المذاهب الاسلامية كنتيجة لتسييس الاسلام

مولود مدي في الأربعاء ٠٧ - مارس - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

 شهد التاريخ الإسلامي الكثير من عمليات التزييف التاريخي لكثير من الوقائع؛ حيث إنّ التاريخ تكتبه غالبًا الفئة المنتصرة، وكان من أشهر عمليات التزييف والخداع، التي تملأ صفحات كثيرة حالكة السواد في التاريخ الإسلامي تلك الوقائع الكثيرة التي احتوت على تسييس المقدّس، حيث كان كل شيء قابلًا للتسييس، حتى العقيدة كالكلام حول صفات الذات الإلهية كان يتم حسب الموقف السياسي الذي اتخذته المذاهب الإسلامية المتصارعة.

إنّ «تسييس الدين» يعني أن مفهوم الدين (Religion) اكتسب مفهومًا آخر عن مفهومه الحقيقي بسبب الظروف التاريخية، فبمجرّد البحث في معنى لفظة «الدين» في القاموس اللاتيني نجد أن لها معنيين وهما «relegere» وتعني إعادة القراءة – القراءة المستمرة والمتجددة لمعنى الدين – و«religare» وتعني الارتباط بالله عن طريق التقوى.

 بينما لو نبحث عن كيفية تعريف الفقهاء المسلمين للدين الإسلامي نجد أنهم متّفقون أن معنى الإسلام يعني الخضوع والاستسلام وهي معانٍ سياسية سلطوية وليست بدينية، رغم الخلو التام لأي نص قرآني يبيّن أن هناك سلطة في الإسلام والتي نفاها أيضًا النبي محمد عن نفسه، بينما السياسة من دون سلطة وإكراه لا تساوي أي شيء، ويمكن أن نقول إن سبب انتشار «الإلحاد» و«اللادينية» في مجتمعاتنا المتديّنة هو ردّة فعل طبيعية على طغيان السياسة والنزعة السلطوية الإكراهية على الإسلام. فالعقل السياسي العربي كما قال عنه المفكّر «عابد الجابري» مسكون ببنية المماثلة بين الإله والأمير، ولا فرق في ذلك بين سنّي وشيعي، بين حنبلي وأشعري ومعتزلي، بين متكلّم وفيلسوف.

يمكننا القول إن المسلمين من أكثر الأمم في التاريخ الذين سيَّسوا المقدّس الديني، وإنّ علاقة المجتمعات الإسلامية على امتداد 14 قرنًا كانت علاقة نفعية سلطوية، سواء من الأنظمة الحاكمة أو من الجماعات الدينية المُسيّسة، في توظيف هذا الدين العظيم في غير أهدافه ومقاصده، حتى أصبحت السياسة هي الدين، وما أخذ الإسلام لبعد عروبي عنصري أيّام الدولة الأموية هو أكبر مثال، فلقد ارتكز الأمويون على تديين سياساتهم بالاستناد على دليلين اثنين، الأول هو أن خاتم الأنبياء عربي، الثاني هو أن لغة القرآن هي لغتهم أيضًا، وهذا ما يفسّر تشدّدهم ضد الأمم الإسلامية غير العربية، والتي نقل لنا التاريخ أن حتى غير العرب المسلمين لم يسلموا من دفع الجزية للأمويين.

وقد سارت عملية التسييس والأدلجة على قدم وساق في العهد العباسي الذي شهد تجميع الحديث وتدوينه وظهور المئات من المصنّفات التي تروّج لمروياتها على أنها سنّة الرسول، والأهم أنها تمنح الفضل للدعوة العباسية القادمة من خراسان لتنقضّ على ملك الأمويين البائد، وتخرج الأحاديث المبشرة بقدوم أصحاب الرايات السود، كالحديث الذي رواه عدد من علماء السنّة كالترمذي (362/3) وأحمد في مسنده، وابن كثير في نهايته، والبيهقي في دلائله وغيرهم، وصحّحه ابن الصديق المغربي في رسالته في الردّ على ابن خلدون، ونصه: «تخرج من خراسان رايات سود فلا يردّها شيء حتى تنصب بإيلياء» وفي رواية أخرى: «إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان، فأتوها ولو حبوًا، فإنّ فيها خليفة الله المهدي». وصحّحه على شرطي البخاري ومسلم.

وبذلك حاول بنو العباس توظيف أحاديث الرايات السود في ثورتهم على الأمويين، وعملوا على إقناع الناس بأنّ حركتهم ودولتهم وراياتهم مبشّر بها من النبي، وأنّ المهدي الموعود منهم، حتى إن المنصور سمّى ولده بالمهدي، وأشهد القضاة والرواة على أنّ أوصاف المهدي المنتظر الواردة في الروايات المنقولة عن النبي تنطبق على ولده.

 وما زال الكثير من المسلمين اليوم يؤمنون بخرافة أن هناك «المهدي المنتظر» سينزل ويحقق العدل ولا يزال المشايخ يرددونها على المنابر من دون وعي غافلين على أنها من أكبر الخرافات التي كان هدفها تثبيت أقدام العبّاسيين في الحكم، فقد كانت تخدم العبّاسيين وما أن ظهر لهؤلاء سطوة الحديث على العامة حتى بدؤوا باختراع المرويات والقصص التي تتكلم عن آخر الزمان من أجل استغفال المسلمين.

قراءة تاريخ المذاهب الإسلامية تخبرنا بحقيقتين مهمّتين، الأولى هي أن السياسة هي التي شكّلت هذه المذاهب، فلم تتشكل بسبب رغبة من المسلمين في التوسّع في فهم الإسلام أو محاولة إنتاج فهم جديد للدين والنص أو حتى إحياء زمن الصحابة أيضًا كما زعم أنصار هذه المذاهب، فلم نرَ السلف مثلًا تكلّموا حول «خلق القرآن»، «صفات الله» أو قضية «الإمامة» وغيرها من النقاشات الكلامية التي ابتدعت بعد وفاة آخر الخلفاء الراشدين، وهذا أمر طبيعي بعد بداية انتقال المسلمين من البداوة إلى المدن حيث احتكّوا بثقافات غير عربية، واطلاعهم على أفكار وأساليب تفكير لم يعرفوها من قبل.

عندما نسمع كثيرًا أسماء كـ«السنّة»، «الشيعة»، و«المرجئة» وغيرها من ألقاب، ثم نركّز عليها ونتساءل لماذا مثلًا نسمع عن «الشيعة» أو «المعطّلة» يطلق عليهم هذا اللقب، سنجد أن أتباع تلك المذاهب ليسوا هم من اختاروها بل كان هناك جهة أخرى كانت تراقب الأحداث والصراعات بين المذاهب الإسلامية ثم أطلقت عليها تلك الأسماء، لأنه منطقيًا لا أستطيع أن أتصور شخصيًا أن «المعتزلة» قد اختاروا لأنفسهم هذا الاسم الكئيب، فما بالك باسم «الرافضة» القبيح مثلًا، كما أن هذه الأسماء لم تولد مع ميلاد هذه الفرق، بل أتت بعد تبلورها كاتجاه واضح المعالم والأسس.

 وبما أن المغلوب سياسيًا في التاريخ الإسلامي يصبح هو الكافر، فمن الطبيعي أن تجد نصيب الفريق المنتصر يتباهى باسم مذهبه الجميل ويقول عن نفسه إنه هو الإسلام الصحيح مقابل اسم المذهب المخالف له الكافر القبيح، ولو قدّر مثلًا أن تغلّب التيّار العقلاني على التيّار التقليدي المتمثّل في أهل الحديث المتسربل باسم «السنّة» لتبدّلت الأسماء من دون شك ويصبح أغلبية فقهاء اليوم مطبّلين للمعتزلة وممجدين للعقل ولأصبح المعتزلة هم أهل «السنّة»، ولرأيناهم مكفّرين لأهل الحديث ومتّهمين لهم بتهمة البدعة ولصنّفوهم مع «أهل الأهواء»، وأقول هذا كي لا ينخدع كثيرًا المسلم ويظن أن الحق منذ البداية كان مع فريق دون فريق آخر وأن المخالف هو كافر ومن «أهل البدع» بالضرورة.

وفي تلك الأجواء المتشنّجة صاغ العرب تراثهم وقعّدوا له القواعد، وتأثروا بخلافاتهم السياسية، فظهرت أحاديث وروايات وأخبار تدعم كل فصيل ضد فصيل آخر، وتبعًا للتطور تحولت هذه الفصائل السياسية إلى مذاهب كاملة لها آراء في مختلف الجوانب العقائدية والسياسية والاجتماعية وهذه الآراء تقيّدت بـمواقفها السياسية، وهذا يعني أن كتب التراث الديني التي يتبجّح بها فقهاء ما بعد هذه المذاهب إنما تمت صياغتها لتوافق رأي المذهب السياسي وذوي النفوذ من الحكّام، وليست لتوافق أهل الحكمة أو الباحثين عن الحقيقة الموضوعية، فمن المستحيل أن ينشأ فكر سليم في بيئة غير سليمة سياسيًا واجتماعيًا.

ونظرًا لاعتياد المسلمين على الغزو والحرب وسذاجة نظرة العرب لمعنى السياسة واقتصارها على الحكم بالقوّة لا بالعدل وكانت تعني الوصاية والعزلة عندهم، وبما أننا نعيش في عصر أصبحت السياسة علمًا واسعًا ومتشابكًا، فإن علّة نشوء المذاهب الإسلامية قد انقضت منذ زمن طويل، وليس لها أي مكان سوى المتاحف ولا أي صلاحية في عصرنا الحالي سوى عند المتيّمين بدماء الإنسان وكرامته، والذين ما زالوا يعتقدون أن التاريخ يسير على حسب مزاجهم وطريقة تفكيرهم.

ولا يغرّنكم أن الصراعات المذهبية كانت بين المذاهب المختلفة، بل وحتى داخل المذهب الواحد نفسه، الدولة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية على سبيل المثال حاربت الدولة الحمدانية الشيعية الإمامية وقضت عليها، هذا يعني أن العداء لم يكن مقصورًا على السنة والشيعة وحدهم، بل في كل مذهب يحاربون بعضهم بعضًا سعيًا وراء السلطة والسيطرة على الساحة.

الحقيقة الثانية هي أن المذاهب الإسلامية قد نشأت من رحم الأمة الإسلامية وهي انبعاث لها وتعبير عن عصرها وظروفها الغابرة لا ظروفنا نحن، وهذا يبطل حجج بعض الفقهاء – ابن تيمية مثلًا في كتابه الملل والنحل – والذين تطرّفوا في نسبة بعض التيّارات الإسلامية التي تخالف المذهب السنّي الغالب في بلاده إلى ثقافات غريبة عن الإسلام وهذا من أجل تنفير المسلمين عنها، إن خلفية رأي ابن تيمية معروفة، فهو كان يعيش في العصر المملوكي الذي شهد الكثير من الاعتداءات الصليبية على بلاد المسلمين وهذا أثّر عليه كثيرًا إضافة إلى محنته التي تسبّبت بعزلته مما زاد آراءه تطرّفًا ورجعية، فضلًا عن أن القول بتشابه دوافع نشأة بعض المذاهب الإسلامية مع دوافع الأمم الأخرى – كالأمة المسيحية مثلًا – هو تجاهل لحقيقة كشف عنها العلم الحديث والتي هي استحالة تواجد ثقافة إنسانية تتشابه مع ثقافة إنسانية أخرى.

وقد يعترض البعض ويقول وما شأن المعتزلة الذين تأثروا كثيرًا باليونانيين بأساليب تفكيرهم وغالوا في تقديس العقل مثلما فعل الفلاسفة اليونانيون، وأقول إن المعتزلة في الحقيقة أخذوا عن اليونانيين فلسفتهم وتأثروا بها ولم يتأثروا بعقائدهم وطرق عبادتهم بل كل ما فعلوه هو أنهم أخذوا عن اليونانيين أساليب البحث ومناهج الاستنباط ولم يأخذوا نتائجه، ولا نرى أصلًا أي تأثير معتقد يوناني أو فارسي على المعتزلة، بعكس ما رأيناه من تأثر واضح بالعقائد اليهودية على الفقه الشيعي والسنّي في مواضيع الإسرائيليات والأساطير كالمهدي والمسيخ الدجّال وجانب التشريع والعقوبات كحد الرجم مثلًا، والتي تسرّبت على يد المسلمين الذي الماضي المسيحي أو اليهودي.

ولم تصبح هذه المذاهب إلا مصدرًا للمصائب الطائفية في بلداننا وأداة فعّالة للمقارنات التي يراد منها تقسيم وتصنيف المسلمين على حسب انتمائهم المذهبي إلا بعد توارثنا لأفكارها بحذافيرها وأسقطناها على عصرنا ووجدنا أنها في غاية الأحادية والإقصائية لأنها ظهرت في مناخ سياسي مضطرب مختلف تمامًا عن مناخنا بل وعلى أفهامنا، فالشيعة عند السنّة روافض لا يُقبل منهم صرف ولا عدل، والسنة عند الشيعة نواصب وأعداء لآل البيت، والأشاعرة عند السلفية جهمية ضالون، والسلفية عند الأشاعرة مشبهة والعياذ بالله، والمعتزلة قدرية مبتدعون، والأحناف الأوائل هم منكرو السنّة لأنهم قدّموا القياس على الحديث وعمل أهل المدينة… إلخ. وهكذا أصبحت هذه المذاهب وهذه التقسيمات والتصنيفات من إحدى أكبر الوسائل التي استعملها الغرب في اختراق العالم الإسلامي وإثارة الصراعات المذهبية في بلدانه.

وقد توارث المسلم هذه التصنيفات وهذه الأحكام والغريب اقتناعه أنه لا يحتاج أن يحتك بمن يخالفه في المذهب لكي يحكم عليه، بل يكفيه فقط أن يعرف إن كان سنّيًا أم شيعيًا أم صوفيًا ليصدر حكمه مباشرة وهذا لأنه تم برمجته في المسجد والمدرسة وأدلجة عقله، وكأن الإنسان أصبح عندما يولد يختار دينه ومذهبه بنفسه. ولهذا شاع عند الكثير من المسلمين أن الكفر الضلال ليس في التعدي على حقوق الله وحقوق عباده واستحلال دمائهم، بل الزيغ والخسران المبين هو في الانخراط في أقوال المعتزلة أو المبتدعة والحشوية والعياذ بالله.

اجمالي القراءات 3927