البوذية ديانة سماوية: (الإيمان باليوم الآخر- الجزء الثاني)

نهرو طنطاوي في السبت ١٩ - مايو - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

إن من يمعن النظر في نصوص الديانة البوذية وخصوصا المنسوبة للنبي الصالح العظيم بوذا عليه السلام، لابد وأن يعلم بأن هذه العظات السامية التي يتناثر من ثناياها عبق إنساني راقي، وأريج آدمي ممزوج بالملائكية، لا يمكن أن يكون مصدرها بشري، وما كان لبوذا أن يصل إليها من تلقاء نفسه، وإنما مصدرها ذلك المعين الرباني السامي الذي نهل منه الركب الكرام من الأنبياء والمرسلين عبر الزمان، ذلك المعين الذي نهل منه نوح وإبراهيم وهود وصالح ولوط وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام جميعا، ونهل منه غيرهم من الأنبياء والرسل الذين قص الله علينا قصصهم في القرآن الكريم. بل إن من يتأمل تلك العظات السامية العظيمة للنبي الصالح العظيم بوذا، يجد أنها توأم لعظات المسيح بن مريم عليه السلام، فهي تدعو إلى ما دعا له المسيح بن مريم من إطفاء لنار الشهوة، وقهر النفس الأمارة بالسوء، والارتقاء والسمو بالنفس الإنسانية إلى حيث أراد الله لها من رفعة وسمو.

ما بعث الله الأنبياء والمرسلين في كل أمم الأرض، إلا لتقويم الإنسان وتهذيبه، وإصلاح فكره وقوله وعمله، فيمسي صالحا مصلحا في نفسه، وصالحا مصلحا تجاه الآخرين من بني جنسه، وتجاه الأشياء والكون من حوله، لقد خلق الله الإنسان وزوده بمنهاجين منهاج يلهمه التقوى ومنهاج يلهمه الفجور، (ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها)، فكما خلق الله الشياطين تحرض على الفجور واتباع الهوى والشهوات، بعث كذلك الأنبياء لدعوة الإنسان إلى التقوى والتحرر من شهوات النفس وهواها، فالشهوة والهوى هما العقبة الكأداء في حياة الإنسان، هذه العقبة هي منبع شقاء الإنسان وآلامه، وكذلك شقاء من يحيط به، فمتى استطاع الإنسان تخطي هذه العقبة بقهره لنفسه وشهواته وهواه، تحرر ذلك الإنسان من العبودية لنفسه، وأضحى في طمأنينة ينعم بها ويغدق منها على من حوله وما حوله، تلك كانت رسالة الأنبياء والمرسلين عبر الزمان.

لقد تجنى الكثير من الباحثين والدارسين على بوذا وتعاليمه، حين أخرجوه وتعاليمه من ساحة الدين إلى ساحة الفلسفة، ولم يكن لهم من حجة في ذلك سوى ادعائهم بأن بوذا لم يتعرض للغيبيات أو العقائد الإلهية، وادعى أيضا كثير من الباحثين والدارسين لتعاليم بوذا، بأن بوذا كان يتذرع باللاأدرية حين يسأله أحد مريديه عن شيء من الغيبيات، وادعائهم كذلك بأن بوذا كان يتنكر للإلهيات ولم يتحدث عن الآلهة. ويبدو أن هؤلاء الباحثين والدارسين قد قاموا بدراسة التعاليم البوذية بمعزل عن أي مقارنة جادة وموضوعية، بين تعاليم بوذا وتعاليم الديانات الشرق أوسطية الثلاث (اليهودية، المسيحية، الإسلام)، وحتما كان تجاهل الباحثين والدارسين لتلك المقارنة، جاء نتيجة لما تمليه عليهم ثقافاتهم التي لا ترى بوجود ديانات سماوية على كوكب الأرض سوى (اليهودية، المسيحية، الإسلام)، ومن هنا كانت حيرة الكثير منهم في تصنيف ووضع التعاليم البوذية، هل توضع في مصاف الدين؟، أم في مصاف الفلسفة؟، بل إن من الغريب في الأمر أن بعض الباحثين حين تشابه عليهم الأمر في تعاليم بوذا، ورأوا أن بها من التعاليم ما لا يستوجب وضعها في مصاف الفلسفة، ادعوا بأنها ديانة أرضية وضعية مختلقة.

وبشيء من التأمل وإمعان النظر في نصوص التعاليم البوذية المنسوبة لبوذا، مع إجراء بعض المقارنات الموضوعية، بينها وبين تعاليم الديانة الإسلامية الواردة في القرآن الكريم، سوف نخلص إلى نتيجة مؤكدة بأن تعاليم بوذا لا يمكن أن تكون تعاليم وضعية بشرية المصدر، بل لا يمكن أن يخفى على الناظر مدى ما في تعاليم بوذا من غيبيات، بل إن المساحات الكبيرة التي احتلتها الغيبيات والإلهيات في تعاليم بوذا، هي التي حيرت معظم الباحثين والدارسين في تصنيفهم للتعاليم البوذية.

لقد أجمعت ديانات الهند جميعها بكل مذاهبها وطوائفها وفرقها، على الاعتقاد والإيمان بثلاثة أشياء كانوا هم الأساس المتين والركن الركين لجميع ديانات الهند، هذه الأشياء هي ما يسمى بـ (الكارما- النيرفانا- التناسخ- تكرار المولد)، فلا تخلوا ديانة في الهند أو طائفة دينية أو مذهب ديني من الاعتقاد بهذه الأشياء، وفي ذلك يقول الدكتور أحمد شلبي:

(النيرفانا والكارما والتناسخ، أساس لأديان الهند والطريق واحد تقريبا في هذه الأديان للتخلص من تكرار المولد وهذا التخلص هو أسمى ما يتطلع له الهنود وذلك الطريق يتمثل بوجه خاص في قتل الشهوات والرغبات والتوقف عن عمل الخير والشر وإذا استطاع الإنسان أن يجتاز هذا الطريق وصل إلى الانطلاق أو النيرفانا التي لا تختلف مدلولاتها اختلافا ذا بال, فالمدلول في الجميع هو التخلص من تكرار المولد والحصول على اللذة الصادقة والسعادة الدائمة). (د. أحمد شلبي, ص159).

إذن، فالديانة البوذية في معتقداتها الغيبية حول مصير الإنسان لا تختلف عن بقية أديان الهند، كما ذكر الدكتور أحمد شلبي، وكما أجمع على ذلك كل الباحثين والدارسين لأديان الهند القديمة. وهذا يؤكد نظريتنا التي تقول بأن هناك رسالة عامة مركزية كبرى ظهرت في الهند وهي أسفار الفيدا، وجاء في عقباها رسالات فرعية أخرى للإحياء والتجديد والإصلاح، وهذا يدل أيضا على وحدة المصدر التي خرجت منه كل التعاليم وكل رسالات الدنيا الدينية، هذا المصدر الواحد هو الله سبحانه وتعالى، ولكن ما يجب أن نفهمه هو أن الهدف والغاية في كل رسالات الدنيا هما هدف واحد وغاية واحدة، مهما اختلفت مصطلحات وأسماء هذا الهدف وتلك الغاية، ومهما اختلفت التعبيرات والتصورات في الرسالات الإلهية حول ماهية وحقيقة ذلك الهدف وتلك الغاية من رسالة لأخرى، وذلك لأن الله خاطب كل أمة بلسانها أي لغتها، وخاطبها كذلك وفق المخزون الثقافي الذي تعبر عنه هذه اللغة أو تلك. إذن، فاتفاق أديان الهند جميعها على القول والاعتقاد بما يسمى (الكارما- والتناسخ- والنيرفانا- والتخلص من تكرار المولد)، هو اتفاق أيضا تام مع الأديان الشرق أوسطية الثلاثة (اليهودية- المسيحية- الإسلام) في أهدافها الرئيسية وغاياتها ومصير الإنسان في نهاية المطاف، وهذا ما سنكشف عنه بالتفصيل في المقال القادم.

لقد سبق القول في المقال السابق المعنون: (البوذية ديانة سماوية: الإيمان باليوم الآخر- الجزء الأول) أن الرسالات الإلهية تختلف في التعبير عن كيفية العودة بعد الموت، وكيفية ونوعية الثواب والعقاب، إلا أن جميع الرسالات الإلهية قد أقرت بوجود عودة مرة أخرى بعد الموت، وأقرت بوجود ثواب للطائعين وعقاب للعصاة، حتى ولو اختلفت الأسماء أو الأوصاف أو الماهيات، وقلنا أن الثواب ورد في القرآن بلفظ الجنة، وورد في الإنجيل بلفظ ملكوت الله، واختلاف المصطلح أو الاسم لا ينفي الإقرار بوجود ثواب وعقاب، وهذا ما حدث بالفعل في نصوص الديانات الشرقية، فبالرغم من أن الديانة البرهمية (الهندوسية) قد صرحت في بعض نصوصها بالبعث بعد الموت، وصرحت كذلك بوجود جنة لإثابة الصالحين، ونار لعقاب العصاة، إلا أن الديانة البوذية قد اختلفت عن الديانة البرهمية،في إشاراتها، للبعث والثواب والعقاب، كما اختلفت المسيحية في تعبيراتها عن اليهودية، فالبوذية لم تستخدم مصطلح الجنة ولا النار اللذين استخدمتهما نصوص الديانة البرهمية، واستخدمت بدلا منهما مصطلح (النيرفانا) للدلالة على الثواب والخلاص والنجاة، واستخدمت مصطلح (الكارما) للدلالة على وجود حساب وثواب وعقاب على ما يصدر من الإنسان من أفعال، بل إن معظم العظات الروحية في نصوص الديانة البوذية حول الحساب والثواب والعقاب، تتطابق بشكل كبير مع عظات المسيح بن مريم في الأناجيل الأربعة. وقبل أن نتحدث بالتفصيل عن غيبيات ما بعد الموت في الديانة البوذية والتي سوف نتناولها في المقال القادم (الجزء الثالث)، أود أن نلقي نظرة تمهيدية سريعة حول الهدف من تعاليم النبي بوذا ووصاياه على النحو التالي:

# الهدف من تعاليم النبي بوذا ووصاياه :

قبل الحديث عن الإيمان باليوم الآخر والحساب والجزاء في تعاليم بوذا ووصاياه، نود أن نعرض ابتداء الهدف من تلك التعاليم، حتى يتسنى لنا إدراك حقيقة المجازاة والعقوبات التي سوف تترتب على الالتزام أو عدم الالتزام بهذه التعاليم. تهدف التعاليم البوذية في الأساس إلى تحرير النفس البشرية من العبودية للنفس وللشهوات، والعمل الدائم والمتواصل على كبح جماح النفس وشهواتها، لأن الهوى والشهوة هما أصل الألم البشري الذي يبدأ بميلاد الإنسان ويستمر معه طيلة حياته فينقله الهوى من ألم إلى ألم والشهوة من مولد إلى مولد حتى هرمه ثم موته، ولا ينجو الإنسان من ذلك إلا بالخلاص، والخلاص لا يمكن الوصول إليه إلا بقهر الشهوات والهوى وإزالة كل محرك نفسي نحو الشهوات والرغبات.

والخلاص في الديانة البوذية خلاصان، خلاص قبل الموت، وخلاص بعد الموت، أما خلاص ما قبل الموت فهو الانتصار على النفس والتحرر من عبودية الشهوة والهوى والوصول إلى راحة النفس وطمأنينتها، وهذا ما تسميه التعاليم البوذية بالنيرفانا الأرضية أي (طمأنينة القلب) وفق التعبير القرآني، أما خلاص ما بعد الموت فهو النيرفانا الكبرى (جنة الآخرة) وفق التعبير القرآني.

والخطاب الذي ألقاه بوذا على رفاقه في (بنارس) عقب أن تلقى الإشراقة (الوحي) يحوي أهم عناصر تعاليمه، ونص الخطاب منقول من كتاب (لليتا وشتار) كتاب البوذيين المقدس، كما ذكره أيضا الدكتور أحمد شلبي على النحو التالي:

(أيها الرهبان, هذه هي الحقيقة المقدسة (الأولى) عن الألم: المولد ألم, الهرم ألم, المرض ألم, الموت ألم, الاجتماع بغير المألوف ألم, الافتراق عن المألوف ألم, عدم ظفر الرجل بما يهوى ألم.
أيها الرهبان: هذه هي الحقيقة المقدسة (الثانية) عن مصدر الألم, الظمأ والشهوة والهوى والرغبة في التلذذ, في التكون, في القوة, ذلك الهوى وتلك الشهوة تجر من مولد إلى مولد ومن ألم إلى ألم . ويسوق بوذا سلسلة قضايا تؤدي إلى هذه الحقيقة وهي أن الهوى أصل الألم, فهو يقول: إذا وجدت الشهوة والهوى وجد التحديد والتخصيص وإذا وجد التحديد والتخصيص وجد الجهل وإذا وجد الجهل وجد الخطأ وإذا وجد الخطأ وجد الحزن, فالحزن نتيجة للهوى والشهوات.
أيها الرهبان : هذه هي الحقيقة المقدسة (الثالثة) عن إعدام الألم: إعدام الشهوة والهوى والظمأ والرغبة إعداما تاما.
أيها الرهبان: هذه هي الحقيقة المقدسة (الرابعة) عن سبيل إعدام الألم: سلوك الطريق المثمن (ذي الثماني شعب): الاعتقاد الصحيح, العزم الصحيح, القول الصحيح, العمل الصحيح, العيش الصحيح, الجهد الصحيح, الفكر الصحيح, التأمل الصحيح). ( د. أحمد شلبي, ص192).

ويستخلص الدكتور أحمد شلبي بعض الحقائق من هذا الخطاب فيقول: (ونستطيع من هذا الخطاب الذي يعد فاتحة تبشير بوذا أن نستخلص ما يسميه البوذيون: الحقائق الأربعة وهي:
الحقيقة الأولى: الألم موجود, فالولادة والمرض والموت ومتاعب الحياة من فراق أحبة أو لقاء أعداء كلها تأتي بالألم.
الحقيقة الثانية: لهذا الألم سبب, وعلة الألم الشهوات والرغبات لأنها التي تنمي فينا الرغبة في اللذة والتملك والشوق إلى عالم المستقبل.
الحقيقة الثالثة: هذا السبب قابل للزوال, ويبطل الحزن متى بطلت الشهوة وانتفى الظمأ إلى الأشياء.
الحقيقة الرابعة: الوسيلة لزواله موجودة, ولإبطال الألم طريق واحد هو اتباع الشعب الثماني -التي سبق ذكرها– والتي يصوغها بعض الكتاب في عبارة أخرى: الآراء السليمة– الشعور الصائب– القول الحق– السلوك الحسن– الحياة الفضلى– السعي المشكور– الذكرى الصالحة– التأمل الصحيح). (د. أحمد شلبي، ص193).

ويقول الدكتور أحمد شلبي أيضا: (ترى البوذية أن المولد الفردي هو منشأ الآلام التي تملأ حياة الفرد, وليس المولد إلا نتيجة للشهوات والرغبات والعواطف والميول الفردية المتقدمة، فتجددت حياة هذه النفس لتلاقي جزاء ما خضعت للشهوات والرغائب من قبل, ثم تكون للنفس في دورها الجديد شهوات أخرى ورغائب فتجدد مرة أخرى لنفس السبب وهكذا إلى مالا نهاية, فالشهوات والعواطف هي سبب هذا التسلسل الذي سيمتد إلى مالا نهاية, ولا تنتهي السلسلة المشئومة حتى تعدم بذورها من الشهوات والرغبات والعواطف والميول فينتهي الميلاد فالهرم والموت وسائر أوجاع الحياة وحسراتها. وما بعثت البوذاوات -(الأنبياء)- في الكون إلا لإعدام بذور الآلام والحسرات, وقال بوذا: (لولا ثلاثة في الدنيا لما ظهر في الكون الكامل المقدس الأعلى بوذا ولا الشريعة ولا أشرق في الكون التعليم الذي يعرضه الكامل وما هذا الثالوث إلا المولد والهرم والموت وما تبشير بوذا إلا الدعوة إلى النجاة من الآلام والحسرات باجتثاث شأفتها وقلع أصولها). وأهم شيء في التعليم البوذي هو الحقائق الأربع, فمن آمن بها واتبعها كتبت له النجاة والسعادة وإن لم يعملها ولم يؤمن بها ظل في شقائه وآلامه يموت ويحيا ثم يهرم ويهلك فيولد من جديد ولا تنقطع هذه السلسلة حتى يعرف هذه الحقائق ويتبعها). (د. أحمد شلبي, ص165).

ونقل الدكتور أحمد شلبي أيضا عن العلامة (رادها كرشنن) قوله عن النيرفانا الدنيوية ونيرفانا ما بعد الموت: (اتخذت النيرفانا البوذية لها أحد معنيين متلاحقين هما:
1- وصول الفرد إلى أعلى درجات الصفاء الروحاني بتطهير نفسه والقضاء على جميع رغباته المادية أو بعبارة أخرى فناء الأغراض الشخصية الباطلة التي تجعل الحياة بحكم الضرورة دنيئة أو ذليلة مروعة ويصبح المقياس هو: كل من شاء منا أن ينقذ حياته عليه أن يخسرها.
2- إنقاذ الإنسان نفسه من ربقة الكارما (الحساب والجزاء والعقاب) ومن تكرار المولد (الخلود في العذاب) بالقضاء على الرغبات والتوقف عن عمل الخير والشر.
وبناء على المعنى الأول يصل الإنسان إلى النيرفانا وهو حي، وبناء على المعنى الثاني ترتبط النيرفانا بالموت وبالتخلص من هذه الحياة). (د. أحمد شلبي، ص161).

ويقول أيضا (هنري آرفون): (حسب أقوال بوذا نفسه ليست حالة النيرفانا فورية البلوغ وللوصول إليها ثمة تدرج طويل يمتد على حيوات عديدة. من هنا يستنتج بوذا أن الدخول في النيرفانا إذا كان شرطه الوحيد هو خنق كل تفكير وكل إحساس, فمن التلقائي أن يبلغها جميع الصم والعميان والأغبياء. مع هذا, فالفكرة الرئيسية للبوذية أي وعد البؤساء البشريين بالخلاص من أهوال التناسخ. كان يجب أن تثير البوذيين لاختصار الطريق المؤدية إلى النيرفانا فهنا بوذا نفسه يقول: ( أيها الأخوة الرهبان كما ليس للبحر الكبير إلا مذاق واحد هو مذاق الملح, هكذا جمعية عقيدتنا ما لها سوى مذاق واحد, هو مذاق الخلاص). غير مستغرب بعد أن البوذية لضرورة تفرضها العقيدة تتجه سريعا في أقصر الطرق إلى الخلاص, قبل قدوم الموت أو الموت اللاحق . لذا, تسارع الأذهان إلى منية النفوس بنيرفانا أرضية, إذ يتخلص الإنسان من أهوائه ويدخل حيا في النيرفانا فيكون بذلك ناجيا حيا. ولا ينجو أحد من مخاطر هذا الطريق إلى الخلاص, من هنا إن البحث عن نيرفانا بعيدة وغير محددة يفرض توترا دائما يخف تدريجيا إن لم نقل يمحى إزاء مفهوم النيرفانا الأرضية. ومن هنا, الوقوع الوشيك في تجربه التمسك سوى بمنفعية فردية أنانية, أي التوهم بمجرد اكتفاء بطمأنينة الضمير وراحة النفس لإمكانية التوصل إلى حالة (الناجي حيا). (هنري آرفون, ص60، 61).

# مقارنة بين نصوص القرآن وتعاليم بوذا :

هذه مقارنة بين تعاليم بوذا التي وردت في خطابه الذي ألقاه على رفاقه في (بنارس) وبين بعض نصوص القرآن على النحو التالي:

* قال بوذا: (أيها الرهبان, هذه هي الحقيقة المقدسة (الأولى) عن الألم: المولد ألم, الهرم ألم, المرض ألم, الموت ألم, الاجتماع بغير المألوف ألم, الافتراق عن المألوف ألم, عدم ظفر الرجل بما يهوى ألم).
* ويقول النص القرآني: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ). (4- البلد). والكبد من المكابدة وهي المشقة والألم.
ويقول أيضا: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى). (117- طه).

* قال بوذا: (أيها الرهبان: هذه هي الحقيقة المقدسة (الثانية) عن مصدر الألم, الظمأ والشهوة والهوى والرغبة في التلذذ, في التكون, في القوة).
* ويقول النص القرآني: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ). (14- آل عمران).
ويقول أيضا: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا). (27- آل عمران).
ويقول أيضا: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا). (59- مريم).

* قال بوذا: (ذلك الهوى وتلك الشهوة تجر من مولد إلى مولد ومن ألم إلى ألم، إن الهوى أصل الألم).
* ويقول النص القرآني: (قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا). (75- مريم).
ويقول أيضا: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ* وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ). (201، 202- الأعراف).

* قال بوذا: (إذا وجدت الشهوة والهوى وجد التحديد والتخصيص وإذا وجد التحديد والتخصيص وجد الجهل وإذا وجد الجهل وجد الخطأ وإذا وجد الخطأ وجد الحزن, فالحزن نتيجة للهوى والشهوات).
* ويقول النص القرآني: (لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). (153- آل عمران).
ويقول أيضا (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ). (62- يونس).

* قال بوذا: (أيها الرهبان: هذه هي الحقيقة المقدسة (الثالثة) عن إعدام الألم: إعدام الشهوة والهوى والظمأ والرغبة إعداما تاما).
* ويقول النص القرآني: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى). (40، 41- النازعات).
ويقول أيضا: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ). (26- ص).
ويقول أيضا: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا). (7: 10- الشمس).
ويقول أيضا: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (9- الحشر).

* قال بوذا: (أيها الرهبان: هذه هي الحقيقة المقدسة (الرابعة) عن سبيل إعدام الألم: سلوك الطريق المثمن (ذي الثماني شعب) وهو: الاعتقاد الصحيح, العزم الصحيح, القول الصحيح, العمل الصحيح, العيش الصحيح, الجهد الصحيح, الفكر الصحيح, التأمل الصحيح).
* ويقول النص القرآني: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ). (38- البقرة).
ويقول أيضا: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى). (123- طه).
ويقول أيضا: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (11- التغابن). ويقول أيضا: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ). (28- الرعد).

وبقيت مسألة هامة أخطأ فيه الكثير من الباحثين، حيث ذهب معظم الباحثين إلى القول بأن بوذا قال بوهمية وجود النفس البشرية وزوالها، وللرد على هذا أقول: إن تعاليم بوذا ووصاياه لم تشر إلى وهمية وجود النفس (الأنا)، ولا إلى زوالها كما تصور خطئا بعض الباحثين والدارسين، لكن الحقيقة أن الوهمية التي أشارت إليها تعاليم بوذا هي وهمية وزوال ما تصبو إليه شهوات النفس ورغباتها من عرض الدنيا الزائل الفاني، وهذه الإشارة البوذية بوهمية وزوال شهوات النفس ورغباتها، هي نفس الإشارة ونفس التعاليم التي وردت في كل الرسالات الإلهية، ونسوق بعض نصوص القرآن التي تتوافق مع وهمية وزوال شهوات النفس ورغباتها على النحو التالي:

(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ). (26- الرحمن).

(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ). (88- القصص).

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا). (39- النور).

(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا). (23- الفرقان).

(وللحديث بقية).
Nehro_basem@hotmail.com

قائمة المراجع:

1 - هنري آرفون, البوذية, ترجمة: هنري زغيب, المنشورات العربية, الطبعة الثانية 1985.
2 - د. أحمد شلبي, مقارنة الأديان, أديان الهند الكبرى, الهندوسية – الجينية – البوذية, الطبعة الخامسة, مكتبة النهضة المصرية 1979.
اجمالي القراءات 21056