الغلو القرآني
التبيان القرآني

عبدالوهاب سنان النواري في الخميس ٢٥ - يناير - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة:

١- وصل الغلو والتطرف القرآني ببعض الإخوة إلى إنكار ملة إبراهيم/ العبادات/ الطقوس/ السنة العملية. والبعض قام باختصارها. فيما قام آخرون بتحويلها إلى إشارات ورموز وفلسفات وروحانيات ختموها بإدعاء النبوة وتلقي الوحي. بينما قرر البعض أن يريحوا أنفسهم بعد أن أجهدوها فيما لا طائل منه، وذهبوا إلى الإلحاد أو البهائية.

٢- كل هذا التخبط نتيجة الفهم المتطرف لقوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) . وقوله تعالى: (ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء) . فقد فهم هؤلاء الإخوة عبارة (كل شيء) بأنها تعني كل شيء على الاطلاق، وبهذا حملوا القرآن ما لا يحتمل، وكلفوا أنفسهم ما لا طاقة لهم به.

٣- وقد عرف الوالد الدكتور/ أحمد صبحي منصور (التبيان والتفصيل القرآني) بأنه: التوضيح والتفصيل لما يستلزم البيان والتوضيح والتفصيل. وقال: بأن الشيء الواضح بذاته لا يحتاج لمن يبينه ويوضحه, وإلا كان ذلك إهانة للناس واتهاما لهم بالغباء، علاوة على أنه فضولاً في الكلام وثرثرة, لا تليق بكتاب بشري عادي - فكيف بكتاب الله, الذي نزلت تفصيلاته عن علم وحكمة, لذا كان البيان في القرآن لما يتطلب البيان, فكل شيء يستلزم البيان والتوضيح, جاء في القرآن بيانه وتوضيحه, وما ليس محتاجاً للبيان, فلا مجال لتفصيله وتبيينه, في كتاب أحُكمت آياته, ثم فُصلت من لدن حكيم خبير.

٤- وقد سبق وكتبنا عن الإعجاز القرآني، وقلنا: أن القرآن الكريم أساسا كتاب هداية، فالقرآن الكريم ليس كتابا في الطب أو الفيزيا أو الرياضيات أو غيرها، هو كتاب هداية لا غير، وقد وردت بعض الإشارات العلمية من باب الإعجاز، وحتی يعلم الناس أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون من تأليف بشر.

وخلصنا إلى أن معنی قوله تعالی: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) . هو أنه تبيان لكل شيء في مجاله، أي في مجال الهداية. فالقرآن الكريم وضح كل ملامح الشرك ورد عليها، ووضح نفسيات المنافقين والمعاندين والمشركين ووضح كيفية التعامل معها، ووضح نفسيات المؤمنين الصادقين وأثنی عليها ..الخ. وبهذا أصبح تبيانا وتفصيلا لكل شيء في مجاله.

٥- ولكن غلو وتطرف بعض الإخوة دفعني إلى مزيد من التوضيح.

 

أولاً- المُسلمات القرآنية:

١- أن دين الله (جل وعلا) واحد، وهو الإسلام، نفهم ذلك من قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) (آل عمران ١٩) .

٢- والإسلام هو ملة الخليل إبراهيم، التي بعث الله بها جميع الأنبياء، وفي ذلك يقول سبحانه: (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل) (الحج ٧٨) .

٣- أن خاتم النبيين (محمد) لم يأت بدين جديد، وما هو إلا متبع لملة إبراهيم، وعن ذلك يقول سبحانه: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) (الأنعام ١٦١) .

٤- أن القرآن الكريم جاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب، أي أنه جاء بنفس الكلام، ولم يأت بشيء جديد، وفي ذلك يقول سبحانه: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه) (الأنعام ٩٢) .

٥- أن الناس دائما يتفرقون ويختلفون بغيا بينهم، فيرسل الله الرسل، ليبينوا للناس ما اختلفوا فيه، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (البقرة ٢١٣) .

 

ثانياً- تحريف الرسالات السماوية:

١- يقول الحق تبارك وتعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) (البقرة٧٥) . ويمكن تحديد أبرز وسائل الناس في تحريف الرسالات السماوية في التالي:

أ- افتراء الأكاذيب: وعن ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) (آل عمران ٧٨) .

ب- كتمان الحق: وعن ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) (البقرة ١٤٦) .

جـ - الاختلاف بغيا: وعن ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: (وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) (الجاثية ١٧) .

٢- وبهذا يلتبس على الناس الحق بالباطل، وتصبح ملة إبراهيم محرفة، فيستلزم الأمر إرسال رسول جديد، لمعالجة الانحرافات.

 

ثالثاً- معالجة الانحرافات:

١- ويبعث الله رسولا جديدا، تكون مهمته معالجة المرض/الانحرافات، وليس المجيء بدين جديد وتفصيلات دقيقة من أول وجديد، وهذا ما قام به القرآن الكريم على يد خاتم النبيين، حيث قام بالمهام التالية:

أ- تفنيد ونسف الأكاذيب: وأبرز شاهد على ذلك هو تفنيد القرآن لأكاذيب الشفاعات البشرية والخروج من النار، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) (الأنعام ٩٤) .

ب- تبيين الحقائق المكتومة: فقد وضح القرآن الكريم جميع الآيات والأحكام التي كانت مكتومة عن الناس، وعن أبرز تلك الحقائق المكتومة، يقول الحق تبارك وتعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (المائدة ٤٥) .

جـ - فصل القضايا الخلافية: وأبرز مثل على ذلك هو اختلاف الناس حول الصفا والمروة، فالبعض قال: أنها من شعائر الله. والبعض قال: أنها ليست من شعائره. ففصل القرآن الحكيم هذه القضية، بقوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم) (البقرة ١٥٨) .

٢- بتفنيد الأكاذيب، وكشف الحقائق المغيبة، وفصل القضايا الخلافية، تعود ملة إبراهيم إلى صفائها الأول، ويصبح كل شيء واضح ومفصل، وبهذا يتم البيان والتفصيل.

 

رابعاً- شواهد قرآنية:

١- الشواهد القرآنية التي تؤكد صوابية ما ذهبنا إليه كثيرة جدا، ونكتفي هنا بذكر أبرز تلك الشواهد:

أ- تأكيد الحق تبارك وتعالى، في سورة النحل، وبإسلوب الحصر والقصر، أنه ما أنزل القرآن الكريم إلا لينين ما اختلف فيه الناس، وفي ذلك يقول سبحانه: (تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم (٦٣) وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (٦٤) .

ب- تأكيد رب العزة أنه أرسل خاتم النبيين ليبين لأهل الكتاب كثيرا ما كانوا يخفوه من الكتاب، وفي ذلك يقول سبحانه: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير) (المائدة ١٥) .

جـ - تأكيده جل وعلا، بأن القرآن الكريم يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وفي ذلك يقول سبحانه: (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون) (النمل ٧٦) .

٢- ولو تأمل الإخوة قوله تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) (يوسف ١١١) . لعرفوا من سياق الآية بأن المقصود هنا: هو أن القرآن الكريم مصدق لما بين يديه من الكتب ومفصل لكل شيء ورد فيها، ولا سيما في مجال القصص القرآني.

٣- علما بأن القرآن الكريم لم يختص وحده بعبارة: (كل شيء) ، فقد وصف الحق تبارك وتعالى، كتاب/ألواح موسى بنفس العبارات، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء) (الأعراف ١٤٥) . ويقول أيضا: (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء) (الأنعام ١٥٤) .

٤- وبعد كل هذه الشواهد نقول للإخوة الأعزاء: لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

 

خامساً- خطورة الغلو والتطرف:

١- الغلو أساسا معصية كبيرة لله جل وعلا، القائل: (لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) (المائدة ٧٧) .

٢- الغلو تعبير عن التعصب والجهل. والتعصب والجهل يدفعان الإنسان إلى نكران الحقائق وافتراء الأكاذيب. كما أن الغلو يدفع إلى اتباع الهوى. والهوى يسوق إلى الضلال. وهنا يصبح الإنسان لقمة صاغة للشيطان الرجيم، بعد أن وقع في شباكه/خطواته، فيكون مصيره الخزي في الحياة الدنيا، وينتظره العذاب الأليم في الآخرة.

٣- يغال المرئ في دينه، ويحمل القرآن ما لا يحتمل، وينسب إليه ما ليس منه، ويرفض الاستجابة لصوت العلم والعقل والمنطق. فيزعم أن القرآن الكريم تبيان لكل شيء على الاطلاق، ليجد نفسه عاجزا عن الأجابة على الكثير من التساؤلات. وما هي إلا محطات قليلة، ومنعطفات بسيطة، حتى يجد نفسه في الطرف الآخر بعد أن فقد الثقة بالقرآن. إنها انتكاسة الغلو، الغلو الذي أوصله إلى أقصى حالات التمسك بالقرآن، هو نفسه الغلو الذي جعله يرتد وينقلب على عقبيه.

 

أخيراً:

١- القرآن الكريم تبيان لكل شيء في مجال الهداية.

٢- القرآن الكريم تبيان لكل شيء يحتاج إلى تبيان.

٣- القرآن الكريم تبيان لكل شيء افتراه واخفاه والبسه أهل الكتاب.

٤- الغلو والتطرف جهل وزيغ وضلال، دافعه الهوى ومستقره الالحاد.

اجمالي القراءات 8635