الاسلام الماليزي الحضاري

مولود مدي في الثلاثاء ٢٢ - أغسطس - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

يبلغ عدد سكّان دولة ماليزيا حوالي 25 مليونًا، ويعرف المجتمع الماليزي بتعدده العرقي والديني واللغوي، فيشكّل «المالاي» والسكّان الأصليون ما نسبته 66 بالمئة، والصينيون 27 بالمئة، والهنود 6 بالمئة، أما المجموعات العرقية الأخرى فلا تتعدى 1 بالمئة, نظام الحكم في هذه الدولة شبيه بالنظام البريطاني، فهو ملكي دستوري ونيابي، وتعتبردولة ماليزيا دولة اتحاد فيدرالي مثل دولة ألمانيا فهي مكوّنة من ثلاث عشرة ولاية، وتسع من هذه الولايات يحكمها سلاطين بالتوارث، بينما الولايات المتبقية فيحكمها حاكم مدني.

أسباب نهضة هذه الدولة الصغيرة جغرافيًا كثيرة ولكن نجاحها في الاعتماد على ثقافتها المحلية لبناء نهضتها، وتمكّنها من إنتاج فهم جديد لعلاقة الإسلام بالدولة ساهم بقسط وفير من تحوّلها من دولة هامشية، إلى دولة ذات وزن ثقيل اقتصاديًا وسياسيًا، فماليزيا هي مثال للدّول التي استفادت من التنوع العرقي والديني من أجل بناء نهضتها، فيمكن تلخيص أهم أسباب نجاح هذه التجربة في:

1)- اصطدام الحركات الإسلامية السياسية بقيود السياسة العملية، وإدراكها لمدى الفارق الموجود بين خطابها وبين الواقع، مما أجبرها على إعادة النظر في رؤيتها لـ«الدولة الإسلامية» و«تطبيق الشريعة»، حيث الإسلام في وجهة نظر الماليزيين هو إطار عام للتنمية من منطلق البحث عن حلول واقعية، تتفق مع الأهداف العامة للإسلام، عكس حركات الإسلام السياسي في العالم العربي التي دائمًا ما تحاول البحث عن حلول لمشكلات الواقع من خلال النصوص، كما استفادت من تجربة دولة المدينة التي أقامها رسول الإسلام والتي بنيت على التعدد الديني، فمن النادر أن نسمع عن وجود اضطهاد ديني لغير المسلمين في ماليزيا فجميع الديانات في ماليزيا تحظى بالمساواة في التمثيل والدعوة، كما أن الحكومة هناك لم تتردد في الاستجابة لمطالب العرقيات غير الإسلامية التي تشكّل حوالي نصف عدد سكّان ماليزيا، بتحقيق التوازن بين الديانات في البرامج الدينية في أجهزة الإعلام، ولقد اتخذ الإسلام السياسي الماليزي موقفًا عقلانيًا فيما يخص المرأة، بحيث أيد حقّها في الترشح للانتخابات والمشاركة في البرلمان وفي صنع القرار عمومًا، وزاد من نسبة تمثيلها داخل اللجان المركزية للأحزاب, على عكس الإسلام السياسي الشرق أوسطي لم يدخل الإسلام السياسي الماليزي في صدام مع باقي الثقافات غير الإسلامية، ومع القوى الديمقراطية والعلمانية، بل تبنّى سياسة التحالفات السياسية والحزبية معها، بحيث ظلّ المعيار الأساسي لتشكيل الأحزاب في ماليزيا هو التنافس السياسي وليس الدين أو العرق مما ساهم في غلبة الاتجاه المعتدل على القوى والأحزاب الإسلامية بشكل عام، وضعف الحركات الإسلامية التي تعتمد على العنف كوسيلة للعمل السياسي.

2)- لعب موقع ماليزيا الجغرافي دورًا كبيرًا في تأسيس رؤية مختلفة للماليزيين للكثير من المفاهيم الإسلامية كالجهاد عن رؤية شعوب الشرق الأوسط، فليس هناك دعوات على شاكلة «حراسة الدين» أو «محاربة المد الغربي» أو الدعوة إلى قتل العلمانيين والليبراليين وأحكام التكفير كما يحصل في العالم العربي، وكانت ماليزيا أكثر جدّية وصرامة في محاربة التطرف الإسلامي، فمنعت الحكومة المركزية «الحزب الإسلامي الماليزي» من تطبيق أحكام الشريعة على غير المسلمين، ففي عام 1997، تدخّل رئيس الوزراء «مهاتير محمد» لإلغاء حكم القضاء المحلّي لولاية «سلانغور» التي سيطر عليها «الحزب الإسلامي الماليزي»، بتطبيق «قانون الجريمة الإسلامي» على ثلاث فتيات مسلمات لمشاركتهن في مسابقة ملكة جمال ماليزيا التي نظّمها صينيون.

3)- إن قلّة احتكاك ماليزيا بدول العالم العربي الإسلامي ساهمت في تراجع تأثير الفقه المنتشر في الشرق الأوسط الذي يقوم على التقليد والمذاهب التقليدية في الإفتاء، والتي اعتمدت على الرجوع المباشر إلى الفتاوى التاريخية المشابهة بغض النظر عن السياق التاريخي الخاص بها، ولها دور كبير في ازدياد سيطرة الفكر الإسلامي التحديثي المبني على الاجتهاد المستمر في ماليزيا، كما تميزّت الفتوى في ماليزيا باستخدام اللغة المحلّية البسيطة بهدف تحقيق أكبر قدر من الانتشار، فتراجع الاعتماد على اللغة العربية في الإفتاء، كما تتميز المؤسسات الدينية في ماليزيا بأنها مشكّلة ليس فقط من طرف رجال الدين، وإنما حتى من المثقّفين من الرجال والنساء ممن يشاركون في صنع الفتوى.

4)- وفي الجانب الاقتصادي طبّقت ماليزيا نظرية عالم الاجتماع الألماني «ماكس فيبر» الذي قال إن ظهور المذهب البروتستانتي كان محفّزًا على ظهور الرأسمالية والتنمية الاقتصادية، فتم رفع شعارات «التنمية الاقتصادية لا يجب أن تكون على حساب التنمية الروحية» في ماليزيا، فأصبحت ماليزيا دولة صناعية متقدمة يساهم فيها قطاعا الصناعة والخدمات بنحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي، لقد تمكن مهاتير من إحداث طفرة اقتصادية كبيرة قارنها الكثير بالتجربة اليابانية.

لا ينكر أحد أن الرئيس الماليزي «مهاتير محمد» له دور كبير في نهضة بلده، فعندما وصل إلى سدّة الحكم، بحث عن كيفية الاستفادة من قيم الإسلام العامة من أجل النهضة ببلده، أي إنه حاول تطبيق نظرية المفكّر الجزائري «مالك بن نبي» التي تقول إن الإسلام هو محرّك النهضة، فرفع مهاتير شعار «أسلمة أجهزة الحكومة»، لكن الأسلمة هنا اتخذت معنى مغايرًا تمامًا للأسلمة التي يدعو إليها الإسلام السياسي في العالم العربي، بحيث حافظ مهاتير على جميع حقوق شرائح الشعب الماليزي غير المسلم، وكانت الأسلمة التي طبّقها هي عملية دمج القيم الإسلامية في السياسات الحكومية، واستطاع إزالة التناقض بين القوانين الوطنية والمبادئ الإسلامية، فكانت رؤية مهاتير وماليزيا عمومًا «حداثية وتقدّمية» للإسلام، مما ساهم في تحجيم جماعات الإسلام الراديكالي هناك وجعلها بلا دور وتأثير يذكر.

اجمالي القراءات 8090