مفهوم الأرحام بين التراث والقرءان – الرّحِمْ – الجزء الأول
في البحث عن الإسلام – مفهوم الأرحام بين التراث والقرءان – الرّحِمْ – الجزء الأول

غالب غنيم في الجمعة ٢٥ - مايو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

في البحث عن الإسلام – مفهوم الأرحام بين التراث والقرءان– الرّحِمْ – الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد والشكر لله رب العالمين

( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
) الزمر - 36

وأكرر ما قاله تعالى – يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

وبعد،

______________

مقدمة :

مما لا بدّ منه، هو أن نتحدث عن المجتمع الأعرابي من حول النبيّ، وهو من فرض كثيرمن العادات والتقاليد التي لم يسنّها القرءان، وبالطبع بعض من تلك العادات تَقبّلها القرءان بدون أن يُقنّنها، أي لم يرفضها ولم يضع قانونا بمنعها أو السماح بها فتركها للمعروف بين الناس والمجتمعات كمسألة المهور   مثلا، فلم يحددها ولم يضع قيودا عليها، وبعض منها رفضها فحرمها أو أمر بالابتعاد عنها!
لكن حين ننظر للعالم من حولنا، لن نجد عندهم مفهوم الأرحام التراثيّ، أي ما يُسمّى لغة " صلة الرحم "! وهذا ليس نقصٌ فيهم، بل لأنهم دوما في تغيير وفي محاولة للتطوّر، بعكسنا نحن الذين نعيشُ في الماضي فقط ، ولهذا ولأسباب أخرى تخصّ المؤمنين الذين يشعرون بالحيرة حيال هذا المفهوم الغامض العشائريّ الأصل، من حيث إجبارهم على التعامل مع بعضٍ من أهليهم الذين يرفضون مضمون القرءان أصلا، برغم أن القرءان نفسه يحضّ على الابتعاد وهجر المشركين سلوكيا حتى لو كانوا أهلنا وهذا نراه في نوح وإبراهيم والنبيّ وغيرهم عليهم السلام! أقول، لهذه الأسباب قرّرتُ أن أبحث في القرءان عن موضوع " صلة الرحم" هذا !
ولهذا ، أرجو من أي شخص يقرأ هذا البحث أن يتأنّى قبل أن يثور كما الأعراب بدون علم ولا كتاب منير، فأنا لا أمانع من وجود " صلة الرحم " بالمفهوم التراثيّ كعادات وتقاليد، ولكنني أريد أن أعلم من القرءان، هل أستطيع تأصيل هذا المفهوم كأمرٍ إلهي أم لا؟.
______________

الأرحام :
أتت مفردة الأرحام كجمع لمفردة رَحِمْ، وفي المعاجم نسبوها لفعل الرّحمةِ بالرغم من أنّ هنالك اختلاف كبير جدا بين اسم الله تعالى الرحمن وبين الرحيم، وسنأتي على ذلك أدناه، وفي التراث نسجوا أحاديث عن " صلة الرّحِمِ " مثل هذا على سبيل المثال لا الحصر، ما تم نسبته للنبيّ عليه السلام من قول غريب (وفي الحديث: إِن الرَّحِمَ شِجْنَةٌ مُعلقة بالعرش تقول: اللهم صِلْ مَنْ وَصَلَني واقْطَعْ من قَطَعني.)، حيث نرى هنا تصوير – تجسيد - العرش على أنه مقعد ويتعلق به أشياء مختلفة..كذلك في التراث قالوا أنها صفة للأقارب والأنساب ممن حول الشخص من إناث (قال ابن الأَثير: ذَوو الرَّحِمِ هم الأَقارب، ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسَب، ويطلق في الفرائض على الأَقارب من جهة النساء).

والآن لنبدأ في ترتيل الآيات لكي نبحث في الأمر، ففي القرءان ارتبطت مفردة الرّحِمِ مباشرة بالإناث من الخلق كله، أي لصنف الثدييات عموما، والبشر يدخل في هذا الصنف العلميّ التسمية،  وتم تفصيلها بكون الرّحِمِ هو مكان محدد في بطن كل أنثى ويشتمل على مخلوق داخله – أي في داخله الطفل أو الخلق المولود،  وهذا مهم جدا أن نتفق عليه بدايةُ لنفقه لاحقا من هم أولي الأرحام وكيف نفقه إسم الرحمن!

( ثَمَٰنِيَةَ أَزۡوَٰجٖۖ مِّنَ ٱلضَّأۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَمِنَ ٱلۡمَعۡزِ ٱثۡنَيۡنِۗ قُلۡ ءَآلذَّكَرَيۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَيۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۖ نَبِّ‍ُٔونِي بِعِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ
) الأنعام – 143

( وَمِنَ ٱلۡإِبِلِ ٱثۡنَيۡنِ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ ٱثۡنَيۡنِۗ قُلۡ ءَآلذَّكَرَيۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَيۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۖ أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ وَصَّىٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَٰذَاۚ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا لِّيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ
) الأنعام – 147

من الآيتين أعلاه نتعلم درسين مهمّين جدا لنا، كي لا نغلوا في ديننا، ولا نفتري على الله أي افتراءٍ صغيرا كان أم كبيرا، فمنها نفهم بكل وضوح ارتباط مفردة الرّحِمِ بما في بطون إناث الإبل والبقر، أي هنالك رحم يشتمل على مخلوق صغير داخله، ومنه قلنا اعلاه أنها ارتبطت بالثدييات عموما، ولا أظن أحدا سيجادل في هذا المفهوم لمفردة الرّحِم!
كذلك يجب أن نتوقف للحظات ونتأنّى في قوله تعالى (أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ وَصَّىٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَٰذَاۚ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا لِّيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ )، فحتى تحريم جزئية من الطعام بدون علم منير هو ظلم عظيم وافتراء على الله وغير مقبول أبدا من الله تعالى، فكيف بزرع مفهوم كامل عشائريّ كأمرٍ إلهيٍّ بدون علم منير؟  ولهذا نحن في صدد البحث عمّا يسموه " صلة الرّحم " بكونه حق وأمرٌ من الله أو افتراء عليه !

والآن لنرتل آيات الأرحام لنرى كيف نفقهها بسهولة ويسر:

( ٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ ) الرعد – 8
(
هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ) آل عمران – 6
(
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡ‍ٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۢ بَهِيجٖ ) الحج – 5
(
إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلۡغَيۡثَ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡأَرۡحَامِۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ ) لقمان – 34

ثمّ هنالك آية جميلة تربط الرّحِمِ بالقُرْءِ والتي أدناه ستساعدنا في فهم مفردتي الرحمن والقُرءان في قوله تعالى :
(
وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكۡتُمۡنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرۡحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤۡمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنۡ أَرَادُوٓاْ إِصۡلَٰحٗاۚ وَلَهُنَّ مِثۡلُ ٱلَّذِي عَلَيۡهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيۡهِنَّ دَرَجَةٞۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) البقرة – 228

ومن أعلاه، ومن آية القُرء والطلاق، سهل علينا فهم مفردة الرحمن، والتي هي غير الرحيم التي أتت من الرّحْمةِ، وليس كما هنا من الرّحِمْ، فالرحمن، إسم فريدٌ وعميق جداً، وتفصيله هو سورة الصمد كاملةُ، فهو الله الأحد، الذي يحتوي ويحوي نفسه في رَحِمِ ذاته، وهو القائم على ذاته باحتوائه ذاته الصّمد، وهو لم يلِد ولم يُولَد، برغم كونه من الرّحِمِ بدءاً ونهايةً، (
وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَلَدٗاۗ سُبۡحَٰنَهُۥۚ بَلۡ عِبَادٞ مُّكۡرَمُونَ  ) الأنبياء – 26 ، وليس كمثله شيء فلا كُفوَ لهُ من أحد،  فهو رحمن كفعلٍ لكونه مستمرٌّ في إخراج الحقّ من رَحِمِهِ إلى يوم نرجع إليه، كما القُرءان هو قروءٍ منهُ، ولذلك فالقرءان هو الحقّ من ربنا، فلا نكونن من الممترين أو المفترين، ومنه أتت مفردة قُرءٍ التي ارتبطت بالرّحِمِ ارتباطاً وثيقا، لكون القُرءِ يبيّن ويظهر الحقّ من الباطل حين يخرج من الرّحِمِ.

والآية الوحيدة التي جمعت بن الرّحِمِ والرّحمةِ – حسب ظنّي وفهمي – هي من سورة الكهف في قوله تعالى (
وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا  *  فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا  ) الكهف – 80:81، حيث تحرّكت الراء بالضمّة، فكانت المفردة جديدةً ووحيدةً ( رُحۡمٗا ) ، ومن مبدأ عدم الترادف، ومن السياق تحدثت الآية الأولى السابقة عن إنسان يطغى على والديه ويرهقهما بالكفر سلوكا – بالطبع – ثم أتت الآية الثانية تتحدث عن ابداله بمن يكون أقرب رُحما، حيث نلاحظ استخدام مفردة " أقرب " وليس أكثر أو أوسع، ولو كان المقصود الرحمة لقال أكثر رحمةً أو اوسع رحمة، ولكن مفردة أقرب دلّت على الوصل أكثر من دلالة الرحمة، أي يصلهما عن قربٍ كما سنرى لاحقا في الجزء القادم عن الوصل، ومنه كخلاصة، هي دالّة على الرّحِمِ أكثر من الرحمة.

إنتهى.

والله المستعان

ملاحظة: لا حقوق في الطبع والنشر لهذه الدراسة، وإن كنت لم أصل إلى مراد الله تعالى الذي نطمح كلنا إليه – فهو سبب تدبرنا – فعسى أن تصححوا خطاي وأكون لكم من الشاكرين.

مراجع :
* المرجع الرئيسي الأساسي الحق – كتاب الله تعالى – القرءان الكريم

اجمالي القراءات 4920