ما أقول لابنتي يا سيادة الرئيس؟

سعد القرش في الثلاثاء ٠١ - مايو - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

سامح الله ابنتي سلمى؛ فمن غير قصد دفعتني لكتابة هذا المقال، بعد أن أقسمت ألا أقرب المقالات، حتى أنتهي من رواية أنجزت منها نحو أربعين صفحة في ثمانية عشر شهرا. كما جعلتني أقل وفاء لحكمة يتوارثها المصريون بالفطرة، وهي «السلطان من لا يعرف السلطان ولا يعرفه السلطان».

المسألة أن سلمى (عشر سنوات) فاجأتني بأنها لا تحبك أيها الرئيس حسني مبارك. طبعا أخذت على خاطري، ولم أعلن هذا، ليس تضامنا معك، ولكن إشفاقا عليك، فأنت في النهاية رئيس. ودائما أتفادى الكلام أمام سلمى عن الذين لا أحبهم، لكني أستفيض في الكلام عن رموزنا التاريخيين: تعرف ابنتي ملك (أربع سنوات) كيف تميز صور توت عنخ آمون من صور سلفه اخناتون، وتسمي الأخير «عمو» وتحب تمثاله النصفي في البيت. وليلة نقل جدنا رمسيس الثاني من ميدانه، حملت ملك على كتفي، وفي يدي سلمى، حتى أصابني التعب في ميدان التحرير. وبكت ملك وأنا أطلب إليها أن تودع الملك، وتلوح له. رفضت التلويح بيدها، لكنها أشارت كمن يستغيث «لا يا بابا: رمسيس.. رمسيس».

لم أحدث سلمى عنك، ولا قلت لها رأيا، ولا قارنت بينك وبين الرؤساء السابقين، أقصد الراحلين، موقنا بأن أي رأي أسكبه في رأسها نوع من المصادرة على حقها في الاكتشاف، وأنها يوما ستكبر، وتختار وتحكم، لكنها فاجأتني باستعجال هذا اليوم الذي ظننته بعيدا.

لو كنت مكانك رئيسا لمصر لقرأت هذا المقال ووعيته جيدا، وبحثت عن سر غضب طفلة تحلم بأن ترى في حياتها رئيسا آخر، وتتنفس هواء جديدا.

بدأت الحكاية بزيارتها قلعة صلاح الدين، وطلبت كاميرا لا أملك سواها، ولا أعرف نوعها، لكنها تسد الرمق في الرحلات والمصايف، منذ اشتريتها قبل سنوات بسبعة وستين جنيها. قلت لنفسي إن من حق سلمى أن تجرب؛ فإما تعلمت كيف تضبط المسافات والزوايا وتتحكم في الثواني الفاصلة بين رؤية العين وضغطة الإصبع، وإما أن تكسر الكاميرا وأخلص منها.. من الكاميرا طبعا منعا لأي لبس. في القلعة صورت سلمى من تعتبرهم أشرارا أو أخيارا: ريا وسكينة، ومحمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات، ثم انصرفت. سألتها سيدة: لماذا لا تصورين الرئيس؟، فضحكت وهزت كتفيها وأجابت عن السؤال بسؤال من كلمة واحدة: «الرئيس؟!». فيما بعد، سألتها عن السبب، فقالت إن من صورتهم فعلوا شيئا واضحا، وسألتني: ماذا فعل الرئيس مبارك؟. قلت: شارك في الحرب قائدا لأحد الأسلحة. ردت ضاحكة، كأنها تلومني وتتهمني بعدم تصديق ما أحاول إقناعها به: «يا بابا؟!».

ولأنها كانت مشغولة بالاستعداد للسفر، بدوني لأول مرة، إلى الأقصر وأسوان، فقد آثرت أن أرتب لها كلاما معقولا، حين تعود. لكني متردد، ولا أخفيك طبعا أنها ستعود مشحونة بما قدمه الأجداد: تحتمس وحتشبسوت وسيتي والبناء الأعظم رمسيس. فماذا أقول لابنتي؟

فيما أعلم: لا صبر لك على القراءة، على الأقل بحكم السن؛ فبعد أيام يبدأ العام الثمانون من عمرك المديد، وربما تكون الثمانون سن الحكمة، والمصالحة مع النفس والشعب، والتفكير في أن يخصص لك التاريخ صفحة، لعلها غير موجودة الآن، رغم وجود صفحات أخرى بها كثير من الأعمال غير الصالحة. لا تتعجب، فأنت لم تمش يوما في شارع الجلاء، ولا ذهبت إلى قصر العيني أو معهد الأورام، ولا شاهدت مشهد يوم الحشر أمام مستشفى الجلاء للولادة، لتسمع من الناس، ملح الأرض، الذين لم ينصت إليهم صدام حسين، بل صدق أنه حصل فعلا على مئة في المئة في الاستفتاء الأخير قبيل سقوطه، ولم يفكر أن الله في علاه لم ينل هذه النسبة في أي وقت، ولا ينزل لعناته على ملحدين لا يؤمنون به. فماذا تقترح علي أن أقول لابنتي؟

هل أحكي لها عن الرؤساء العرب الأموات أحياء، ولن يدخلوا التاريخ باستثناء: الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، والعقيد اعلي ولد محمد فال رئيس المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية في موريتانيا. من الممكن أن أقول لها إن الملك فاروق الذي انتهى حكمه قبل 55 عاما، يكبرك بثماني سنوات فقط، وإن مصر كمؤسسة عمرها 5100 عام، تنهار منذ ربع قرن، ونحن في انتظار سماع ارتطام لا نملك منعه، وإن حيوية الدولة تكتسب من حيوية الرئيس والمؤسسات.. الشرعية بالطبع، وليس فريق الجوالة الذي استغل الفراغ السياسي من باب العشم، بمنح البلد مصروفا شخصيا يعبث به الابن، ويدير العجلة برعونة الجوعي. هل أقول لابنتي إن مصر تعيش حالة مزمنة تيبست فيها المفاصل، وتصلبت الشرايين، وإن أكثر من سبعين مليونا لا يعرفون مصير البلاد غدا، إذا حدث لك مكروه، ولعلك تتفق معي قليلا في أنك، في نهاية الأمر، بشر غير محصن ضد الشرور الممتدة من الموت الطبيعي إلى أعراض الشيخوخة.. في حالة السلامة.

سأقول لها إن المصريين الذين شهدوا فجر الضمير، على رأي هنري بريستد، وكانت بلادهم أصل الشجرة في التاريخ، كما قال الباحث الكندي سيمون نايوفتس، هم شعب طيب، مستعد للتسامح والتجاوز عن خطيئة ربع قرن من الجمود والبلادة، لم تشهد فيها مصر إلا زيادة في البطالة والأمية والفساد الوقح والبلطجة المقننة.

سأكون سعيدا، لو عادت سلمى بعد يومين، ووجدت أنك تأسيت بسوار الذهب السوداني والعقيد اعلي الموريتاني، واتخذت أكثر القرارات حكمة، ونويت صادقا أن تدخل التاريخ من الباب الوحيد المتاح الآن، ليسجل اسمك في الصفحة الواحدة الجاهزة لمثل هذا الدخول، وهي إعلانك التخلي عن الحكم، ورعاية انتخابات حرة، لا تشارك فيها، أنت أو ابنك الأستاذ جمال، أو أحد أركان حكمك، وهم لحسن الحظ قليلو العدد والعدة.

أعلم أنك تعبت، فإذا حسبنا فترات حكمك بالقرون لا بالأعوام، فإن أكثر من ربع قرن من حكم هذا الشعب مرهق للأعصاب، وربما تكون قد اشتقت لحياة طبيعية، تشاهد فيها عروض أفلام منتصف الليل، لأن بعدها استرخاء بلا صداع.

أتعبناك يا سيدي فاسترح، واعمل فينا معروفا. رد إساءتنا بإحسان: ازرع في نفوسنا أملا أخيرا، ولو مرة واحدة في العمر ـ عمرك لا أعمارنا ـ بالتخلي عنا. إذا كنا بلاء فنحن نعفيك، وإذا كنا نعمة فيكفيك ربع قرن وسنة، وليس في العمر ـ عمرك لا أعمارنا ـ ربع قرن آخر.

بالمناسبة: ألحت سلمى ولاتزال في طلب شخصي، أن أشتري لها هاتفا محمولا، ولو أدخر ثمنه من مصروفها. هل كانت على حق، وتحمل في وعيها الصغير نبوءة باتخاذك مثل هذا القرار، وتريد أن أبشرها باتصال سريع؟

لا تخذل ابنتي، فبعد يومين ستعود. أريد أن أقول لها إنك اخترت لقب «الرئيس السابق»، وإنها أخطأت حين تجاهلت تصويرك في القلعة، وأساءت الظن بك. أريد أن أكافئها وأشتري لها موبايل، لأنها استعجلت حلما، فصار واقعا. الواقعية، كما تعلم، أسوأ ما في حكاية رئاسة الدولة، أدعو الله أن يمنحك بعض الخيال، ففي البدء كان الخيال.. وفي النهاية يكون!

ـ صحيفة «الدستور» المصرية ـ 28 / 3 /2007

ـ صحيفة «القدس العربي» لندن ـ 4 / 4 / 2007

اجمالي القراءات 12810