الحكمة
الحكمة

أسامة قفيشة في السبت ٢٥ - نوفمبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

الحكمة

يتردد مصطلح الحكمة في كتاب الله جل وعلا مراتٍ و مرات , فلو تدبرنا هذا اللفظ جيدا كي نعي ما يراد به لوجدناه في كل حالته يشير لأمرٍ واحدٍ لا غير .

الحكمة هي أمرٌ واحد لا يتبدل و لا يتغير في جميع الرسالات , فلو كانت الحكمة هي ما يدعيه الخونة الذين خانوا الله جل وعلا و خانوا أماناتهم و قالوا بأنها أحاديث و أقول لمحمد عليه السلام خارج ما جاء به من القرآن و التي هي في أصلها من صنيع أسلافهم الخونة فكيف كانت الحكمة نفسها قد تنزلت من قبل أن يولد محمد !

و ما الحكمة من خلال بحثي هذا إلا حكم الله جل وعلا على البشر في جميع كتبه و رسالاته ,

فالإنسان يتعلم كتاب الله كي يعلم أحكامه , فالحكمة في القرآن ليست مجرد معلومات أو أقوال أو أفعال , بل هي حكمٌ واضح صريح محكم لكي نعلم به حكم الله جل وعلا , كما أنه سبحانه هو الحكيم كونه وحده هو صاحب الحق المطلق في الحكم في الدنيا و الآخرة ,

و الحكمة في مفهوم البشر هي مجرد وجهة نظرٍ و كلامٌ موزون و معتبر لرجلٍ عاقل ذو خبرة و تجربة و يسمى قائلها بالرجل الحكيم لذا تبقى الحكمة البشرية ضمن أحد العلوم النظرية و القوة العقلية و العلمية ,

أما الحكمة في كتاب الله جل وعلا فهي أحكامه التي أحكمها في كتابه , و التي أنزلها على خاتم النبيين و على جميع الأنبياء السابقين , كما أن الحكم الذي آتاه الله جل وعلا لأنبيائه لا يعني الملك و السيطرة فما هو إلا أحكام الله جل وعلا التي يتوجب العمل و الالتزام بها .

يقول جل وعلا مبيناً لنا تلك الحكمة على أنها أحكامه التي أمر بها ( وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ) 63 الزخرف ,

فالحكمة هي البيّنات التي أنزلها الله جل وعلا و البيّنات هي الآيات التي فيها حكم الله جل وعلا التي تبين للناس ما اختلفوا فيه , أي هي الآيات التي فيها أحكام أي الآيات المحكمات , فمن هنا تكون الحكمة  هي حكم الله جل وعلا الذي يحتكم به بين الناس و خصوصاً الأحكام الدينية و الخلافات التي يختلف حولها الجميع في أمور الدين , فوحده كتاب الله بآياته التي تبين تلك الأحكام يكون هو المرجع و الحكم الوحيد بين الجميع فقال سبحانه ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ) من الآية 213 البقرة ,

و كذلك قوله ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا ) 105 النساء , و الخائنين هم من يخونون و يخفون حكم الله جل وعلا أو الذين يبدلونه بحكمٍ آخر من عند أنفسهم .

قلنا بأن الحكم لا يعني المُلك و السيطرة و لكن المقصود به هو حكم الله جل وعلا و أحكامه الواردة في كتبه :

( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) 12 مريم ,

و عن موسى عليه السلام و قوله لفرعون ( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) 21 الشعراء , مع العلم بأن صاحب السيطرة و المُلك هو فرعون و ليس موسى ,

و عن بني إسرائيل ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) 16 الجاثية , فالحكم هو أحكام الله جل وعلا و التي أنزلها في كتبه السماوية فكانت هي الحكمة التي يحكم و يعمل بها ,

فمن عمل بمقتضاها و بأمرها فقال عنهم جل وعلا ( يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) 269 البقرة ,

أي سيحصل على الخير الكثير و هو الرزق من الطيبات كما هو واضح في الآية 16 من سورة الجاثية و من يعمل بتلك الأحكام فإن الله جل وعلا سيفضله على من لا يعمل بها , و في قوله جل وعلا ( يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء ) فهي تعني تماما ( وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء ) فالعمل بأحكام الله هو أيضاً إرادة ذاتيه لا إكراه فيها و لا إجبار تماما كما الهدايه ,

فمن شاء الهدايه هداه الله جل وعلا في الدنيا و الآخرة , و من شاء العمل بأحكام الله ( الحكمة ) فسيجني الخير في الدنيا و الآخرة .

و يأتي مفهوم الحكم ( أحكام الله جل وعلا ـ الحكمة ـ ) مرتبطاً بالعلم المنزل و المرسل :

و ما العلم الذي علمه الله جل وعلا لأنبيائه سوى ما احتوته رسالاته و كتبه من معلومات أو ما تم تبليغه لهم بوحي الإرشاد كالعلم الذي حصل عليه يوسف عليه السلام بتأويل الأحاديث على سبيل المثال لا الحصر ,

قال تعالى ( وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ) 74 الأنبياء ,

و عن موسى عليه السلام ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) 14 القصص ,

و عن لقمان عليه السلام ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) 12 لقمان ,

و عن زوجات محمد عليه السلام ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) 34 الأحزاب , فآيات الله جل وعلا في كتابه تشمل جميع أحكامه التي يجب الرجوع فقط إليها و لا يجوز الرجوع لأي حكمٍ خارج ما وردنا في كتابه لذا يقول سبحانه ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) 10 الشورى , و هذا ما نفهمه في قوله جل و علا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) 59 النساء ,

فالأحكام و الحكم هو ما أنزله الله جل وعلا في كتبه على أنبيائه جميعاً ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ) 79 آل عمران , ولكن يأبى الظالمون الخائنون ذلك و يعرضون عنه , فلا ينصاعون لحكم الله المحكم في كتابه و يصرون على ما جاء خارج نطاقه من إفكٍ يخالف حكمه جل وعلا فقال (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ) 23 آل عمران .

و ملخص هذا الأمر بأن الحكمة هي حكم الله و أحكامه و التي نزلت على أنبيائه جميعا و هي ثابتة لا تتغير و لا تتبدل و لكن الناس هم من يبدلونها و يستبدلون غيرها من عند أنفسهم و أهوائهم , و هذا واضحٌ بشكلٍ جليٍ في سورة المائدة :

حيث يقول جل و علا عن اليهود في زمن محمد ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) 43 المائدة ,

و لأنهم أخفوا تلك الأحكام ( الحكمة ) , ذهبوا لمحمدٍ كي يحتكموا إليه و هنا الغرابةُ في الأمر فالحكم الإلهي واحدٌ لا يتغير ولا يتبدل سواءً في التوراةِ أو القرآن .

ثم يقول جل و علا مبيناً ذلك و مفصلاً له ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) 44 المائدة .

ثم يقول جل وعلا أيضاً عن تلك الأحكام ( الحكمة ) الواردة في الإنجيل بعد التوراة ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) 47 المائدة ,

و هذا أيضا دليلٌ على عدم تواجد أي اختلافٍ فيها في كل الرسالات .

ثم يقول جل وعلا ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ) 49 المائدة ,

فهنا يأتي التحذير لمحمد عليه السلام بأن يحكم بما أنزله الله جل وعلا عليه , فهم قد حرفوا و بدلوا تلك الأحكام و اتبعوا أهوائهم , فلا تصدق يا محمد ما يقولونه لك , بادعائهم أن هذا هو حكم الله الوارد في التوراة أو في الإنجيل , بل هذا هو ما كتبته أيديهم و بدلوا به حكم الله .

ثم يقول سبحانه ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) 50 المائدة ,

و هنا التعجب من حال البشر كيف يهربون من حكم الله جل وعلا و لا يرضونه , و ينصاعون لحكم غيره و يأخذوا به و تلك هي جهالتهم التي يفضلونها و لا يتحولون عنها و يعضّون عليها بأنيابهم .

في هذا الجو و تلك العقول المتعفنة مع هكذا بشر , فإن أحكام الله جل وعلا و تطبيقها و العمل بها و لعدم التزام الأغلبية بها فالأمر صعبٌ و شديد الصعوبة على من التزم بحكم الله و يحتاج للصبر على هذا الحق و تحمل أذى هؤلاء ,

لذا كان الطلب من محمد عليه السلام بالصبر لحكم الله جل وعلا المنزل بالقرآن و تنفيذه و عدم تبديل تلك الأحكام طاعةً للبشر في مواضع متكررة :

فقال ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ) 23-24 الإنسان ,

و قال ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) 48 القلم ,

و قال ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ) 48 الطور ,

و ليس الصبر مقتصراً على تنفيذ تلك الأحكام , بل يأتي الصبر أيضاً على الدعوة للالتزام بتلك الأحكام , دون إجبار بل بالطريقة الحسنة , فمَن قبلَ و عمل بها فهو تماماً كمن أراد الهدايه فقال جل وعلا واصفاً تلك الأحكام بالحكمة ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) 125 النحل , فالدعوة إلى سبيل الله يجب أن تخضع لأحكامه فقط , أي دعوة الناس للعمل بها .

و صدق الحق القائل ( فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ) 7-8 التين .

 

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا

سبحانك إني كنت من الظالمين 

اجمالي القراءات 7958