيراتها من خلال الملأ التابع له . قام عبد الناصر بالتأميم والتمصير . انتهى الحال بمصر الآن والعسكر هو الذى يدير ثروة مصر بنفسه بدون ( ملأ ) تابع له من المدنيين . أصبح العسكر المصرى متحكما فى الزراعة والصناعة والتجارة ، وقام الجنرالات بتقسيم ثروة مصر ومواردها عليهم . ومنحوا لأنفسهم كل الميزات . وعلى المصرى المقهور أن يعانى الفقر مع الخضوع والخنوع . كل ذلك خوف التعذيب .

2 ـ حكم مصر فراعنة مصريون وأجانب أكثر من خمسين قرنا . خلال بحث وتخصص فى التاريخ المصرى لم أجد مثل العسكر المصرى الحالى فى قسوته على المصريين ، هذا لأننا فى عصر حقوق الانسان والديمقراطية . الفراعنة السابقون تصرفوا وفق ثقافة عصرهم . أما فراعنة مصر الحاليون فهم ضد ثقافة عصرهم . الفراعنة السابقون لهم انتصارات وامجاد ، ولكن فراعنة مصر اليوم لم ينتصروا إلا على الشعب المصرى الأعزل المسكين .!

3 ـ بسبب تطرف الفرعون الحالى فى التعذيب إنتشر ( الخرس ) بين المصريين . هل نلومهم ؟


المقال الخامس

الدولة الفرعونية العميقة ( فى التعذيب )

أولا : دلائل اتساع العمران المصرى فى عصر فرعون موسى

1 ـ قال جل وعلا : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الاعراف ) . رب العزة جل وعلا يصف الوطن المصرى الذى ورثه بنو اسرائيل بأنه ( مشارق الأرض ومغاربها ) . وهى مشمولة بالبركة بما فيها من خير . ثم تنتشر ما كان يصنعه فرعون وما كان يقيمه من مبانى معروشة .

2 ـ تتردد كلمة ( الأرض ) وصفا ودليلا على مصر بما يعنى أنها كانت ـ وحدها ـ التى تمثل الكوكب الأرضى ، وبسبب ملكية فرعون وقومه لهذه ( الأرض ) فقد علوا وإستكبروا . وهذا ما تكرر كثيرا فى قصص موسى وفرعون. وفى داخل هذه الأرض ( مدن ) و ( مدائن ) .

3 ـ لأن مصر كانت ( الأرض ) فلم يأت فى القرآن الكريم وصف مصر بمصطلح ( القرية ). أى هى أكبر من أن تكون قرية . و( القرية ) فى المصطلح القرآنى تعنى المجتمع أو الدولة ، وتكون ( المدينة ) جزءا من هذه ( القرية) ، وربما عاصمة لها.ونتعرف على هذا من قصة القرية التى جاءها ثلاثة من الرسل ، قال جل وعلا:(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) يس) وجاء رجل من (أقصى المدينة) يعظ قومه : (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) يس). واضح هنا أن ( المدينة ) جزء من القرية أو المجتمع أو الدولة .

4 ـ  مدائن مصر  : كلمة ( مدائن ) لم تأت وصفا إلا للمدن المصرية . وهذا يعنى أن المدن المصرية كانت كبيرة ومتسعة ومكتظة بالسكان. قال جل وعلا: ( قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ )( 111 ) الاعراف )( قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) الشعراء )( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) الشعراء ).

5 ـ وصف المدينة المصرية بما يشير الى إتساعها ، قال جل وعلا : ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) القصص ). جاء رجل من ( أقصى المدينة ). أى من أطرافها . هى مدينة واسعة . ومن دليل إتساعها أيضا تنوع سكانها ، منهم الاسرائيليون وبقية الطوائف والملأ الفرعونى ، نفهم هذا من قوله جل وعلا : ( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) القصص)،( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ )(18) القصص)

6 ـ ولأنها مدينة آهلة بالسكان فقد تملّك فرعون الغضب من السحرة حين آمنوا بالله جل وعلا ، إذ خاف من ردّ الفعل عند سكان المدينة، لذا قال للسحرة متصورا أنها مكيدة : ( قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123 ) الاعراف )

7 ـ  وقال جل وعلا : (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف ). إفتخر فرعون بالأنهار التى تجرى من تحته . ربما كان بعضها شقتها الدولة المصرية ، بدليل إفتخار فرعون بملكيته لتلك الأنهار التى تجرى من تحته ـ أى بأمره وتوجيهه . دلتا النيل كانت فى مصر الفرعونية بعدة فروع ، ومنها ما يخترق شبه جزيرة سيناء ، ومنها ما يخترق الصحراء الغربية . ونتج عنها فى سيناء ما يعرف بسهل الطينة والخزان الجوفى فى الصحراء الغربية . وحتى العصر العباسى الأول كان الساحل الشمالى من الاسكندرية الى ليبيا معمورا ومزروعا . فلما قام الخليفة المتوكل العباسى بطرد العرب من الجندية إحترف معظمهم قطع الطريق ، وقاموا بتخريب الأطراف الشرقية والغربية فى مصر ، فإنطمرت تلك الفروع النيلية . وفى عصر السلطان قايتباى كان الأعراب يهاجمون منطقة البحيرة بل وتصل إغاراتهم الى القاهرة . فى عصر فرعون موسى كانت قبضته راسخة وكانت دولته العميقة تتحكم فى كل العمران المصرى.

ثانيا : مظاهر تحكم الدولة الفرعونية فى كل هذا العمران المصرى :

1 ـ إستدعاء السحرة من كل المدن والعمران المصرى وتجميعهم وحشدهم فى موعد محدد لإقامة مباراة بينهم وبين موسى

1 / 1 : إتفق فرعون مع موسى على موعد ومكان المباراة : (  فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59 ) طه ) حدّد موسى الموعد بعيد من الأعياد حيث يتجمع الناس . وقوله ( وأن يحشر الناس ضحى ) يعنى أن موسى يفهم طريقة الدولة العميقة فى حشر وحشد الجماهير .  

1 / 2 : عن إستدعاء كل السحرة من شتى العمران المصرى نقرأ:

1 / 2 / 1 : (  قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) الأعراف ) وفى الموعد المحدد حضروا وقابلوا الفرعون: ( وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (114) الاعراف )

1 / 2 / 2 :  ( قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) الشعراء ) أى تم تجميع السحرة من كل أقاليم مصر وقتها وتسفيرهم الى العاصمة ليكونوا جاهزين فى الوقت المعلوم .

1 / 2 / 3 : وإنبث عملاء الفرعون بين السكان يشجعونهم على حضور المباراة ، وتشجيع السحرة حين يغلبون : ( وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ (40) الشعراء ). كلمة ( وقيل ) رائعة جدا فهى ترسم لوحة لأشخاص يوسوسون للناس ، شأن العملاء المجهولين فى أى نظام مستبد .  

1 / 3 : ونجح الاستدعاء للسحرة كما نجح تجميع الجماهير ، وشهدت الجماهير المباراة ، ولأنهم يعتقدون فى قدرة السحرة فقد أثّر السحرة على أعينهم فرأوا سحرهم عظيما : ( قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) الاعراف ).

1 / 4 : يتضح مما سبق :

1 / 4 / 1: المقدرة الهائلة للدولة الفرعونية العميقة على الاتصال بين العاصمة والأقاليم وكل القرى والمدن ، والقدرة الفائقة على التنظيم والتجميع والتنسيق والتسفير بحيث تم الأمر فى الموعد المحدد.

1 / 4 / 2 :  الشعب المصرى يوجد فى خلفية المشهد  فى قصة فرعون موسى . يجرى تجميعه وحشده وسوقه وتحفيزه . كما قال عمر بن العاص ( مطية راكب ).!

2 ـ حشد الملأ الفرعونى لمراقبة قوم موسى ومطاردتهم

2 / 1 : كان بنو إسرائيل تحت رقابة مشددة من دولة فرعون العميقة  يمنعهم من الهرب من جحيم تعذيبه . فرعون فى طغيانه وإستكباره يستنكف أن يستجيب لطلب موسى ويسمح لهم بالخروج من مصر ، يريد أن يظلوا تحت سلخانة تعذيبه ليرهب بهم بقية سكان مصر ، ولا يريد أن يقال عنه إنه خضع لواحد من بنى إسرائيل ، وهو الذى أرغم بالتعذيب بنى إسرائيل على عبادته . ولولا تدخل الرحمن لاختلف الوضع . كان الوحى الالهى يخبر موسى بأن عيون الفرعون تتبعهم .

2 / 2 : أوحى جل وعلا  لموسى: ( فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) الدخان ). أى أن يتسللوا ليلا تحاشيا للمراقبة .

2 / 3 : ومع هذا فقد وصل الخبر الى فرعون فأرسل أمرا لكل الملأ فى كل العمران المصرى بالحشد والتجميع ، قال جل وعلا : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) الشعراء )

2 / 4 . وجاء فى بيان الاستدعاء للملأ إن بنى إسرائيل شرذمة قليلون ولكنهم للفرعون وملئه غائظون ويجب الحذر منهم : ( إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) الشعراء )

2 / 5 : ثم العجيب هذه القدرة الفائقة على تجميع وحشد وتسيير كل الجنود والملأ من كل العمران المصرى فى مدة وجيزة ، ثم يزحفون معا وجميعا تحت قيادة فرعون يطاردون بنى إسرائيل وهم يتجهون شرقا نحو سيناء والبحر الأحمر ، ولحقوهم وهم على ضفة البحر الأحمر . كان بنو اسرائيل فى وضع حرج ، البحر أمامهم وفرعون وجنده خلفهم . قال جل وعلا : ( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66 ) الشعراء )

ثالثا : الدولة العميقة تتحكم بالتعذيب فى كل العمران المصرى

1 ـ منتظر من بنى إسرائيل أن يعانوا أشد المعاناة من فرعون بدولته العميقة المتحكمة ، فهى تعُدُّ عليهم انفاسها . وحتى من يولد منهم طفلا يأتى الملأ لذبحه إن كان ذكرا أو إسترقاقه إن كان أنثى .  نستعيد قوله جل وعلا : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) ابراهيم ). الله جل وعلا لم يقل ( أنجاكم من فرعون ) بل من (آل فرعون ) يعنى مخالبه وقواته الأمنية الباطشة.  

2 ـ ولكن نضع بعض ملاحظات :

2 / 1 : القانون السائد هو التعذيب ، ولكنه قانون يتم تنفيذه بالهوى. والدليل أنه نجا من القتل هارون أخ موسى ، كما إن أخت موسى لم يتم إسترقاقها . حين ولد موسى كان الأمر بالذبح والاسترقاق . ثم حين جاء موسى لفرعون رسولا ظهر من جديد نفس الاقتراح ، قال جل وعلا :  ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) غافر).( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) الاعراف )، وإشتد الإضطهاد الفرعونى لبنى إسرائيل ، وإشتكوا لموسى أنهم تعرضوا للأذى قبل مجيئه وبعده فوعظهم بالصبر :( قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الاعراف ). ومن شدة الارهاب الفرعونى إنفض كثيرون من بنى إسرائيل عن موسى ، قال جل وعلا : ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83) يونس ).

2 / 2 : نلاحظ فى الآية الكريمة السابقة كلمة ( وملئهم ) . جاءت بالجمع وليس بالمفرد . هنا إشارة الى تعدد طبقات الملأ . وأن ( الملفّ ) الاسرائيلى يتولاه بعض الملأ الفرعونى . وهذا منتظر من دولة مركزية عميقة تتحكم فى الشعب المصرى .

2 / 3 : يقول جل وعلا عن هذا الملأ الفرعونى بتقسيماته ودرجاته : ( فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى (64) طه ). تنازعوا وإختلفوا فى الآراء ثم إنتهى الأمر بهم الى الاتحاد صفا واحدا حفاظا على ملكيتهم ( للأرض ) وطريقتهم ( المُثلى ) فى الاستبداد بها وحكمها وفى الاستعلاء على الشعب . وعندهم أن المفلح هو من إستعلى .

2 / 4 : لم يكن هناك تشريع لدى فرعون موسى يخدع الناس بمقولة ( التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم ) بينما يستمر التعذيب راسخا بالتقادم . كان التعذيب ـ ولا يزال ـ هو القانون المنقوش بسياطه على جسد المصريين . وبتعدد الملأ من السادة كان ـ ولا يزال ـ من حقهم تعذيب من يشاءون متى يشاءون وكيف يشاءون . هذا لترسيخ ( هيبة الفرعون ودولته ــ العميقة ).!

رابعا : النهاية :

1 ـ قال جل وعلا : (  فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) الزخرف ). أى غرق فرعون بقومه ( أجمعين ) لم ينج واحد منهم . القوم هنا يشملون آل فرعون ( الأسرة المالكة ) والأجهزة العسكرية والأمنية والإدارية والحكومية ، من هامان الى أصغر ( جندى أمن مركزى )

2 ـ كل هؤلاء كانوا جنود فرعون الذين غرقوا معه ، قال جل وعلا : ( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) الذاريات ). غرقوا جميعا من فرعون الى أقل ( مُخبر ) وأقل ( امين شرطة ).

3 ـ هذا مفهوم من تاريخ دولة الرعامسة العسكرية ، التى ( تعسكر ) فيها كل شىء ، والتى إنقسم فيها الناس الى ( عسكر سادة يحكمون ) وعبيد يتعذبون .

4 ـ السؤال الآن : إذا كان فرعون قد تحرك بكل قواته العسكرية والأمنية والإدارية والحكومية تاركا خلفه الشعب المصرى فلماذا لم ينتهزها المصريون فرصة للثورة والتحرك ضد فرعون فى غيابه مع اجهزة حكمه ؟ الجواب فى كلمة واحدة : ( التعذيب ) . كانوا يعرفون أن فرعون خرج بكل نظام حكمه فى إستعراض للقوة ليقضى تماما على مجموعة من الناس الغلابة ، وسيرجع منتصرا . لو ثاروا عليه فى غيابه ورجع  فسيكون مصيرهم أشنع من مصير السحرة .

5 ـ توارث المصريون  ـ حتى الآن ــ آثار التعذيب . تتردد فى أغانيهم كلمات العذاب ونبرة الحزن  والشجن ومواويل الصبر . ولا يزالون حتى الآن يقولون ( أستر يارب ) . ويتوقعون الشّر، وأذا ضحكوا قالوا : اللهم إجعله خير .!  يستكثرون على أنفسهم لحظة سعادة ..

أخيرا :

1 ـ وصلت مصر الآن بعد حكم العسكر من عام 1952 الى الفصل التام بين الشعب المصرى و( الملأ ) الحاكم ، ليس فقط فى الإغداق الهائل على الملأ والتضييق الهائل على الشعب ،ولكن أيضا فى عسكرة ( الملأ ) وتحصينهم من أى مساءلة مهما فعلوا بالشعب . أى صاروا ( آلهة ) ينازعون رب العزة جل وعلا الذى لا سُسأل عما يفعل. قال جل وعلا : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) الأنبياء ) .

2 ـ فهل إقتربت نهاية الفرعون الحالى ودولته العميقة ؟ وهل إذا انتهت هذه الدولة العميقة وتحولت مصر الى فوضى سيحتلها بنو اسرائيل كما حدث فى عهد موسى ؟ وكم عدد الملايين من المصريين الذين ستسيل دماؤهم أنهارا ؟ وهل الحرص على السُّلطة يستحق هذا كله ؟ ! ثم : ألا يوجد ( مؤمن ) من آل فرعون يعظ قومه بالقرآن الكريم ؟  

3 ـ اللهم رحمتك بالشعب المصرى .!!








الخاتمة

1 ـ كتبنا عن التعذيب الذى يمارسه المستبد فى حق شعبه مقالات عديدة ، وتعرضنا له فى كتب كثيرة منشورة هنا ، منها : ( المجتمع المصرى فىعصر السلطان قايتباى ) و ( إضطهاد الأقباط بعد الفتح ) و ( التصوف وزأثره السياسى فى الدولة المملوكية ). فى عملنا فى اصلاح ( المحمديين ) نقف ضد التعذيب ، ليس فقط لأن اهل القرآن من ضحايا التعذيب فى مصر ، ولكن الأهم أن المستبد بالتعذيب يقهر شعبه ويحتاج الى تسويغ دينى ، يقدمه له الكهنوت الدينى التابع له . هو يركب الكهنوت والكهنوت يركب الشعب. وبهذا يخسر الشعب الدنيا فى حياة ذليلة ، ويخسر أيضا الآخرة بطاعته للمُضلين من الكهنوت ، والمحصلة النهائية أنه يخسر الدنيا والآخرة . 

 2 ــ ـ تخلص الغرب من الاستبداد ومن سيطرة الكهنوت فإإنطلق بالعالم الى آفاق العلم والتكنولوجيا ، وبعقله عرف القيم الاسلامية التى ينكرها المحمديون ، وهى العدل والحرية الدينية والحرية السياسية والتكافل الاجتماعى وحقوق الانسان . وبعض الغربيين وصل بالحرية الدينية الى أنه لا إله إلا الله . والمحصلة النهائية أن الغرب كسب الدنيا فى حياة كريمة ، وبعضهم كسب الدنيا والآخرة بوصوله الى الايمان بأنه لا إله إلا الله جل وعلا.

3 ــ ـ نحن نعيش فى الغرب شهودا على هذا ، بينما يعيش فى الغرب محمديون هم عار على البشرية يستخدمون حرية الغرب فى الدعوة للإرهاب وأسفل ما فى أديانهم الأرضية . ونحاول فى جهدنا الاصلاحى تصوير تلك الصورة السيئة التى نشروها عن الاسلام ، ولكن نعانى التهميش والتعتيم.

4 ــ ـ بعضهم يكره القرآن الكريم ويرى انه ملىء بآيات العذاب . وهو ينسى : أنه حتى فى القانون الوضعى لا بد من معاقبة المجرم وأنه لا يستوى المجرم والضحية . وينسى أن القرآن الكريم فيه آيات العذاب وآيات وصف النعيم ، وأن الله جل وعلا يذكر هذا وذاك للوعظ وكى ينقذ الناس الأحياء أنفسهم من العذاب ويدخلوا الجنة. وينسون أن الله جل وعلا يدعو الى التوبة ، وأنه جل وعلا لا يؤاخذ إلا على التعمد وأنه جل وعلا لا يؤاخذ المضطر والمجبور على فعل العصيان ، وأنه جل وعلا لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وأن من إجتنب الكبائر غفر الله جل وعلا السيئات الصغائر وادخله الجنة . وينسون أخيرا أن الله جل وعلا لا يظلم الناس ولكن الناس انفسهم يظلمون ، إذ يتم تعذيب أهل النار بسيئاتهم التى اقترفوها فى حياتهم الدنيا .، تتحول السيئات الى نار يتعذبون بها فى خلود مستمر.

5 ـــ هناك عذاب من رب العزة جل وعلا فى الدنيا يكون إختبارا وإبتلاءا ، ثم يكون عذاب الآخرة الأبدى لمن يموت كافرا عاصيا ظالما. وهناك تعذيب يقترفه الظالمون فى الدنيا بحق الأبرياء . وتعرضنا لهذا وذاك . وتوقفنا مع تعذيب فرعون موسى لبنى اسرائيل كأكبر حالة للتعذيب مذكورة فى القرآن الكريم. والهدف أن يكون هذا عبرة لكل فرعون . ولكن الفراعنة لا يتعظون.

6 ـ  لسنا مسئولين عن هداية أحد لأن الهداية مسئولية شخصية ، ومن إهتدى فلنفسه ، ومن ضل فعلى نفسه. نحن مسئولون فقط عن أنفسنا ، ونجاهد سلميا نريد الإصلاح ما إستطعنا. ونطمع أن يجعلنا ربنا جل وعلا من أصحاب النعيم فى الآخرة.  








 

اجمالي القراءات 14839