عن اسرائيل والأسباط : فى رؤية قرآنية

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٠٨ - أغسطس - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

عن اسرائيل والأسباط : فى رؤية قرآنية

مقدمة :

1 ـ تأسيس دولة إسرائيل طبع جيلنا والأجيال التى بعده بعداء لكلمة إسرائيل . المستبد العربى أجّج هذا العداء بأساطير أن إسرائيل والغرب وأمريكا يتآمرون على الاسلام والمسلمين والعرب ، هذا فى الوقت الذى يأتمر فيه هذا المستبد العربى بأوامر اسرائيل والغرب وأمريكا . أى هم أسياده ، ولا يحتاج ( السيد ) أن يتآمر على خادمه ، يكتفى بأن يأمره وليس على الخادم إلا أن يطيع ، فأموال هذا الخادم فى بنوك أسياده ، ومصيره مرتبط بأوامرهم .  ولأنه يعلم أنه العدو الأكبر لشعبه وأنه الخائن لوطنه ، وأنه الذى أذلّ شعبه والذى نهب أموال شعبه فلا يمكن أن يأمن لشعبه ، وبالتالى فلا ملاذ  له إلا بين أقدام أسياده ، سواء وهو فى السلطة ، أو حين يتهدد سلطانه .

2 ـ  بهذا تمّ تشكيل العقلية العربية لتكون ضد إسرائيل ، مع إن عدد ضحايا الصراع العربى الاسرائيلى لا يصل الى 10 % من ضحايا المستبد العربى ، سواء فى قتله لأبناء شعبه أو فى مغامراته الخاسرة أو فى صراعات المستبدين العرب فيما بينهم ، بدءا من عبد الناصر والقذافى وصدام الى السعودية والوهابية وداعش وأخواتها .

3 ـ إمتدت تلك الكراهية الى القصص القرآنى ، والذى دار جزء كبير منه عن بنى اسرائيل أو بنى يعقوب . وجاء التعبير عن هذه الكراهية بصور شتى ، منها :

3 / 1 : تجاهل هذا القصص بالكامل ، وهو شأن أهل الجهل من علماء السلطة وأتباعهم .

3 / 2 : التركيز على الآيات التى تهاجم ( اليهود ). هذا ، مع أن مصطلح ( اليهود ) فى القرآن لا يشمل كل بنى اسرائيل بل هم فقط عُصاة بنى اسرائيل ، خصوصا فى عصر التنزيل والذين كانوا يعبدون (عُزير ) ويتحالفون مع النصارى يعتدون على دولة النبى ، وهو تاريخ جاءت إشارات اليه فى القرآن ، وتجاهله ابن إسحاق أول من كتب السيرة النبوية من دماغه ، وإفترى فيها أن النبى محمدا ــ الذى أرسله الله جل وعلا رحمة للعالمين ــ قام بقتل أسرى بنى قريظة .!!.  وبهذا التركيز يتم الهجوم على جميع بنى اسرائيل ، وتجاهل الايات التى تتحدث عن الصالحين من بنى اسرائيل والمقتصدين المعتدلين منهم ، وتجاهل أن أتباع القرآن أيضا ــ بل والبشر جميعا ــ هم فئات ثلاث : سابقون بالعمل الصالح ومعتدلون أو مقتصدون وأكثرية عاصية .

3 / 3 :  البحث القائم على هوى سابق ، يقوم بتحريف مصطلحات القرآن ، أو ( تأويلها ) لتوافق هوى الباحث. ويصل به هواه الى شطحات مجنونة ، بعضهم ـ مثلا ـ ينكر أن ( مصر ) فى القرآن ليست هى مصر ، وأن السبط ليسوا من بنى اسرائيل ، وأن اسرائيل ليس يعقوب . وهذا يتجاوز الخطأ الى الوقوع فى ( الخطيئة ) ، لأنه يضع القرآن تحت قدميه يقوم بتطويعه لهواه. ومن أسف أن بعض المنتسبين لأهل القرآن يقع فى هذا الحضيض . ندعو لهم بالهداية .

4 ـ وقلنا ــ ولا نزال نكرر ونؤكد  ــ أن تدبر القرآن هو أن تدخل على القرآن تنشد الهداية وبدون غرض مسبق تريد تحقيقه ، بل مجرد معرفة الرأى القرآنى مخلصا وجهك للرحمن جل وعلا ، ملتزما بأن تغير كل مفاهيمك السابقة إذا تعارضت مع ما يصل اليه تدبرك القرآنى. وتقوم بتجميع الآيات الخاصة بموضوعك ، فى سياقها المحلى فى نفس السورة ( الآية وما قبلها وما بعدها ) وفى سياقها الموضوعى فى القرآن الكريم كله ، والآيات القريبة من الموضوع ، ثم تبحث هذا جميعه معا ، تحدد المصطلحات ، وتسير مع الآيات فى تفصيلات بحثك ، ثم تؤكد فى النهاية أنها رؤيتك القرآنية ، وليست حقا مطلقا ، وأنت مسئول عن هذا الاجتهاد الذى يقبل النقد والتصويب .

5 ـ وبهذا المنهج نقدم رؤيتنا القرآنية عن ( غسرائيل والأسباط ) .

 

أولا :نبدأ ببعض ملامح من منهج القرآن الكريم فى ايراد قصص الأنبياء والرسل:

1 ـ القرآن الكريم لم يذكر كل الأنبياء والرسل : قال جل وعلا : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)(غافر 78)

2 ـ أفاض القرآن الكريم فى قصص بعض الأنبياء والرسل ، مثل نوح وابراهيم وموسى و عيسى . وتوسط فى قصص بعضهم ، مثل لوط و يونس و داود وسليمان و أيوب. وعرض لبعضهم باختصار ، مثل اسحق ويعقوب .

3 ـ ذكر تاريخ بعض الأنبياء والرسل دون ذكر اسمه : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) (البقرة 246 ـ ) لم يذكر القرآن اسم ذلك النبى مع أنه ذكر اسم الملك ( طالوت ). وقال تعالى فى قصة ثلاثة من الأنبياء لم يذكر أسماءهم أو اسم القرية التى كانوا فيها : (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ ) (يس 13 ـ 14)

4 ـ ذكر موجزا مختصرا لبعض الأنبياء والرسل بالاسم مع بعض تفصيلات لم تتكرر فى القرآن الكريم كقوله تعالى عن النبى الياس :(وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) (. الصافات 123 : 130)

5 ـ ذكر القرآن بعض الأنبياء والرسل بمجرد الاسم ( مثل اليسع وذى الكفل ) دون أى تفصيلات سوى أنهم من ذرية يعقوب بن ابراهيم : (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءإِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ) ( الأنعام 83 ـ ) (وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ) ( ص 48 )

6 ـ ذكر مجموعة من أنبياء بنى اسرائيل بوصف محدد هو الأسباط ، إذ جعل الأسباط من بين الأنبياء الذين أوحى الله تعالى اليهم ، فقال تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) بعدها كرر تعالى نفس الحقيقة فى أنه جل وعلا لم يذكر كل الرسل :(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) ( النساء 163 ـ )  .

ثانيا : معنى أسباط :

1 ــ من هنا نتعرف على أول معنى من معانى الأسباط ، وهو أنهم مجموعة من أنبياء بنى اسرائيل: ويلاحظ أن كلمة الاسباط تأتى تالية ليعقوب لأنه أبوهم، كما جاء فى الآية الكريمة السابقة :( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)

2 ـ والمعنى الثانى هو اللغوى لكلمة أسباط ، ويعنى شراشيب أو أفرع ( القنو ) فى النخل ، تلك التى تحمل البلح. ولأنها شراشيب كثيرة أو أفرع كثيرة تخرج من أصل واحد فقد أطلق نفس الوصف على الأبناء الذكور للنبى يعقوب ، وكان عددهم إثنى عشر رجلا، كل منهم أنجب ذرية تكاثرت فأصبحت أمة أو قبيلة ، وأصبح اسم (الأسباط ) دليلا عليهم لتفرعهم من أصل واحد هو يعقوب عليه السلام. وفى أولئك الأسباط بعث الله تعالى أنبياء كثيرين من بنى اسرائيل ، ذكر بعضهم بالاسم فقط ، وذكر موجزا عن البعض الاخر ـ و تحدث عن بعضهم دون أن يذكر اسمه ، وأطلق عليهم جميعا لقب (الأسباط )

3 ــ والمعنى الثالث للكلمة استعمله القرآن الكريم ليدل على القبائل الاسرائيلية الاثنتى عشرة التى تكاثرت فى عهد موسى عليه السلام.  وكان هذا التقسيم ساريا قبل موسى وبعده ، ونفهم هذا من التمعن فى قوله تعالى عن بنى اسرائيل ( قوم موسى ، ذرية يعقوب / اسرائيل ) : ( وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ) ( الاعراف 160 )، وقوله جل وعلا : (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ) ( البقرة 60). كانوا إثنتى عشر قبيلة ، أو إثنتى عشر سبطا من أصل واحد هو يعقوب ، وكان هذا فى عهد موسى ، بعد قرون من مجىء يعقوب وأبنائه العشر الى مصر ليستقبلهم إبنه يوسف وكان معه أخوه الذى إستبقاه . أبناء يعقوب تناسلوا بمرور الزمن فى مصر ، حتى إذا جاء عصر موسى كانوا إثنتى عشر قبيلة أو سبطا . وحين خرج بهم موسى من مصر وإستسقى لهم كان لكل قبيلة عينا من الماء .

ثالثا : معنى اسرائيل

1 ـ كلمة ( إسرائيل ) وردت مرتين فقط فى القرآن الكريم لتدل على النبى يعقوب عليه السلام، حيث نزل القرآن الكريم فى بيئة تجمع بين أبناء اسماعيل ( العرب المستعربة و منها قريش ) و أهل الكتاب و منهم الذين هادوا و اليهود و النصارى .

2 ـ وعلى خلاف ما يتوقع البعض فقد كان كبار الأنبياء من بنى اسرائيل معروفين لدى العرب الأميين  وقت نزول القرآن الكريم، فقد كانت ملة ابراهيم موجودة برغم ما لحقها من تحريف . وكان العرب الأميون ـ أى الذين ليسوا من أهل الكتاب ـ يجادلون النبى محمدا عليه السلام بما يعرفون من قصص الأنبياء السابقين المتوارثة ( الزخرف 57 ـ ) وكان أهل الكتاب بالذات أكثر علما من العرب الأميين. وقد احتكم القرآن الكريم الى علماء أهل الكتاب فقال للنبى محمد ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) ( يونس 94).وذكر رب العزة جل وعلا أن من معجزات القرآن الكريم أنه يعلمه علماء بنى اسرائيل ( الشعراء 197 ) وأن منهم من كان يعرف الكتاب كما يعرف أبناءه ومع ذلك يكتمون الحق وهم يعلمون (البقرة 146  ) (الأنعام  20 )

3 ــ وفى هذه البيئة المثقفة كانت التوراة الحقيقية موجودة وكذلك الانجيل الحقيقى . وعندما تركها أصحابها وجاءوا يحتكمون للنبى محمد قال تعالى له (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ )( المائدة 43 ) بل أن الله تعالى تحداهم بالتوراة التى فى أيديهم وقال لهم (قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ).

4 ــ جاء هذا فى احدى الآيات التى ورد فيها ذكر اسرائيل اسما للنبى يعقوب ، إذ قال تعالى : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( آل عمران 93 ـ ). المعنى المقصود فى الاية : إنه قبل نزول التوراة تحرم و تبيح من الطعام كان كل الطعام حلالا لبنى اسرائيل إلا ما قام يعقوب ـ أو اسرائيل ـ بتحريمه على نفسه من تلقاء نفسه.

5 ــ لا يقال هنا أن نبى الله يعقوب ( اسرائيل ) قد ارتكب خطأ حين حرم على نفسه طعاما حلالا ـ قياسا على اللوم الذى جاء لخاتم النبيين حين عاتبه ربه فقال :(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ) ( التحريم 1 ) والأسباب هنا :

5 / 1  ـ إن النبى يعقوب لو كان ارتكب خطأ لذكره الله تعالى فى هذا السياق ـ ولكنه جل وعلا ذكر ما فعله يعقوب مستشهدا به ، وليس عاتبا عليه ، ولقد حفل القرآن الكريم بآيات كثيرة فيها اللوم للأنبياء السابقين ، ولو كان هذا خطأ لذكره الله تعالى خصوصا فى موضوعات الجدل مع المشركين وأهل الكتاب حول الطعام والتى تعرض لها القرآن كثيرا ( الأنعام 118 :121 ـ 145 : 155 ) .

5 / 2 : المفهوم من السياق أن نبى الله اسرائيل ـ يعقوب ـ  حرم على نفسه بعض الطعام تقربا لله تعالى زهدا ، وليس لمرضاة أزواجه كما فعل خاتم النبيين محمد (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ).

5 / 3 : ثم أن محمدا عليه السلام فعل ذلك عصيانا لأمر تشريعى سابق تكرر كثيرا ، وهو النهى عن تحريم الطيبات من الطعام. لم ينزل هذا التشريع لاسرائيل أو يعقوب عليه السلام، ولو نزل له فعصاه لتعرض للتانيب ، ولكن هذا التشريع نزل وتكرر وتأكد لمحمد عليه السلام، ثم عصاه محمد لمرضاة أزواجه فجاء التأنيب.

5 / 4 : ومن شاء فليراجع النهى عن تحريم الحلال من الطعام فى الآيات التالية وكلها مكية : (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ ) ( يونس 59 ـ ) فهنا تحذير قوى اللهجة من تحريم الحلال ، وجاء تحذير آخر فى مكة بنفس القوة يؤكد الحلال و يحدد المحرمات الاستثنائية ، ثم يحذر من تحريم الحلال : (فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ) ( النحل 114 ـ ) وتكرر نفس التحذير فى سوة مدنية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ) ( المائدة 87 ـ ) بعدها أخطأ النبى محمد فنزل له هذا العتاب القاسى (:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ) ( التحريم 1 ) وهذا يؤكد عظمة النبى محمد فى كونه إنسانا يخطىء و يصيب و يأتيه التوجيه بالوحى. ويظل الأنبياء أعظم البشر مع كونهم من البشر. المهم أنه لا يصح القياس هنا فيما يخص تحريم الطعام بين اسرائيل و محمد عليهما السلام.

6 ــ ولكن لماذا ذكر الله تعالى يعقوب هنا باسم اسرائيل ، ولم يذكره بالاسم المعتاد (يعقوب ) ؟ لأن الله تعالى احتج عليهم بالتوراة ، وهى فى هذه المرحلة فى تاريخ يعقوب كانت التوراة تطلق عليه لقب ( اسرائيل ) . هذا هو واحد من الموضعين المذكور فيهما اسم اسرائيل للنبى يعقوب عليه السلام.

7 ــ فى المرة الأخرى جاء ذكر يعقوب باسم ( اسرائيل ) فى سورة مكية هى مريم ، يقول تعالى :( (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ ) ( مريم 58 ). وهنا نلاحظ الآتى :

7 / 1 : إن هذه الاية الكريمة جاءت تعليقا على طرف من قصص الأنبياء السابقين. والاية تتحدث عن النبيين عموما فى تاريخ البشرية ـ وتنسبهم الى الاباء الكبار : آدم ، ونوح ،وابراهيم و، واسرائيل ـ أى يعقوب الذى توالت فى ذريته ( بنى اسرائيل ) أو ( الأسباط  ) الكثير من الأنبياء والرسل . عليهم جميعا السلام. قد يكون هناك أنبياء قبل نوح فهم يرجعون الى آدم ، وقديكون هناك قبل ابراهيم فهم يرجعون الى نوح ، وهو آدم الثانى للبشرية بعد الطوفان ، وقد كان هناك  نبى ليس من ذرية يعقوب ، وهو اسماعيل بن ابراهيم ـ عم يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم. ثم هناك خاتم النبيين عليه السلام ، وهو لا ينتمى الى بنى اسرائيل ـ ولكنه ينتمى الى فرع اسماعيل.

7 / 2 : وهكذا ،فالآية الكريمة المشار اليها جمعت كل الأنبياء فى جملة مختصرة. كلهم من نسل الآباء الكبار آدم ـ أو نوح ـ أو ابراهيم ـ أو اسرائيل أو يعقوب.

7 / 3 : ونظير ذلك قوله تعالى ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) (الحديد 26) الاية هنا تتحدث عن النبوة من عهد نوح . أى أن نوح هنا هو السقف الأعلى و ليس آدم .وتضيف اليه ابراهيم . لأن ابراهيم أنجب إثنين من الأنبياء : اسماعيل ثم اسحق. وعاش ابراهيم ليرى ابنه اسحق وقد أنجب حفيدا له هو يعقوب. ثم جاءت الذرية من أبناء يعقوب الإثنى عشر، وتتالت فيهم النبوة الى عيسى عليه السلام. ثم جاء ختم النبوة للعالم كله و الى قيام الساعة بالنبى محمد عليه السلام ، من قريش ـ وهى أشهر قبيلة فى ذرية اسماعيل بن ابراهيم. لذلك فان نوح وابراهيم معا قد جعل الله تعالى فى ذريتهما النبوة و الكتاب ، وفى هذه الذرية الاتية من الأنبياء تجد الكثرية فاسقة و الأقلية مهتدية ـ شأن بقية البشر. والمستفاد أن أنبياء بنى اسرائيل ـ وهم كثيرون ـ يرجعون الى ابيهم يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم.

أخيرا : ونوجز القصة من أولها :

1 ـ فى البداية كان ابراهيم ومعه ابنه اسماعيل ـ يقيمان قواعد الكعبة ـ بعد أن بوأ الله تعالى لابراهيم مكان البيت ( الحج 26 )، وفى أثناء عملهما كانا يدعوان الله تعالى بأن يتقبل عملهما ، وأن يرزق اسماعيل ذرية صالحة مسلمة ، وأن يبعث فيهم رسولا منهم،( البقرة 127 ـ )، وهو ما تحقق بعدها بقرون ببعثة خاتم النبيين محمد عليه السلام. هذا بالنسبة لفرع اسماعيل بن ابراهيم ، وهو أبو العرب المستعربة. أحد القسمين الكبيرين من العرب الباقية ( العرب العاربة القحطانية اليمنية الجنوبية ـ والعرب الشمالية المستعربة ).

2 ــ فى الفرع الثانى من ذرية ابراهيم نجدها ترجع ليعقوب بن اسحاق بن ابراهيم. ولقد جاءت البشرى لابراهيم وزوجه سارة ـ فى شيخوختيهما بأن الله تعالى يبشرهما باسحق ومن وراء اسحاق يعقوب. لقد أراد الله تعالى مكافأة الخليل ابراهيم عليه السلام بعد أن نجح فى الاختبارات التى مر بها بأن جعله يعيش بعد وصوله الى الشيخوخة لينجب ولدا ثم يظل يعيش ليرى هذا الولد قد أنجب ولدا ، أى يعيش ابراهيم ليرى ثلاثة من ذريته وقد صاروا أنبياء، وأن يعيش آخر عمره متمتعا بابنه الخير و حفيده منه ، وهذا معنى قوله تعالى (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ) ( الأنبياء 72 )

3 ــ ورزق الله تعالى يعقوب اثنى عشر ذكرا منهم يوسف ـ عليهما السلام. ومعروف ما جرى فى قصة يوسف و كيف انتهى الحال باستقدام والديه واخوته العشر وأبنائهم الى مصرليُضافوا اليه وأخيه الذى إستبقاه فى مصر معه : (اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ) (يوسف 93 ، 99 ).

4 ـ وتكاثر أبناء يعقوب أو اسرائيل فى مصر و أصبحو إثنى عشر قبيلة، كلها تنتمى الى يعقوب أو اسرائيل ـ أى أبناء اسرائيل أو بنى اسرائيل. وهذا كان لقبهم فى قصة موسى .

5 ـ هذا عن قصص بنى إسرائيل ، بنى يعقوب أو الأسباط . ولأنها حالة نادرة فى تاريخ البشرية الدينى فقد جاءت تفاصيلها فى القرآن الكريم ، وهذا على حساب التأريخ القصصى لأنبياء كثيرين حفل بهم تاريخ البشرية من أقصى الصين الى الأمريكيتين ومن الاسكيمو الى الأرجنتين . فكل أمة من البشر جاءها نذير : ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ (24)  فاطر ). وهذا من إعجازات القرآن الكريم لأنه المعروف الآن على مستوى العالم هم الأنبياء المذكورون فى العهد القديم وفى القرآن الكريم . وغيرهم من الأنبياء تحول بعضهم الى آلهة واساطير .

6 ــ وليس فى هذا عجب ، العجب أن يذكر القرآن الكريم قصص بعض الأمم السابقة وبعض الأنبياء السابقين ، ويجعله ضمن التنزيل القرآنى محفوظا من لدن الله جل وعلا ، لا يستطيع البشر تحريف نصوصه ـ كما فعلوا بالتوراة الحقيقية التى نزلت على موسى وكما حدث مع الكتب السماوية التى نزلت بعده ، ثم مع هذا يأتى بعضهم ويقوم بتأويل كلمات القرآن ، فيجعل مصر غير مصر والأسباط غير الأسباط واسرائيل غير يعقوب .. 

اجمالي القراءات 9927