فهمي لسورة التوبة ( الجزء الخامس عشر )
فهمي لسورة التوبة ( الجزء الخامس عشر )

أسامة قفيشة في الإثنين ١١ - يونيو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

فهمي لسورة التوبة ( الجزء الخامس عشر )

و هو الجزء الأخير و به تنتهي آيات سورة التوبة , حيث يستمر الحديث في رفع العزيمة و مدح من لبى نداء النفير و آثر الوقوف في صف النبيّ عليه السلام و عمل على طاعة الله جل وعلا فتاب إليه و استجاب لأمره :  

( مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) 120-121 التوبة :

1 - لا يعقل بأن يتخلف أحد عن النبيّ و خصوصاً أهل المدينة و من حولهم من الأعراب , و هذا بسبب ما قدمه لهم نبيّ الله من خيرٍ , و ما أوصله لهم من رسالةٍ أخرجتهم من الظلمات إلى النور , و حولتهم من مجتمعٍ قروي قبليّ إلى أول مجتمعٍ مدنيّ مبنيٌ على الحرية و الأمن و السلام و الشورى و يرفض القهر و الظلم و الاستعباد , فلا يعقل أن يتنكر هؤلاء لهذا الفضل .

2 - وضع جميع من لبّى و استجاب و انصاع لأمر الله جل وعلا بحالةِ استنفار قصوى و تأهب لأي طارئ , فمهلة الأربعة أشهر انقضى منها ما انقضى , و لم يتبقى منها سوى ما تبقى .

3 - حالة الاستنفار و التأهب و الاستعداد العسكري هذه فيها الكثير من المتاعب و الصعاب و المشقة , و كل تلك الأمور لن تذهب هدراً , فما يقدمه هؤلاء سيلقون مقابله الأجر و الثواب من عند الله جل وعلا , و كل ما يقدموه سيكتب لهم به عملاً صالحاً و حسن , ( فهؤلاء هم الصالحون المحسنون الذين استجابوا لله و رسوله و قدموا أموالهم و أنفسهم لحمايته و نصرته ) .

( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) 122 التوبة :

المطلب الحالي و هم في حالة التأهب و الاستعداد العسكري تلك هو الحذر الشديد و اليقظة التامة و استطلاع الوضع و استكشافه من أجل معرفة كيفية المسير لملاقاة قريش و المنافقين فور انتهاء مهلة الأربعة أشهر .

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) 123-124 التوبة :

هنا الحديث عن الجانب الأول من أهل المدينة و هم النبيّ و من معه من المؤمنون :

1 - الحديث لهؤلاء المؤمنين و حثهم على قتال هؤلاء الكفار دون هوادة أو لين حتى يتوبوا و يتوقفوا عن ممارساتهم و يسلّموا إدارة و عمارة المسجد الحرام للمؤمنين , و تذكيرهم بأن الله جل و علا مع المتقين دليلٌ على حثهم بالتزام التقوى في قتالهم الذي سيبدؤونه قريباً .

2 - كانوا في حالة بثٍ و رفعٍ للمعنويات فيما بينهم , و تنافسٍ فيما بينهم بالاستجابة و تسابقٍ بالالتزام بكل تعاليم الله جل وعلا و يستبشرون بما وعدهم الله جل وعلا من أجرٍ و ثواب يوم يلقونه , و يبشرون به بعضهم البعض .

( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ * أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ) 125-127 التوبة :

هنا الحديث عن الجانب الثاني من أهل المدينة و هم المشركون ( الذين في قلوبهم مرض ) :

1 - نلاحظ بأن مشركو المدينة قد جاء وصفهم بأنهم رجس لذا وجب الابتعاد عنه و عدم الاقتراب منه ( أي عدم التعرض إليهم بأي سوء , فلا يجوز قتالهم ) , و هذا بسبب أنهم يعيشون في المدينة و تحت سيادة الدولة الإسلامية , و ملتزمون بحالة الأمن و السلم , خلافاً لمشركي مكة من القرشيين فقد جاء وصفهم سابقاً بأنهم نجس لذا وجبت الطهارة من هذا النجس فكان الأمر بقتالهم فور انتهاء الأشهر الحرم , و تطهير البيت الحرام من نجسهم .  

2 - هؤلاء المشركون في المدينة لا يتوبون عن شركهم و لا يتذكرون ( أي أن سماعهم لكلام الله جل وعلا لا يؤثر بهم و لا يكترثون به لأنهم لا يريدون أن يفقهوه ) .

3 - دليل شركهم هو فتنتهم في كل عامٍ , فلا يخلو عام بدون فتنتهم فيه مرة أو مرتين , و فتنتهم تعني قتالهم لبعضهم البعض دون الاعتداء على النبيّ و أتباعه أو على أركان الدولة الإسلامية ( أي قتال و اقتتال داخلي بين المشركين تحت سيادة الدولة الإسلامية ) و للتذكر هنا و على عجل أذكر بما قلته مسبقاً حول قوله جل وعلا ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) في مقالٍ سابق بعنوان ( الاصلاح بين الناس شعوباً و دولاً ) .

( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) 128-129 التوبة :

و هنا تتوقف المشاهد بنا عند هذا الحد , و تختتم تلك السورة بهاتين الآيتين , و يتوقف بنا الزمن و ينقطع , فلا حجة لنا بعد كل ما ورد , و لا حجة لأحد بعد كل هذا البيان من الكشف و التوثيق في كلام الله جل وعلا المحفوظ بقدرته .

هاتان الآيتان تغنيان عن أي حديث فهما تنطقان بما سيقدمون عليه , و لا أرى فيهما سوى الوداع ,

و حسبنا الله و نعم الوكيل , و لا حول و لا قوة إلا بالله العليّ العظيم .

و في الختام أطرح بعض التساؤلات :

هل هناك وجه شبه بين ما جاءنا في سورة التوبة التي أنزلت على الرسول مع بداية موسم الحج و ما جاء في كتب التراث و التاريخ ؟

ما الذي حدث بعد انقضاء مهلة الأربعة أشهر ( الأشهر الحرم أي موسم الحج ) ؟ و لماذا توقف التاريخ عن كتابة الأحداث التي حدثت ؟

هل عاد النبيّ عليه السلام لتنفيذ أمر الله جل وعلا بقتال هؤلاء المشركين ؟ و لتطهير الحرم من نجسهم و شركهم ؟ أم أنه مات أو قتل قبيل انتهاء تلك المهلة ؟

أم أن المشركين و المنافقين من المهاجرين و الأنصار و الأعراب و هم كُثر كما علمنا , و معهم من معهم من اليهود و النصارى و على رأسهم قريش بسادتها و قادتها , قد أحكموا قبضتهم و عزموا أمرهم فانقلب الجميع على النبيّ و على القلة القليلة التي التفت حوله من المؤمنين الصادقين , و بهذا تمكنت قريش من تمرير مخططها العدائي و اعتلت سُدة الحكم الديني فحولت تلك الدولة المدنية إلى دولة دينية , و هيمنت عليه برجالها فركبته من أجل طموحاتها و غرائزها , و اجتاحت به البلاد و هيمنت به على العباد فأكثرت فيها الفساد .

إن هذا الانقلاب العسكري و الفكري لازلنا نعاني من ارتداداته و انعكاساته حتى يومنا هذا , كما أن تلك القلة القليلة التي آثرت النفير و الثبات على النهج الإلهي المستقيم لازالت كما هي حتى هذا اليوم قله قليله و مستضعفه ,

سبحانه القائل جل وعلا ( لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) 10 الأنبياء , و القائل (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ )24 الأنبياء , أي أن هذا القرآن فيه أيضاً ذكر من كان مع النبيّ و لكن أكثر الناس لا يعلمون هذا الحق .

و في الختام أشكر كل من تابع هذه السلسلة المطولة من المقالات , و لكم مني السلام .     

اجمالي القراءات 5129