جدلية الإفطار العلني في رمضان
جدلية الإفطار العلني في رمضان

ياسين ديناربوس في الثلاثاء ٠٦ - يونيو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

أصبح الإفطار العلني في رمضان أحد المواضيع المتكررة التي تثير الكثير من اللغط و الجدل و التي تتضارب الآراء حولها بين كر و فر ؛ إذ يعتبر المفطرون أن منعهم من الأكل و الشرب بسلطة أو الدولة بمثابة إضراب قسري عن الطعام يحجر علي علي حريتهم الشخصية و يضرب عرض الحائط كل مواثيق حقوق الإنسان الدولية .. بينما يرى الأصوليون من المتدينين أن الإفطار العلني في رمضان تحد سافر للأعراف في المجتمع الإسلامي و سلوك ضد ضمير الأمة يزعزع استقرار عقيدة المسلمين …

 

لن يفوتني أن أدلي بدلوي في الموضوع أن ألفت انتباهكم لإشكالية سوسيولوجية استوقفتني غير ما مرة ارتباطاً بجدلية الصوم و الإفطار في رمضان :

 

لماذا تتم مهاجمة المفطرين في رمضان و يعظم عليهم النكير بينما يتم التساهل علي طول السنة مع تاركي الصلاة – وهي عماد الدين – ؟ لماذا هذا الكيل بمكيالين بين شعيرتين فرضهما رب العالمين علي المسلمين ؟

 

فالحقيقة التي لا مراء فيها أن من يعانون حساسية من المفطرين في شهر رمضان لا يجدون مشكلة مع من لا يصلون علي امتداد كل الشهور .. بل إن شئنا الدقة فإن السواد الأعظم ممن يهاجمون المفطرين لا يصلون !!

 

هذه الإشكالية تفظي الي استنتاج مؤسف : وهو أن صيام رمضان تحول من شعيرة دينية ببتغي بها الصائمون التقوى و الأجر و الثواب عند الله إلي ظاهرة اجتماعية و سلوك قهري يفرضه المجتمع أكثر مما يحتمه الوازع الإيماني …

 

هذه الخلاصة المحزنة يدعمها الواقع المعاش ؛ فباستثناء روتين الوعظ السلفي المشروخ و المتكرر تحول رمضان من شهر روحاني يرتفع بالمؤمن لأعلي مستويات العبادة و التقوى إلي موسم للكسل و المسلسلات و الفوازير و السعرات الماجنة و المشاحنات الغاضبة ..

 

و الملاحظ كل هذا الإنفلات الخلقي – أيضاً – لا تضيق له الأنفس كما هو الشأن عندما يأكل المفطرون علي مرأى من الصائمين .. !

 

فتأملوا .. !

 

لا بأس هنا أن نقف وقفة مع التحليل السوسيولجي و السيكولوجي لظاهرة العنف في المجتمعات المتخلفة

 

والذي يؤكد علي أن السلوك الإنفعالي المتعطش للبطش السطوة مرده أن هذه المجتمعات توجد بها دائماً انقسامات داخلية، حيث ينقسم السكان إلى جماعات و طوائف مختلفة الإنتمائات عرقية و قومية و دينية، كل جماعة تغذي فيها إيديولوجيا التطرف ميول استخدام العنف و القسوة ضد كل مخالف أو مختلف يشكل المتنفس السحري الذي يخرج أفراد الجماعة من حالة البؤس و الركود و المهانة التي يعيشونها إلى حالة من النشوة و التضخم الذاتي و الميغالومنيا و الإحساس بالاعتبار الوجودي المفقود ..

 

فلا غرابة إذن في أن يهاجم ثلة من الفاشلون ممن يعيشون عالة علي المجتمع شخصاً مريضاً بداء السكري يشرب الماء مضطراً في نهار رمضان فينهالون عليه ضربا ينقل علي إثره للمستعجلات ، فهذا مبرر عندهم بكونهم من جماعة الصائمين المبشرين بالجنة و كونه من جماعة المفطرين …

 

لازالت مفاهيم الحرية و العدالة و المساواة تعيش مخاضا عسيرا في مجتمعاتنا ؛ فقد كرس السادة الفقهاء في قناعة الناس – علي مر العصور – أن إقامة الشعائر أكثر أهمية من القيم الأخلاقية فانقلبت الغاية و الوسيلة كما لو صارت العربة تجر الحصان ..فتأملوا كيف يتراخي المجتمع أمام الغش و شهادة الزور و أكل مال اليتيم و نقض العهد .. بل أكثر من ذلك ، يتساهل المجتمع مع قتل النفس بغير حق في جرائم الشرف ! بينما يتشدد في المقابل مع تارك الصلاة و المفطر في رمضان ..

 

فلا غرابة إذن في عدم وجود أثر للجماهير النقيمة للصلاة علي مجتمع يهتم بالشكل و لا يقيم وزنا للمضمون ..

 

و من مخلفات هذه المغالطات الممجوحة بين بين أولوية القيم و الشعائر، أن تم اختزال إشكالية الإفطار العلني في نهار رمضان في نقطة الإستهزاء بالصائمين و تم اللعب علي هذا الوتر ليتحول النقاش إلي قضية ازدراء الدين و يكون بذلك الشجرة التي غطت غابة معضلة الإفطار العلني …

 

هل تسائلتم يوماً كم هي نسبة المصابين – في المجتمع – بأمراض عضوية مزمنة يستحيل معها الصيام ؟ و كم عدد المصابين بأمراض عقلية و عصبية و نفسية ؟ زد عليهم نسبة الأطفال الذين لم يبلغوا سن التكليف الشرعي .. إضافة للشيوخ و المسنين و المعاقين و الحوامل .. ناهيك عن العاجزين عن الصيام بسبب ظروف عمل شاقة و قاهرة .. الحاصل أن مجموع مل هؤلاء يشكل جزءاً مهماً من خير أمة أخرجت للناس، فهل نقبل اختلافهم و نتعايش معهم أم نحبسهم و نتهجم عليهم بالضرب كما يفعل المتسلطون المتطرفون ؟

 

قد يقول قائل أن معاقبة المفطرين و التهجم عليهم بالضرب يدخل في نطاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا مردود عليه لأن مفهوم النهي عن المنكر لايعني التسلط علي الناس و التدخل في أدق خصوصياتهم وحريتهم الشخصية، بل هو التواصي بين أفراد المجتمع بالحق و الخير و الصبر عبر النصيحة و الكلمة الطيبة ..

 

و حق لنا أن نسأل تلك الفئة التي تخصصت في مطاردة الناس في الشوارع و الأسواق بدعوي تغيير المنكر دونما أي اعتبار ان كان هؤلاء العباد يمارسون حقهم في الرخص الشرعية : أيحسبون أنفسهم أعلي شئنا من خير المرسلين الذي لم يعرف عنه أنه عاقب تارك الصلاة أو الصيام ، بل أكثر من ذلك، فرسول الله عليه الصلاة والسلام لن مسؤولاً عن إيمان من حوله بدليل قوله عز و جل :

 

{ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } [ الغاشية : 21-22 ]

 

و قوله تعالى :

 

{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [ يونس :99 ]

 

ذلك أن العلاقة بين الإنسان و ربه علاقة تطبعها الخصوصية و لا دخل لأي كان بها لأن فلسفة الثواب و العقاب لا تقوم إلا علي حرية الإنسان في اختيار الدين طواعية دون إكراه

 

ولما كانت التكاليف ضد الفطرة الإنسانية، كان من نتيجة الالتزام بها دون مساومة أو مبررات أن وصل الإنسان لأعلي دراجات التقوى و الأجر و الثواب …

 

معظم الدول اوالإسلامية و العربية تجرم الإفطار العلني في نهار رمضان و تتخذ إجراءات ضد المفطرين بتهمة الإخلال بالآداب العامة بموجب عقوبات قانونية تتراوح بين غرامات مالية و أحكام بالسجن تختلف مدتها من بلد لآخر بين شهر و ستة أشهر حبسا نافذا . و في بعض الدول يتم انزال هذه العقوبات علي المقيم و الزائر و غير المسلم دون تمييز و يطبق القانون غالبا ارتباطاً بمزاح رجل الأمن الذي قد يغض النظر في حالات  و قد يطبق العقوبة في حالات أخري .. في الوقت الذي لم تكلف فيه هذه الدول نفسها عناء محاربة الفساد الإداري و الرشوة و الإختلاسات و سرقة المال العام، و لم تفعل شيئاً لكبح جماح الأسعار التي تلهب سياطها ظهور الفقراء و المعدومين في رمضان ، لكنها تصدت بقوة الحديد و النار لكل مواطن مرتكب لجنحة الأكل أو الشرب التي اعتبرها أبرهام ماسلو أول الإحتياجات الفيزيولوجية الإنسانية ووضعها في قاعدة هرمها .. و هي جزئية هامة تناساها علي يبدو أن من جرم الإفطار العلني و الذي فاته أيضًا أن رمضان لا يحل في البلاد بقرار سياسي بل هو اختيار المجتمع في الإمتثال لهذا الدين الحنيف بكل طواعية و دون إكراه ..

 

و أنه عندما يؤذن المؤذن للصلاة هناك من يقصد المساجد و هناك من لا يفعل ممن اختار التحرر من الدين و أحكامه – و هؤلاء أحرار في أنفسهم – و مهمة الدولة هنا هي حفظ حقوق المواطنين في إقامة الشعائر و ترسيم خطوط حرية المعرضين عنها في آن واحد ! و ليس للدولة أن تتدخل في سلوك المواطن بدعوي حفظ الدين لأن المجتمع باختياره للإسلام كدين و الصيام كعبادة فقد حفظ هذا الدين و حماه ..

 

لا خلاف علي أن الدولة ملزمة بوضع قوانين ظرفية و مرحلية من أجل حماية المجتمع من أي ظاهرة من شأنها أن تزعزع استقراره و إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للإفطار العلني في رمضان فقد وجب أن تبرهن هذه النظرية بالدراسات و الإحصائيات لبيان حجم الضرر و أثره علي المجتمع في ظل غياب قانون راذع من شأنه حفظ سلامة المواطنين و مصلحتهم العامة .. لكن ليس قبل قبل أن تتخذ الدولة إجرائات وقائية توعوية عبر محاورة الأطراف باللين و الحكمة لضمان حريات الأفراد و الأقليات التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من المجتمع .. علي أن الحرية لا تنارس إلا مقيدة و إلا فقدت معناها و تحولت إلى فوضي و عشوائية ؛ فنحن أحرار في قيادة السيارات لكننا نمارس حريتنا هذه متقيدين بقانون السير ..

 

أي نعم، الإنسان حر في أن يكفر بالدين لكنه ليس حرا في إهانة المقدسات و الإساءة إليها ، بل هو ملزم باحترامها بمقتضي الواجب الأخلاقي بين الإنسان و أخيه الإنسان !

 

عندما زارت ملكة بريطانيا أحد المساجد وضعت على رأسها وشاحها و لفته حول شعرها تأسيا بعادة المسلمات كدليل علي احترام قدسية المكان …

 

من  المؤكد أنه ليس من الحكمة أن يتناول أحدهم الطعام علنا في نهار رمضان وسط مجتمع إسلامي محافظ فهو كمن يذبح بقرة في بلاد الهند .. حتي أنني أجدني هنا مرغما علي استحظار المثل القائل : إذا كنت في روما فتصرف كما يتصرف الرومان !

 

و أرجو أن لا يتم الخلط بين الحديث عن احترام المقدسات و التي هي رموز الأمة و أماكن العبادة و الكتب السماوية .. الخ .. و بين الانفعالات الغوغائية التي تنادي باحترام مشاعر الصائم و عدم الإفطار أمامه – كأنه يشاهد فيلم رعب – لأن عامل البناء أو المناجم لا يقترف جريمة إذا شرب الماء في تحت ضغط حرارة صيف لاهب !!

 

كفانا من ازدواجية المعايير ! لأن من قاموا بحشو عقول العامة بهذه الأفكار الجوفاء هم أنفسهم لا يراعون مشاعر الجياع و المساكين أمامهم عندها يملؤون  بطونهم حتي التخمة علي طول السنة خارج رمضان…

 

عدم قبول الإفطار العلني نجد له جذورا في الموروث الفقهي التراثي ؛ فقد تشكلت النظرة الدونية و الإقصائية تجاه المفطر أساساً من فتاوى و آراء الشيوخ و الأئمة فيه، حيث اعتبره بعضهم من مقترفي الكبائر و صنفه آخرون أكثر شرا من الزاني و شارب الخمر و شكوا في إسلامه و ظنوا به الزندقة و الإلحاد ..ثم إنهم أثناء صناعتهم للأديان الحزبية الأرضية وجدو في موضوع الإفطار بدون عذر شرعي أرضية خصبة لتكريس نزعتهم في إحكام السيطرة علي الشعوب باسم الدين و إكراه الناس فيه، حيث تنافس السادة في تبديل شرع الله عز و جل بشرع البشر بأن فرقوا بين المفطر بشرب أو أكل و بين المفطر بجماع جنسي، ففرضوا علي الأخير كفارة مغلظة قوامها القضاء إضافة لعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا، بينما تباينت فتاواهام بخصوص الأول، فمنهم من قال بقضاء يوم بيوم و هناك من قال بقضاء يوم بأثني عشر يوماً و قال بعضهم بصيام شهر و ذهب آخرون ل تلاثة آلاف يوم !!! حتي بلغت المزايدة علي دين الله تعالى مبلغها عندما نسبوا حديثاً مأفوكا للرسول الكريم زعموا فيه أن من أفطر يوماً من رمضان لم يكفه الدهر كله !!!

 

من يتقيد بكتاب الله و يجعله إمامه و يتدبر آياته الكريمة التي لم تفرط في شيء من الدين سيلحظ الفرق الجلي بين صناعة إلهية أساسها التخفيف و التيسير و رفع الحرج علي الناس و قبول أعذارهم و بين صناعة بشرية أنتجها التطرف و التعنت و الغصب !

 

قال تعالى :

 

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 183 / 184 ]

 

انظروا كيف أن التشريع القرآني ركز أكثر علي رخص الإفطار للمسافر و المريض و لمن لا طاقة له بالصيام بينما لم يتكلم في عقوبة الإفطار بغير عذر علي النقيض من أرباب الدين الأرضي و سدنته.

 

ربما يتفاجيء قلنا له أن كفارة صيام شهرين متتابعين للمفطر في رمضان لا وجود لها في التنزيل الحكيم ! علي أنها جائت في كتاب الله في موضعين اثنين فقط : في سورة النساء في حق القتل الخطأ و في سورة المجادلة عن الظهار .. هذا في كتاب جعله رب العزة تبيانا لكل شيء، حيث لم يأمرنا بإرغام الناس علي الصلاة و الصيام و لم يقل بضربهم أو حبسم أو تعزيرهم كما أفتي بذلك الشيوخ و الفقهاء ! .. بل أكثر من ذلك ؛ يستمر الهدي القرآني في رسم علاقتنا بمن يعصي أعظم الخلق بعدم التبرؤ منه بل من عمله السيء فقط ؛ تأملوا قول رب العالمين :

 

{ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [ الشعراء : 215 / 216 ]

 

يجب أن يعي الصائمون و المفطرون و رجال الدين و الدولة أنهم جميعا محمولون علي سطح نفس السفينة، فإما أن يحافظوا علي توازنها من أجل العيش فيها بسلام و إما سيستمرون في نخرها إلا أن تغرق بهم جميعاً ! .. لأن كل تضييق علي الحرية لن يزيد الناس إلا نفورا من الدين و سيصنع مجتمعا داعشيا مريضاً ، يملؤه المنافقون و و تسبتد فيه الأكثرية الأقليات المستضعفة ..

 

قال أحكم الحاكمين { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ .. } [ الكهف : 29 ] لقد أعطي رب العالمين للإنسان حرية الكفر بالدين كله فكيف إذن بجزء منه ؟

 

من شاء فليصم و من شاء فليفطر و لا داعي لأن يصوم خوفاً من جاره أو زميله في العمل لأن الله تعالى غليم بذات الصدور و غني عن صلاته و صيامه ! و من يعظم شعائر الله عليه أن يتعايش مع المفطر و عليهما أن يبادلا بعضهما الإحترام بموجب الإنسانية التي تجمع الكل في ضل دولة راعية مربية.

 

إن أصبت فبتوفيق الله سبحانه وتعالى و إن أخطأت فمن نفسي.

 

هذه وجهة نظري و ليس ملزم بها كل من قرأ المقالي

اجمالي القراءات 9597