الإصلاح الدينى: التبنى لعلاج اليتامى وأطفال الشوارع

سعد الدين ابراهيم في السبت ١٨ - فبراير - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

سبق لى إبداء الرأى فى عجز مشايخ الأزهر عن تجديد الخطاب الدينى (٩/١٢/٢٠١٦). وكانت حجتنا فى ذلك أنهم لو كانوا قادرين على ذلك لفعلوه منذ مائتى سنة، أى منذ الحملة الفرنسية على مصر (١٧٨٨-١٨٠٢)، حينما اكتشفوا، وهم النُخبة فى ذلك الوقت، أننا والمسلمين جميعاً تخلفنا أربعة عشر قرناً كاملة على مسيرة الغرب، الذى أنجز فى تلك القرون الأربعة إصلاحاً دينياً لمسيحيته الكاثوليكية المُتحجرة، مما فتح الأبواب لعصر التنوير، والثورات العِلمية والسياسية والصناعية. نعم، لقد كان إقفال باب الاجتهاد، سبباً فى خمول عقول المسلمين، ومُناهضتهم لكل تجديد فى شؤون الدنيا والدين، لاعتبار كل تجديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار!

وربما كان جمود مشايخ الأزهر هو الذى دفع محمد على باشا إلى تحويل مشايخ الأزهر إلى موظفين يتلقون رواتب بدلاً من الاعتماد على ما يُجلبه طُلاب العلم الدينى من جرايات وزاد وزوّاد. وبذلك تجنب محمد على شر هؤلاء المشايخ، وتركهم هم والمنطقة التى يقع فيها جامعهم، وبدأ فى تشييد قاهرة جديدة من ناحية، وإرسال خمسمائة بعثة دراسية إلى أوروبا لتلقى تعليم عصرى حديث فى كل الميادين. وبعودة هؤلاء المبعوثين أنجز محمد على مشروعه فى بناء الدولة العصرية المدنية الحديثة. بل استطاع فى خلال عشرين عاماً أن يجعل من مصر القوة الإقليمية الأعظم، والتى استطاعت جيوشها أن تُحقق فتوحات مُبهرة شرقاً وجنوباً، وشمالاً. من ذلك فتح السودان والمناطق الاستوائية إلى منابع نهر النيل، بل استعان به السُلطان العُثمانى لإخماد حركات التمرد التى اندلعت فى إمبراطورية رجل أوروبا المريض، سواء فى الجزيرة العربية، ومواجهة حركة الداعية محمد بن عبدالوهاب، أو تلك التى نشبت فى أوكرانيا (القرم) واليونان وصِربيا.

يحيى الصينى ـ المُسلم ـ المصرى ـ الأوروبى

ربما كانت هناك حكمة، لتحريم الإسلام لظاهرة التبنى منذ أكثر من أربعة عشر قرناً. ولكن فى ضوء المُتغيرات الكثيرة التى طرأت على مجتمعات المسلمين، فربما يكون وارداً، بل وواجباً، إعادة النظر فى ذلك التحريم. وبصراحة أكثر، لقد أصبح التبنى ضرورة لمُلاحقة مُتغيرات طرأت على مُجتمعات المسلمين.

من ذلك، مثلاً، أنه طبقاً للإحصاءات الاجتماعية المتواترة، منذ إصدار قانون حماية الطفل، قبل خمسة عشر عاماً، أن عدد أطفال الشوارع، الذين يتسولون أو يهيمون على وجوههم فى المُدن المصرية الكُبرى، يتجاوز خمسة ملايين طفل، بين أعمار الثالثة والخامسة عشرة. وهم أولئك الذين لا يوجد لهم مأوى دائم أو أولياء أمور يتولون رعايتهم. ولا تكفى الملاجئ ودور الأيتام المُتوفرة لإيواء هذا العدد الكبير، هذا فضلاً عن أن مستوى الخدمة والرعاية فى تلك الدور، ليس بالمستوى اللائق أو المطلوب. وبين الحين والآخر تُطالعنا وسائل الإعلام بحالات مأساوية لأحوال دور الأيتام، وما يحدث فيها من مُعاملة عنيفة لأولئك الأطفال، بما فى ذلك حالات اعتداءات جنسية صارخة.

وبعد مؤتمر المُغتربين المصريين، الأخير، زار مركز ابن خلدون زوجان مصريان يعيشان فى المهجر منذ عشرين عاماً، ولم يُنجبا، رغم مُحاولتهما وحُبهما الشديد للأطفال. وحينما سألا من يُهمهم الأمر فى وزارتى التضامن الاجتماعى والأوقاف، ومشيخة الأزهر فى موضوع التبنى، قيل لهما إن ذلك مُستحيل ويتنافى مع شرع الله، رغم أنهما ميسوران، وكانا سيوفران فى تبنيهما من أبناء الوطن فُرصاً كريمة لنشأة صحية، وتعليم راقٍ، ومُستقبل مُزدهر فى أحد بُلدان العالم الأول.

ولذلك لجأ هذان الزوجان إلى الذهاب للصين، التى تسمح بالتبنى لغير الصينيين، ولكن بمواصفات مُحددة، انطبقت على هذين الزوجين المصريين المسلمين. وبعد عدة أسابيع، وفى زيارة للبلد الغربى الذى يعيشان فيه، تعمّدت القيام بزيارتهما، فوجدتهما فى غاية السعادة والرضا، بعد أن نجحا فى تبنى طفل صينى من أصول مُسلمة فى غرب الصين، واصطحباه معهما إلى بلد المهجر الذى يعيشان فيه، طفلهما بالتبنى، الذى سمياه «يحيى»، والذى كان يلعب فى حديقة منزلهما فى بهجة ومرح. وقد هنأتهما على ما فعلاه وقتها. ورغم أنهما طلبا منى أن أثير موضوع التبنى هذا فى أحد مقالاتى الأسبوعية فى «المصرى اليوم»، ولكن أحداثاً أخرى، بدت فى حينها أكثر إلحاحاً، أنستنى ما كُنت قد وعدت به، إلى أن قرأت فى نفس هذه الصحيفة، «المصرى اليوم»، عن: الخالة شيماء «إجازة فى حُب يوسف.. أعيش أمومة اختيارية». هذه السيدة التى كانت حالتها تُشبه تلك الخاصة بالزوجين المصريين المُغتربين. ولكن الفارق أن السيدة شيماء وجدت فى ابن شقيقتها، الطفل يوسف، ضالتها المنشودة، فتبنته مجازياً، أى أنها فى واقع الحال تقوم بدور الأم الكامل خير قيام لابن شقيقتها، وهو ما يُشبع فيها غريزة الأمومة من ناحية، ويُخفف من ناحية أخرى عن شقيقتها، وهى أم لأطفال آخرين، وليوسف رعاية مثالية مُنفردة.

ولكن لأن شيماء وشقيقتها والطفل يوسف تجمعهم قرابة الدم، فقد كان الأمر ميسوراً من الناحية الشرعية. ولكن ألا يجدر بمشايخنا الأزهريين الموقّرين أن يجتهدوا فى موضوع التبنى هذا، لمواجهة مشكلة اجتماعية لخمسة ملايين طفل مصرى، ويتزايد عددهم سنوياً، ليتبناهم القادرون من أبناء نفس الوطن ونفس المِلة، بدلاً من الضياع الإنسانى والإهدار الفادح للموارد البشرية؟

بل إن مثل هذا التبنى ينطوى على ما يُسميه عُلماء الاجتماع بالدفاع الاجتماعى (Social Defense)، لأن نسبة كبيرة من اليتامى وأولاد الشوارع يتعرضون لإغراءات شتى من المُنحرفين وعُتاة المُجرمين للتجنيد فى شبكات إجرامية، تصبح وبالاً على المُجتمع فيما بعد. لذلك وجد العُلماء الاجتماعيون أن تبنى هؤلاء الأطفال، وتوفير أسر بديلة ينشأون فى كنفها نشأة طبيعية، هو من أرقى أساليب الدفاع الاجتماعى وأكثرها فاعلية، فضلاً عن أنها تُعطى كثيراً من الأزواج الذين لم يشأ لهم القدر الإنجاب، فُرصة لإشباع غريزتى الأبوة والأمومة اللذين هما حقّان مشروعان لكل البشر الأسوياء.

لتلك الأسباب جميعاً يُنادى هذا الكاتب بإباحة التبنى، وأطالب كبار شيوخنا الأزهريين بأن يُعيدوا فتح باب الاجتهاد، وإيجاد المخارج الشرعية والضوابط لإقرار التبنى. فهذا هو الأجدى لتفعيل ما طلبه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى تجديد الخطاب الدينى.

أقول قولى هذا وأدعو الله لى وللأزهريين بالعفو والمغفرة.

وعلى الله قصد السبيل

اجمالي القراءات 8206